تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

منه إليه أن يعينهم بالقوة الأزلية حتى يدخلوا بهممهم في بحار الأولية التي لا ساحل لها ، فيبقون في الذكر أبدا ؛ لأنهم لا يتلقون إلا ما يليق بأحوالهم من الكشوفات والقربات ، وهؤلاء المذكورون من أول المقام إلى مقام الذكر عشرة أقوام ، بعضهم أهل البداية في الإسلام ، وبعضهم أهل الإيقان في الإيمان ، وبعضهم أهل العبودية الجامعة لجميع المعاملات ، وبعضهم أهل الصدق في المحبة وترك ما دون الله والوفاء في الحقيقة ، وبعضهم أهل مقام الرضا والتوكل ، وبعضهم أهل التواضع في المشاهدة ، وبعضهم أهل السخاء والكرم ، وبعضهم المتصفون بالصمدانية ، وبعضهم أهل الغيبة في الغيب الذين لا يكشفون أسرارهم عند الخلق والمنتهى منهم المستغرق في ذكر الذات والصفات كما وصفنا ، والجميع مأجورون من الحق بقدر منازلهم في مقاماتهم بأن يغفر قصورهم في بذل المهج له ، ويكاشفهم أستار الغيرة عن جمال المشاهدة بقوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.)

قال سهل : الإيمان أفضل من الإسلام ، والتقوى في الإيمان أفضل من الإيمان ، واليقين في التقوى أفضل من التقوى ، والصدق في اليقين ، أفضل من اليقين ، وإنما تمسكتم بأدنى الإسلام فإياكم أن يتقلب من أيديكم.

وقال : الإسلام حكم ، والإيمان أصل ، والإحسان ثواب.

وقال ابن عطاء : لم يبلغ أحد إلى مقام الصدق بالصوم والصلاة ولا بشيء من الاجتهاد ، ولكن وصل إلى مقام الصدق بأن طرح نفسه بين يديه فقال : أنت أنت ولا بد لنا منك.

وقال أيضا : ليس من ادّعى الذكر فهو ذاكر ، والذاكر على الحقيقة من يعلم أن يشاهده فيراه بقلبه قريبا منه فيستحي منه ، ثم يؤثره على نفسه ، وعلى كل شيء من جميع أحواله.

سئل سهل : ما الذكر؟ قال : الطاعة قيل : ما الطاعة؟ قال : الإخلاص.

قيل : ما الإخلاص؟ قال : المشاهدة.

قيل : ما المشاهدة؟ قال : العبودية. قيل : ما العبودية؟ قال : الرضا.

قيل : ما الرضا؟ قال : الافتقار. قيل : ما الافتقار؟ قال : التضرع والالتجاء سلم سلم إلى الممات.

قال بعضهم : الخشوع استحقار الكبر ، وجميع الصفات تحت هيبة الحق.

قال بعضهم : الصابر هو الحابس نفسه عند أوامر الله ، والخاشع هو المتذلل والخاضع له ، والمتصدق هو الباذل نفسه وروحه وملكه في رضا مالكه ، والصائم الممسك عن كل ما لا يرضاه الله ، والحافظ فرجه المراعي لحقوق الله عليه في نفسه وقلبه ، والذاكر لله الناسي بذكره

١٤١

كل ما سواه ، أوجب على نفسه لمن هذه صفته ستر الذنوب عليه ومغفرتها له وأجرا عظيما ثوابا لا حدّ له وهو رضا الله ورؤيته.

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧))

قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) : أنعم الله عليه بمعرفته ، وأنعمت عليه بصحبتك ونظرك إليه بالمحبة.

قال ابن عطاء : أنعم الله عليه بمحبتك ، وأنعمت عليه بالتبني.

قال بعضهم : أنعم الله عليه بالمعرفة ، وأنعمت عليه بالعتق.

وقوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ) : إن الله سبحانه ابتلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعشق الإنساني ، وذلك أنه انفرد بالحق مما دون الحق ، وخاض في بحر الوحدانية على شريطة الفناء ، فكاد يفنى عن الفناء ، ويغيب في غيب من غلبات سطوات العظمة عليه ، فأراه جمال جلاله صرفا ، فلم يحتمل أيضا حقيقة ذوق المشاهدة والجمال عيانا ، فسهله الله عليه بأن تجلى له بنور المحبة ونور الجمال من مرآة وجه الإنساني ، فطاب سره بذلك ، واحتمل روحه لطائف تلك المحبة ، واستأنس بشقيقة شقائق ورد مشاهدة القدس في محل الأنس ، لكن خاف على الخلق أن يظهر لهم أحواله لا يعرفون سر العشق ، فيهلكون فرفع الله عنه وحشة ذلك ، وأمره بأن يظهر ذلك ، ولا يلتفت إلى غير الله في العشق ، فإن العشق باق في العشق ، ويسقط عنه ملامة اللائمين وخوف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخلق رحمة وشفقة على أمته بقوله : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) ، كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخفى ذلك السر في نفسه من حيث التمكين ، والله مبديه بأنه يقهر على المتمكنين بصولة العشق القديم ، وكيف يوازي الحدث القدم ، وقد ذكرت معنى قوله تعالى :

(وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي : لا تراع الخلق في مقام المحبة ، وراع الحق ؛ فإنه أحق أن تراعيه ، لأن الحدث يفنى ويبقى القدم.

قال ابن عطاء : تخفى في نفسك ما أظهر الله لك من أن يزوجها منك ، وتخشى أن تظهر للناس ذلك فيفتتنوا.

قال أيضا : تخشى الناس أن يهلكوا في شأن زيد ، فذلك من تمام شفقته على الأمة ،

١٤٢

(وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) : أن تبتهل إليه ليزيل عنهم ما تخشى فيهم (١).

وقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) : حكم الله في ذلك أن غيرة الأزل سابقة على عشق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتفرد عما دون الله حتى تزيله بنعت الغيرة وسر الجبروت من كل ما سوى الله ، وذلك أن زيدا قضى وطره منها ، ليذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك في حال معاشرته معها ، فيضيق صدره بذلك ، ويضطرب حاله ، وينقبض سره ، ويرجع إلى الله بالكلية ؛ لأن هناك له طيب العشق هنيئا سرمدا ، ومقصود الحق من ذلك عذر العاشقين من أمته حتى لا يقدح الناس في أحوالهم ، قال الله : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) ، فإن العشق المحمود العفيف المطهر من غبار الوسوسة وهواجس النفسانية والشيطانية مقرب العاشقين إلى عشق الألوهية ومشاهدة الأزلية.

قيل : قرئ عند ذي النون هذه الآية فتأوّه تأوّها ، ثم قال : ذهب بها والله زيد وما على زيد لو فارق الكونين بعد أن ذكره الله من بين أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسمه بقوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ.)

قال يوسف بن الحسين : سئل ذو النون وأنا حاضر عن قوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ) : ترى كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتشم زيدا إذا رآه؟ فقال ذو النون : كيف لا يقول فترى كان زيد يحتشم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رآه إذا قيم لالتماس شيء كان العاقبة قد حكمت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آجلا ، وإنما كانت عارية عند زيد.

وقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧) : رضا الحق في الأزل في حالة عشق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان سنة الأنبياء.

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨))

قوله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ.)

قال سهل : أي : معلوما قبل وقوعه عندكم ، وهل يقدر أحد أن يجاوز المقدور.

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ

__________________

(١) أي : وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئا أخبرك به لشيء يشق عليك حتى يفرق لك فيه أمر ، قالت عائشة رضي الله عنها : لو كتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية ، نظم الدرر (٦ / ٤٣٠).

١٤٣

حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ) : خشية الأنبياء من العتاب وخشية الأولياء من الحجاب وخشية العموم من العذاب.

كما قال ابن عطاء في هذه الآية : هذه خشية السادة والأكابر ، وإنما خشية عوام الخلق من جهنم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) (٤١) : الذكر الكثير انحسار القلوب في أودية الغيوب عن السير في أنوار النعوت والصفات واضمحلال أسرارها في سنا الذات في جميع الأنفاس بلا فترة ولا غشية.

قال النصرآبادي : وقّت الله العبادات كلها بأوقات إلا الذكر ؛ فإنه أمر أن يذكر ذكرا كثيرا ، والذكر الكثير للقلب ، وهو ألا يفتر القلب عن المشاهدة ، ولا يغفل عن الحضرة بحال ، ألا تراه لما رجع إلى المعلوم وقّت (١) وقال : (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، وأنشد :

الله يعلم أنّي لست أذكره

وكيف أذكر من لست أنساه

قال أبو الحسين بن هند : ناداهم ، ثم خص النداء ، ثم كنّاهم ، ثم أشار إليهم بالتوحيد ، ثم أمرهم بإقامة العبودية ، ثم منّ على نبيهم بذلك ، ولم يمنّ عليهم ؛ فإنه إنما خصهم بسببك ، والذكر إقامة العبودية.

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) : صلاة الله اختياره العبد في الأزل بمعرفته ومحبته ، فإذا خصه بذلك جعل زلاته مغفورة ، وجعل خواص ملائكته مستغفرين له ؛ لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه من اشتغاله بالله وبمحبته ، وبتلك الصلاة يخرجهم من ظلمات

__________________

(١) اعلم أن الكثرة هنا عبارة عن : الاستيعاب والإحاطة بجميع الأوقات والحالات ، كما أن القلة في قوله تعالى في حق المنافقين : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٤٢] عبارة عن العدم : أي لا يذكرون الله تعالى إلا ذكرا هو ليس بذكر عنده تعالى ؛ لأنهم إنما يذكرون باللسان فقط ، والذكر اللساني المجرّد عن اعتقاد الجنان وإخلاصه قليل معدوم بالنسبة إلى الذكر القلبي ؛ لأن المقصود عمارة الباطن لا عمارة الظاهر ، فظهر أن الخلوص بمنزلة الإكسير الخالص في القلب.

١٤٤

الطباع إلى نور المشاهدة ، وهذا متولد من اصطفائيته الأزلية ورحمته الكافية القدمية ألا ترى إلى قوله : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٤٣) : كان رحيما قبل وجودهم حيث أوجدهم وهداهم إلى نفسه بلا سبب ولا علة.

قال أبو بكر بن طاهر : علامة صلاة الله على عبده أن يزينه بأنوار الإيمان ، ويحليه بحلية التوفيق ، ويتوجه بتاج الصدق ، ويسقط عن نفسه الأهواء المضلة والإرادات الباطلة ، ويبذله الرضا بالمقدور.

قال الأستاذ : الصلاة من الله بمعنى الرحمة ، ومن الملائكة بمعنى الشفاعة ؛ ليعصمكم من الضلال بروح الوصال.

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))

قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) : سلام الله وتحيته أن يخاطب العباد بخطاب الرضا والعفو عما مضى ، وأن يجلسهم على بساط القرب ، ويناجيهم بمناجاة البسط والدنو.

قال ابن عطاء : أعظم عطية للمؤمن في الجنة سلام الله عليهم من غير واسطة.

قال الأستاذ : إذا قربت التحية بالرؤية واللقاء إذا قرن بالتحية لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر ، والتحية الخطاب يفاتح بها الملكوت إخبارا على علو شأنهم ، فهذا السلام يدل على عالي رتبتهم التي جعلها الله لهم ، فاللقاء حاصل والخطاب مسموع لهم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ

١٤٥

ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (٤٦) : شاهدا لأحوال العارفين وعلى أسرار الصديقين كيف يكونون في الشوق إلى لقائي ، وأنت شاهدنا شهدناك وشهدت علينا ، فألبستك أنوار ربوبيتي ، فمن شهدك بالحقيقة فقد شهدنا ، ومن نظر إليك فقد نظر إلينا ؛ لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عرفني فقد عرف الحق ومن رآني فقد رأى الحق» (١) ، ومبشرا للمحبين بحسن وصالي ، ونذيرا للمريدين من عتابي ؛ لئلا يفتروا عن خدمتي وعبادتي ، وداعيا إلى الله للمقبلين إليه بأن تصف لهم جمالنا وجلالنا ، وذلك بإذنه الأزلي وإجازته القديمة ، وسراجا منيرا أسرجت نورك من نوري ، فتنور بنوري عيون عبادي المؤمنين ، فيأتون إليّ بنورك ، ثم أمره بأن يبشر المؤمنين بأنهم يصلون إلى مشاهدته ، وينالون فضائل قربته بقوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) (٤٧) : الفضل الكبير مشاهدته بلا حجاب ولا عتاب.

قال ابن عطاء في قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) : إنا شرفناك برسالتنا ، وتخبر عنا خبر صدق ، فنهدي بك قلوبا عمياء ، أرسلناك شاهدا لنا لا تشهد معنا سوانا ، جعلنا الخلق كلهم

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٥٦٨) ، ومسلم (٤ / ١٧٧٦).

١٤٦

يشهدونك ، ويشهدوننا فيك ، ولا يشهدك إلا من أثر فيه بركة نظرك ، فيشهدك ويشهد فيك ، ومن لم يجعلك الدليل علينا عمي وضل ؛ فإنك البشير تبشر من أقبلنا عليه بالرضوان ، وتنذر من أعرضنا عنه بالخذلان ، وأنت محل مشاهدة الخلق إيانا بك أخذناك عنهم ، فلا تشهد شهودهم ، وغيبناك عنهم فلا يشهدون منك إلا ظاهرك ، وأنت لا تشهد سوانا بحال.

قال الواسطي : شاهدا بالحق للحق إلى الحق مع الحق ليوم لا يقبل فيه الحق إلا الحق.

وقال جعفر : داعيا إلى الله لا إلى نفسه افتخر بالعبودية ، ولم يفتخر بالنبوة ليصح له بذلك الدعاء إلى سيده ، فمن أجاب دعوته صارت الدعوة له سراجا منيرا يدله على سبيل الرشد ، ويبصره عيوب النفس وغيها.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) : صلوات الله على النبي أن بلّغه إلى المقام المحمود ، فالمقام المحمود صلواته عليه وهو الشفاعة لأمته ، وصلوات الملائكة

١٤٧

عليه دعاؤهم له بزيادة مرتبته بحبهم إياه واستغفارهم لأمته ، وصلوات الأمة عليه متابعتهم له ومحبتهم إياه والثناء عليه بالذكر الجميل.

قال ابن عطاء : الصلاة من الله وصلة ، ومن الملائكة رفعة ، ومن الأمة متابعة ومحبة.

قال الواسطي : صل عليه بالوقار ، ولا تجعل له في قلبك مقدار.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي : سألت عبد الواحد الساري عن هذه اللفظة ، وكأني أستفتحه. فقال : لا تجعل بصلواتك عليه في قلبك مقدارا تظن أنك تقضي به من حقه شيئا بصلواتك عليه ، فإنك تقضي به حق نفسك ؛ إذ حقه أجل من أن يقضيه أمته أجمع ؛ إذ هو في صلاة الله تبارك وتعالى بقوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) ، فصلواتك عليه استجلاب رحمة على نفسك به.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٧٠) : التقوى ههنا سقوط احتشام الخلق عن قلوب العارفين عند أداء أمانة الله التي فتح الله على قلوبهم من أسرار الملك والملكوت ، ولا يلتفت إلى ما سوى الله من أنوار الحدثان ، فإذا كان كذلك يصلح الله ما يخافون من فوقه (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ، ويستر الهفوات في تقصير الطريقة ، ثم جمع هذه المعاني بمجموعها بقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧١) : أطاع الله بالحقيقة ، وأطاع الرسول بالشريعة ، فقد فاز من الحجاب ، ووصل إلى اللقاء والمآب.

قال الواسطي : التقوى على أربعة أدعية : للعامة تقوى الشرك ، وللخاصة تقوى المعاصي ، وللخاص من الأولياء تقوى التوسل بالأفعال ، وللأنبياء تقواهم منه إليه.

وقال الوراق : القول السديد ما أريد به وجه الله لا غير.

وقال سهل : من وفقه الله لصالح الأعمال ، فذلك دليل على أنه مغفور له ذنوبه ؛ لأن الله يقول : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.)

وقال بعضهم : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) بقبولها منكم فإن صلاح العمل في قوله.

وقال بعضهم في قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) : هو أن يصلح باطنه وقلبه فإنهما موضع نظر الحق ، ويعمرهما بدوام التفكر ، ويصلح ظاهره بالطاعات الظاهرة واتباع السنن ، فمن فعل ذلك فقد فاز من وساوس الشياطين وهواجس النفس.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ

١٤٨

اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) : لما لم يكن للكون استعداد حمل أمانة الربوبية بنعت الانفراد والفناء والسكر في العشق ، والخروج بنعت الألوهية أبى أن يحملها ؛ لأن سطوات الألوهية إذا بدت اضمحلت الأكوان والحدثان فيها ، وبقى آدم ؛ لأنه كان مستعدا لقبول ذلك ؛ لأنه كان مخلوقا بخلقه ، موصوفا بصفته ، مستحكما بتأييده الأزلية ، ومباشرة نور صفته الخاصة بقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] قويا بقوة الروح القدسية التي بدت من ظهور نور الذات حين تجلى من القدم لآدم بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ، فإذا كان كذلك حمل أمانة الله بالله لا بالحدثان ، فإنه تعالى قائم بنفسه منزه عن مباشرة الحدوثية ، فقد حمل أنوار جميع الصفات والذات حيث صدر وجوده عن تجلي الذات والصفات ، فخرج موصوفا بالصفات منور بنور الذات ، وهذه بجميعها الأمانة ، ولا يكون لتلك الأمانة موضع إلا آدم ، ومن كان بوصفه من ذريته من الأولياء والأنبياء فإذا قابل القدم ، وقبل الأمانة فقد جهل بالقدم أصلا حيث قبل الكل بالبعض ، كذلك قال : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) ؛ إذ وازى الأزل والأبد مع علة الحدوثية جهولا حيث لم يعلم أن حقيقة التوحيد بالحقيقة مزلة أقدام الموحدين ، وكيف يكون صفوان القدم موضع أقدام الحدث ، فمجاز الأمانة بعد ذلك المحبة والعشق والمعرفة وحقيقتها الأمانية (١).

قال ابن عطاء : الأمانة هي تحقيق التوحيد على سبيل التفريد.

قال الجنيد : إن الله لما عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبوا حملها وعرض على آدم فقبلها ، أبوا حين ظنوا أنهم إياهم يحملون ، وحمل آدم حين علم أنه به يحمله لا بنفسه.

وقال أيضا : نظر آدم إلى عرض الحق فأنساه لذة العرض ثقل الأمانة ، ولما عرض على

__________________

(١) قال في الأسئلة المقحمة كيف عرض الأمانة عليه ما علمه بحاله من كونه ظلوما جهولا.

والجواب هذا سؤال طويل الذيل ، فإنه تعالى قد بعث الرسل مبشرين ومنذرين إلى جميع الخلق ليدعوهم إلى الإيمان مع علمه السابق ، بأن يؤمن بعضهم ويكفر بعضهم والخطاب عم الكل مع علمه باختلاف أحوالهم في الإيمان والكفر ، فهذا من قبيله وسبيله ، فإنه مالك الأعيان والآثار على الإطلاق. وقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كان ظلوما بحق الأمانة جهولا بما يفعل من الخيانة يعنى لم تكن الخيانة عن عند وقصد بل كانت عن جهل وسهو. تفسير حقي (١١ / ١٥٥).

١٤٩

الخلائق والجمادات فأشفقوا وهربوا ، ظنوا أن الأمانة تحمل بالنفوس ، فكشف لآدم أن حمل الأمانة بالقلب لا بالنفس ، فقال : أنا أحملها ؛ فإن القلب موضع نظر الحق واطلاعه ، فإذا أطلق ذلك يطيق حمل الأمانة ، فإن الأمانة حدث وإطلاع الحق وتجليه لم تطقها الجبال وطاقتها القلوب ، وأنشدنا :

ومن على أثره حملت بالقلب ما لا يحمل

البدن والقلب يحمل ما لا يحمل البدن

يا ليتني كنت أدنى من يلوذ بكم عينا

لأنظركم أم ليتني أذن

* * *

سورة سبأ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : حمد نفسه قبل الكون ورفع حقوق الحمد عن الخليقة ، ثم حمد نفسه بعد الكون علما بعجزهم عن أداء شكره ، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) حيث يقبل الحسنات ، ويعفو عن السيئات ، ويدني العارفين من المشاهدات ، ويكشف لهم جمال الذات والصفات.

قال أبو العباس بن عطاء : المحمود من لم يربط عباده بشيء من الأكوان قطع أملاكهم عن الجميع لئلا يشتغلوا بها ، ويكون اشتغالهم بمن له الأكوان وما فيها وله الحمد في الآخرة حيث لم يناقش بالمحاسبة مع عباده ، وهو الحكيم فيما دبر والخبير عما عفا وستر.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ

١٥٠

مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

قوله تعالى : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) : وصف نفسه بالإحاطة على كل ذرة من العرش إلى الثرى كيف يعزب عن علمه شيء من علمه وإرادته وقدرته ، بدأ ذلك الشيء وبه قيامه ووجوده.

قال الواسطي في هذه الآية : كيف يخفى عليه ما هو أنشأها ، أو كيف يستعظم شيئا هو أبداها.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) : علما بجلاله وجماله ومحبته للقائه ، وشوقا إلى وصاله وحكمه بأمور العبودية ، وعلما بأنوار الربوبية ، وكشفا من أسراره له ، وإلباسه إياه وصف جلاله حتى يطيب قلبه بالعشق ، وروحه بالمحبة ، وعقله بالبصيرة وسره بالأنس ، وصدره باليقين ، وحلقه بالصوت الحسن ، فهذه بركة أوصاف الأزل التي ألبسها الله إياه بنعت التجلي والتدلي ، ألا ترى إلى قوله : (مِنَّا فَضْلاً) ، وذلك الفضل اتصافه بأنوار الذات والصفات ؛ لذلك أجابته الجبال بالتسبيح والتهليل بقوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) (١) ، وكذلك الطير بقوله : (وَالطَّيْرَ) ، إذا زمزم من طيب عشقه قام العالم معه.

__________________

(١) قوله : «أوّبي» العامة على فتح الهمزة ، وتشديد الواو ، أمرا من التّأويب وهو التّرجيع ، وقيل : التسبيح بلغة الحبشة ، وقال القتيبيّ : أصله من التأويل في السير وهو أن يسير النهار كله ، وينزل ليلا كأنه قال : أدأبي النّهار كلّه بالتسبيح معه ، وقال وهب : نوحي معه ، وقيل : سيري معه ، وقيل : سيري معه ، والتضعيف يحتمل أن يكون للتكثير ، واختار أبو حيان أن يكون للتعدي قال : لأنهم فسّروه برجع مع التسبيح ، ولا دليل فيه لأنه دليل معنى.

وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق : أوبي بضم الهمزة أمرا من آب يؤوب أي ارجع معه بالتسبيح.

١٥١

قال جعفر في قوله : (فَضْلاً) : ثقة بالله وتوكلا عليه.

وقال النهرجوري : حلاوة صوته في المناجاة.

وقال ابن خلا : أفضل الفضل من الله على عباده أن يعرفهم أقدارهم وأن يمكن لهم سبيل الرجوع إليه.

قال عبد العزيز المكي : حبّا للمساكين ورحمة على الضعفاء.

وقال الأستاذ : حسن خلقه مع أمته وفيما أوحى الله إليه : (يا داوُدُ) أنين المذنبين أحب إليّ من صراخ العابدين.

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢))

قوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) : لما بلّغ الله داود وسليمان إلى محل التمكين من المعرفة والتصرف في المملكة الذي هو آخر درجة من درجات الصديقين طالبهم بشكر تلك النعمة (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) ، الشكر الحقيقي أي : ابذلوا أنفسكم في خدمتي ، واعرفوا معطيكم بسقوط نظركم عن العطاء ؛ فإن الشكر الحقيقي معرفة المشكور على ما هو به.

قال ابن عطاء : اعملوا من الأعمال ما تستوجبون به الشكر.

١٥٢

وقال الأنطاكي : أصل الشكر الطاعة والتوبة والندم بالقلب ، قال الله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) ، ثم شكا عن الأكثر من قلة شكرهم بقوله : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣) أي : قليل من واقف بوقف الفناء في مقام الحياء ، حين عاين قدم الألوهية ورؤية مواهب السنية بغير علة قيل : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ) من يرى الطاعة منة مني عليه.

قال بعضهم : الشاكرون من العبّاد قليل ، والشكور من الشاكرين قليل ، والشكّار من الشكور قليل.

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : وصف الله سبحانه أهل الوجد من الملائكة المقربين ، وذلك من صولة الخطاب ، فإذا سمعوا كلام الحق من نفس العظمة وقعوا

١٥٣

في بحار هيبته وإجلاله ، حتى فنوا تحت سلطان كبريائه ، ولم يعرفوا معنى الخطاب في أول وارد السلطنة ، فإذا أفاقوا سألوا معنى الخطاب من جبريل عليه‌السلام ، وهو من أهل الصحو والتمكين في المعرفة بقوله : (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٢٣).

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨))

قوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) : لا تنال زلفته إلا بزلفته ، وأين الحدثان من أن يقرب المعارف من الله ، فإنه بنفسه جل جلاله قربهم منه إليه.

قال سهل : الزلفى هي التقرب إلى الله.

وقال بعضهم : الزلفى هي قطع الأسباب والتعلق بالنجاة.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥))

قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) : كل عارف ينفق في عشقه ومحبته قلبه وروحه ، فهو بذاته جل جلاله يخلف نفسه مكان قلبه وروحه ، فيفنى القلب عنه ، ويبقى الرب معه ، فإذا فنيت صفات العارف في صفات المعروف صارت صفات المعروف صفته ، ألا ترى إلى قوله كيف قال : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، وقلبه الذي يعقل به ،

١٥٤

ولسانه الذي ينطق به» (١).

قال سهل : الخلف على الإنفاق الأنس والعيش مع الله والسرور به.

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) أي : أوصيكم خصلة واحدة هي أن تقوموا لله لأجل الله (مَثْنى) الشيخ والمريد ، (وَفُرادى) العارف المتمكن القيام لله لا يكون إلا بالله ، ومن يقوم من الحدثان لله ، وقهارية الأزلية أفنت الحدوث في القدم حقيقة فإذا لا يقوم لله إلا الله.

قال سهل : يرجع الحساب يوم القيامة إلى أربعة : وهي الصدق في الأقوال ، والإخلاص في الأعمال ، والاستقامة مع الله في جميع الأحوال ، ومراقبة الله على كل حال.

سورة فاطر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٣٨٤).

١٥٥

وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) : حمد قدمه بما أوجد من العدم بعين صورة ولا مثال ، وجعل حمده إعلاما للحامدين له بأن الحمد منه له حقيقة ، ويفنى حمد الحامدين في حمده نفسه ، جعل للملائكة أجنحة المعرفة على مراتب المقامات ، فضّل بعضهم على بعض في ذلك بقوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، وللأرواح القدسية أجنحة ، منها جناح المعرفة ، ومنها جناح التوحيد ، ومنها جناح المحبة ، ومنها جناح الشوق ، فبجناح المعرفة تطير إلى عالم الصفات ، وبجناح التوحيد تطير إلى عالم الذات ، وبجناح المحبة تطير إلى المشاهدة ، وبجناح الشوق تطير إلى الوصال.

قال جعفر : أجنحة المؤمنين أربعة : أجنحة التوحيد ، وأجنحة الإيمان ، وأجنحة المعرفة ، وأجنحة الإسلام ، والموحد يطير بأجنحة التوحيد إلى الجبروت ، والمؤمن يطير بأجنحة الإيمان إلى المشاهدة ، والعارف يطير بأجنحة المعرفة إلى الملكوت ، والمسلم يطير بأجنحة الإسلام إلى الجنان.

قيل : الأجنحة أربعة : أجنحة التعظيم ، وأجنحة التفريد ، وأجنحة الحياة ، وأجنحة الحياء ، فأجنحة التعظيم للمقرّبين ، وأجنحة التفريد للروحانيين ، وأجنحة الحياة للوالهين ، وأجنحة الحياء للواصلين.

قال الجنيد : الحمد لله الذي جعل ما أنعم على عباده من أنواع نعمه دليلا هاديا إلى معرفته ، ثم بيّن سبحانه أنه بفضله يزيد في حالات العارفين ، ومعاملات المحبين ، وحسن العاشقين والمعشوقين بقوله : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) ، يزيد في قلوب العارفين المعرفة ، وفي قلوب المحبين المحبة ، وفي قلوب المشتاقين الشوق ، وفي قلوب العاشقين العشق ، وفي قلوب المريدين الإرادة ، وفي أبدان الصديقين قوة العبادة وصفاء المعاملة ، وفي وجوه المستحسنين الحسن ، وفي حلوق الروحانيين حسن الصوت.

وقال ابن عطاء : حسن المعرفة بالله ، وحسن الإقبال عليه ، وحسن المراقبة له والمشاهدة إياه.

وقال بعضهم : يزيد في الخلق ما يشاء محبة في قلوب المؤمنين.

وقيل : التواضع في الإشراف ، والسخاء في الأغنياء ، والتعفف في الفقراء ، والصدق في

١٥٦

المؤمنين ، والشوق في المحبين ، والوله في المشتاقين ، والمعرفة في الوالهين ، والفناء في العارفين.

قيل : الخلق الحسن ، وقيل : الصوت الحسن.

قال الأستاذ : الفصاحة في النطق ، ثم بيّن سبحانه أن هذه النعم غير مكتسبة ولا لها مانع بدفع عمن اختاره الله بها ، ولا هي مستجلبة بتمنى المتمنين بقوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) : الرحمة هاهنا المعرفة بالله والاصطفائية الأزلية ، فإذا فتح على ولي من أوليائه أبواب كنوز لطائف أنوار صفاته وذاته وجعله بصيرا لأمر الكونين وعالما بمراد الله منه لا يدفع عنه ذرة من ذلك جميع الخلق ؛ فإنه يختص برحمته من يشاء.

قال أبو عثمان : ما يفتح الله لقلوب أوليائه من القربة والإنابة والأنس لو اجتمع الخلق كلهم على أن يمسكوه عن ذلك لعجزوا عنه وما أمسكوا ما أرسل الله ، ومن أغلق الله قلوبهم عن الإنابة إليه والقرب منه ، فلو اجتمع الناس على أن يفتحوه ما قدروا على ذلك وعجزوا عنه ، ثم إنه تعالى لما بيّن موضع الخاصية في افتتاح نعمه على الصادقين حثهم على تذكر نعمه وشكر ما أنعم عليهم من لطائف جوده بنعت إفراد قدمه عن الحدوث بوصف نفي الأنداد عن جلال كبريائه بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، ذكره معرفته ونعمته ومشاهدته ، فوجبت حقوق المعرفة والمشاهدة على من عرفه وشاهده بأنه أسقط الأسباب بينه وبين خالقه فيما أولاه من أرزاق وصلته ولطائف قربته.

قال ابن عطاء : من علم أنه لا رازق للعباد غيره ثم يتعلق قلبه بالأسباب فهو من المبعدين عن طريق الحقائق.

قال القاسم : يرزقكم من السماء الهداية ومن الأرض أسباب الغذاء والحفظ والبقاء وما سنح لي من معنى السماء والأرض هاهنا السماء عالم الربوبية يرزقهم منها لطائف علوم المعارف وأنوار جلاله الكواشف ، والرزق هناك التجلي والجذب والكشف بالبديهة وواردات المواجيد وسني المخاطبات ، والأرض عالم العبودية يرزقهم منها صفاء المقامات ولطيف المعاملات وسنا الحكم والفراسات ، وأيضا السماء إشارة إلى الروح ، والأرض إشارة إلى القلب ، والرزق الذي يبدو من عالم الروح علوم المعرفة ، وما ينبت من أرض القلب فهي علوم الحكمة.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي

١٥٧

مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) : إنه عدونا ؛ لأنه من عالم القهر خلق ، ونحن من عالم اللطف خلقنا ، والطبعان مخالفان أبدا ؛ لأن القهر واللطف تسابقا في الأزل فسبق اللطف القهر ؛ فعداوته من جهة الطبع الأول والجهل بالعصمة وأنوار التأييد والنصرة ، ومن لا يعرفه بما وصفنا كيف يتخذه عدوّا وهو لا يعرف مكائده ولا يعرف مكائده إلا ولي أو صديق.

قال الواسطي : (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) بما نصركم عليه ، واحذروا ألا يغلبنكم ؛ فإنه إنما يدعو حزبه ، وحزبه هم الراكنون إلى الدنيا والمحبون لها والمفتخرون بها.

وقال جعفر الصادق : من سمع هذا النداء من الله تعالى وجب عليه بهذا النداء نصب آلة العداوة بينه وبين عدوه ، ولا ينفكّ من محاربته طرفة عين كلما عارضه بشيء قابله بغيره إن عارضه بزينة الدنيا قابله بسرعة الفناء ، وإن عارضه بطول الأمل قابله بقرب الأجل ، فهو دائم منتبه مستعد لمحاربته ؛ لما يعلم أن الشيطان لا يغفل عنه ، وأنه يراهم من حيث لا يرونه.

قال سهل في قوله : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) : أهل البدع والضلالات والأهواء الفاسدة والسامعين ذلك من قائلها.

قال الواسطي : حذر حزبه ومتابعته ، وأمر بطرده بضياء المبادرة في العهود وحفظ الحدود ورعاية الود بطرد الوساوس ، كما أن بضياء النهار طرد الكلاب من المحابس ، وأنشد :

ومن رعى غنما في الأرض مسبعة

ونام عنها تولّى رعيها الأسد

وما فهمت من هذه الآية أن الله سبحانه أراد أن يعرف عباده من محاربة الشيطان معالم قهرياته وحفظ الأوقات والأنفاس من خطراته ؛ لأن الشيطان يغوي المصطفين بالولاية ، (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) من أصحاب الضلالات الذين طردهم الله عن بابه وهو يعرفهم ، وإنما هو يدعوه لا أن الضلالة بيده كما لا تعلق الهداية بالأنبياء.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ

١٥٨

يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) : سهّل الله سبحانه طريق الوصول إلى العزة القديمة لطلاب العزة ، وهو الاتصاف بصفاته والتخلق بخلقه ، فإذا عرّفه بالعزة صار منورا بنور عزته ، عزيزا بما كساه الحق من سناء عزته ، فإذا كان مزينا بنور العزة صار سلطانا من الحق يذل عنده جبابرة العالم ، ولا يكون ذلك إلا بعد فنائه في بقاء الله.

قال سهل : العزة النصرة ؛ فليطلب ذلك من عند الله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ، ثم بيّن سبحانه ألا يصل إليه إلا ما بدا منه بقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ، الكلم الطيب ما تلقفه الأرواح القدسية في بدو الأزل من الحق سبحانه حين قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، ولا يصل ذلك إلا إليه ؛ لأن الحدثان لا يكونا محل الإفراد الفردانية بل الأزلية مصادر التوحيد ، ألا ترى كيف قال : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ) يعني لا إلى غيره ، والعمل الصالح عمل القلب ، وهو محبة الله والشوق إلى لقائه ، والمحبة والشوق أيضا مصدرهما صفة الحق فيصحبان الكلمة ؛ لأن الكلمة والمحبة خرجتا من معدن الألوهية ، فمنه بدأتا ، وإليه تعودان.

قال سهل : ظاهره الدعاء والصدقة ، وباطنه عمل بالعلم والاقتداء بالسنة يرفعه ، أو يوصله الإخلاص (١).

__________________

(١) في قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي ابتداء خلقكم من التراب في ضمن خلق آدم منه ؛ لتكونوا متواضعين ؛ كالتراب ساكتين تحت الأقدار. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي : ثم خلقكم من نطفة خلقا تفصيليا ؛ لتكونوا قابلين لكل كمال ؛ كالماء الذي هو سرّ الحياة ، ومبدأ العناصر الأربعة ، (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أصنافا أحمر وأبيض وأسود ، وذكرانا وإناثا ، (تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) هو فاعل تحمل ، ومن مزيدة لاستغراق النفي وتأكيده ، (وَلا تَضَعُ) كون تلك الحامل والواضع ملتبسة بعلمه ، تابعة لمشيئته ، (إِلَّا بِعِلْمِهِ) حال من الحامل دون المحمول ؛ لأن العلم بالحامل والواضع يتضمّن العلم بالمحمول والموضوع ، فيعلم تعالى مكان الحمل ، ووضعه ، وأيامه ، وساعاته ، وأحواله ، وأحواله من النقصان والتمام ، والذّكورة ـ

١٥٩

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) : فطرة الإنسانية وقعت من الغيب مضطربة متحركة إلى الأزل بنعت الافتقار إليه كانجذاب الحديد إلى المغناطيس ؛ لأنها بنعت وقعت ، العشق والعاشق مفتقر إلى معشوقه انفعالا ، فمن عرفه بالأزلية والأبدية يفتقر إليه افتقارا قطعيّا ؛ لأن بقاءه لا يكون إلا به ، وإذا كان كذلك صار غنيّا بالله متصفا بغناه غنيّا به عن غيره مفتقرا إليه ، فإذا كان في محل الصحو يكون مفتقرا إليه ، وإذا كان في محل السكر بقي في رؤية غناه عنه ، فصار محجوبا عنه ولا يدري.

__________________

ـ والأنوثة ، وغير ذلك. وقوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) ما نافية ، والتعمير عمر ، وهو مدة عمارة البدن بالحياة ، والمعمّر من أطيل عمره ، (من مّعمّر) : أي من أحد ، ومن زائدة لتأكيد النفي ، وسمّي معمّرا باعتبار مصيره ؛ فهو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه ؛ والمعنى وما يمدّ في عمر أحد. (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) من النقص ؛ وهو متعد ؛ بمعنى : كم ، والضمير للمعمّر على الاستخدام ، فيراد بضميره ما ؛ من شأنه أن يعمّر : أي ولا ينقص من عمر أحد ؛ ومعنى ، (لا ينقص من عمره) بعد كونه زائدا ؛ إذ العمر لا يزيد ، ولا ينقص ؛ بل على معنى لا يجعل من الابتداء ناقصا.

قوله تعالى : (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي اللوح ، أو علم الله ، أو صحيفة كل إنسان ؛ لأن الملك يكتب والمولود في بطن أمه سعادته وشقاوته ، وأجله ورزقه ، فلا يتغيّر ذلك ؛ لأن بطن الأم لوح العلم ، (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لاستغنائه عن الأسباب ؛ فكذا البعث ، فمن آمن به على هذا الوجه ؛ سلم من الاعتراض ، والإنكار ، واتّبع الهدى والحكمة في كل الأفعال والآثار.

١٦٠