تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

قوما إلّا كان معهم. والرابعة لو حلفت عليها لبررت : لا يستر الله على عبد في الدنيا إلّا ستر عليه غدا في الآخرة.

قال الله : (أَمْ لَكُمْ) : يقوله للمشركين. (كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) (٣٧) : أي تقرءون (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ) : أي في ذلك الكتاب (لَما تَخَيَّرُونَ) (٣٨) : أي ما تخيّرون. واللام صلة. [أي : ليس عندكم كتاب تقرءون فيه إنّ لكم لما تخيّرون] (١).

قال تعالى : (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) (٣٩) : أي ما تحكمون. يقول : أم جعلنا لكم بأنّ لكم ما تحكمون. أي : لم نفعل. وقد جعل الله للمؤمنين عنده عهدا. وقال : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٨٧) [مريم : ٨٧]. وقال لليهود : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) [البقرة : ٨٠].

قال تعالى : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) (٤٠) : أي حميل (٢) ، أي : يحمل عنّا لهم بأنّ لهم ما يحكمون ، أي : يوم القيامة لأنفسهم بالجنّة ، إن كانت جنّة ، لقول أحدهم : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [سورة فصّلت : ٥٠] أي للجنّة ، إن كانت جنّة.

قوله عزوجل : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) : أي خلقوا مع الله شيئا (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٤١) : أي قد أشركوا بالله آلهة لم يخلقوا مع الله شيئا.

قوله عزوجل : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) : قال الحسن : عن ساق الآخرة. وقال مجاهد : عن شدّة الأمر وجدّه ، أي : عن الأمر الشديد. وحدثني (٣) هشام عن المغيرة عن إبراهيم عن ابن عبّاس أنّه كان يقول في قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال : يكشف عن شدّة يوم القيامة. وعن الضحّاك أنّه كان يرى مثل ذلك.

قال ابن عبّاس : كانت العرب إذا اشتدّت الحرب بينهم قالوا : قامت الحرب بنا على ساق.

__________________

(١) زيادة من ز ورقة ٣٦٩.

(٢) جاء في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ١٧٧ : «يريد : كفيل ، ويقال له الحميل ؛ والقبيل والصبير والزعيم في كلام العرب : الضامن والمتكلّم عنهم ، والقائم بأمرهم».

(٣) هذه الأقوال في تفسير قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) جاءت في ق وع بعد قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) فجعلتها في نسقها مع الأقوال الأولى. والعبارة : «حدّثني» إنّما هي من قول ابن سلّام ولا شكّ.

٣٦١

وعن سعيد بن جبير أنّه سئل عن قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) فغضب وقال : والله إنّكم لتقولون قولا عظيما ، إنّما يعني الأمر الشديد. وعن سعيد بن جبير مثله : هو عذاب الاستئصال ، يعني : إنّه يعذّبهم بالنفخة الأولى قبل عذاب يوم القيامة.

قال عزوجل : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) : أي ذليلة أبصارهم (تَرْهَقُهُمْ) : أي تغشاهم (ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) : أي إلى الصلاة المفروضة (وَهُمْ سالِمُونَ) (٤٣) : رجع إلى قوله تعالى : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي : يخادعون بذلك كما كانوا يخادعون في الدنيا ، وذلك أنّ سجودهم في الدنيا راءوا به الناس (١).

قوله عزوجل : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) : يعني القرآن. وهذا وعيد بالعذاب لمن كذّب بالقرآن. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) : يعني المكذبين (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (٤٤) وهذا مثل قوله عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي : مكان الشّدّة الرخاء (حَتَّى عَفَوْا) أي حتّى كثروا (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩٥) [الأعراف : ٩٤ ـ ٩٥] أي أخذناهم أحسن ما كانوا حالا وآمنه ، فأهلكهم ، فحذّر المشركين ذلك.

قوله عزوجل : (وَأُمْلِي لَهُمْ) : [أي : أطيل لهم وأمهلهم] (٢) حتّى يبلغوا الوقت الذي آخذهم فيه. (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٤٥) : أي شديد. وكيده أخذه إيّاهم بالعذاب. وقد عذّب الله أوائل هذه الأمّة أبا جهل وأصحابه بعذاب شديد.

قال تعالى : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) : يقول للنبيّ عليه‌السلام : أم تسأل المشركين على القرآن (أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٦) : أي قد أثقلهم الغرم. وهذا استفهام. أي : إنّك لست تسألهم أجرا على القرآن.

قال : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) : أي علم الغيب (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤٧) : أي لأنفسهم الجنّة إن كانت جنّة.

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز ، ورقة ٣٧٠ : «وذلك أنّ سجودهم في الدنيا لم يكن لله إنّما كان رياء حتّى لا يقتلوا ولا تسبى ذراريهم». وهذه العبارة أوفى وأوضح معنى.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٠.

٣٦٢

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) : أي الذي يحكم عليك ، وكان هذا قبل أن يؤمر بقتالهم ، ثمّ أمر بقتالهم. (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) : يعني يونس (إِذْ نادى) : [يعني في بطن الحوت](وَهُوَ مَكْظُومٌ) (٤٨) : أي مكروب. وقد مضى تفسير قصّة يونس في غير هذا الموضع (١). قال : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فتاب عليه (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) : أي بالأرض إلى يوم القيامة (وَهُوَ مَذْمُومٌ) (٤٩) : أي عند الله. وقال بعضهم : حين نبذ ، أي : حين أخرج من بطن الحوت. كقوله : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) (١٤٥) [الصافّات : ١٤٥]. قال : (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) : أي فاصطفاه ربّه وأنقذه ممّا كان فيه (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٥٠).

قال عزوجل : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ) : أي لينفذونك (بِأَبْصارِهِمْ) : [لشدّة نظرهم عداوة وبغضا] (٢) (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) : أي القرآن ، بغضا له (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) (٥١) : يعنون محمّدا عليه‌السلام (وَما هُوَ) : يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٥٢) : أي يذكرون به الآخرة والجنّة والنار.

* * *

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ١٤٠ وما بعدها من سورة الصافّات.

(٢) سقط ما بين المعقوفين من ق وع فأثبتّه من ز. وورد مكانه في ق وع : «قتلا». ولئن صحّ هذا اللفظ فالمراد قتله بإصابته بالعين كما جاء في بعض التفاسير ، منها : معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ١٧٩. ولكنّ ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٤٨٢ يردّ هذا المعنى فيقول : «ولم يرد الله ـ جلّ وعزّ ـ في هذا الموضع أنّهم يصيبونك بأعينهم. كما يصيب العائن بعينه ما يستحسنه ويعجب منه. وإنّما أراد أنّهم ينظرون إليك ، إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء ، يكاد يزلقك أي : يسقطك كما قال الشاعر :

يتقارضون إذا التقوا في موطن

نظرا يزيل مواطئ الأقدام

٣٦٣

تفسير سورة الحاقّة ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (٣) : أي إنّك لم تكن تدري ما الحاقّة حتّى أعلمتكها (١). والحاقّة اسم من أسماء القيامة ، أحقّت لأقوام الجنّة وأحقّت لأقوام النار. قال بعضهم : كلّ شيء في القرآن : (وَما أَدْراكَ) فقد أدراه ، أي : أعلمه إيّاه ، وكلّ شيء (وما يدريك) فهو لم يعلمه إيّاه بعد.

قوله عزوجل : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) (٤) : أي كذّبوا بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، في تفسير الحسن. وتفسير الكلبيّ : القارعة اسم من أسماء جهنّم.

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (٥) : قال الحسن : أي : بطغيانهم ، كقوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (١١) [الشمس : ١١] أي : بشركها. وقال الكلبيّ : الطاغية الصاعقة التي أهلكوا بها. وتفسير مجاهد : (بِالطَّاغِيَةِ) أي : بالذنوب.

قوله : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) : أي باردة شديدة البرد (عاتِيَةٍ) (٦) : أي عتت على خزّانها بأمر ربّها ، كانت تخرج من قبل بقدر ، فعتت يومئذ على خزّانها ، مثل قوله : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (١١) [الحاقّة : ١١] أي : طغى الماء على خزّانه ، إنّه كان يخرج بقدر فطغى يومئذ على خزّانه. وقال الحسن : العاتية : الشديدة ، وضمّ أصابعه وشدّها ، وضمّ أصابعه وشدّها. قال : وكذلك أيضا. وقال مجاهد : عاتية : شديدة. والريح التي أهلك بها عادا هي الدّبور.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدّبور (٢).

قال : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) : أي : تباعا ليس بينها تفتير. وكان ذلك من يوم الأربعاء إلى الأربعاء [والليالي سبع : من ليلة الخميس إلى ليلة الأربعاء] (٣).

__________________

(١) في ق وع : «حتّى علّمناك» ، وأثبتّ ما جاء في ز : «أعلمتكها» ، فهو أدقّ تعبيرا.

(٢) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ٩ من سورة الأحزاب.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٠. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٨٠ : «و (الحسوم) : التباع إذا تتابع الشيء فلم ينقطع أوّله عن آخره ، قيل فيه : حسوم ...».

٣٦٤

(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٧) : شبّههم بالنخل التي قد انقعرت فوقعت. قوله : (خاوِيَةٍ) أي : خاوية أبدانهم من أرواحها مثل النخلة الخاوية. وتفسير الحسن أنّ النخل الخاوية هي البالية. وذكر بعضهم أنّ الريح تضرب أحدهم فتقلع رأسه بجميع أحشائه ، فتلقيه خاويا.

قال : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٨) : أي من بقيّة. أي : إنّك لا ترى أحدا باقيا ، أي قد أهلكوا.

قوله عزوجل : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) : وهي تقرأ على وجهين : (مَنْ قَبْلَهُ) و (من قبله) فمن قرأها (قَبْلَهُ) خفيفة ، فهو يقول ، ومن قبله من الأمم السالفة التي كذّبت الرسل ، ومن قرأها (قبله) فهو يقول : ومن معه. (وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) (٩) : وهي قريات قوم لوط الثلاث. وقال بعضهم : خمس مدائن خسف بها كلّها ، (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) ، أي : جاءوا جميعا : فرعون ومن قبله ، على مقرأ من قرأها خفيفة ، أي : والمؤتفكات جاءوا جميعا بالخاطئة. ومن قرأها مثقّلة فهو يقول : وجاء فرعون ومن قبله ، ومن معه ، والمؤتفكات ، أي جاءوا جميعا بالخاطئة.

وتفسير مجاهد : جاءوا جميعا بالخاطئة ، أي : بالشرك. وقال بعضهم : بالمعصية. (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) : أي : عصى كلّ قوم رسول ربّهم الذي أرسل إليهم ؛ كقوله عزوجل : (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) [المؤمنون : ٤٤].

قال : (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) (١٠) : قال مجاهد : أخذة شديدة (١).

قال عزوجل : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) : أي على خزّانه بأمر ربّه ، وذلك يوم أغرق الله فيه قوم نوح (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (١١) : يعني نوحا ومن معه وأولاده الثلاثة الذين الناس من ذرّيّتهم : سام وحام ويافث. والجارية : السفينة.

قال عزوجل : (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) : أي فتذكرون أنّ جميع من في الأرض غرقوا غير أهل السفينة. قال عزوجل : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (١٢) : أي حافظة. يعني بتلك التذكرة. وهي أذن المؤمن سمع التذكرة فوعاها بقلبه.

__________________

(١) وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٦٧ : (أَخْذَةً رابِيَةً) نامية زائدة شديدة من الرباء».

٣٦٥

قال عزوجل : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) : وقد فسّرنا الصور في غير هذا الموضع (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) : [بالرفع على ما لم يسمّ فاعله] (١) ، وهي النفخة الآخرة (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) : أي تحمل من أصولها وتذهب (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (١٤) : ودكّها ذهابها. أي : تدكّ الأرض والجبال فتصير الأرض مستوية.

قال عزوجل : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (١٦) كقوله عزوجل (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (١٩) [النبأ : ١٩] يعني سقفها.

والواهية الضعيفة ، ليست بالشديدة كما كانت.

قال عزوجل : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) : يعني الملائكة ، والملك يعني جماعة الملائكة (عَلى أَرْجائِها) أي على حافاتها ، أي : على حافات السماء. وقال الحسن : على أبوابها. وقال مجاهد والكلبيّ : على أطرافها (٢).

قال عزوجل : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) : أي فوق الخلائق (يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (١٧) : تفسير الحسن : ثمانية من الملائكة. وتفسير الكلبيّ : إنّهم يومئذ ثمانية أجزاء [من تسعة أجزاء من الملائكة] (٣). وقال بعضهم : ثمانية صفوف من الملائكة. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أذن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش ، وبين شحمة أذنه إلى عاتقه خفقان الطائر سبعمائة سنة يقول : سبحانك على حلمك بعد علمك (٤). قال بعضهم : بلغنا أنّ اسمه روفيل. وقال بعضهم : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) تحمله الملائكة على كواهلها ، يقول أهل سماء الدنيا بمثلي من الأرض (٥).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٧١ ، والقول لابن أبي زمنين.

(٢) وقال أبو زيد الأنصاريّ في كتاب النوادر في اللغة ، ص ٢١٢ : «والرجا [مقصور] ناحية البئر وناحية كلّ شيء. قال عزوجل : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها). والرجا في معنى : الأرجاء».

(٣) زيادة من تفسير الطبريّ ، ج ١٨ ص ٢٦٧.

(٤) انظر الإشارة إليه فيما سلف ج ١ ، تفسير الآية ٣ من سورة الأنعام.

(٥) هكذا وردت العبارة في ق وع : «... بمثلي من الأرض» ، ولم أدرك ما فيها من فساد أو نقص لتصحيحها. وانظر ما ورد في موضوع حملة العرش وما روي عنهم من أحاديث وأخبار في تفسير القرطبيّ ، ج ١٨ ص ٢٦٧.

٣٦٦

وذكر بعضهم أنّ الذين يحملون العرش ثمانية صفوف من الكروبيّين لا يرى أطرافهم ولا يعلم عددهم إلّا الذي خلقهم ، سبحانه.

قال عزوجل : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (١٨) : أي لا يخفى على الله من أعمالكم شيء.

قال عزوجل : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) : فيعلم أنّه من أهل الجنّة (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (١٩) : وذلك حين يأذن الله له فيقرأ كتابه.

فإذا كان الرجل في الخير رأسا ـ يدعو إليه ويأمر به ، ويكثر تبعه عليه ـ دعي باسمه واسم أبيه فيتقدّم ، حتّى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخطّ أبيض ، في باطنه السيّئات ، وفي ظاهره الحسنات. فيبدأ بالسيّئات فيقرأها ، فيشفق ويتغيّر لونه. فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه : هذه سيّئاتك قد غفرت لك فيفرح ، ثمّ يقلب كتابه فيقرأ حسناته ، فلا يزداد إلّا فرحا ، فيقال له : هذه حسناتك ، وقد ضوعفت لك ، ويبيضّ وجهه ، ويؤتى بتاج ، فيوضع على رأسه ويكسى حلّتين ، ويحلّى كلّ مفصل منه ، ويطول ستّين ذراعا ، وهي قامة أبينا آدم عليه‌السلام ، ويقال له : انطلق إلى أصحابك فبشّرهم وأخبرهم بأنّ لكلّ إنسان منهم مثل هذا. فإذا أدبر قال : (هاؤُمُ) أي : هاكم (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (إِنِّي ظَنَنْتُ) : أي علمت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) (٢٠).

قال عزوجل : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) : أي مرضية ، قد رضيها.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (٢٢) : أي في السماء. (قُطُوفُها) : أي ثمارها (دانِيَةٌ) (٢٣) : فيقول لأصحابه : هل تعرفونني؟ فيقولون : قد غيّرتك كرامة الله ، من أنت؟ فيقول : أنا فلان بن فلان ، ليستبشر كلّ رجل منكم بمثل هذا. ذكروا عن البراء بن عازب قال : أدنيت منهم وذلّلت ، يتناولون أيّها شاءوا ، قعودا أو مضطجعين وكيف شاءوا.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : والذي نفسي بيده إنّ أهل الجنّة يتناولون من قطوفها وهم متّكئون ، فما تصل إلى في أحدهم حتّى يبدّل الله مكانها أخرى (١).

__________________

(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٧٣ من سورة الزخرف ، وانظر كذلك : ج ٢ ، تفسير الآية ٣٥ من سورة الرعد.

٣٦٧

قوله عزوجل : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ) : أي بما قدّمتم على قدر أعمالكم (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) (٢٤) : وهي أيّام الدنيا : وهي في الآخرة أيّام خلت. ذكروا عن عبد الله بن أوفى أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، كيف شهاء أهل الجنّة؟ قال : يأكلون ويشربون وإذا امتلأت بطونهم قيل لهم : هنيئا لكم شهوتكم ، فيرشحون عند ذلك مسكا لا يبولون ولا يتغوّطون ولا يمتخطون (١).

قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) (٢٧) : قال الحسن : يقولها في النار ، يتمنّى الموت. وهو مثل قولهم : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧]. قال بعضهم : يقول : يا ليتني متّ قبل أن أحاسب ، وقبل أن أوتى كتابيه.

قال : وإذا كان الرجل في الشرّ رأسا ـ يدعو إليه ويأمر به ويكثر عليه تبعه ـ نودي باسمه واسم أبيه ، فيتقدّم إلى حسابه ويخرج له كتاب أسود بخطّ أسود ، في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيّئات ؛ فيبدأ بالحسنات فيقرأها فيفرح ، ويظنّ أنّه سينجو ، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد : هذه حسناتك ، وقد ردّت عليك ، فيسودّ وجهه ويعلوه الحزن ، ويقنط من كلّ خير. ثمّ يقلب كتابه فيقرأ سيّئاته ، فلا يزداد إلّا حزنا ، ولا يزداد وجهه إلّا سوادا. فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه : هذه سيّئاتك قد عظم بلاؤها ؛ فيعظّم للنار ، وتزرقّ عيناه ويسودّ وجهه ، ويكسى سرابيل القطران ، ويقال له : انطلق إلى أصحابك فأخبرهم أنّ لكلّ إنسان منهم مثل هذا. فينطلق وهو يقول : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) (٢٩). ذكروا عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : هلكت عنّي حجّتي.

قال عزوجل : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) (٣١) : أي اجعلوه يصلى الجحيم (٢) والجحيم النار ، وهي اسم من أسماء جهنّم.

قال تعالى : (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) : والله أعلم بأيّ ذراع. وبلغنا أنّ الحلقة من تلك السلسلة لو وضعت على ذروة جبل لذاب.

__________________

(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ١٩ من سورة الطور.

(٢) في ق وع : (صَلُّوهُ) أي : اشووه». وأثبتّ ما جاء في ز ورقة ٣٧٢.

٣٦٨

قال تعالى : (فَاسْلُكُوهُ) (٣٢) : فيسلك فيها سلكا كما يسلك النظام في الخيط ، تدخل من فيه ثمّ تخرج من دبره ، فينادي أصحابه فيقول : هل تعرفونني؟ فيقولون : لا ، ولكن قد نرى ما بك من الخزي (١) ، فمن أنت؟ فيقول : أنا فلان بن فلان ، وإنّ لكلّ إنسان منكم مثل هذا.

قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٣٤). قال : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) (٣٥) : تفسير الحسن أنّ الحميم : القرابة. وتفسير مجاهد : الحميم : الشفيق. أي : فليس له اليوم ههنا حميم ينفعه.

قال تعالى : (وَلا طَعامٌ) : أي : وليس له هاهنا طعام (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٣٦) : أي من غسالة أهل النار ، أي : الدم والقيح. (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) (٣٧) : أي المشركون والمنافقون.

قال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ) (٣٩) : أي أقسم بكلّ شيء (إِنَّهُ) : يعني القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (٤٠) : [أي : كريم على الله] (٢). تفسير الحسن : إنّه رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال بعضهم : جبريل.

قال تعالى : (وَما هُوَ) : يعني القرآن (بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) (٤١) : أي أقلّكم من يؤمن. (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٤٢) : أي أقلّكم من يتذكّر ، أي : يؤمن. قال تعالى : (تَنْزِيلٌ) : يعني القرآن (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٣).

قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا) : يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) (٤٤) : أي فزاد في الوحي أو نقص منه (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (٤٥) : أي لقطعنا يده اليمنى (٣).

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤٦) : أي نياط القلب ، وهو العرق الذي القلب معلّق به ، وهو حبل الوريد. وقال مجاهد : حبل القلب الذي في الظهر فإذا انقطع مات الإنسان.

قال تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٤٧) : يعني بذلك المؤمنين في تفسير

__________________

(١) في ق وع : «من الحزن» ، وأثبتّ ما جاء في ز ورقة ٣٧٢ ، وكلاهما صحيح.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٢.

(٣) هذا وجه من وجوه تأويل القطع باليمين نسب إلى الحسن. وجاء في ز : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي : بالحقّ عقوبة». وقال الفرّاء في المعاني : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) : بالقوّة والقدرة».

٣٦٩

الحسن. وإنّما صارت (حاجِزِينَ) لأنّ المعنى على الجماعة.

قال تعالى : (وَإِنَّهُ) : يعني القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٨) وهم الذين يقبلون التذكرة. (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) (٤٩) : أي أنّ منكم من لا يؤمن.

(وَإِنَّهُ) : يعني القرآن (لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠) : أي يوم القيامة إذ لم يؤمنوا به في الدنيا (وَإِنَّهُ) : يعني القرآن (لَحَقُّ الْيَقِينِ) (٥١) : أي إنّه من عند الله (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢) (١).

* * *

__________________

(١) قال ابن أبي زمنين : «التسبيح معناه تنزيه الله من السوء وتبريته تبارك وتعالى».

٣٧٠

تفسير سورة (سَأَلَ سائِلٌ) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ) : العامّة يقرأونها بالهمز ، ويقولون : هو من باب السؤال. وتفسير الحسن أنّ المشركين سألوا النبيّ عليه‌السلام : لمن هذا العذاب الذي تذكر ، يا محمّد ، أنّه يكون في الآخرة؟ فقال الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ) : أي عن عذاب (واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ).

وتفسير الكلبيّ : إنّه النضر بن الحارث ، أخو بني عبد الدار قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢) [الأنفال : ٣٢]. قال : فقتل يوم بدر ، وله في الآخرة عذاب أليم.

وبلغنا عن عبد الرحمن (١) أنّه كان يقرؤها : (سَأَلَ سائِلٌ) من باب السيلان. قال هو واد من نار يسيل بعذاب واقع للكافرين.

قال تعالى : (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ) يدفعه (ذِي الْمَعارِجِ) (٣) : أي ذي المراقي إلى السماء (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حديث ليلة أسري به لمّا أتى بيت المقدس على البراق : أتي بالمعراج ، فإذا هو أحسن خلق الله. ألم تر إلى الميّت حيث سوّى بصره ، فإنّما يتبع المعراج عجبا به. قال : فقعدنا فيه ، فعرج بنا حتّى انتهينا إلى باب الحفظة ، فذكر ما رأى في تلك الليلة في السماء (٢).

قال تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) : ذلك يوم القيامة.

وقوله : (مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي : لو كلّفتم القضاء فيه بين الخلائق لم تفرغوا فيه منه في

__________________

(١) هي قراءة عبد الرحمن بن زيد كما ذكره القرطبيّ والطبريّ في تفسيرهما. وممّن قرأ بغير همز نافع وابن عامر ، كما ذكره الداني في التيسير ، ص ٢١٤. ولهذه القراءة بغير همز وجهان : الوجه الأوّل هو أنّ (سال) لغة في سأل ، بتخفيف الهمزة وقلبها مدّا ، فهي بمعنى السؤال ، والوجه الثاني أنّها من السيلان ، وهو واد في جهنّم كما ذكر.

(٢) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء ، في أحاديث الإسراء والمعراج.

٣٧١

مقدار خمسين ألف سنة ، والله تعالى يفرغ منه في مقدار نصف يوم من أيّام الدنيا. وهو قوله عزوجل : (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٦٢) [الأنعام : ٦٢].

قوله : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (٥) : يقوله للنبيّ عليه‌السلام. تفسير مجاهد : (جَمِيلاً) : ليس فيه جزع. وقال الحسن : على تكذيب المشركين لك ، يقولون : إنّك ساحر ، وإنّك شاعر ، وإنّك كاهن ، وإنّك كاذب ، وإنّك مجنون.

قال تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) (٦) : يعني يوم القيامة ، أي يقولون : إنّه ليس بكائن ، إنّه ليس بجاء. (وَنَراهُ قَرِيباً) (٧) : أي جائيا. وكلّ آت قريب.

قال تعالى : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) (٨) : أي وذلك يوم تكون السماء كالمهل ، أي : كعكر الزيت في تفسير بعضهم. ذكروا أنّ عبد الله بن مسعود أهديت له فضّة فأمر فأذيبت حتّى أزبدت وانماعت ، فقال لغلامه : ادع له نفرا من أهل الكوفة ، فدخل عليه نفر من أهل الكوفة ، فقال : أترون هذا؟ ما رأينا شيئا أشبه بالمهل من هذا.

قال الله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٩) : أي كالصوف الأحمر المنفوش ، وهو تفسير مجاهد. وقال في آية أخرى : (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥) [القارعة : ٥] ، وهو أضعف الصوف ، وهو في حرف عبد الله بن مسعود : كالصوف الأحمر المنفوش ، وهو تفسير مجاهد أيضا.

قال الحسن : فأوّل ما يغيّر الجبال عن حالها أن تصير رملا كثيبا مهيلا ، ثمّ تصير كالعهن المنفوش ، ثمّ تصير هباء منثورا منبثّا ، وهو حين تذهب من أصولها. وتفسير الهباء : الذي يدخل البيت من الكوى من شعاع الشمس. وقال الحسن : غبارا ذاهبا.

قال تعالى : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (١٠) : ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثلاثة مواطن لا يسأل فيها أحد أحدا : إذا وضعت الموازين حتّى يعلم أيثقل ميزانه أم يخفّ ، وإذا تطايرت الكتب حتّى يعلم أيأخذ كتابه بيمينه أم بشماله ، وعند الصراط حتّى يعلم أيجوز الصراط أم لا يجوز (١).

وتفسير الحسن : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي : لا يسأل قريب قريبه أن يحمل عنه من ذنوبه

__________________

(١) انظر الإشارة إليه فيما سلف ج ٢ ، تفسير الآية ٤٥ من سورة يونس.

٣٧٢

شيئا كما كان يحمل بعضهم عن بعض في الدنيا. كقوله عزوجل : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر : ١٨].

قال تعالى : (يُبَصَّرُونَهُمْ) : أي يبصّر الرجل قرابته وأهل بيته وعشيرته في بعض المواطن ولا يعرف بعضهم بعضا. وتفسير الكلبيّ : يعرفونهم مرّة واحدة. قال : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) : أي المشرك (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ) : أي وعشيرته (الَّتِي تُؤْوِيهِ) (١٣) : تفسير الحسن : (تُؤْوِيهِ) أي تنصره وتنقذه في الدنيا. قال تعالى : (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) : أي يفتدي بهم (ثُمَّ يُنْجِيهِ) (١٤) ذلك من عذاب الله.

قال الله : (كَلَّا) : أي لا ينجيه ذلك من عذاب الله.

ثمّ قال : (إِنَّها لَظى) (١٥) : وهي اسم من أسماء جهنّم. وجهنّم كلّها لظى ، أي : تلظّى ، أي : تأجّج (نَزَّاعَةً) : يعني أكّالة (لِلشَّوى) (١٦). قال الحسن : نزّاعة للهام. وقال مجاهد : نزّاعة لجلود الرأس (١).

وقال بعضهم : تأكل أطرافه ومكارم خلقته (٢).

قال تعالى : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ) [عن الإيمان](وَتَوَلَّى) (١٧) [عن طاعة الله] (٣) (وَجَمَعَ فَأَوْعى) (١٨) : أي [وجمع المال] (٤) فأوعاه.

قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (١٩) : أي ضجورا (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) : أي الشدّة (جَزُوعاً) (٢٠) : أي إذا أصابته الشدّة لم يصبر فيها ، ليست له فيها حسبة ، يعني المشرك ،

__________________

(١) في ق وع : «لجلود الناس» ، والصحيح ما أثبتّه ، والتصويب من تفسير الطبريّ ، ج ١٩ ص ٧٧. وقال أبو عبيدة ج ٢ ص ٢٦٩ : «واحدتها شواة ، وهي اليدان والرجلان والرأس من الآدميّين». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٨٥ : «والشوى : اليدان والرجلان وجلدة الرأس ، يقال لها شواة ، وما كان غير مقتل فهو شوى».

(٢) في ق وع : «مصارم حلقه» وهو خطأ ، صوابه ما أثبتّه. والقول لقتادة ؛ كما في تفسير الطبريّ.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٣. وقال الفرّاء في المعاني : «تقول للكافر : يا كافر إليّ ؛ يا منافق إليّ ، فتدعو كلّ واحد باسمه».

(٤) زيادة من ز ورقة ٣٧٣.

٣٧٣

(وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ) : أي إذا أعطي المال (مَنُوعاً) (٢١) : أي يمنع حقّ الله فيه. وذلك من المشرك والمنافق ضجر.

ثمّ استثنى المؤمنين من الناس فقال : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٢٢) : يعني المسلمين (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) (٢٣) : أي يديمون عليها في تفسير الحسن. وقال الحسن : يقومون على مواقيتها. وهو واحد. وقال بعضهم : (دائِمُونَ) أي : لا يلتفتون.

قال : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (٢٤) : تفسير الحسن : هي الزكاة المفروضة. (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (٢٥) : تفسير الحسن : السائل : المسكين الذي يسأل عند الحاجة ، ثمّ يكفّ عن المسألة حتّى ينفد ما في يده. قال : والمحروم : الفقير الذي لا يسأل على حال ، فحرم أن يعطى عن المسألة كما يعطى السائل ، [وإذا أعطي شيئا قبل] (١).

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ المسكين ليس بالطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان ، ولكنّ المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يسأل الناس إلحافا (٢).

ذكروا عن ابن عبّاس قال : المحروم المحارف الذي لا سهم له في الغنيمة.

ذكروا عن بعضهم قالوا : هم أصحاب صفّة مسجد النبيّ عليه‌السلام ، وهم فقراء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين لا يستطيعون الغزو فجعل لهم يومئذ منها سهما ، ثمّ نزلت الآية التي في سورة براءة : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠)

[التوبة : ٦٠] فصارت عامّة ، وهذه السورة ـ فيما بلغنا ـ مكّيّة ، وهذه الآية مدنيّة ، والله أعلم.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٢٦) : أي بيوم الحساب ، أي : يوم يدين الله تعالى الناس بأعمالهم.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (٢٧) : أي خائفون (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) (٢٨) : ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله : وعزّتي لا أجمع

__________________

(١) زيادة من ز ورقة ٣٧٣.

(٢) حديث متّفق على صحّته ، انظر تخريجه فيما سلف ج ١ ، تفسير الآية ٢٧٣ من سورة البقرة.

٣٧٤

على عبدي خوفين ولا أجمع عليه أمنين ؛ لا يخافني في الدنيا إلّا أمّتته في الآخرة ، ولا يأمنني في الدنيا إلّا خوّفته في الآخرة (١).

قال : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٣٠) : أي : لا يلامون على الحلال.

قال تعالى : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) : أي وراء أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) (٣١) : أي فأولئك هم الزناة ، تعدّوا حلال الله إلى حرامه.

قال : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) : أي فيما افترض الله عليهم ، والأمانات فيما بينهم وبين الناس (وَعَهْدِهِمْ) : أي ما عاهدوا عليه الناس (راعُونَ) (٣٢) : أي حافظون ، يعني يؤدّون الأمانات ، يوفون بالعهد فيما بينهم وبين الناس فيما وافق الحقّ. (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) (٣٣) : وهي شهادات فيما بين الناس ، يقومون بها إذا كانت عندهم.

قال : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٣٤) : أي على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها. قال تعالى : (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (٣٥).

قوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) (٣٧) : قال الحسن : (مُهْطِعِينَ) أي : منطلقين يأخذون يمينا وشمالا يقولون : ما يقول هذا الرجل؟ يقول : يتفرّقون عنه يمينا وشمالا يكذّبون بما جاء به. و (العزين) : الفرق ، في تفسير الحسن. ذكروا عن جابر بن سمرة (٢) قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرآنا حلقا حلقا ، فقال : مالي أراكم عزين (٣).

__________________

(١) حديث حسن ، أخرجه أبو نعيم في الحلية عن شدّاد بن أوس ، وأخرجه عبد الله بن المبارك عن الحسن مرسلا. وانظر الألباني ، سلسلة الأحاديث الصحيحة ، رقم ٧٤٢.

(٢) في ق وع : «رجاء بن سرمة». وهو خطأ صوابه ما أثبتّه : «جابر بن سمرة» ، وهو الصحابيّ الجليل ابن أخت سعد بن أبي وقّاص ، وأمّه خالدة بنت أبي وقّاص. روى أحاديث كثيرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انظر ترجمته في كتب الرجال ، كالاستيعاب ، ج ١ ، ص ٢٢٤.

(٣) حديث صحيح ، أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائيّ. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب الأمر بالسكون في الصلاة ... (رقم ٤٣٠) عن جابر بن سمرة بأطول ممّا ورد هنا. والعزة ، وجمعها العزون : هي ـ

٣٧٥

قال تعالى : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (٣٨) لقول أحدهم : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصّلت : ٥٠] أي : الجنّة. إن كانت جنّة كما تقولون. قال الله عزوجل : (كَلَّا) : أي ليسوا من أهل الجنّة ثمّ قال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) (٣٩) : أي من النطفة. قال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ) : (لا أقسم) وأقسم واحد ، وهو قسم كلّه (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) : أقسم الله بنفسه. قال بعضهم : للشمس ثلاثمائة وستّون مشرقا وثلاثمائة وستّون مغربا. قال : (إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) : أي على أن نهلكهم بالعذاب ونبدّل خيرا منهم ، أي آدميّين أطوع لله منهم ، (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٤١) أي بمغلوبين على ذلك إن أردناه.

قال تعالى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) : أي في كفرهم (وَيَلْعَبُوا) فقد أقمت عليهم الحجّة. (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٤٢) : يعني يوم القيامة. ثمّ أمر بقتالهم.

وكلّ شيء في القرآن : (فذر) ، و (أعرض) منسوخ ، نسخة القتال.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) : أي : من القبور سراعا يخرجون من قبورهم سراعا إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس. قال تعالى : (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) (٤٣) : قال الحسن : (يُوفِضُونَ) : يبتدرون نصبهم ، أي يستلمه أوّلا ؛ يعني الصنم ، وهي تقرأ على وجهين : (نصب) و (نُصُبٍ) ، فمن قرأها (نُصُبٍ) فهو يعني جماعة الجماعة من النّصب ، وهو أعلام على وجه القراءتين (١).

قال تعالى : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) : أي ذليلة فهي لا تطرف. (تَرْهَقُهُمْ) : [أي : تغشاهم] (٢) (ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (٤٤) في الدنيا ، وهو يوم القيامة.

__________________

ـ الجماعات المتميّزة بعضها عن بعض.

(١) والنصب ، بضمّتين ، واحد وجمع : حجر ينصب ويذبح عنده ، وقيل : هو كلّ ما نصب فعبد من دون الله. انظر اللسان : (نصب). وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٨٦ : «قرأ الأعمش وعاصم (إِلى نُصُبٍ) إلى شيء منصوب يستبقون إليه. وقرأ زيد بن ثابت : (إلى نصب يوفضون) فكان النصب الآلهة التي كانت تعبد من دون الله ، وكلّ صواب ، وهو واحد ، والجمع أنصاب».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٣.

٣٧٦

تفسير سورة نوح (١) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) : أي موجع.

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) : أي يغفر لكم ذنوبكم (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي إلى موتكم فيكون موتكم بغير عذاب. وإن لم تؤمنوا أخذكم العذاب في الدنيا والآخرة.

قال تعالى : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) : يعني يوم القيامة ، جعله الله أجلا للعباد يبعثون فيه ، إذا جاء لا يؤخّر ، وهو تفسير الحسن. وقال مجاهد : حضور الأجل ؛ فإذا جاء الأجل لا يؤخّر.

قال : (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤) لعلمتم أنّ القيامة جائية.

فكذّبوا نوحا ف (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٦) : أي عن الإيمان. (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) : أي كلّما دعوتهم أن يستغفروا من الشرك فيؤمنوا فتغفر لهم أبوا ، و (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) : أي يتولّون ويكرهون ذلك بمنزلة من لا يسمع (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) : أي غطّوا رءوسهم لكيلا يسمعوا دعائي إيّاهم إلى الإيمان (وَأَصَرُّوا) : أي أقاموا على الكفر (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) (٧) : أي عن عبادة الله.

قال تعالى : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) (٨) : أي مجاهرة (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) (٩) : [أي : خلطت دعاءهم في العلانية بدعاء السرّ] (٢) (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) : أي من شرككم وآمنوا به (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (١٠) : أي لمن تاب (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١١) : أي تدرّ عليكم بالمطر.

__________________

(١) كذا في ق وع. وفي ز : «سورة إنّا أرسلنا نوحا».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٤.

٣٧٧

ذكروا عن الأعمش عن رجل عن عبد الله بن مسعود قال : يحمل السحاب الماء ثمّ يرسل الله الريح فتمري السحاب كما تمرى اللّقحة حتّى تدرّ ثمّ تمطر.

قال تعالى : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (١٢) : [قيل : إنّهم قد أجدبوا فأعلمهم أنّ إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظّ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا] (١).

قال تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١٣) : أي لا تخافون لله عظمة (٢). وتفسير مجاهد : لا تبالون لله عظمة. (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤) : أي نطفة ، ثمّ علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ عظما ، ثمّ لحما.

قال تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) (١٥) : أي بعضها فوق بعض ؛ وبين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام. وقال تعالى : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) : أي لأهل الأرض (٣).

ذكروا عن عبد الله بن عمر قال : الشمس والقمر وجوههما إلى السماء وأقفيتهما إلى الأرض يضيئان في السماء كما يضيئان في الأرض ، ثمّ تلا هذه الآية : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ..). الآية.

قال تعالى : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (١٦) : ذكروا عن يزيد بن حفص قال : قلت لعبد الله بن عمر : ما بال الشمس تصلانا أحيانا وتبرد أحيانا؟ قال : أمّا في الصيف فهي في السماء الخامسة ، وأمّا في الشتاء فهي في السماء السابعة. قلت : ما كنّا نراها إلّا في هذه السماء الدنيا. قال : لو كانت في السماء الدنيا لم يقم لها شيء. والذي في أيدينا أنّها تدنى في الشتاء لأهل الأرض

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٤ ، والقول لابن أبي زمنين. وقال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ١٨٨ : «كانت السنون الشدائد قد ألحّت عليهم ، وذهبت بأموالهم لانقطاع المطر عنهم ، وانقطع الولد من نسائهم ، فقال : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ).

(٢) كذا في ق وع ، وز ، وهي نفس الألفاظ التي أوردها الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٨٨ : «أي لا تخافون لله عظمة».

(٣) كذا في ق وع ، وفي ز ورقة ٣٧٤ ، أي : «معهنّ ضياء لأهل الأرض في تفسير الكلبيّ».

٣٧٨

فينتفعون بها ، وترفع في الصيف لكي لا يتأذّوا بها. ذكروا أنّ الشمس والقمر والنجوم ليس شيء منها لازقا بالسماء ، وأنّها تجري في فلك دون السماء ، وهو تفسير الحسن. وقال : مثل الطاحونة دون السماء. ولو كانت ملتزقة لم تجر.

قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧) : أي خلقكم من الأرض خلقا. أي : خلق آدم من طين ، ونسله من نطفة. (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) : كقوله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٥٥) [طه : ٥٥] قال تعالى : (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) (١٨).

قال تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) (١٩) : أي بسطها لكم. وقوله : بساطا ، وفراشا ، ومهادا ، واحد. قال تعالى : (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٢٠) : أي طرقا وأعلاما (١).

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) (٢١) : وهي تقرأ على ثلاثة أوجه ؛ فمن قرأها : (وَوَلَدُهُ) ، فهو عشيرته التي ولدته (٢). و (ولده) : أولاده (٣). وقوله : (اتَّبَعُوا) أي : اتّبع بعضهم بعضا على الشرك والتكذيب. وقوله : (إِلَّا خَساراً) أي : عند الله باتّباعهم إيّاه.

قال عزوجل : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (٢٢) : أي عظيما ، وهو الشرك (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (٢٣) : وهي أسماء آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. أي : لا تدعوا عبادتها في تفسير الحسن. ذكروا أنّ هذه الأصنام كانت في بلاد العرب ، ووصف كلّ صنم منها أين كان موضعه. قال بعضهم : حفظت منها موضعين ونسيت اسم موضع الصنمين. قال : كان صنم كذا وكذا برهاه ببلخع (٤).

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز : «طرقا بيّنة». والقول لقتادة. وقال الفرّاء في المعاني : «هي الطرق الواسعة».

(٢) جاء في اللسان : «والولد أيضا الرهط ... ويقال تفسير قوله تعالى : (مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي : رهطه».

(٣) لم يذكر المؤلّف القراءة الثالثة ، وهي التي بكسر الواو وإسكان اللام : (والده) بمعنى ولده ، وهذه قراءة الحسن وأبي العالية وابن يعمر والجحدريّ كما ذكره ابن الجوزيّ في زاد المسير ، ج ٨ ص ٣٧٣. وفيه : «المعنى أن الأتباع والفقراء اتّبعوا رأي الرؤساء والكبراء».

(٤) هكذا وردت هذه الكلمة غير واضحة في ق وع ولم أتمكّن من تبيانها. وقد ذكر الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٩ ص ٩٩ أسماء هذه الأصنام ومواضعها وأمكنتها والقبائل التي تعبدها. واقرأ أخبارا عنها وعن أماكنها ـ

٣٧٩

ذكروا عن جابر بن عبد الله أنّها أصنام كانت للعرب ، وأحسبه سمّى بعضها. فمن قال : إنّها كانت في أرض العرب فإنّه يقطعها في هذا الموضع من قصّة نوح عليه‌السلام ، ويجعل الكلام مستأنفا. ثمّ رجع إلى قصّة نوح حيث يقول : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً).

قوله عزوجل : (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) : تفسير الحسن : إنّه يعني الأصنام أضلّت كثيرا من الناس بعبادتهم إيّاها من غير أن تكون الأصنام دعت إلى عبادتها.

قال عزوجل : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) (٢٤) : هذا دعاء نوح عليه‌السلام على قومه حين أذن الله بالدعاء عليهم : مثل قوله عزوجل : (أَنَّهُ ، لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦].

قال عزوجل : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) : أي بشركهم (١) (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) : أي فوجب لهم النار (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) (٢٥) : يمنعونهم من عذاب الله.

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢٦) : أي أحدا (٢). وهذا حين أذن الله له بالدعاء عليهم. (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢٧) : أي إن هم ولدوا وليدا فأدرك كفر. وهو شيء علمه نوح من قبل الله وهو قوله : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ ، لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).

قال نوح : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) : قال الحسن : كانا مؤمنين (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) : قال بعضهم : (لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) يعني مسجدي (مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) (٢٨) : أي إلّا هلاكا. وذلك حين أمر بالدعاء عليهم فاستجاب الله له فأغرقهم.

__________________

ـ مفصّلة في كتاب الأصنام لابن الكلبيّ ، بتحقيق الأستاذ أحمد زكي ، ص ٥٩ فما بعدها.

(١) كذا في ق وع : «بشركهم» ، وفي ز : «أي : بخطاياهم».

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٩٠ : «هو من درت ، ولكنّه فيعال من الدوران ، كما قرأ عمر بن الخطّاب : (الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّام) [البقرة : ٢٥٥] وهو من قمت». وقال بعضهم : (ديّارا) أي من يسكن الدار. يقال : ما بالدار ديّار. أي : أحد. وقيل : الديّار : صاحب الدار. وانظر : تفسير القرطبيّ ، ج ١٨ ص ٣١٣ ، واللسان : (دور).

٣٨٠