تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

قوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ.)

ما نقول في من اسمه تقدّس عن إدراك الأوهام ، وإشارة العقول ، إذ اسمه نعت والنعوت صفات ، والصفات قائمة بالذات ، فمن عجز عن إدراك حقيقة اسم الموصوف القديم كيف يصل إلى العلم بوجود المسمّى! وهو أجلّ من أن تحيط بقدس جلاله الأفكار ، أو تحوى ذرة من نعوته الأذكار ، جلاله حيّر عقول العارفين في ميادين عزّته ، وأغرق أرواح الموحدين في بحار عظمته ، وأفنى أسرار الواصلين في شامخات كبريائه ، اسمع معاني قدسه كيف فعلت بشاهد الحق في مشاهدته عليه الصلاة والسلام ، حيّرته في أدوية الجلال ، وأغرقته في «قلزم» الجمال ، وكشفت له عين العين ، وسلسلة من الأين ، فبان له ما بان من عيون الألوهية ، وبهاء القديم ، والبقاء ما أسكنه عن وصف قدسه ؛ حيث قال أفصح العالمين صلوات الله وسلامه عليه من حقيقة الحيرة وساحات العزة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) ، ذكره سبحانه بذكر الجلال لطيب قلوب الوالهين ، بأن يكشفه لعيونهم ، وأبصارهم ، وأرواحهم ، وأسرارهم ، وقلوبهم ، وعقولهم ؛ ليريحهم من تراكم الأحزان ، وظلمة هذه الأشجان ، ويبلغهم إلى مجالس الإحسان ، وكشف العيان.

قال بعضهم : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) أي : جل ربك ، وعظم قدره عما يقول فيه الموحدون والمبطلون جميعا ؛ لأن كل شيء يثنى عليه بقدره ، وكل ذاكر يذكر على مقدار طاقته ، وطبعه ، وعلمه ، وفهمه ، والحق تعالى ذكره خارج عن أوهام الآدمين ؛ لأن الثناء والمعارف دون الغايات ، فسبحانه وتعالى ما أثنى عليه حق ثنائه غيره ، ولا وصفه بما يليق به سواه ، عجز الأنبياء بأجمعهم عن ذلك ، حتى قال أجلهم قدرا وأرفعهم محلّا صلى الله عليه وعليهم أجمعين : «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (٢).

سورة الواقعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢))

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١) : واقعة كل صاحب قلب حين وقعت عليه أنوار المعارف ،

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٢).

(٢) تقدم في سابقه.

٣٨١

والكواشف من مكامن الغيب ، حين أراد الحقّ جذب قلبه بمباشرة وارد مشاهدته ، فتلك الساعة للعارف واقعة القيامة ، يستشرف بنوره قبل مجيئها على أمورها الغيبية ، فإذا وقعت عليهم الواقعة سلبتهم من حظوظ الدنيا ، وطلبها ، ولذة هواها ، وزينتها ، وذهبت بهم إلى مراد الحقيقة ، هنا تبين مسالك كل صادق ، ومهالك كل مدّع.

قال سهل : إذا ظهر لكل سالك بيان سلوكه ، فمن كان سلوكه على منهاج السنة والاقتداء قاده ذلك إلى مناهج الباطل.

وقال ابن عطاء : إذا تبين مراد المريد من مراده.

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧))

قوله تعالى : (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) : «خافضة» : لظنون النفوس الأمّارة ، «رافعة» : لهموم القلوب المطمئنة إلى مدارج القربة ، وأيضا «خافضة» : للنفس الأمارة عن جوار الروح الناطقة ، ومطهرة من دنسها ، و «رافعة» : للروح إلى معادن الأفراح من رؤية الملك الغفار ، وأيضا مسقطة للمجاهدات ، و «رافعة» : للأرواح إلى المداناة ، وأيضا «خافضة» : للتكاليف ، و «رافعة» : للعارفين إلى الرفاهية الكبرى في الصفائح الأعلى ، وأيضا «خافضة» : للمدّعين ، و «رافعة» : للصادقين.

قال ابن عطاء : تخفض أقواما بالعدل ، وترفع أقواما بالفضل.

وقال سهل : تخفض أقواما بالدعاوي ، وترفع أقواما بالحقائق.

قال الأستاذ : «خافضة» : لأصحاب الدعاوي ، «رافعة» : لأرباب المعاني.

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨))

قوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) : «أصحاب الميمنة» : أصحاب يمن العناية الأزلية الذين سبقت لهم في الأزل الاصطفائية بالولاية.

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩))

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) : الذين أسقطهم قهر الأزل عن رؤية العناية ، فصاروا مشئومين من مشأمة الدعاوي الباطلة (١).

__________________

(١) وقال الشيخ حقي : المراد تعجيب المسامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل ما عرفت حالهم أي شيء فاعرفها وتعجب منها فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال وأصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال ، تفسير حقي (١٥ / ١٥).

٣٨٢

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨))

(وَالسَّابِقُونَ) : الذين سبقوا بسبق اجتباء الله إيّاهم في علمه الأزلي ، وهم المقربون بأن قرّبهم منه ، وكشف لهم أنوار قرب قربه ، وجمال مشاهدته أيضا ، وأصحاب الميمنة أهل الإيمان ، وأصحاب المشئمة أهل الكفر والطغيان ، والسابقون المقربون أهل العرفان ، وأيضا أصحاب الميمنة أهل المجاهدات ، وأصحاب المشئمة أهل الشهوات ، والسابقون أهل المشاهدات.

قال ابن عطاء : هم أرواح ثلاثة ، «فأصحاب الميمنة» : هم أصحاب الجنة ، و «أصحاب المشئمة» : هم أصحاب النار ، و «السابقون» : هم العبيد المخلصون ، ثم يصير أصحاب الميمنة على ثلاث طبقات.

وقال سهل : «السابقون» : هم الذين سبق لهم من الله الولاية.

قيل : كونهم هم المقربون في منازل القربة ، وروح الأنس.

قال القاسم : أضاف الله الأفعال إلى عباده بقوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١٠) ، ثم قال : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١١) ، ولم يكونوا مقربين لما كانوا سابقين ، ولو كانت الأفعال إليهم حقيقة لكانوا متقربين ، ولم يكونوا مقربين.

صدق الشيخ فيما حالهم وجدوا السبق بأن اصطفاهم الله في الأزل بقربه ، فإذا السبق والقربة من فضل الله ، واختياره لهم.

وقال الأستاذ : الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، فسبقوا إلى ما سبق لهم ، أولئك المقربون ، ولم يقل المتقربون ، بل قال أولئك المقرّبون ، وهذا عين الجمع.

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩))

قوله تعالى : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) : لا يتغيرون عن حدود الاستقامة بمشارب الوصلة ، ولا يحتجبون عن المشاهدة أبدا.

قال جعفر : لا تذهل عقولهم عن موارد الحقائق عليه ، ولا يغيبون عن مجلس المشاهدة بحال.

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣))

٣٨٣

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) ، وما يشبهها ، ولما كان فضله وإحسانه إلى عباده بالمشاهدة بالبصائر في الدنيا قديما غير مخلوق جعل ثوابها إلى ثواب تلك المشاهدة غير مخلوق ، جعل ثوابها وجزاءها ما يليق بها بالأبصار ، فقال هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩))

قوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) : وقع جزاء المحدث ، وما ليس بمحدث لا يقابله أعمال الثقلين ، وهو مشاهدة الله.

قال الحسين : ردّ الشيخ إلى الشيخ ، والمخلوق إلى المخلوق ، لما كانت أفعالهم مخلوقة ، وأذكارهم مخلوقة معلولة جعل جزاءها.

(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢))

قوله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٣٠) : الظل الممدود الذي لا نهاية له إلى الأبد ، هو كيف وصله الله ، وظل جلاله الأزلي الأبدي.

قال جعفر : «الظل» : رحمة الله التي سبقت لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و «الممدود» : فضله على الموحدين ، وعدله على الملحدين.

(لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠))

٣٨٤

قوله تعالى : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٣٣) أي : غير مقطوعة عنهم أثمار أشجار المشاهدة ، وهي ثمرات أنوار الذات ، والصفات التي تثمر في قلوبهم ثمار علم العلم ، وغيب الغيب ، وسر السر إلى الأبد ، وهي غير ممنوعة من رؤوسهم ، وعلمهم ، وإدراكهم أدركوها بالله من الله.

قال جعفر : لم يقطع عنهم المعونة والتأييد ، ولو قطع عنهم ذلك لهلكوا ، ولا يمنعون من التلذّذ بمجاورة ، ولو منعوا من ذلك لاستوحشوا.

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١))

قوله تعالى : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٦١) (١) : بيّن الله سبحانه أن حقائق الغيوب غير متناهية ، وحقائقها غير مكشوفة للأعداء ، ومن اختاره بالولاية وكحّل عينه بنور العناية ، يطلعه على نوادر الملكوت ، وعجائب الجبروت ، فهذا من كنوز الغيب التي اختار الله بها سفرة الأنبياء ، والرسل ، والأولياء ، وأهل الصفوة بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ، وبقهر القديم منع الأعداء من النظر إلى مكنون السرائر ، فخاطبهم بهذه الآية أنه يخرجهم بمراده الأزلي على لباس مقاديره الأولية ، إمّا بصورة السعادة ، وإمّا بصورة الشقاوة.

قال الواسطي في قوله : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٦١) : من أسباب السعادة والشقاوة.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ

__________________

(١) والحاصل : إن الآية وعد لمتوقع الخير ، ووعيد لفاعل الشر ، والله عند حسن ظن عبده به لكن العبد وجب عليه أن يلاحظ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ، فإن عبد الكريم لابد وأن يكون كريما لا لئيما ، ثم في الآية إشارة إلى أن إنشاء المذكور لا يستلزم الاستحالة ؛ وهو قلب الحقائق ، فإن الإنسان لا يصير خنزيرا مثلا أبدا ، وإنما يظهر في صورته ، وكذا لا يصير ملكا وإن كان ظاهرا بصورته ؛ كجبريل في صورة شاب ، أو في صورة دحية ، أو نحو ذلك من الصور الحسنة ، وكذا الجن والمتروحنون ، ومن ذلك الكيمياء فإن الإكسير لا يقلب النحاس ذهبا حقيقة ؛ وإنما يقلب صفة النحاس ، فيظهر في صورة الذهب ، ثم لا يرجع إلى أصله أبدا كما أشار إليه قولهم : لو وصلوا ما رجعوا ، وقد نازع فيه بعضهم من لا خبرة له بحقيقة الحال ، وقس على هذا سائر الاستحالات ؛ فإنها استحالات صورة لا حقيقة ، وإن زعم بعضهم الحقيقة في كل ذلك.

٣٨٥

مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي : لقد ظهرت أنوار صفاتي في مباشرة أمري في أطوار فطرتكم الأولية ، ما رأيتم تلك المشاهدات بإسبالي ستور الغبرة على أعينكم ، وكيف ينفع العلم بصورة الأفعال ، إذا لم يدرك لطائف اصطناعه ، ولم ير حقائق أنواره.

هذا آدم بديع فطرته ، وخليفة ملكه ، ظهر الحق منه ببديع الآيات ، وحقائق أنوار الصفات ، خلقه من تراب ، ثم خلق ذريته من نطفة ، فباشر سر الحقيقة النطفة ، كما باشر التراب ، يا ليت لذريته لو عرفوا منشأه ومبدأه ، كما عرف آدم نفسه ، لكانوا عارفين بربهم بحقيقة العرفان ، لا برسم الأدلّة والبرهان.

قال القاسم : ألم تعلموا إنّا خلقناكم من تراب ، ثم من مضغة ، ثم من علقة ، ثم من ماء مهين ، أفلا تتعظون بهذه المواعظ ، وتبصرون إلى عجائب الصنع فيكم ، وتستحيون من هذه الدعاوي ، والأماني ، والإضافات ، وتلزمون الأدب ، فإنّ من تعدّى طوره هتك ستره.

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣))

قوله تعالى : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) : جعل الله تعالى آياته بصنوفها مرأى أنوار صفاته ، يتجلّى منها لأبصار العارفين ، ويقوّي برؤيتها أرواح الموحدين ، وتستقيم بها عقول الصادقين ، وتفزغ من مواعظها قلوب الخاشعين ، فصاروا في معابد العبودية متذلّلين ، وفي مراقد أنوار عظمته متواضعين.

قال جعفر : موعظة للتائبين ، وآلة للأقوياء من العارفين في حمله.

قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤).

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) : أمر الله حبيبه عليه الصلاة والسلام أن ينزه نفسه عند رؤية الآية ونعمائه وظهوره ، بكشف الصفات والذات من مشكاة آياته ، بأنّه منزّه عن أن تكون الحوادث محلّه ، أو أن يلحق إليه بنعت مباشرة شيئا من الحدثين ، فأمره أن ينزّهه ، ويسبحه به لا بنفسه ، ألا يرى كيف قال : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) ، والمسمّى والاسم واحد في واحد أي : قدّسي بي ، فإني أعظم من أن تقدسني بنفسك ، أو بشيء من دوني ، ألا ترى إشارة قوله : (الْعَظِيمِ) عظم جلاله ، أن يبلغ إلى مدحه الخليقة ، أو أن تصفه البريّة.

قال الواسطي : سبّحه باسمه ، فإن الاسم والمسمى هو الشيء بعينه ، وهو العظيم.

٣٨٦

قال ابن عطاء : «سبحان الله» : أعظم من أن يلحقه تسبيحك ، أو يحتاج إلى شيء منك ، لكنه شرف عبيده أن أمرهم أن يسبّحوه ؛ ليظهروا أنفسهم مما ينزهونه به.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨))

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) : أقسم الله سبحانه بمواقع أنوار نجوم صفاته إذا ظهرت منه ، فتعود إلى معادنها من ذاته سبحات ، منه بدأت وإليه تعود ، فالنجوم صفاته ، ومواقعها ذاته ، لذلك قال : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) : عظم لعظمة جلاله ، وعظم جلاله ، وأيضا أقسم بمواضع نجوم صفاته من أرواح الأنبياء والمرسلين ، والأولياء ، والصديقين إذا تجلّت لها ، وأيضا أقسم بقلوب العارفين أنها مواقع نجوم خطابه ، وأيضا أقسم بمواقع نجوم القرآن من أسرار حبيبه عليه الصلاة والسلام ؛ لأن قلبه مسقط الوحي ، وبيت الخطاب ، وموضع كشف الأسرار ، ومرآة حقائق الأنوار ، أقسم به لعظمة عند الله.

وفي هذا المعنى قال ابن عطاء : «مواقع النجوم» : هي مواقع ما يظهر على سر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنوار الحق ، وزوائد التحقيق مما خصّ به من الدنو ، أو وقربه والزلف التي لم يؤمر بإظهارها والإخبار عنها ؛ ولذلك قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) : كلامه القديم إذا بدا في قلبه لا يختلط به هوى الإنسانية ، ولا هواجس النفسانية ، ولا إلقاء الشيطاني ؛ لأن قلبه كان محفوظا بحفظ الله ، ورعايته عن الخطرات المذمومة ، والأوهام ، والظنون ، وكلامه محفوظا ؛ لأنه صفته القديمة المنزهة عن التغيير والتبديل ، وصفه بأنه كريم ؛ لأنه وصف الكريم القديم المنبئ عن صفاته الكريمة ، وذاته الأزلي أنزله إلى أكرم خلقه من تخلّق بخلقه يكون كريما في الدارين ، ومن فهم حقائقه يكون إماما في الثقلين.

قال بعضهم : «كريم» : لأنه يدل على مكارم الأخلاق ، ومعاني الأمور ، وشرائف الأفعال.

وقيل : «كريم» ؛ لنزوله من عند كريم ، بوساطة كريم ، إلى أكرم الخلق طرّا أجمعين.

(لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤))

قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي : لا تنكشف أسراره وأنواره إلا للمقدسين بقدس الله عما دون الله ، وهم أهل القرآن ، وأهل الله وخاصته.

٣٨٧

قال بعضهم : لا ينال خيره وبركته إلا من طهّره يوم قسمته عن الشقاوة ، وخلقه يوم خلقه مطهّرا من المخالفات.

وقال ابن عطاء : لا يفهم إشارات القرآن إلا من طهّر سره عن الأكوان بما فيها.

وقال الجنيد : إلا العارفون بالله ، المطهّرون أسرارهم عمن سواه.

وقال جعفر : إلا القائمون بحقوقه ، المتّبعون أوامره ، الحافظون حرماته.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧))

قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) : افهم أن قرب الله بالتفاوت ، قرب بالعلم ، وقرب بالإحاطة ، وقرب بالفعل ، وقرب بالصفة ، وقرب بالفهم ، وقرب باللطف والمسافة والمكان منفيّ عن ذاته وصفاته ، لكن تجلّى من عين العظمة لقلوب بعض ؛ لإذابتها برؤية القهر ، ولقلوب بعض تجلّي من عين الجمال ؛ ليعرّفها لطف الاصطفائية ، وذلك القرب لا يبصره إلا أهل القرب ، وشواهده ظاهرة لأهل المعرفة.

قال ابن عطاء : إنما ذكر هذا ليعرفوا قربه منهم ، لا أنّ بينه وبينهم مسافة ، ولكن خطاب التحذير والترهيب.

(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩))

قوله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي : فأما إن كان من العارفين بالله المقربين بقرب الله إياه قلبه روح الوصال ، وريحان الجمال ، وجنة الجلال لروحه روح الأنس ، ولقلبه ريحان القدس ، ولنفسه جنة الفردوس.

قال السلمي : «الروح» لقلوبهم ، و «الريحان» لنفوسهم ، و «الجنة» لأبدانهم.

قال ابن عطاء : «الروح» النظر إلى وجه الجبار ، و «الريحان» الاستماع لكلامه ، «وجنة نعيم» هو ألا يحتجب العبد فيها عن مولاه إذا قصد زيارته ، وللمقربين ذلك في دار الدنيا روحهم المشاهدة ، وريحانهم سرور الخدمة ، وجنة نعيمهم السرور بالذكر.

وقال الأستاذ : «روح» للعابدين ، و «ريحان» للعارفين ، و «جنة نعيم» لعوام المؤمنين.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤))

قوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي : وأما إن كان من أهل السعادة هذا المتوفى ويمن العناية وصل إلى دار السلام ، ولقاء جلال

٣٨٨

العلّام ، وهو في سلامة مشاهدته أمن من الفرقة والوحشة ، فبشارة سلامته لك أيها الحبيب المشفق ، وعليك منه سلام الاشتياق إلى قدومك ، وإلى جمالك ، وإلى خطابك وخدمتك وصحبتك.

قال سهل : (أَصْحابِ الْيَمِينِ) : هم الموحدون إلى العاقبة لهم بالسلامة ؛ لأنهم أمناء الله قد أدّوا الأمانة ، يعني : أمره ونهيه ، والتابعون بإحسان لم يحدثوا شيئا من المعاصي والزلات ، قد أمنوا الخوف والهول الذي ينال غيرهم.

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (١) أي : خبر ما كان ، وما سيكون في القرآن من الحق حق وبيان صحيح ، لا يقبله إلا من شاهد قلبه بنعت حق اليقين مشاهدة الحق بالحق ، وحق اليقين كشف الذات والصفات ، أي : إذا أنت من أهل حق اليقين فيما وجدت من قرب الله ووصاله نزّه ذاته وصفاته عمّا لا يليق بعزته سبّحه به لا بك ، حتى يكون تنزيهك تنزيها ، وتقديسك تقديسا.

قال ابن عطاء : إن هذا القرآن لحقّ ثابت في صدور الموقنين وأهل اليقين ، وهو الحق من عند الحق ؛ فلذلك تحقق في قلوب أوليائه.

قال بعضهم : «حقّ اليقين» : النظر إلى الحق بعين الحقيقة وتلك البصيرة التي يكرم الله بها خواص عباده المقربين ، وهو مشاهدة الغيب بما تريد أن تجري ، وإنما يرزق ذاك من فتح بصره لمشاهدة الغيوب.

قال أبو عثمان في قوله : (فَسَبِّحْ) : شكرا لما وفّقنا أمنك من التمسك بسنتك.

سورة الحديد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : نزّه الله الأكوان ، ومن فيها بلسان العجز عن البلوغ إلى ثنائه وبلسان الافتقار إليه ، وفي الحقيقة هو سبح لنفسه بألسنتهم ؛ لأنها أفعاله

__________________

(١) أي : اسبح بفكرك في بحار عقلك ، وغص بقوة التوحيد فيها تظفر بجواهر العلم ، وإيّاك أن تقصّر في الغوص لسبب أو لآخر ، وإياك أن تتداخلك الشّبه فيتلف رأس مالك ويخرج من يدك وهو دينك واعتقادك .. وإلّا غرقت في بحار الشّبه ، وضللت. تفسير القشيري (٧ / ٣٧٧).

٣٨٩

وبأفعاله وصف نفسه إذ هو قبل وجود الكون نزه نفسه بصفته القديمة ثم وصف نفسه بفعله تشريفا للخليقة وتعظيما للحقيقة ، فتنزيهه غالب على تنزيه الخلق وحكم بعجزهم عن تسبيحه بقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.)

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢))

قوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) : ذكر الله سبحانه ملكه على قدر إفهام الخليقة ، وإلا فأين السماوات والأرض من ملكه؟! والسماوات والأرض في ميادين مملكته أقل من خردلة لما علم عجز خلقه عن إدراك ما فوق رؤيتهم ، ذكر ملك السماوات والأرض ملكه قدرته الواسعة التي إذا أراد الله إيجاد شيء ، يقول : كن فيكون بقدرته ، وليس بقدرته نهاية ، ولا لإرادته منتهى ، يحيى من يشاء برؤيته ، وكشف جماله له ، ويميت من يشاء برؤية الملك ، والاشتغال به عن المالك ، وأين الملك والملكوت في عين العارف الحي بحياته ، البصير بنوره التي هي فانية في الملكوت والكائنات سقطت منها بأن ليس فيها موضع إلا وفيه بحار عظمة القدم وجلال الأبد.

قال ابن عطاء : هو مالك الكل وله الملك أجمع ، يميت من يشاء بالاشتغال عن الملك ، ويحيى من يشاء بالإقبال على الملك.

وقال الأستاذ : يحيى النفوس ويميتها ، ويحيى القلوب بإقباله عليها ، ويميت بإعراضه عنها.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣))

قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) : افهم سرّ تفسير هذه الآية ، فإن الله سبحانه أشار بها إلى سرّ ذاته وصفاته ونعوته وأسمائه ، وأظهر باطن غيبه ، وغيب غيبه وسره ، وسر سره ؛ لتحير أرواح العارفين في بحار قدمه وبقائه ، وفناء أسرار الموحدين في صفاته وذاته ، وما أفادت هذه الأسرار إلا التحير عن إدراكه وذكر سرّه ، ولم يعرف أحد ذلك السرّ ، ولا يعرف أحد ذلك السرّ ، ولا يعرفه أحد إلى الأبد ، هو ذاكره ، وهو عالم به لا غير ، كيف يعرف الأولية من لا أولية له؟ وكيف يعرف الآخرية من لا آخرية له؟ وكيف يعرف بطن سر السر وأصل الأصل ، من لا حقيقة له في إدراك كنة كنهه اعبر من هذا البحر العميق ، ولا تقف ، فإنه أغرق الأولين والآخرين في قطرة من قطراته ، وهم عطاشى من بعد أفواههم عن نداوتها أين أنا من الإقبال بنعت الإدراك على قدم القدم وأبد الأبد وبطن العلم وإشراق شمس الألوهية ، وسبحاتها تحرق الأبصار ، وأسرارها تحير الأفكار أنا والفرار من ضرغام الأزل ، وتبين الأبد ما للتراب ، ورب الأرباب سقط الزمان والمكان والأوائل والأواخر

٣٩٠

والظروف والأماكن والفهوم والعلوم عن بوادي أنوار أوليته وآخريته ، وظهور سبحات ظاهريته ، ولمعات أسرار باطنيته ، فلم تبق لي اللسان حيث لا يبقى البيان والبرهان ولا العرفان ولا الإيقان الإيمان بمن والعرفان لمن والإيقان في من ، وهو ممتنع بغير جباريته عن درك الخواطر ، وجريان الضمائر سبحانه سبحانه سبحانه.

قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) : إظهار الأزل في الآزال.

وقوله : (وَالْآخِرُ) : إظهار الآباد في الآباد.

وقوله : (وَالظَّاهِرُ) : عيانه بذاته في صفاته وصفاته في أفعاله ؛ إذ الأفعال في الصفات والذات فانية ، فبقي ظهوره في نفسه ؛ إذ لا شيء دونه.

وقوله : (وَالْباطِنُ) : استتار كنهه بكنهه وسره بسره ، لا يدرك باطنه بعد الأوهام ، ولا غوص الأفهام ، سبحانه عما أومأ إليه الخليقة بكمالها! سبحانه عما أشار إليه البرية بنهايتها! من يعرف عقود علل الأشياء حتى يعرف أوليته ، ومن يعرف عروق الأعصار حتى يعرف آخريته ، ومن يعرف كينونية الأفعال حتى يعرف ظاهريته ، ومن يعرف أسرار بطون الأرواح والنفوس حتى يعرف باطنيته ، لو يعرف المخلوق حقيقة مائية وجوده بنعت إحاطة علمه عليها يعرف أصل كل أصل ، وعلة كل علة ، إذ لا يعرفها إلا من يوجدها إلا هو الذي نعته الأول والآخر والظاهر والباطن ، لا تظن في أوليته عدّ الأدهار ، ولا تظن في آخريته حصر الأعصار ، ولا تظن في ظاهريته بوادي الآيات ، ولا تظن في باطنيته أسرار الخفيات ، فإن هذه الصفات منفية عن كمال ألوهية الأولية في الأذهان تأخرها إلى قدم الزمان ولا زمان في الأزل والآخرية في الإفهام استباقها إلى دوام الأعصار ولا أعصار في الأبد ، والظاهرية في العقول الظهور في الأماكن ، ولا مكان عند ظهوره ، والباطنية في الخيال طوية الخفيات ، وهو منزّه عن أن يكون محل جريان العلل ؛ إذ لا علة في وجوده عبر من هذه الظلمات ، فإنه تعالى منزّه عن القياس والوسواس ، أوله آخره ، وآخره أوله ، وظاهره باطنه ، وباطنه ظاهره ، فإذا خرجت يا نفس من رقومات المكونات ، وصور الآيات ، ورسم الأفعاليات ، ونسيت العدم والوجود ، وسقط عنك الرسم والاسم والوسم فنيت عنك ، وبقيت بالحق يرى الله بالله ، ولا تبقى عندك هذه الرسومات ، ويثبت لك الخفيّات الأولى للأرواح بسبق العنايات ، والآخر للقلوب بحسن الرعايات ، والظاهر بنعت الكشف للأسرار ، والباطن ببيان علم المجهول ، وانكشاف حقيقة حكم الربانية للعقول القدسية ، أي : تفضل أعظم من هذا التفضل من الحق سبحانه للعارفين ؛ إذ تجردت نعوته وأسماؤه وصفاته وذاته لهم ، وهذا من كمال حبه لحبهم ، وإرادته لمعرفتهم ؛ لذلك أظهر كنز الربوبية والألوهية لهم بقوله : «كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت

٣٩١

أن أعرف» (١) ، يا صاحبي كدت أن أنقل أحجار ، فإن الكبرياء بنياني أو أغرف مياه قاموس الأزل والبقاء فما وصلتها رأيتها ممنوعة من إدراك الفهوم ووصول العلوم ، ورجعت وما قلت إلا قول حبيبه عليه الصلاة والسلام في هذه الآية : «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (٢).

قال الجنيد : نفى العدم عن كل أوّل بأوليته ، ونفى البقاء عن كل آخر بآخريته ، واضطر الخلق إلى الإقرار بربوبيته بظاهريته ، وحجب الأفهام عن إدراك كنهه وكيفيته بباطنيته.

قال الواسطي : لم يدع للخلق نفسا ، بعدما أخبر عن نفسه الأول والآخر والظاهر والباطن.

وقال أيضا : من كان حظه من اسمه الأول كان شغله بما سبق ، ومن لاحظ اسمه الآخر كان مرتبطا بما يستقبله ، ومن كان حظه من اسمه الظاهر لاحظ عجائب قدرته ، ومن كان حظه من اسمه الباطن لاحظ ما جرى في السرائر من أنواره.

وقال أيضا : حظوظ الأنبياء مع تباينها من أربعة أسام ، وقيام كل فريق منهم باسم منها ، فمن جمعها كلها فهو أوسطهم ، ومن فني عنها بعد ملابستها فهو الكامل التام ، وهي قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ.)

وقال أيضا : من ألبسه الأولية فالتجلّي له في الآخرية محال ؛ لأنه لا يتجلى إلا لمن فقده أو كان بعيدا عنه فقربه.

وقال الحسين : هداهم باسمه الأول إلى الغيب المحيط ، وعرّفهم باسمه الآخر الشأن القائم الدائم ، وبصّرهم باسمه الظاهر النور العزيز المبين ، وأوزعهم باسمه الباطن الحق والشهادة.

وقال أيضا : هو الأول الذي لا تخرجه الأولية ولا الآخرية ولا الظاهرية ولا الباطنية إلى نعوت الحلول والافتراق ، وكيف يسعه أو يدركه شيء من خلقه وهو المحيط بالأزل والآزال ، والأبد والآباد من جميع الوجوه وإليه الغاية والمنتهى.

أزلي العلم ، أزلي القدرة ، أزلي الشأن ، أزلي المشيئة ، أزلي النور ، أزلي الرحمة ، البادئ لكل علم ومعلوم ، وشاهد ومشهود جلّ وتعالى.

وقال الجنيد : نفى القدم عن كل أول بأوليته ، ونفى الفناء على الكل الآخر بآخريته ،

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفا (٢ / ١٧٣).

(٢) تقدم تخريجه.

٣٩٢

واضطر الخلق إلى الإقرار بربوبيته بظاهريته ، وحجب الأفهام عن إدراك كنهه وكيفيته بباطنيته.

قال النوري : الأولية هي الآخرية ، والآخرية هي الأولية ، والظاهرية هي الباطنية ، والباطنية هي الظاهرية ، كما أن الأزلية هي الأبدية ، والأبدية هي الأزلية ، ليس بينهما حاجز إلا أنه يفقدك ويشهدك ، وفناء التجديد الملذة ، ورؤية العبودية.

وقال الأستاذ : الأول لا بزمان ، والآخر لا بأوان ، والظاهر لا باقتران ، والباطن لا باحتجاب.

وقيل : الأول بالتعريف ، والآخر بالتكليف ، والظاهر بالتشريف ، والباطن بالتخفيف.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥))

قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) : يعلم ما يلج في أرض القلوب من أنوار الغيوب ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من نبات المعرفة وأشجار المحبة وأنهار الحكمة ، يعلم ما يلج فيها من سنا تجليه ، وما يخرج منها من صفاء التوحيد والتجريد والتفريد.

قال سهل : ليسلم ما يدخل أرض قلبه من الفساد والصلاح ، وما يخرج منها من فنون الطاعات ، فيتبين آثارها وأنوارها على الجوارح.

قال الأستاذ في قوله تعالى : (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) : الذي في قلبه من إخلاصه وتوحيده حزنه ، وما في قلب الجاحدة من

شكه وشركه والأوصاف المذمومة ، وما ينزل من السماء على قلوب أوليائه من الألطاف والكشوفات ، وفنون الأحوال العزيزة ، وما يعرج فيها من أنفاس الأولياء إذا تصاعدت ، وحسراتهم إذا علت.

وقوله تعالى : (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) : ما ينزل من سماء الغيب من قطرات الإلهام ، وما يعرج فيها من أنوار أنفاس المشتاقين والعاشقين وللمحبين ومعاليهم العارفين.

وقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) : إن للعارفين في هذه الآية مقامين : مقام عين الجمع ، ومقام إفراد القدم عن الحدوث ، فمن حيث الوحدة والقدم تصاعر الأكوان في عزة الرحمن وسطوات عظمته حتى لا يبقى أثرها ، فتسلط عظمته معها حتى أزالها بحيث لا

٣٩٣

افتراق بين فعله وقهر قدرته ، ومن حيث الجمع باشر نور الصفة نور الفعل ، ونور الصفة قائم بالذات ، يتجلى بنوره لفعله من ذاته وصفته ، ثم يتجلى من الفعل ، فترى جميع الوجود مرآة وجوده ، وهو ظاهر بكل شيء للعموم بالفعل وللخصوص ، بالاسم والنعت ، ولخصوص الخصوص بالصفة ، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات ، وهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع ، إنما هو ذوق العشق ، ولا يعلم تأويله إلا العاشقون.

قال الحسين : ما فارق الأكوان الحق ، ولا قارنها ، كيف يفارقها وهو موجدها وحافظها! وكيف يقارن الحدث القدم به قوام الكل ، وهو بائن عن الكل! ، ولا تراه يقول : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، يا أخي هذه الآية مقتضية البشارة للعاشقين ؛ حيث معهم أينما كانوا ، وتوثيق للمتوكلين ، وسكينة للعارفين ، وبهجة للمحبين ، ويقين للمراقبين ، ورعاية للمقبلين ، وإشارة الاتّحاد للموحدين.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩))

قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) : يولج ليل الاستتار في نهار التجلي ، ويولج نهار كشف النقاب في ليل الحجاب ، وأيضا يولج ليل النفوس الأمارة في نهار الأرواح والعقول ، ويولج نهار الأرواح والعقول في ظلمات النفوس.

قال سهل : الليل نفس الطبع ، والنهار نفس الروح ، فإذا أراد الله بعبد خيرا ألفّ بين طبعه ونفسه وروحه على إدامة الذكر له ، فأظهر بذلك على صفاته أنوار الخشوع.

(وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠))

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) : فيه بيان شرف المتقدمين في الطريقة ، والباذلين أنفسهم وأموالهم لرعاية الوفاء بالعبودية لحبيبهم ؛ إذ بيان صدق الصادقين إجابة دعوة الحق في البداية لا يتقاعد عن طلبه بمانع نفسه وماله.

قال جعفر : الإرادة القوية والإيمان والتسليم للمهاجرين وأهل الصفة وإمامهم

٣٩٤

وسيدهم الصدّيق الأكبر ، وهم الذين لم يرثوا الدنيا على الآخرة ، بل بذلوها ولم يعرجوا عليها ، واعتمدوا في ذلك ربهم ، وطلبوا رضاه وموافقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخصّهم الله من بين الأمة بقوله : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ.)

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) : شكا الله بهذه الآية من طباع الخليقة المجهولة بالبخل ، حيث سأل منهم القرض ، ولو كانوا على محل التقديس لخرجوا من وجودهم له قبل سؤاله ، ومع ذلك القرض الحسن ما أعطاه بنعت الخجل مما بذل فأين حسن الإيمان؟ يعرف إن العبد وما ملك لسيده ، فكيف يقرضه وهو وماله له ، فمن عرف نفسه بالعبودية ، وعرف أن الكل له فما يعطي بعد ذلك ، فهو القرض الحسن.

قال سهل : أعطى الله فضلا ، ثم سألهم قرضا وقال : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً.)

قال الواسطي : القرض الحسن للعوام ، وللخاص الخروج عن جميع الأملاك عن طيبة النفس والرضا كأبي بكر الصديق رضي الله عنه.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ) (١) : إن الله سبحانه ألبس العارفين نور عظمته وكبريائه ، وأسبل على وجوههم سنا هيبته وضياء بهائه ، وجعلهم مشكاة أنوار تجليه ، تتناثر منهم أنوار هيبة الحق يمينا وشمالا وخلفا وقداما وفوقا وتحتا ، وهم

__________________

(١) نور المؤمن يسعى بين يديه ، له هيبة في قلوب الموافقين والمخالفين ، يعظمه الموافق ويعظم شأنه ، ويهابه المخالف ويخافه ، وهو النور الذي جعله الله تعالى لأوليائه ، ولا يظهر ذلك النور لأحد إلا إن انقاد له وخضع ، وهو من نور الإيمان. تفسير التستري (٢ / ١٢٤).

٣٩٥

يمشون إلى الله بنور الله ، فعند ذلك النور تخضع له الأكوان ، ومن فيها من الموافق والمخالف ، فالموافق يستبشر برؤيته فيعظّمه ، والمخالف يفزع منه فيها ، وهذه الأنوار معه في الدنيا والآخرة.

قال سهل : نور المؤمن يسير بين يديه وهيبته له في قلوب الموافق والمخالف ، فالموافق يعظّمه ويعظّم شأنه ، والمخالف يهابه ويخافه ، وهو من نوره الذي جعل الله لأوليائه لا يظهر ذلك النور لأحد إلا اتقى له وخضع ، وذلك من نور الإيمان.

وقال الأستاذ : كما أن لهم في العرصة هذا النور ، فاليوم لهم في قلوبهم وبواطنهم نور يمشون في نورهم يهتدون به في جميع أحوالهم.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨))

قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) :

هذا لقوم من ضعفاء المريدين الذين في نفوسهم بغايا الميل إلى الحظوظ حتى يحتاجوا إلى الخشوع عند ذكر الله ، وأهل الصفوة احترقوا في الله بنيران محبة الله ، لو كان هذا الخطاب للأكابر لقال : «أن تخشع قلوبهم لله» ؛ لأن الخشوع لله موضع فناء العارف في المعروف ، وإرادة الحق بنعت الشوق إليهم ، فناؤهم في بقائه بنعت الوله والهيجان والخشوع للذكر موضع الرقة من القلب ، فإذا رقّ القلب خشع بنور ذكر الله لله ، كأنه تعالى دعاهم بلطفه إلى سماع ذكره بنعت الخشوع والخضوع والمتابعة بقوله والاستلذاذ بذكره حتى لا يبقى في قلوبهم لذة فوق لذة ذكره.

قال سهل : لم يحن لهم أو أن الخشوع عند سماع الذكر ، فشاهدوا الوعد والوعيد مشاهدة الغيب.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ

٣٩٦

عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ) أي : الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة ، وتابعوا رسوله بالصحبة ، والمعرفة بشرفه وفضله ، والانقياد بين يدي أمره ونهيه ، أولئك هم الصديقون ؛ لأنهم معادن الإخلاص واليقين ، وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان ، وهم شهداء الله تعالى ، مقتولون بسيوف محبته ، مطروحون في حجر وصلته يحيون بجماله ، يشهدون على وجودهم بفنائه في الله وبفناء الكون في عظمة الله ، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله ، يشهدون لهم وعليهم بصدق الفراسة ؛ لأنهم أمناء الله ، خصّهم الله بالصديقية والشهادة والولاية والخلافة.

وقال أبو علي الجوزجاني : الصديقون حزب الله ، خواصهم أهل المعرفة ، وأوساطهم العقلاء.

وقال : قلوب الأبرار معلقة بالملكوت مقبلين ومدبرين ، وقلوب الصديقين معلقة بالرب مقبلين بالله ولله.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

قوله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) : دعا المريدين إلى مغفرته بنعت الإسراع ودعا المشتاقين إلى جماله بنعت الاشتياق والأشواق ، وقد دخل الكل في مظنة الخطاب ؛ لأن الكل قد وقعوا في بحار الذنوب حين لم يعرفوه حق معرفته ، ولم يعبدوه حق عبادته ، دعاهم جميعا إلى التطهير في بحر رحمته حتى صاروا متطهرين من غرورهم بأنهم عرفوه ، فإذا وصلوا عرفوا أنهم لم يعرفوه ، فيأخذ الله بأيديهم بعد ذلك ، ويكرمهم بكشف جنان قربه وفراديس مشاهدته ، ولولا رحمته وغفرانه لهلكوا جميعا في أول بوادي سطوة غرته ، لكن أغفلهم عنه فيه حتى يبقوا ، ولو رفع عنهم غطاء الغفلة والجهل به في مشاهدته لهلكوا جمعيا حسرة من فقدان الحق والحقيقة.

قال الحسين في هذه الآية : لما باشرت هذه المخاطبة العقول نهضت مستحضة للجوارح بحسن التوجه ؛ لإقامة مائة يحطون عند من استجابوا لدعوته ، فظنوا لإشارته ، وأقاموا تحت العلم بقربه ، وقرت عيونهم بما أورد على قلوبهم بالسرور بالخلوة ، جلاسا إناسا أكياسا لا يرهبون في الطريق إليه غيره ، ولا يتوسلون إليه الأبد ، ولا يسألونه شيئا غير التمتع بخدمته ،

٣٩٧

وحسن المعرفة على موافقته.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦))

قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) : يا عجبا من كان قادرا أن يوصل العباد إليه بلا مصيبة ولا تعب فكيف يصيبهم المصيبة؟ أراد أن يعرّفهم بامتحان القهر حقائق الربوبية ، وأن يعرّفهم غرائب الطريق إليه حتى عرفوه بجميع الصفات ، وشاهدوا جميع النعوت ، ولولا ذلك لما عرفوه بالحقيقة في معرفة غيره ، فمن سمع هذا الخطاب ينصرف نظره من المصيبة إلى سوابق الامتحان حتى يكون برؤية السبق شاهد الحق راضيا بقضائه ، صابرا في بلائه ؛ لأنه هناك يحتمل البلاء برؤية المبلي.

قال الجنيد : من عرف الله بالربوبية ، وافتقر إليه في إقامة العبودية ، وشهد بسره ما كشف الله له من آثار القدرة بقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) إلا به فسمع هذا من ربه وشهد بقلبه وقع في الروح والراحة وانشرح صدره وهان عليه ما يصيبه ، ثمّ زاد سبحانه في تأكيد طلب الرضا من عباده ويقينهم باختياره لهم والصبر في بلائه بقوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) : طالب الله بهذه الآية أهل معرفته بالاستقامة والإنصاف بصفاته ، أي : كونوا في المعرفة بألا يؤثر فيكم الفقدان والوجدان والقهر واللطف والاتصال والانفصال والفراق والوصال والكفر والإيمان والطاعة والعصيان ؛ لأن من شرط الاتّصاف ألا تجري عليه أحكام التلوين ، والاضطراب في اليقين والاعوجاج في التمكين ، لا تأسوا على ما فاتكم من معرفة الأزل ؛ فإن الأزل للأزل لا لأنفسكم ، فإذا سقط الأسف لا تفرحوا بما تجدون من الأبد ؛ فإن الأبد للأبد ، وأنتم معزولون من كلا الطرفين ؛ فإن الحقيقة ترجع إلى العلة.

قال سهل : في هذه الآية دلالة على حال الرضا في الشدة والرخاء.

وقال القاسم : ما فاتكم من أوقاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم من توبتكم وطاعتكم ،

٣٩٨

فإنك لا تدري ما قدّر الله فيك وقضى.

وقال الواسطي : الفرح من الكرامات من الاغترارات ، والتلذذ بالأفعال نوع من الإغفال والخمود تحت جريان الأمور زين لكل مأمور ، قال الله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) إلخ.

وقال : العارف مستهلك في كنه المعروف ، فإذا حصل مقام المعرفة لا يبقى عليه فضل فرح ولا أساء ، قال الله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) إلخ.

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧))

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) (١) : وصف الله هاهنا أهل السنة وأهل البدعة ، أهل السنّة أهل الرأفة والرحمة ، وأهل البدعة أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم ، ووصف الله قلوب المتمسكين بسنة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسوله ، تلك المودة من مودة الله إياهم ، وذلك بالرحمة من رحمة الله عليهم ؛ حيث اختارهم في الأزل ؛ لأنهم خلفاء الأنبياء وقادة الأمة ، ووصف الله المتكلّفين الذين ابتدعوا رهبانية من أنفسهم مثل ترك أكل اللحم والجلوس في الزوايا للأربعين عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات ؛ لأجل قبول العامة بأنهم ليسوا على الطريق المستقيم ، بل هم متابعون شياطينهم الذين غرّتهم في دنياهم بأن زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخرفات ، وما كتب الله عليهم الابتغاء رضوان الله ، ورضوان الله هو الشريعة والطريقة الأحمدية المحمدية صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم وصف لهؤلاء بأن ما ابتدعوها من الرهبانية والمجاهدة والرياضة إذا كانت بغير متابعة السنة صارت متروكة.

قال الله تعالى : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) حيث خرجوا من طريق السنّة ، وهكذا حال جهلة زماننا الذين طلبوا الرياسة بالزهد والتعلم والتذكر على رؤوس المنابر ، وقولهم الزور والبهتان ، وطعنهم في الأولياء ، فلما فضحهم الله عند الخلق بما في صدورهم من حب الجاه والمال تركوا رهبانيتهم ، ورجعوا إلى ما هم فيه ، والرعاية عند العارفين محافظة الحال عن

__________________

(١) وذلك أنه لما كثر المشركون وهزموا المؤمنين وأذلوهم بعد عيسى ابن مريم عليه‌السلام واعتزلوا واتخذوا الصوامع فطال عليهم ذلك ، فرجع بعضهم عن دين عيسى ، عليه‌السلام ، وابتدعوا النصرانية ، تفسير مقاتل (٣ / ٣٢٧) بتحقيقنا.

٣٩٩

المحال ، ومراقبة الأنوار بعيون الأسرار.

قال سهل : الرهبانية مشتقة من الرهبة وهو الخوف.

قال : معناه ملازمة الخوف ما تعبدناهم به.

قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن خفيف في قوله : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) : المريد الحذر من مطالعة علمه يقعده عن إقامة الأحوال الموظّفة ، ويجرّه إلى دواعي المرخص بورود الفترة ، ويحذر أن يورده الإغماض في مناولة الدنيا والمسامحة في أخذها ، فإن الله عليك رقيب ، وقد وصف الله القوم في كتابه بقوله : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها.)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) : حقيقة الإشارة مع الشاهدين لله بنعت المحبة وحلاوة الوصلة ، أيها المشاهدون اتقوني فيما وجدتم مني من لذّة الوصال ، والشغف بالجمال حتى لا يحجبكم عن السير في أنوار أزالي وآبادي ، والسباحة في بحار ذاتي بسفن العجز ، فمن احتجب لي عني فهو منقطع عني ، واقتدوا بسنّة الأنبياء والمرسلين والمشاهدين والعارفين فيها وجد مني ، واستقام في طلب المزيد ، وما احتجب به عني حيث استغفر في كل يوم سبعين مرّة من الخطاب الوقوف والسكون في المعروف ، حين سلك مسالك الآزال والآباد بمراكب الاصطفائية الأزلية.

(يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) نصيبين أي : عينين من عيون ذاتي وصفاتي ، فتروني بالعين الصفاتية مشاهدة صفاتي ، وبالعين الذاتية مشاهدة ذاتي ، كما أتى حبيبه هذين الكفين ، وهاتين العينين وبهما رآني ، وبهما عرفني.

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) : يعطيكم نورا من نوره يمشون بمركبه في ميادين الأزل والأبد بنعت المعرفة والمحبة.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ) : قصور إدراككم حقيقة وجوده.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : «غفور» بحيث هداكم إلى نفسه ، «رحيم» بأنه يغيثكم من الاستهلاك والاستغراق في بحار عظمته ، ويبقيكم به بعد الفناء فيه حتى تعيشوا في مشاهدة جماله أبدا.

٤٠٠