تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

قوله : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) : أي لا يعلم أحد متى قيام الساعة إلّا هو.

قوله : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) : وهي تقرأ أيضا : (من ثمرة من أكمامها). تفسير الحسن قال : هذا في النخل خاصّة [حين يطل] (١). والأكمام كقوله : (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) (١١) [الرحمن : ١١] والأكمام : الليف (٢). لا يعلم أحد كيف يخرجه الله. قال : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) : كقوله : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) [الرعد : ٨] أي : ولا يعلم وقت قيام الساعة وما يخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ـ ولا تضع ـ إلّا هو [لا إله إلّا هو] (٣). قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) : يعني المشركين (أَيْنَ شُرَكائِي) : الذين زعمتم أنّهم شركائي (قالُوا آذَنَّاكَ) : أي أعلمناك وأسمعناك (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٤٧) : أي يشهد اليوم أنّ معك إلها.

قال الله عزوجل : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) : أي في الدنيا ، أي : ضلّت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدون من قبل فلم تنفعهم ، كقوله : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الذين أشركتموهم بالله (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) [القصص : ٦٤](وَظَنُّوا) : [أي : علموا] (٤) (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨) : أي من ملجأ من النار دون أن يدخلوها.

قوله : (لا يَسْأَمُ) : أي لا يملّ (الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) (٤٩). والخير عند المشرك الدنيا والصحّة فيها والرخاء. (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) أي : في ذهاب مال أو مرض لم تكن له حسبة (٥) ولم يرج ثوابا ويئس من كلّ خير ، أي : لا يرجو ثوابا في الآخرة ،

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٩.

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٩٨ : (مِنْ أَكْمامِها) أي : أوعيتها ، واحدها كمّة ، وهو ما كانت فيه ، وكمّ وكمّة واحد ، وجمعها أكمام وأكمّة». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٠ : «قشر الكفرّاة كمّ». والكفرّاة ، بالضمّ وفتح الفاء وضمّها وتشديد الراء هي وعاء الطلع وقشره الأعلى». وأصل معنى الكمّ هو وعاء الثمرة مطلقا. وقال الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٥ ص ١ : «والأكمام جمع كمّة ، وهو كلّ ظرف لماء أو غيره ؛ والعرب تدعو قشر الكفرّاة كمّا». وانظر اللسان : (كمم) و (كفر).

(٣) زيادة من ز ورقة ٣٠٩.

(٤) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٩.

(٥) في ع وق : «خشية» ، وأثبتّ ما جاء في ز : «حسبة» ، وهو أصحّ معنى. أي احتساب الأجر عند الله.

٨١

ولا أن يرجع إلى ما كان فيه من الرخاء.

قال الله عزوجل : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا) : أي رخاء وعافية (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ) : أي شدّة (مَسَّتْهُ) : أي في ذهاب مال أو مرض (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) : [أي بعلمي] (١) وأنا محقوق بهذا. إنّما همّته الدنيا ، فإن أصابته رحمة ، أي : رخاء وعافية قال : لا تذهب عنّي هذه أبدا.

قال : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) : أي ليست بقائمة (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) كما تقولون (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) : أي الجنّة ، إن كانت جنّة ؛ كقوله تعالى : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) كما يقول الرجل لصاحبه ، وهما اللذان في سورة الكهف (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٣٦) [الكهف : ٣٦] ولكن ليس ثمّة رجعة.

قال الله عزوجل : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) : أي يوم القيامة (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٥٠) : أي : شديد ، يعني جهنّم. وقوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) أي : ولنعذّبنّهم.

قوله : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) : أي عنّا (وَنَأى بِجانِبِهِ) : أي تباعد. وهو مثل قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) أي أعرض (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٢]. قال : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٥١) : أي كثير.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : يعني القرآن (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) : أي بالقرآن (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٢) : أي في فراق للنبيّ عليه‌السلام وما جاء به ، (بَعِيدٍ) إلى يوم القيامة. أي : من يموت على كفره. أي : لا أحد أضلّ منه. وقال بعضهم : بعيد عن الحقّ.

قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) : قال بعضهم : يعني أنّ النبيّ عليه‌السلام يظهر على الآفاق وعليهم.

وقال الحسن : يعني ما أهلك الله به الأمم السالفة في الآفاق ، أي : في البلدان ؛ أي : قد رأوا

__________________

(١) زيادة من ز ، ولعلّ صوابه : «هذا بعملي». بل أكاد أجزم أنّه كذلك : «بعملي» كما رواه الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٥ ص ٣ ، عن مجاهد. وإن جاء اللفظ في تفسير مجاهد ص ٥٢٧ : «بعلمي».

٨٢

آثار ذلك (١). (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي : أخبرهم بأنّهم يموتون وتصيبهم البلايا. فكان ذلك كما قال الله عزوجل ، وأظهرهم الله عزوجل عليهم ، وابتلاهم بما ابتلاهم به ، يعني من الجوع بمكّة والسيف يوم بدر.

قال : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣) : أي شاهد على كفرهم وأعمالهم ، أي : بلى ، كفى به شهيدا عليهم.

قال : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ) : أي في شكّ (مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) : أي يقولون : لا نبعث ولا نلقى الله ، (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) : (٥٤) أي أحاط علمه بكلّ شيء.

* * *

__________________

(١) يرى المؤلّف هنا أنّ الضمير في قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ ، آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) راجع إلى الكفّار في زمن الرسول عليه‌السلام ، وهذا ما ذهب إليه الطبريّ ومفسّرون آخرون. ومن محقّقي المفسّرين من يرجع الضمير إلى العباد وإلى الناس كافّة ، ويجعل آيات الله في الأكوان والأبدان أعمّ من أن تنحصر في قوم معيّنين أو في أزمان معيّنة. وهذا التأويل أنسب وأليق بعموم النصّ القرآنيّ ، إذ يجعله صالحا لكلّ زمان ومكان. اقرأ كلاما ممتعا مفيدا في هذا المعنى كتبه سيّد قطب في ظلال القرآن ، ج ٢٤ ص ١٤٣ ، وانظر تفسير ابن عاشور ، ج ٢٥ ص ١٨ ـ ٢٠.

٨٣

تفسير سورة حم عسق ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (حم (١) عسق) (٢) : كان بعضهم يقول في هذه الحروف وأشباهها : ذكر الحروف من الاسم من أسماء الله ، ثمّ ذكر الحروف من الاسم في موضع آخر ، ثمّ ذكر تمام ذلك الاسم من حرف آخر حتّى صار اسما ، مثل قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : (الر) ، و (حم) ، و (ن) : الرحمن.

وقال بعضهم : ذكر الحروف من الاسم فجعله اسما ، كقوله : (كهيعص) : كاف ، هاد ، عالم ، صادق. وقوله : (يس) : يا إنسان ، والسين حرف من اسم الإنسان. وكان الحسن يقول في أشباه ذلك : ما أدري ما تفسيره ، غير أنّ قوما من السلف كانوا يقولون : أسماء السور ومفاتيحها.

قال : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) : أي : هكذا يوحي إليك كما أوحى إلى الذين من قبلك من الأنبياء ؛ كقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) [النساء : ١٦٣](اللهُ الْعَزِيزُ) في نفسه ، (الْحَكِيمُ) (٣) في أمره.

قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ) : أي فلا أعلى منه.

(الْعَظِيمُ) (٤) فلا أعظم منه.

قوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) : أي يتشقّقن ، وهي تقرأ أيضا : (يَتَفَطَّرْنَ) ، أي : ينشققن (مِنْ فَوْقِهِنَّ) : أي من مخافة من فوقهنّ ، وهو الله تبارك وتعالى. وبلغنا أنّ ابن عبّاس كان يقرأها : يكاد السماوات ينفطرن ممّن فوقهنّ.

قال : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) : أي من المؤمنين ؛ كقوله في حم المؤمن : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧](أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥).

قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) : [يعني آلهة] (١) يتولّونهم ، أي : يعبدونهم من

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٩.

٨٤

دون الله ، (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) : أي يحفظ عليهم أعمالهم حتّى يجازيهم بها ، فيدخلهم النار. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦) : أي بحفيظ تحاسبهم وتجازيهم بأعمالهم. أي : الله هو الذي يفعل ذلك بهم ، إنّما أنت منذر. قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) : أي مكّة ، ومنها دحيت الأرض (وَمَنْ حَوْلَها) : يعني الآفاق كلّها. (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) : أي يوم القيامة (١). يجتمع فيه الخلائق ، أهل السماوات وأهل الأرض (لا رَيْبَ فِيهِ) : أي لا شكّ فيه أنّه آت. (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٧) : أي في النار.

قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : أي على الإيمان. كقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩]. قال : (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) : أي في دينه الإسلام. (وَالظَّالِمُونَ) : أي المشركون (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ) : أي يمنعهم من عذاب الله (وَلا نَصِيرٍ) (٨) : أي ينتصر لهم.

قوله : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) : يعني أوثانهم ، على الاستفهام. يقول : قد اتّخذوا من دونه آلهة فعبدوهم من دونه. (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) دون الأوثان (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) وأوثانهم لا تحيي الموتى (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٩) ، وأوثانهم لا تقدر على شيء.

قوله : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) : يعني ما اختلفتم فيه من الكفر والإيمان ، فحكمه إلى الله ، أي : فهو يحكم بينهم فيه ، يعني المؤمنين والمشركين ، فيدخل المؤمنين الجنّة ، ويدخل المشركين النار (٢). (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) يقوله النبيّ عليه‌السلام ، أي : قل لهم : ذلكم الله ربّي ، أي : الذي الحكم إليه. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١٠) : أي إليه أرجع.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) : يعني النساء ، أي :

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٢ : «وأمّ القرى : مكّة ، ومن حولها من العرب. (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) معناه : وتنذرهم يوم الجمع ، ومثله قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) [آل عمران : ١٧٥] معناه : يخوّفكم أولياءه».

(٢) قصر المؤلّف الاختلاف في الآية على الاختلاف بين الكفر والإيمان ، ويبدو أنّه أعمّ من ذلك وأشمل ، وأنّه يتناول كلّ أنواع الاختلاف. فالنكرة (شيء) ، وقد جاءت بعد (من) المبيّنة لما أبهمته (ما) من أقوى ألفاظ العموم. فتأمّل.

٨٥

تتوالدون فيكثر عددكم (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) : ذكورا وإناثا في تفسير الحسن ؛ أي : جعل معايشكم فيها. وقال الكلبيّ : (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي : من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، الواحد منها زوج. (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) : أي يخلقكم فيه نسلا بعد نسل من الناس والأنعام. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ) : أي فلا أسمع منه (الْبَصِيرُ) (١١) : فلا أبصر منه.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي مفاتيح السماوات والأرض في تفسير مجاهد وغيره. وقال مجاهد : هي بالفارسيّة. وقال الحسن : المفاتيح والخزائن. وقال الكلبيّ : الخزائن ؛ (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) : أي ويقتر ، نظرا منه للمؤمن ، فيقتر عليه الرزق. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٢).

قوله : (شَرَعَ لَكُمْ) : أي فرض لكم ، في تفسير الحسن. وقال بعضهم اختار لكم. (مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) : أي ما أمر به نوحا (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ) : أي ما أمرنا به (إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) : وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل. (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) : أي الإسلام (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) : وهذا ما فرض الله على جميع أنبيائه ، وبعث به رسله إلى خلقه. وهو كقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ..). [الأنعام : ١٥٣] إلى آخر الآية. وقال في آية أخرى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥) [الأنبياء : ٢٥].

وقال في آية أخرى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥) [آل عمران : ٨٥].

قوله : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من عبادة الله وترك عبادة الأوثان. (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) : [أي : يختار لنفسه] (١) يعني الأنبياء. قال مجاهد : يستخلص لنفسه من يشاء. والاستخلاص والاختيار والاصطفاء واحد. قال الحسن : هو كقوله : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥] وقال بعضهم : (يَجْتَبِي إِلَيْهِ) أي : إلى دينه من يشاء. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣) : أي من يخلص له.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣١٠.

٨٦

قوله : (وَما تَفَرَّقُوا) : يعني أهل الكتاب (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) : [أي : حسدا فيما بينهم] (١) ؛ أرادوا الدنيا ورخاءها فغيّروا كتابهم فأحلّوا فيه ما شاءوا وحرّموا ما شاءوا ، فترأّسوا على الناس يستأكلونهم ، فاتّبعوهم على ذلك ؛ كقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] أي : يحلّون لهم ما حرّم الله عليهم فيستحلّونه ، ويحرّمون ما أحلّ الله لهم فيحرّمونه.

قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي إلى القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : وقد فسّرناه في الآية الأولى قبلها (٢).

قال : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) : يعني اليهود والنصارى من بعد أوائلهم (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) : أي من القرآن (مُرِيبٍ) (١٤) : أي من الريبة. وقال الكلبيّ : يعني مشركي العرب.

قوله : (فَلِذلِكَ فَادْعُ) : أي إلى الله (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) : أي على الإسلام (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) : أي الشرك (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) : أي لا أظلم منكم أحدا.

(اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) : أي لا خصومة بيننا وبينكم أي في الدنيا (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) : أي يوم القيامة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥) : أي المرجع. أي : نجتمع عنده فيجزينا ويجزيكم بها الثواب والعقاب.

قوله : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) : يعني المشركين يحاجّون المؤمنين في الله ، أي : في عبادتهم الأوثان (٣). (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) : يعني من بعد ما استجاب له المؤمنون

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣١٠.

(٢) انظر ما سلف قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٤٥ من سورة فصّلت.

(٣) ما ذهب إليه الشيخ ابن عاشور في معنى محاجّة المشركين المؤمنين أحسن تأويلا. قال في تفسيره ، ج ٢٥ ص ٦٥ : «يحاجّون في شأن الله ، وهو الوحدانيّة ... فمعنى محاجّتهم في الله محاجّتهم في دين الله. أي : إدخالهم على الناس الشكّ في صحّة دين الإسلام ، أو في كونه أفضل من اليهوديّة والنصرانيّة ، ومحاجّتهم هي ما يلبسوه (ذا) به على المسلمين لإدخال الشكّ عليهم في اتّباع الإسلام ...».

٨٧

(حُجَّتُهُمْ) : أي خصومتهم (داحِضَةٌ) : أي ذاهبة باطلة (عِنْدَ رَبِّهِمْ). وقال مجاهد : هم المشركون ، طمعوا أن تعود الجاهليّة. قال : (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (١٦) : أي في الآخرة.

قوله : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) : أي القرآن (بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) : أي العدل (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (١٧) (١).

قال : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) : أي استهزاء وتكذيبا لا يقرّون بها (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) : أي خائفون (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) : أي كائنة (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) : أي يكذّبون بها. كقوله : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) (٣٦) [القمر : ٣٦] أي : كذّبوا الأنبياء. قال : (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١٨) : أي من الحقّ.

قال : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) فبلطفه ورحمته خلق الكافر ، ورزق وعوفي وأقبل وأدبر. قال : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ) : أي فلا أقوى منه (الْعَزِيزُ) (١٩) : فلا أعزّ منه.

قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) : يعني العمل الصالح يرجو به ثواب الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) : وهو تضعيف الحسنات ، في تفسير الحسن. (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) : أي من الدنيا. وليس كلّ ما أراد من الدنيا يؤتى ، كقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [الإسراء : ١٨] [قال : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ) : يعني في الجنّة (مِنْ نَصِيبٍ) (٢٠) : وهو المشرك ، لا يريد إلّا الدنيا ، لا يريد الآخرة] (٢).

ذكروا أنّ عليّا قال : حرث الآخرة الأعمال الصالحات ، وحرث الدنيا المال ؛ وقد يجمعهما الله لمن يشاء من خلقه.

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٩٩ : «لم يجيء مجازها على صفة التأنيث فيقول : إنّ الساعة قريبة. والعرب إذا وصفوها بعينها كذلك يصنعون ، وإذا أرادوا ظرفا لها أو أرادوا بها الظرف جعلوها بغير الهاء ، وجعلوا لفظها لفظا واحدا في الواحد والاثنين والجميع من الذكر والأنثى. تقول : هما قريب وهي قريب».

(٢) ما بين المعقوفين ساقط كلّه من ق وع ، فأثبتّه من ز ، ورقة ٣١٠.

٨٨

ذكروا أنّ عبد الله بن مسعود قال : [قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (١) إنّ الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم معايشكم ، وإنّ الله يعطي الدنيا لمن يحبّ ولمن لا يحبّ ، ولا يعطي الإيمان إلّا من يحبّ ، فإذا أحبّه أعطاه الإيمان. فمن اشتدّ عليه الليل أن يكابده ، وجبن عن العدوّ أن يجاهده ، وضنّ بالمال أن ينفقه فليكثر من قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر.

قوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) : على الاستفهام ، أي : نعم ، لهم شركاء ، يعني الشياطين ، جعلوهم شركاء لله ، فعبدوهم ، لأنّهم دعوهم إلى عبادة الأوثان. قال الله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أي : إلّا أمواتا ليس فيهم روح ، (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (١١٧) [النساء : ١١٧].

قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) : أي ألّا يعذّب بعذاب الآخرة في الدنيا.

(لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا ، فأدخل المؤمنين الجنّة ، وأدخل المشركين النار. قال : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢١) : أي موجع.

قوله : (تَرَى الظَّالِمِينَ) : أي المشركين (مُشْفِقِينَ) : أي خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) : أي ممّا عملوا في الدنيا إذ أخرجته كتبهم (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) : أي الذي خافوا منه من عذاب الله. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : أي في الجنّة (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٢٢). قال : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : يبشّرهم في الدنيا بروضات الجنّات ، لهم ما يشاءون فيها ، أي : في الجنّة.

قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). ذكروا عن عكرمة قال : كان النبيّ عليه‌السلام واسطا في قريش ؛ ليس من بطون قريش بطن إلّا وقد ولده (٢) ؛ فقال : (قُلْ لا

__________________

(١) ورد هذا الحديث موقوفا في ق وع ، والصواب رفعه ، فقد رواه أحمد في المسند ، وروى الحاكم بعضه بمعناه وصحّحه ، وانظر : البغوي ، شرح السنّة ، ج ٨ ص ١٠.

(٢) أورد الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٢ سببا لنزول الآية فقال : «ذكر أنّ الأنصار جمعت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفقة يستعين بها على ما ينوبه في أصحابه ، فأتوا بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : إنّ الله عزوجل قد هدانا بك ، وأنت ابن أختنا ، فاستعن بهذه النفقة على ما ينوبك ، فلم يقبلها ، وأنزل الله في ذلك : قل لهم : لا أسألكم على الرسالة أجرا إلّا ـ

٨٩

أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي : إلّا أن تراعوا ما بيني وبينكم من القرابة [فتصدّقوني] (١). وقال الحسن : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي : إلّا أن يتقرّبوا إلى الله بالعمل الصالح ، وهو كقوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٥٧) [الفرقان : ٥٧] أي : بطاعته.

قوله : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ) : أي ومن يعمل (حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) : أي تضعيف الحسنات (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) : أي للذنوب (شَكُورٌ) (٢٣) : أي للعمل.

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ) : يعني المشركين (افْتَرى) : أي محمّد (عَلَى اللهِ كَذِباً) بما جاء ، أي : قد قالوه (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) فيذهب عنك النبوّة التي أعطاكها ، وهذا موضع القدرة ، ولا تنزع منه النبوّة ، كقوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ) [الزمر : ٤].

قوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) : قال الحسن : فلا يجعل لأهله في عاقبته خيرا ولا ثوابا (٢) ، يعني ما عليه المشركون. (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) : فينصر النبيّ والمؤمنين. قال : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٤) : أي بما في الصدور.

قوله : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) : أي إذا تابوا (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٢٥) : فمن قرأها بالتاء فهو يقول للنبيّ عليه‌السلام : ويعلم ما تفعلون ، ومن قرأها بالياء فهو يقول للناس : ويعلم ما يفعلون.

ذكروا عن بعضهم قال : التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة : ٢٢٢]. فإذا أحبّ الله عبدا لم يضرّه ذنبه.

__________________

ـ المودّة في قرابتي بكم. وقال ابن عبّاس : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) في قرابتي من قريش». وقد روى الواحديّ في أسباب النزول ، ص ٣٩٥ هذا الخبر بتفصيل أكثر عن ابن عبّاس.

(١) زيادة من تفسير القرطبيّ ، ج ١٦ ص ٢١ ، حيث ورد القول منسوبا إلى ابن عبّاس وعكرمة ومجاهد.

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٣ : «وقوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) ليس بمردود على (يَخْتِمْ) فيكون مجزوما ، هو مستأنف في موضع رفع ، وإن لم تكن فيه واو في الكتاب. ومثله ممّا حذفت فيه الواو وهو في موضع رفع قوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) [الإسراء : ١١] ، وقوله : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨].

٩٠

قوله : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أي : يستجيبون لربّهم ، أي : يؤمنون به ، كقوله : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) أي : المشركون لا يستجيبون له (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ ، لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ..). إلى آخر الآية [الرعد : ١٨]. قال : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : يعني المؤمنين ، أي : تضعيف الحسنات. (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (٢٦) : أي جهنّم.

قوله : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢٧). ذكروا أنّ عليّا رضي الله عنه قال : إنّ هذا الرزق ينزل من السماء كقطر المطر إلى كلّ نفس بما كتب الله لها.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّي لا أعلم شيئا يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به ، ولا أعلم شيئا يباعدكم من الجنّة ويقرّبكم من النار إلّا وقد نهيتكم عنه. إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتّى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يمنعنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله ، فإنّ الله لا ينال ما عنده بمعصيته (١).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ هذا الرزق مقسوم فأجملوا في الطلب (٢).

قوله : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) : أي المطر (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) : أي من بعد ما يئسوا (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) : أي المطر (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٨) : أي المستحمد إلى خلقه ، أي استوجب عليهم أن يحمدوه.

قال : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) : أي وما

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه مختصرا من رواية جابر بن عبد الله في كتاب التجارة ، باب الاقتصاد في طلب المعيشة (رقم ٢١٤٤) ، ورواه البغويّ في شرح السنّة ، ج ١٤ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٤ عن عبد الله بن مسعود من طرق مختلفة ، وقد صحّح ابن حبّان هذا الحديث. وأغلب روايات الحديث مبدوءة بقوله عليه‌السلام : «أيّها الناس ...».

(٢) رواه ابن ماجه في الباب بلفظ : «أجملوا في الطلب ، فإنّ كلّا ميسّر لما خلق له» ، من حديث أبي حميد الساعدي.

٩١

خلق (١) فيهما ، أي : في السماوات والأرض (٢). وتفسير مجاهد : أي : من الملائكة والناس. قال : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٢٩) : يعني أنّه يجمعهم يوم القيامة.

قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) : أي فبما عملتم (٣). (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٠) : وهو مثل قوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢] أي : من قبل أن نخلق تلك المصيبة. في تفسير الحسن : إنّ الله كتب عنده كتابا : إنّ ذنب كذا عقوبته كذا ، فيعفو الله عن أكثر ذلك ، ويعاقب من ذلك ما يشاء.

ذكروا عن عليّ بن أبي طالب قال : سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا حقّ على المسلمين أن يعوه ، سمعته يقول : ما عاقب الله عليه في الدنيا ثمّ عفا عن صاحبه بعد التوبة فالله أحلم من أن يثنّي عقوبته في الآخرة ، وما عفا عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يرجع في عفوه (٤).

ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه رأى بوجه رجل خدشا فقال : ما هذا؟ قال : يا رسول الله ، كنت في طريق ، فرأيت امرأة فجعلت أنظر إليها حتّى صدمت بوجهي الحائط ولم أشعر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أراد الله بعبد خيرا عجّل عقوبة ذنبه في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبد شرّا أمسك عليه بذنبه حتّى يوافيه يوم القيامة (٥).

__________________

(١) كذا في ق وع : «وما خلق» ، ويبدو أنّ صوابه : «وما فرّق» ، وبهذا اللفظ ورد في تفسير الطبريّ ، ج ٢٥ ص ٣١.

(٢) هذا وجه من التأويل صحيح ، يؤيّده قول مجاهد. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٤ : «أراد : وما بثّ في الأرض دون السماء ، بذلك جاء في التفسير ؛ ومثله ممّا ثنّى ومعناه واحد قوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وإنّما يخرج من الملح دون العذب».

(٣) كذا في ع وق : «فبما عملتم» ، وفي ز : «فبما عملت أيديكم».

(٤) حديث صحيح أخرجه ابن أبي حاتم مرفوعا وموقوفا ، ورواه أحمد والترمذيّ والحاكم عن عليّ بن أبي طالب بلفظ أطول ممّا هو هنا.

(٥) حديث صحيح ، أخرجه أحمد والترمذيّ والحاكم عن عبد الله بن مغفل الأنصاريّ. وأخرجه الترمذيّ والحاكم أيضا عن أنس بن مالك ، وانظر ابن حمزة الحسيني الدمشقي ، البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث ، ج ١ ص ١٢٣ ـ ١٢٤.

٩٢

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تزال البلايا للمؤمن في جسده وماله وولده حتّى يلقى الله وما عليه من خطيئة (١).

قوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) : يقوله للمشركين ، أي : وما أنتم بالذين يسبقوننا حتّى لا نبعثكم ثمّ نعذّبكم (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ) : أي يمنعكم من عذابه (وَلا نَصِيرٍ) (٣١) : أي ينتصر لكم.

قوله : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) : أي السفن ، كقوله : (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) [الحج : ٦٥]. قال : (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٣٢) : أي كالجبال ، وهي كقوله : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٢٤) [الرحمن : ٢٤] ، وهي السفن إذا كان عليها قلوعها.

قوله : (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ) : يعني السفن (رَواكِدَ) : أي سواكن (عَلى ظَهْرِهِ) : أي على ظهر البحر. قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٣٣) : أي لكلّ مؤمن.

قال : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ) : أي يغرقهنّ (٢) ، يعني السفن ، أي : يغرق أهلها بما كسبوا (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (٣٤).

قال : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) : يعني المشركين يجحدون بها (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٥) : أي من ملجأ يلجأون إليه من عذاب الله.

قوله : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : يعني المشركين (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي ينفد ويذهب (وَما عِنْدَ اللهِ) : في الآخرة ، يعني الجنّة (خَيْرٌ وَأَبْقى) : أي يبقى ، وما في الدنيا يذهب (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٣٦).

قوله : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) : أي ويجتنبون الفواحش ، وقد فسّرنا

__________________

(١) حديث حسن صحيح ، أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه الترمذيّ في الزهد ، باب ما جاء في الصبر على البلاء ، كلاهما يرويه من حديث أبي هريرة.

(٢) قال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٣٩٣ : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ) : يهلكهنّ يقال : فلان قد أوبقته ذنوبه ، وأراد أهل السفن».

٩٣

ذلك في سورة النساء (١). قال : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (٣٧).

كان هذا بمكّة قبل الهجرة يغفرون للمشركين ، كقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] ، وهو منسوخ ، نسخه القتال ، فصار ذلك العفو فيما بين المؤمنين.

قوله : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) : أي آمنوا (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) : كانت الصلاة يوم نزلت هذه الآية ركعتين غدوة وركعتين عشيّة قبل أن تفرض الصلوات الخمس.

قوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) : تفسير الحسن : يتشاورون في كتاب الله. وقال بعضهم : (وَأَمْرُهُمْ) يعني التوحيد (٢) ، (شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣٨) : أي الزكاة ، ولم تكن يومئذ شيئا موقّتا.

قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) : أي بغى عليهم المشركون ، أي : ظلموهم (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٣٩) : أي بألسنتهم ؛ أي إنّهم لم يكونوا أمروا بالقتال يومئذ. وقال بعضهم : كانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم.

قال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) : أي ما يسيء إليهم المشركون ، أن يفعلوا بهم كما يفعلون بهم (٣). قال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) : أي فمن ترك مظلمته ، (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) : أي فثوابه على الله. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٤٠) : أي المشركين. قال : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) : أي من بعد ما ظلم (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (٤١) : تفسير الحسن : ما عليهم من حجّة.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) : أي

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٣١ من سورة النساء.

(٢) كذا في ق وع : «يعني التوحيد» ، ولم أر لهذا التأويل معنى ولا وجها ، ولم أجد من بين المفسّرين من فسّر الأمر هنا بالتوحيد ، فالشورى إنّما تكون بين المسلمين في الأمور العامّة من شئون المسلمين كالحروب والخلافة ، مثل موقف عمر حين حضرته الوفاة فجعل الأمر بعده شورى في نفر من الصحابة. وهذه الآية أصل من أصول ما يسمّى الآن بالتشريع الدستوري في الإسلام.

(٣) في ق : «أن يفعلوا بهم مثل ذلك» ، وأثبتّ ما جاء في ز ، ورقة ٣١٢ فهو أوضح تعبيرا.

٩٤

بكفرهم وتكذيبهم ، يعيبهم بذلك. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٢) : أي موجع (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٣). وهذا كله منسوخ فيما بينهم وبين المشركين ، نسخه القتال وصار العفو فيما بين المؤمنين. أمرنا بالعفو فقال : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) [آل عمران : ١٣٤] وقال : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) [النور : ٢٢].

ذكروا عن أبي الأحوص عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، إنّ لي جارا يسيء مجاورتي ، أفأفعل به كما يفعل بي؟ قال : لا ، إنّ اليد العليا خير من اليد السفلى (١).

قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) : أي : من بعد الله ، أي : من وليّ يمنعه من عذاب الله. قوله : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) : أي المشركين (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ) : أي إلى الدنيا (مِنْ سَبِيلٍ) (٤٤) : أي فنؤمن. تفسير الحسن : أنّهم يقولون ذلك وهم في النار.

قال : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) : أي على النار (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) : أي أذلّاء (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) : أي يسارقون النظر. قوله : (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) : خسروا أنفسهم أن يغنموها فصاروا في النار ، وخسروا أهليهم ، أي : من الحور العين. وقد فسّرناه في سورة الزمر (٢).

قال : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) (٤٥) : أي دائم لا ينقطع. قال : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ) : أي يمنعونهم (مِنْ دُونِ اللهِ) : أي من عذابه.

قال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٦) : أي إلى الهدى.

قوله : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) : أي آمنوا بربّكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) : يعني يوم القيامة ، أي لا يردّه أحد من بعد ما حكم الله به (٣) وجعله أجلا ووقتا. (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) : أي تلجأون إليه ؛ يقوله للمشركين ، أي : يمنعكم من عذاب الله (وَما

__________________

(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٣٤ من سورة فصّلت ، (التعليق).

(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ١٥ من سورة الزمر.

(٣) هذا هو الصواب كما جاء في ز ، وفي ق وع : «من بعد ما جاءكم الله به» ، وفيه تصحيف.

٩٥

لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) (٤٧) : [أي : من نصير] (١) قال الحسن : ليست لهم منعة ، وقال مجاهد : نصرة.

قال : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) : أي لم يؤمنوا (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) : أي تحفظ عليهم أعمالهم حتّى تجازيهم بها. (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) وليس عليك أن تكرههم على الإيمان ، كقوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩) [يونس : ٩٩]. وقد أمر بقتالهم بعد ، ولكن لم يكن عليه إلّا القتال ، والله يهدي من يشاء.

قوله : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) : يعني المشرك (مِنَّا رَحْمَةً) : وهذه رحمة الدنيا ، أي : ما فيها من الرخاء والعافية (فَرِحَ بِها) : لأنّه لا يهمّه إلّا الدنيا ولا يقرّ بالآخرة ، كقوله : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [الرعد : ٢٦].

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) : أي شدّة من ذهاب مال أو مرض (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) (٤٨) : يعني المشرك. أي : ليس له صبر على المعصية ولا حسبة ، لأنّه لا يرجو ثواب الله في الآخرة ولا يؤمن بها.

قوله : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) : يعني الجواري (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) (٤٩) : أي الغلمان.

ذكروا عن ابن عبّاس قال : وهب للوط بنات ليس فيهنّ ذكر ، ووهب لإبراهيم ذكورا ليس معهم بنات ، ووهب لنبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعة بنين : القاسم ، وإبراهيم ، وطاهرا ، ومطهّرا (٢) ، وأربع بنات (٣). (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) ، يعني : يحيى بن زكريّا ، لا يشتهي النساء ولا يريدهنّ.

قوله : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) : [أي : يخلط بينهم] (٤) يعني من يشاء ، فيهب له

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣١٢. وفي تفسير مجاهد ، ص ٥٧٧ : «من ناصر ينصر لكم».

(٢) كذا في ق وع ، وقيل : إنّ طاهرا ومطهّرا لقبان لابنه عبد الله الذي ولد في الإسلام ، وإنّ الابن الآخر هو الطيّب. انظر : ابن الجوزي ، الوفا بأحوال المصطفى ، ص ٦٥٦ ، وابن قتيبة ، المعارف ، ص ١٤١.

(٣) هنّ : زينب ، ورقيّة ، وأمّ كلثوم ، وفاطمة ، وكلّ أولاده عليه‌السلام من خديجة إلّا إبراهيم فإنّه من مارية.

(٤) زيادة من ز ، ورقة ٣١٢. وقال ابن أبي زمنين : «المعنى : يجعل بعضهم ذكورا وبعضهم إناثا. تقول العرب : زوّجت إبلي إذا قرنت بعضه إلى بعض ، وزوّجت الصغار بالكبار إذا قرنت كبيرا بصغير ، وهو الذي أراد مجاهد».

٩٦

ذكرانا ، أي غلمانا ، وإناثا ، أي : جواري (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) : أي لا يولد له (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٥٠).

قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [فكان موسى ممّن كلّمه الله من وراء حجاب] (١).

ذكر جماعة من العلماء أن الحجاب بيّن ، والوحي منه وحي بإرسال ووحي بإلهام ؛ وذلك قول الله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] فهذا وحي إلهام ، وكذلك : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] أي : ألهم ربّك النحل. والوحي بإرسال : الذي أوحى الله تبارك وتعالى إلى أنبيائه مع الروح الأمين ؛ فربّما ظهر للرسول جبريل ، وربّما جاء بالوحي يسمعه إيّاه ولا يراه. وهو قوله : إلّا وحيا إلهاما ، أو من وراء حجاب :. جبريل احتجب عن محمّد عليه‌السلام غير مرّة ، فربّما ظهر له وربّما ناداه فلم يره محمّد فهو قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).

حدّثنا أبو داود عن عطاء بن السايب عن أبي عبد الرحمن السلميّ عن عليّ بن أبي طالب أنّه مرّ بالقصّابين فسمع أحدهم يقول : والذي احتجب عن خلقه بسبع طبقات ، فعلاه بالدرّة وقال له : تب ، إنّ الله أقرب إليه من حبل الوريد. قال القصّاب : أفلا أكفّر بشيء؟ قال : لا ، لأنّك حلفت بغير الله.

وحدّثنا أبو عبد الرحمن البصريّ عن يوسف أبي الفضل عن إسحاق الهمدانيّ عن الحارث ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بنحو ذلك إلّا أنّه قال : أخطأت ، ثكلتك أمّك ، إنّ ربّ العالمين ليس بينه وبين خلقه حجاب ، لأنّه معهم أين ما كانوا. فقال : ما كفّارة ما قلت؟ قال : أن تعلم أنّه معك أين ما كنت ؛ فالمتكلّم الله على لسان جبريل ، والمحتجب جبريل.

وقوله : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) : تكرير في القول سبحانه. كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٧٧) [الحج : ٧٧] وفعل الخير عبادته ، وكرّر الكلام عزوجل.

قال : (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) : يعني جبريل ، يرسله إلى من يشاء من رسله ، فيوحي

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣١٢.

٩٧

إليهم معه ما يشاء. (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١).

قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) : يعني القرآن (ما كُنْتَ تَدْرِي) : من قبل أن يوحى إليك (مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ) : أي القرآن (نُوراً) : [أي : ضياء من الظلمة] (١) (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) : أي لتدعو (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٢) : أي إلى الجنّة.

(صِراطِ اللهِ) : أي طريق الله (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣) : [يعني أمور الخلائق] أي يوم القيامة.

* * *

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣١٢.

٩٨

تفسير سورة الزخرف ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (حم) (١) : قد فسّرناه فيما مضى من الحواميم. (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) : أي القرآن البيّن ، [وهذا قسم] (١).

(إِنَّا جَعَلْناهُ) : يعني القرآن (قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣) : أي لكي تعقلوا. (وَإِنَّهُ) : يعني القرآن (فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) : أي عندنا (لَعَلِيٌّ) : أي رفيع (حَكِيمٌ) (٤) : أي محكم.

وقوله : (جَعَلْناهُ) أي : خلقناه ، كقوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢] ، وقوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [الإسراء : ١٢] ، وقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] ونظيره في كتاب الله كثير.

وأمّ الكتاب : اللوح المحفوظ. وتفسير أمّ الكتاب : جملة الكتاب وأصله.

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : أوّل ما خلق الله القلم فقال : اكتب ، قال : ربّ وما أكتب؟ قال : ما هو كائن. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال : فأعمال العبد تعرض كلّ يوم الاثنين والخميس ، فيجدونها على ما هي في الكتاب.

قوله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) : أي القرآن (صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) (٥) : فيها إضمار ، أي حتّى لا تفهموه ولا تفقهوه ، أي : فقد فعلنا ذلك. (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) : أي مشركين. وهذا تفسير الحسن. وقال الكلبيّ : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) الذكر يعني القرآن (عَنْكُمُ) أي : من أجلكم (أَنْ كُنْتُمْ) أي : لأنّكم (٢) قوم مسرفون. أي : مشركون. أي : لا نذره (٣).

__________________

(١) زيادة من ز ورقة ٣١٢.

(٢) وهذا على قراءة من قرأ : (أَنْ كُنْتُمْ) بفتح الهمزة ، وهي قراءة عاصم والحسن ، على العلّة مفعولا لأجله ، وقرأ نافع وآخرون بالكسر ، على الشرط. وانظر : ابن خالويه : الحجّة ، ص ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٣) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٨ : «والعرب تقول : قد أضربت عنك وضربت عنك إذا أردت به : تركتك ـ

٩٩

قوله : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) (٦) : أي وكم أرسلنا منهم من الأنبياء.

ذكروا عن أبي قلابة قال : قيل : يا رسول الله ، كم المرسلون؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر ، جمّ غفير (١). قال : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٧) : كقوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٠) [يس : ٣٠].

قال : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) : أي أشدّ من مشركي العرب قوّة. يعني من أهلك من الأمم السالفة ؛ كقوله : (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [الروم : ٩](وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (٨) : يعني وقائعه في الأمم السالفة بتكذيبهم رسلهم.

قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) : يعني المشركين (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٩). ثمّ قال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) : كقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : ٢٢](وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) : أي طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠) : أي لكي تهتدوا الطرق.

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) : ذكروا عن ابن عبّاس قال : ما عام بأكثر من عام ماء ، أو قال : مطرا ، ولكنّ الله يصرفه في الأرض حيث يشاء ؛ ثمّ تلا هذه الآية : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) [الفرقان : ٥٠] قال : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً) : يعني فأحيينا به بلدة (مَيْتاً) : يعني الميّتة اليابسة التي ليس فيها نبات. (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١١) : يعني البعث. يرسل الله مطرا منيّا كمنيّ الرجال فتنبت جسمانهم ولحمانهم كما ينبت الأرض الثرى.

قال : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) : تفسير الحسن : الشتاء والصيف ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، وكلّ اثنين منها زوج. قال : (وَجَعَلَ لَكُمْ) : أي وخلق لكم (مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) : أي ظهور ما سخّر لكم أن تركبوه (ثُمَ

__________________

ـ وأعرضت عنك». وقال ابن عاشور في تفسيره ، ج ٢٥ ص ١٦٣ : «والاستفهام إنكاريّ ؛ أي لا يجوز أن نضرب عنكم الذكر صفحا من جرّاء إسرافكم ... لا نترك تذكيركم بسبب كونكم مسرفين ، بل لا نزال نعيد التذكير رحمة بكم».

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة بإسناد ضعيف ، وانظر ما سلف من هذا التفسير ، ج ١ ، تفسير الآية ٢٥٣ من سورة البقرة.

١٠٠