تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

وقال بعضهم : هم أهل اليمامة. وقال بعضهم : هوازن.

قال تعالى : (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) : أي عن القتال (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) : أي عن محمّد عليه‌السلام (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٦) : قال الكلبيّ : يوم الحديبيّة.

وعذر الله عند ذلك أهل الزمانة فقال : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) : أن يتخلّفوا عن الغزو. (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) : فصارت رخصة (١) لهم ألّا يغزوا ، فوضع عنهم الجهاد. ذكر الحسن عن عائشة أنّها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل على النساء جهاد؟ قال : نعم ، جهاد لا قتال فيه : الحجّ والعمرة (٢).

قال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ) : أي عن الوفاء لله بما أقرّ به (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) (١٧) : أي موجعا.

قوله عزوجل : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) : ذكروا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : كانت سمرة بايعناه تحتها. وكنّا أربع عشرة مائة ، وعمر آخذ بيده ، فبايعناه كلّنا غير جدّ بن قيس (٣) اختبأ تحت إبط بعيره. [قال جابر : لم نبايع تحت شجرة إلّا الشجرة التي بالحديبيّة] (٤).

قال تعالى : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) : أي أنّهم صادقون (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) : تفسير الحسن : السكينة والوقار. وتفسير الكلبيّ : السكينة الطمأنينة. وتفسير مجاهد : هي من أمر الله كهيئة الريح. وقال بعضهم : ريح خجوج (٥).

__________________

ـ قال ... : أعراب فارس وأكراد العجم».

(١) في ق وع : «فصارت رحمة لهم ...» وأثبتّ ما جاء في ز ، فهو أنسب.

(٢) انظر الإشارة إليه فيما مضى ، ج ١ ، تفسير الآية ١٩٥ من سورة آل عمران.

(٣) كذا في ق وع وز : «جد بن قيس» ، أو «الجد بن قيس» ، بالألف واللام وبدونها كما جاء في الاستيعاب لابن عبد البرّ ، والاشتقاق لابن دريد ، وفي السيرة لابن هشام ، وهو من بني سلمة ، وقد تكلّم فيه. وفيه نزل قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) [التوبة : ٤٩]. وقيل : إنّه تاب وحسن إسلامه.

(٤) زيادة من ز ، ورقة ٣٣٠.

(٥) الخجوج : الريح الشديدة المرّ. وقيل : هي التي تلتوي في هبوبها ، انظر اللسان (خجج). ولا أرى لهذا المعنى ـ

١٦١

قال تعالى : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨) : يعني فتح خيبر.

قال تعالى : (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) في نقمته (حَكِيماً) (١٩) في أمره.

قوله عزوجل : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) : أيّها المؤمنون (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) : أي خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) : وهم أسد وغطفان إذ كانوا حلفا وأهل خيبر. وكان الله وعد نبيّه خيبر ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوجّهوا راياتهم إذا أصبحوا إلى غطفان وأسد ، فبلغهم ذلك ، وألقى الله في قلوبهم الرعب ، فهربوا من تحت ليلتهم ، وهو قوله عزوجل : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ..). إلى آخر الآية. وهذا تفسير الكلبيّ.

وقال الحسن : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) : غنيمة خيبر ، (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) أي : يأخذها المؤمنون إلى يوم القيامة في تفسير الحسن ومجاهد قال : (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أي : غنيمة خيبر ، (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ). قال : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) ؛ وذلك أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذوا قافلة من المشركين من أهل مكّة ، فأتوا بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألكم علينا عهد؟ قالوا : لا. قال : أليس دماؤكم حلالا؟ قالوا : بلى ، فتركهم (١).

وقال الحسن : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) يعني مشركي أهل مكّة. قال تعالى : (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) : أي ما صنع النبيّ عليه‌السلام من تركه القوم الذين ترك. (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢٠) : أي الإسلام ، وهو الطريق المستقيم إلى الجنّة.

قال : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) بعد (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) : أي علم أنّكم ستظفرون

__________________

ـ الأخير وجها مناسبا هنا ؛ والله أعلم.

(١) كذا ورد هذا الخبر في هذا التفسير. ولم أجد فيما بين يديّ من المصادر قصّة هذه القافلة. والذي لم جاء في كتب التفسير والتاريخ في سبب نزول هذه الآية : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) أنّ قريشا أرسلت عددا من المشركين ليأخذوا المسلمين على غرّة ، فأخذهم المسلمون أخذا ، فعفا عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انظر سيرة ابن هشام ، ج ٣ ص ٣١٤ ، وتفسير الطبريّ ، ج ٢٦ ص ٩٤ ، والدر المنثور ، ج ٦ ص ٧٥ ، وأسباب النزول للواحدي ، ص ٤٠٥. وقد روى الواحدي خبرين متشابهين في الموضوع عن أنس ، وعن عبد الله بن مغفّل المزنيّ.

١٦٢

بها وتفتحونها ، يعني كلّ غنيمة يغنمها المسلمون إلى يوم القيامة. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢١).

قال الله : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : [في تلك الحال] (١) (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) : يمنعهم من ذلك القتل الذي يقتلهم المؤمنون (وَلا نَصِيراً) (٢٢) : ينتصر لهم.

قال : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) : أي بقتل من أظهر الشرك ، إذ أمر النبيّ عليه‌السلام بالقتال. قال : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٢٣). قال الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) : قال الكلبيّ : كان هذا يوم الحديبيّة ، وكان المشركون من أهل مكّة قاتلوا نبيّ الله ، وكان شيء من رمي نبل وحجارة من الفريقين جميعا ، ثمّ هزم الله المشركين وهم ببطن مكّة ، فهزموا حتّى دخلوا مكّة ، ثمّ كفّ الله بعضهم عن بعض. قال الله : (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٢٤).

قوله عزوجل : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : عن نافع عن ابن عمر قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدّه المشركون عن المسجد الحرام وأنا معه فنحر [ونحر أصحابه] (٢) الهدي بالحديبيّة.

قوله عزوجل : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) : أي محبوسا (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) : أي لئلّا يبلغ محلّه. قال : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) بمكّة يدينون بالتقيّة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) : فتقتلوهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) : أي إثم (بِغَيْرِ عِلْمٍ).

قال الله تعالى : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) : أي في دينه الإسلام فيسلمون ، وقد فعل الله ذلك. قال الله : (لَوْ تَزَيَّلُوا) : أي زال المسلمون من المشركين والمشركون من المسلمين فصار المشركون محضا (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢٥) : أي لسلّطناكم عليهم فقتلتموهم.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٣١.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٣١.

١٦٣

قوله : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) : هم المشركون صدّوا نبيّ الله يوم الحديبيّة عن المسجد الحرام ، وحبس الهدي أن يبلغ محلّه ، وإنّما حملهم على ذلك حميّة الجاهليّة والتمسّك بها. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) : تفسير الكلبيّ : السكينة الطمأنينة ، وتفسير الحسن : الوقار (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) : وهي كلمة الإخلاص لا إله إلّا الله. (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) : أي وكانوا أهلها في الدنيا ، وعليها الثواب مع الوفاء بالأعمال في الآخرة (١) (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦).

قوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (٢٧) : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في المنام ، في تفسير الكلبيّ : في مخرجه إلى الحديبيّة (٢) ، كأنّه بمكّة وأصحابه قد حلقوا وقصّروا. فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك المؤمنين فاستبشروا وقالوا : وحي. فلمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبيّة ارتاب الناس فقالوا : رأى فلم يكن الذي رأى. فقال الله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ). وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالح المشركين على أن يرجع عامه ذلك ويرجع من قابل فيقيم بمكّة ثلاثة أيّام ، فنحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه الهدي بالحديبيّة ، وحلقوا وقصّروا ، ثمّ أدخله الله العام المقبل مكّة وأصحابه آمنين فحلقوا وقصّروا.

وقال بعضهم : يوم فتح مكّة. وقال الحسن : ليست برؤية المنام ولكنّها رؤيا الوحي. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه جبريل بالوحي أخذته رعدة شديدة واحدة شبه النفاس ، واحمرّت وجنتاه ، فشبّه الله ذلك الذي كان يأخذه بالنوم (٣).

ذكر هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم (٤) عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول الله

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز : (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) في الدنيا وعليها وقع الثواب في الآخرة».

(٢) في ق وع وفي ز أيضا : «مخرجه إلى المدينة» وهو تصحيف ولا شكّ ، صوابه : «إلى الحديبيّة». ويذكر بعضهم أنّ الرؤيا كانت قبل خروجه إلى الحديبيّة. وجاء في تفسير مجاهد ص ٦٠٣ ما يلي : «أري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بالحديبيّة ، أنّه دخل مكّة وأصحابه آمنين».

(٣) كذا وردت هذه العبارة في ق وع وفيها اضطراب ، ولست مطمئنّا لبعض ألفاظها.

(٤) في ق : «يحيى بن أبي كثيرة» ، وفي ع : «يحيى عن أبي كثيرة عن أبي ابراهيم» ، والصواب ما أثبتّه بعد ـ

١٦٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حلقوا رؤوسهم يوم الحديبيّة إلّا عثمان وأبا قتادة ، فاستغفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمحلّقين ثلاثا وللمقصّرين واحدة.

ذكروا عن نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : يغفر الله للمحلّقين ، يغفر الله للمحلّقين. قالوا : والمقصّرين ، قال : وللمقصّرين (١).

قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) : الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨) : تفسير الحسن : حتّى يحكم على أهل الأديان.

ذكروا عن المقداد بن الأسود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يبقى أهل بيت مدر ولا وبر إلّا أدخله الله كلمة الإسلام ، يعزّ عزيزا ويذلّ ذليلا ، إمّا أن يعزّهم فيكونوا من أهلها ، وإمّا أن يذلّهم فيدينوا لها (٢). وتفسير ابن عبّاس : حتّى يظهر النبيّ عليه‌السلام على الدين كلّه ، أي : على شرائع الدين كلّها ؛ فلم يقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى أتمّ الله ذلك.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأنبياء إخوة لعلّات ، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحد. وأنا أولى الناس بعيسى لأنّه ليس بيني وبينه نبيّ ، وإنّه نازل لا محالة ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنّه مربوع الخلق ، بين ممصرتين ، إلى الحمرة والبياض ، سبط الرأس ، كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيدقّ الصليب ويقتل الخنزير ، ويقاتل الناس على الإسلام ، فيهلك الله في زمانه الملل كلّها غير الإسلام ، حتّى تقع الأمانة في الأرض ، وحتّى ترتع الأسد مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الغلمان بالحيّات لا يضرّ بعضهم بعضا (٣).

__________________

ـ التصحيح.

(١) حديث متّفق عليه ؛ أخرجه البخاريّ في كتاب الحجّ ، باب الحلق والتقصير عند الإحلال ، عن ابن عمر بلفظ : «اللهمّ ارحم المحلّقين ...» وأخرجه من حديث أبي هريرة بلفظ : «اللهمّ اغفر للمحلّقين ...». وأخرجه مسلم في كتاب الحجّ ، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير عن ابن عمر وعن أبي هريرة (رقم ١٣٠١ ـ ١٣٠٢).

(٢) انظر الإشارة إليه فيما مضى ، ج ٢ ، تفسير الآية ٣٣ من سورة التوبة.

(٣) حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه مختصرا في باب الفضائل ، باب فضائل عيسى عليه‌السلام ـ

١٦٥

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقوم الساعة حتّى ينزل عيسى بن مريم فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب حتّى يكون الدين واحدا (١).

ذكروا عن الحسن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تقوم الساعة حتّى ينزل عيسى بن مريم من قبل المغرب مصدّقا بمحمّد وعلى ملّته (٢).

قوله عزوجل : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) : [يعني متوادّين] (٣) (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) : يعني يقيمون الصلوات الخمس (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) : أي بالصلاة والصوم والدين كلّه (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) : قال بعضهم : يعرف الخشوع في وجوههم من أثر الصلاة. وقال بعضهم : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) : في الآخرة يقومون غرّا محجّلين من أثر الوضوء.

ذكروا عن أبي هريرة قال : يا رسول الله ، كيف تعرف أمّتك؟ قال : يقومون غرّا محجّلين من أثر الوضوء (٤).

قال : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) : أي نعتهم في التوراة (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) : أي : ونعتهم في الإنجيل ؛ النعت الأوّل في التوراة ، والنعت الآخر في الإنجيل (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) : أي فراخه (فَآزَرَهُ) : أي فشدّه (٥) (فَاسْتَغْلَظَ) : أي فاشتدّ ، (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) : أي على قصبه ، وقال بعضهم : على أصوله (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) : أي كثرته وكمامه

__________________

ـ (رقم ٢٣٦٥). وانظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٣٣ من سورة التوبة. وج ١ ، تفسير الآية ١٥٩ من سورة النساء.

(١) انظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٣٣ من سورة التوبة أيضا.

(٢) أحاديث نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان صحيحة أخرج منها الشيخان وأصحاب السنن ، ولكنّي لم أجد من بينها حديثا بهذا اللفظ فيما بحثت من كتب التفسير والسنّة.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٣٢.

(٤) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الطهارة ، باب استحباب إطالة الغرّة والتحجيل في الوضوء عن أبي هريرة (رقم ٢٤٦) بألفاظ متشابهة ، وانظر : ابن الحنبلي ، كتاب أقيسة المصطفى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ص ١٦٠ (رقم ١٢٩).

(٥) في تفسير مجاهد ص ٦٠٤ : «فشدّه وأعانه». وفي مجاز أبي عبيدة : (فَآزَرَهُ) ساواه ، صار مثل الأمّ».

١٦٦

ونباته. (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) : أي يخرجون فيكونون قليلا كالزرع حين يخرج ضعيفا فيكثرون ويقوون فشبّههم بالزرع ؛ قال : يعجب الزرّاع بهم ؛ يعجبون رسول الله كما يعجب ذلك الزرع الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار ، أي ليغيظ بهم ربّهم من كفر به ؛ إنّما يفعل ذلك بهم ليغيظ بهم الكفّار. (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) : أي مغفرة الذنوب (وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩) : [يعني الجنّة] (١).

* * *

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٣٢.

١٦٧

تفسير سورة الحجرات ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

ذكروا عن الحسن أنّ قوما ذبحوا قبل أن يضحّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النحر ، فلم يجز لهم ذلك ، فأمر النبيّ عليه‌السلام أن يعيدوا ذبحا آخر. فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

ذكروا عن الحسن قال : من ذبح قبل الصلاة فليعد ذبحا آخر.

ذكروا عن البراء بن عازب أنّ خاله ضحى لابن له قبل أن يصلّي النبيّ عليه‌السلام ، فقال النبيّ عليه‌السلام : إنّها لا تجزي لأحد بعدك (١).

ذكروا عن محمّد بن سيرين أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن هذا اليوم النّسوك فيه بعد الصلاة ، يعني يوم النحر (٢).

وبعضهم يقول : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي : في الأمر.

__________________

(١) في الحديث سقط من أوله ، وهو حديث صحيح أخرجه البخاريّ ومسلم والترمذيّ وأبو داود عن البراء بن عازب ، أخرجه البخاريّ في كتاب العيدين ، باب الأكل يوم النحر ، وأخرجه مسلم في كتاب الأضاحي ، باب وقتها (رقم ١٩٦١) ولفظه : «عن البراء بن عازب أنّ خاله أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنّ هذا يوم اللحم فيه مكروه ، وإنّي عجّلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعد نسكا. فقال : يا رسول الله ، إن عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم ، فقال هي خير نسيكتيك ، ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك». وانظر ابن الأثير ، جامع الأصول ، ج ٤ ص ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٢) لم أجده بهذا اللفظ ولكنّه ثبت في الصحاح بألفاظ قريبة منه ؛ منها ما رواه مسلم في الأضاحي ، باب وقتها (رقم ١٩٦١) بلفظ : «من صلّى صلاتنا ، ووجّه قبلتنا ، ونسك نسكنا ، فلا يذبح حتّى يصلّي» ، وبلفظ آخر : «إنّ أوّل ما نبدأ به في يومنا هذا نصلّي ثمّ نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا ، ومن ذبح فإنّما هو لحم قدّمه لأهله ، ليس من النسك في شيء».

١٦٨

وتفسير مجاهد : (لا تُقَدِّمُوا) أي : لا تفتاتوا على الله ورسوله شيئا حتّى يقضيه الله على لسانه.

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ).

تفسير الحسن أنّ أناسا من المنافقين كانوا يأتون النبيّ عليه‌السلام فيرفعون أصواتهم فوق صوته ، يريدون بذلك أذاه والاستخفاف به. قال الحسن : نسبهم إلى ما أعطوه من الإيمان في الظاهر وما أقرّوا به من الفرائض فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ؛ وقد كان من المؤمنين من يرفع صوته فوق صوت النبيّ فلا ينهاه النبيّ عليه‌السلام عن ذلك ، وإنّما عنى بذلك المنافقين الذين يريدون أذاه والاستخفاف به.

قال تعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٢) : أي لا تقولوا له : يا محمّد ، وقولوا يا رسول الله ويا نبيّ الله. وقال مجاهد : لا تنادوه بذلك ، ولكن قولوا له قولا ليّنا سهلا : يا رسول الله.

ثمّ قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) : [يعظّمونه بذلك فلا يرفعونها عنده] (١). (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) : أي لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣) : أي ثواب عظيم ، أي : الجنّة (٢).

وبلغنا أنّ ثابت بن قيس كان في أذنيه ثقل ، وكان يرفع صوته عند رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له رجل من قومه : إنّي لأراك تعيب على أصحابك من القول ، وتأتي أسوأ ما يأتون. فقال له ثابت : وما ذلك؟ قال : ترفع فوق صوت النبيّ عليه‌السلام وتجهر له بالقول. فقال ثابت : يا رسول الله ، أفيّ نزلت؟ قال : نعم (٣). وهذا تفسير الكلبيّ : فقال ثابت : أما والذي أنزل عليك الكتاب لا

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٣٢.

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٧٠ : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أخلصها للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخرج جيّده ، ويسقط خبثه».

(٣) كذا في ق وع : «نعم». وكأنّ ظاهر الحديث يوحي بأنّ الآية نزلت في ثابت خاصّة. والحقّ أنّ ثابت بن قيس بن شماس كان ظنّ أنّ عمله كان قد حبط لأنّه كان جهير الصوت فطمأنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لست منهم ، بل تعيش بخير وتموت بخير». اقرأ قصّة ثابت بن قيس حين أغلق بابه على نفسه وطفق يبكي ... في الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ٤٥ من رواية عطاء الخراسانيّ. وانظر تفسير الطبريّ ، ج ٢٦ ص ١١٨ ـ ١١٩ ؛ وفيه : ـ

١٦٩

أكلّمك أبدا إلّا سرّا أو شبهه ؛ فنزل عند ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ..). الآية. فصار هذا أدبا من آداب الله أدّب به المؤمنين.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٤) : تفسير الكلبيّ أنّ ناسا من العرب [من بني العنبر] (١) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه قد أصابوا من ذراريهم فأقبلوا ليفادوهم. فقدموا المدينة ظهرا ، فإذا هم بذراريهم عند باب المسجد ، فبكى إليهم ذراريهم ، فنهضوا ، فدخلوا المسجد وعجلوا أن يخرج إليهم النبيّ عليه‌السلام ، فجعلوا يقولون : يا محمّد ، اخرج إلينا.

وتفسير عمرو عن الحسن قال : كان الذين ينادونه خلف الحجرات : يا محمّد ، يا محمّد ، منافقين.

ذكر الحسن قال : جاء شاعر فنادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج إليه. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ويحك ، ويلك ، مالك؟ فقال : قلت لي ويحك ، ويلك ، فو الله إنّ حمدي لزين ، وإنّ شتمي لشين. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبحان الله ، ذلك الله ، سبحان الله ، ذلك الله! (٢).

قال عزوجل : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) : أي ، : تدفع إليهم ذراريهم بغير فداء (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥).

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) : وهي تقرأ على وجه آخر : (فتثبّتوا). والتبيين والتثبيت بمعنى واحد. (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٦).

__________________

ـ «فقال ثابت : يا نبيّ الله أخشى أن أكون قد رفعت صوتي وجهرت لك بالقول ، وأن أكون قد حبط عملي وأنا لا أشعر. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : امش على الأرض نشيطا فإنّك من أهل الجنّة». واقرأ ترجمة ثابت بن قيس في سير أعلام النبلاء للذهبيّ ، ج ١ ص ٢٢٤ ـ ٢٢٧.

(١) زيادة من ز.

(٢) انظر تفسير الطبري ، ج ٢٦ ص ١٢١ ـ ١٢٢. وانظر الواحدي ، أسباب النزول ، ص ٤٠٨ ـ ٤١٢ ففيه قصّة المفاخرة التي كانت بين شعراء بني تميم من جهة ، وبين خطيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت بن قيس بن شماس وشاعره حسّان بن ثابت من جهة أخرى.

١٧٠

تفسير الحسن أنّ الوليد بن عقبة جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنّ بني المصطلق ارتدّوا عن الإسلام ومنعوا الصدقة. فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فقال : انطلق وكن قريبا من القوم ، ثمّ انظر هل لهم تهجّد من الليل وأذان أو صلاة ، تحسّس من ذلك وانظر. فأتاهم خالد وأصحابه ، ونزلوا قريبا من القوم ليلا ، فسمعوا تهجّدا وصلاة من الليل ، ثمّ سمعوا أذانا لصلاة الصبح. فأتاهم فأخبرهم أنّ فاسقا سعى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الوليد بن عقبة ، فأخبره أنّكم ارتددتم عن الإسلام ، ومنعتم الصدقة. فبعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمرني أن أكون قريبا وأتحسّس وأنظر هل نسمع تهجّدا أو صلاة أو أذانا. فرحمكم الله وأصلحكم. فدعا لهم وودّعهم. ثمّ أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره بذلك ؛ فأنزل الله هذه الآية. فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتبيّنوا ويتثبّتوا ألّا يصيبوا أحدا بجهالة.

وقال الكلبيّ : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ، وهم حيّ من خزاعة ، ليأخذ منهم صدقاتهم ، ففرحوا بذلك وركبوا يتلقّونه. فبلغه أنّهم قد ركبوا يتلقّونه. وكان بينهم ضغن في الجاهليّة. فخاف الوليد أن يكونوا إنّما ركبوا ليقتلوه. فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يلقهم. فقال : يا رسول الله ، إنّ بني المصطلق منعوا زكاتهم وكفروا بعد إسلامهم. فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهمّ أن يغزوهم إذ أتاه وفد من بني المصطلق فقالوا : يا رسول الله ، بلغنا أنّك أرسلت إلينا من يأخذ صدقاتنا ففرحنا بذلك. وركبنا نتلقّاه. فبلغناه أنّه رجع ، وإنّا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فأنزل الله عذرهم في هذه الآية. فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ، يعني الوليد بن عقبة. وفسقه هذا فسق نفاق لا فسق شرك (١).

قوله عزوجل : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) : تفسير الحسن : أنّه معكم مقيم ، فلا تضلّون ما قبلتم عنه. (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) : أي في دينكم. والعنت الحرج والضيق. (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) : أي بما وعدكم عليه من الثواب وكريم المآب. (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) : أي المعاصي ، أي بما أوعد

__________________

(١) انظر الواحدي. أسباب النزول ، ص ٤١٢ ـ ٤١٤. وانظر تفسير الطبري ، ج ٢٦ ص ١٢٣ ـ ١٢٤ وقد أورد فيه خبر الوليد بن عقبة مختصرا من رواية قتادة ، وفي آخره : «وكان نبيّ الله يقول : التبيّن من الله ، والعجلة من الشيطان». وانظر بعثة الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق في مغازي الواقديّ ، ج ٣ ص ٢٨٠ ـ ٢٨١. وانظر كذلك في سبب نزول الآية السيوطي ، أسباب النزول ، في تفسير الآية.

١٧١

عليها من العذاب. قال تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٧) : أي الذين حبّب إليهم الإيمان فأحبّوه لتحبيب الله ذلك إليهم ... إلى آخر الآية.

قال عزّ من قائل : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) : أي بفضل من الله ونعمته فعل ذلك بهم. (وَاللهُ عَلِيمٌ) : أي بخلقه (حَكِيمٌ) (٨) : أي في أمره.

قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ).

تفسير الحسن قال : كان بين رجل من المسلمين ورجل من المنافقين خصومة فدعاه المسلم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعاه المنافق إلى (١) بني فلان ، فتعزّز المنافق ببني فلان وبقومه من المشركين ، وتعزّز المسلم بالمسلمين ، فتدافعا بينهما حتّى صارا إلى العصا (٢) فأنزل الله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ..). إلى آخر الآية. وقال الحسن سمّى المنافق [مؤمنا] (٣) بالإسلام الذي أقرّ به وادّعاه ، أي من الإيمان.

قال : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي ردّوهما إلى الحكومة ، أي بما في كتابهم الذي ادّعوه وأقرّوا به. (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) أي : فلم تقبل الحكومة من الكتاب والسنّة التي (٤) أقرّوا بهما وادعوهما (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) ، أي : إلى حكم الله الذي حكم بينهم والذي يلزمهم إقرارهم به وادّعاؤهم إيّاه. (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) الذي بتركه كفروا وضلّوا.

__________________

(١) كذا في ق : «ودعاه المنافق إلى بني فلان» ، وفي ع : «ودعاه المنافق إلى فتن بني فلان» كذا ، ولم أوفّق لتصحيح هذه الكلمة. ولعلّ صوابه : «إلى وثن بني فلان ، أو «إلى كاهن بني فلان».

(٢) كذا في ق : «إلى العصا» ، وهو الصحيح ، وفي ع : «إلى القضاء».

(٣) ورد قول الحسن هذا مضطربا ناقصا فأثبتّ ما يناسب المعنى وما يقتضيه التعبير الصحيح ؛ فقد جاء في ع هكذا : «سبب المنافق بالإسلام الذي قر به وادعى أي من الإيمان» ، وجاء في ق : «سبب المنافق بالاسم الذي أقر به وادعاه أي من الإيمان».

(٤) كذا في ع «التي» ، والصواب : «اللذين» ، على ما في العبارة من فساد. وفي ق جاءت العبارة فاسدة هكذا : «علم لا يقبل الحكومة من الكتاب والسنة التي أقرّوا بها وادعوها».

١٧٢

قال : (فَإِنْ فاءَتْ) : أي فإن رجعت إلى الذي تركت من حكم الله الذي أقرّت به وادّعته (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) : أي بالحقّ (وَأَقْسِطُوا) : أي واعدلوا في حكمكم ، أي فيمن تحكمون عليه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ) : أي يثيب (الْمُقْسِطِينَ) (٩) : أي العادلين.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) : أي يخوّفهم نقمته ، أي : في العدل في حكمه وفيمن يحكمون عليه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠) : أي : لكي ترحموا إذا اتقيتم الله وعدلتم في الحكومة بين خلقه. فردّ المنافق في الحكومة إلى حكم كتابه الذي أقرّ به ، وسمّاه أخاه المسلم (١) لما أقرّ به من الإسلام والإيمان الذي آخى الله بين أهله به ، وليس بأخيه في الولاية عند الله ولا في المحبّة (٢). وتفسير مجاهد : إنّ الطائفتين الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصيّ.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب مثل المؤمنين كالجسد إذا شكا بعضه تداعى سائره.

ذكروا عن مجاهد عن كعب القرظيّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّما المؤمن من أخيه مثل اليدين لا غنى بإحداهما عن الأخرى (٣). وقال الكلبيّ : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل على حمار حتّى وقف على مجلس من مجالس الأنصار ، فكره بعض القوم موقفه ، وهو عبد الله بن أبيّ بن سلول ، فقال له : خلّ لنا سبيل الريح من نتن هذا الحمار ، وأمسك بأنفه. ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وغضب له بعض القوم ، وهو عبد الله بن رواحة. فقال : ألرسول الله قلت هذا القول؟ فو الله لحماره أطيب منك ريحا. فاستبّا ، ثمّ اقتتلا ، واقتتلت عشائرهما. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل يصلح بينهما ؛ فكأنّهم كرهوا ذلك ، فأنزل الله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ..). إلى آخر الآية.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) : أي : لا يستهزئ قوم بقوم ، أي : رجال برجال (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) : أي إخوانكم ، أي لا يلمز بعضكم بعضا ، أي : لا يستقبل الرجل أخاه بوجه ، فيعمد (٤) له بوجه. وقال مجاهد : أي : لا يطاعنوا ، أي : لا يطعن بعضكم بعضا.

__________________

(١) كذا في ق وع : «أخاه المسلم» ، والصواب أن يكون : «أخاه المؤمن» ، كما سمّاهم في الآية.

(٢) هذه الجملة الأخيرة من زيادة الشيخ هود الهوّاريّ.

(٣) لم أجده فيما بين يديّ من مصادر الحديث. ولم يورده ابن الحنبليّ في كتابه أقيسة النبيّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) كذا في ق : «فيعمد» ، وفي ع : «فيعتل» ، وأنا غير مطمئنّ للكلمتين معا ، وإن كان المعنى العامّ واضحا يفسّره ـ

١٧٣

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : شرّ الناس ذو الوجهين ، الذي يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه (١).

قال : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) : ذكر الحسن قال : لا يقول الرجل لرجل قد كان يهوديّا أو نصرانيّا فأسلم : يا يهودي ، ولا يا نصراني ، يدعوه باسمه الأوّل ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك.

قال تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) : أي بئس الاسم اليهوديّة والنصرانيّة بعد الإيمان.

وقال مجاهد : لا يدعى الرجل بالكفر وهو مسلم. قال الحسن في تفسيرها : لا تقل لأخيك : يا فاسق. ذكروا أنّ عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لعن المؤمن كقتله ، والشهادة عليه بالكفر كقتله (٢).

ذكروا عن العلاء بن زياد قال : ما يضرّك أشهدت على مؤمن بالكفر أم قتلته.

ذكروا عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من مسلمين إلّا وبينهما من الله ستر. فإن قال أحدهما كلمة هجر فقد خرق ستر الله ، فإن قال أحدهما لصاحبه : يا كافر ، فقد وقع الكفر على أحدهما (٣).

ذكروا عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما (٤).

__________________

ـ الحديث التالي.

(١) حديث صحيح أخرجه مالك في الموطّأ ، وأخرجه البخاريّ في الأدب ، باب ما ينهى عن السباب واللعن. وأخرجه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب ، باب ذمّ الوجهين وتحريم فعله (رقم ٢٥٢٦) كلّهم يرويه من حديث أبي هريرة.

(٢) حديث صحيح أخرجه البخاريّ في كتاب الأدب ، باب ما ينهى عن السباب واللعن عن ثابت بن الضحّاك ، وأخرجه الطبرانيّ عن عمران بن حصين.

(٣) أخرجه البيهقيّ عن عبد الله مرفوعا ، وليس فيه الجملة الأخيرة.

(٤) حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب الأدب ، باب من كفّر أخاه بغير تأويل فهو كما قال ، من طريقين : عن أبي هريرة وعن ابن عمر. وأخرجه مسلم من طريقين عن ابن عمر ، في كتاب الإيمان ، ـ

١٧٤

ذكروا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في الرجل يقول للرجل : يا فاسق ، يا فاجر ، يا خبيث ، قال : فواحش تجرّ (١) عقوبة ، ولا تعودوا لمثلهنّ فتعوّدوهنّ.

قال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١١) : أي : ظلم نفاق ، وليس ظلم شرك ، وهو ظلم دون ظلم ، وظلم فوق ظلم.

وقال الكلبيّ : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي : لا يطعن بعضكم بعضا.

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) : تفسير الحسن : إذا ظننت بأخيك المسلم ظنّا حسنا فأنت مأجور ، وإذا ظننت به ظنّ سوء فأنت آثم. ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إيّاكم والظنّ فإنّه أكذب الحديث ، ولا تجسّسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا (٢).

قوله : (وَلا تَجَسَّسُوا) : أي لا يتبع الرجل عورة أخيه المسلم.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج يوما فنادى بصوت أسمع العواتق في الخدور : يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه ، لا تؤذوا المؤمنين ، ولا تتبعوا عوراتهم فإنّه من يتبع عورة أخي المسلم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته (٣).

ذكروا أنّ رجلا قال لعمر بن الخطّاب : إنّ فلانا يشرب الخمر. قال : إذا رأيته قد قعد عليها فآذنّي. فأتاه يوما فأخبره. فانطلق عمر إلى الرجل ؛ قال : فوافق الرجل قد جمع القلل. فلمّا رأى عمر

__________________

ـ باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم : يا كافر (رقم ٦٠).

(١) في ق وع : «قهر» (كذا) وفيها تصحيف ، وصواب الكلمة ما أثبتّه إن شاء الله : «تجرّ».

(٢) حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه الربيع بن حبيب في صحيحه في جامع الآداب (رقم ٦٩٨). وأخرجه مالك في الموطّأ في كتاب الجامع ، ما جاء في المهاجرة ، وأخرجه البخاريّ في الأدب ، باب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ). وأخرجه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب ، باب تحريم الظنّ والتجسّس والتنافس والتناجش ونحوها (رقم ٢٥٦٣) كلّهم يرويه عن أبي هريرة.

(٣) حديث حسن رواه الترمذيّ في أبواب البرّ والصلة ، باب ما جاء في تعظيم المؤمن ، عن ابن عمر ، بلفظ : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه». وزاد الترمذيّ : «وقد روي عن ابن برزة الأسلميّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو هذا».

١٧٥

واراها. فقال له عمر : يا فلان ، أنت بهذا؟ فقال له الرجل : وأنت بهذا؟ أمرك الله أن تجسّسني؟ فخرج عمر وتركه (١).

ذكروا عن محمّد بن سيرين أنّ سلمان جاء ومعه حذيفة وأبو قرّة (٢) ـ رجل من أصحاب النبيّ عليه‌السلام ـ إلى منزله ليدخلهم ، فاستفتح الباب ، فجاءت جارية فنظرت ، ثمّ ذهبت ، ثمّ رجعت ففتحت الباب ، فقالت : ادخلوا ، فقالا : أعهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أو هو خير من التجسّس (٣). ذكروا أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بلغه أنّ رجلا شرب الشراب فكتب إليه : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان : (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) [غافر : ١ ـ ٣]. فلمّا جاءه الكتاب جعل يقرأ ويتفكّر فيه حتّى بكى. فبلغ ذلك عمر فقال : هكذا فاصنعوا ؛ إذا رأيتم بأخ لكم عثرة فسدّدوه.

قوله : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في حديث الإسراء أتى على قوم يقطع من لحومهم فيجوزونها بدمائهم فيمضغونها ، ولهم خوار. قال : فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ فقال : هؤلاء الهمّازون اللمّازون ؛ ثمّ تلا هذه الآية : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ، أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) أي : بعد ما يموت. فقالوا : لا والله يا رسول الله ، ما نستطيع أكله ولا نحبّه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فاكرهوا الغيبة (٤) : قال مجاهد : قالوا : نكره ذلك. قال : فاتّقوا الله [في الغيبة] (٥).

__________________

(١) انظر هذا الخبر مفصّلا وآخر مثله في الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ٩٣ ، ففيهما من فقه عمر وسيرته موعظة وذكرى.

(٢) كذا ورد ذكر هذا الصحابيّ بكنيته ورسم هكذا في ع : «أبو أقرة» ، وفي ق بياض. ولم أوفّق لتحقيق اسم هذا الصحابيّ ، فهل هو أبو فروة حدير الأسلميّ ، وقد ترجم له ابن عبد البرّ في الاستيعاب أو غيره؟ ولم أجد هذا الخبر في بعض كتب التفسير والحديث.

(٣) كذا في ق ، وفي ع : «فقالا : أعهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو هو خير من التجسّس».

(٤) لم أجده بهذا اللفظ وإن ورد بمعناه.

(٥) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٦٠٨.

١٧٦

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا ذكرت أخاك بما فيه فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه (١).

ذكروا أنّ رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الغيبة فقال : أن تذكره بما فيه. فقال الرجل : إنّما أحسب الغيبة أن يذكر بما ليس فيه ، قال : ذلك البهتان.

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الغيبة أن تذكر أخاك بسوء شيء تعلمه فيه.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله ، وشراركم المشّاءون بالنميمة (٢).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتدرون ما العضه (٣). قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : حمل الحديث من بعض إلى بعض ليستفسدوا بينهم (٤). ذكروا عن الحسن أنّ رجلا قال : يا أبا سعيد ، الرجل لا يعرف المال ، ثمّ يرى بعد في يده المال ، فيقول رجل : من أين لفلان هذا المال؟ قال : إن علم أنّه يكره ذلك فلا يقوله.

وقال بعضهم : كانوا لا يرون الغيبة إلّا أن يسمّى صاحبها.

قال عزوجل : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (١٢) : والتوبة من قبل الله. قال تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١١٨) [التوبة : ١١٨].

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب ، باب تحريم الغيبة ، عن أبي هريرة (رقم ٥٨٩) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الأدب ، باب في الغيبة (رقم ٤٨٧٤) ، كما أخرجه الترمذيّ وابن جرير الطبريّ وغيرهم.

(٢) لم أجده بهذا اللفظ فيما بين يديّ من المصادر.

(٣) العضه : القالة القبيحة ، وهي الإفك والبهتان والنميمة. ورويت الكلمة في بعض كتب الحديث واللغة بالتاء : العضة. انظر اللسان (عضه).

(٤) حديث صحيح. أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب ، باب تحريم النميمة (رقم ٢٦٠٦) بلفظ : «ألا أنبّئكم ما العضه؟ هي النميمة ، القالة بين الناس». وأخرجه الدارميّ والبيهقيّ كلّهم يرويه من طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٧٧

لِتَعارَفُوا) : تفسير الحسن : الشعوب بنو الأب ، والقبائل فوق ذلك. وربّما اتّفق الاسمان واختلفت القبيلتان فعرف الرجل.

وتفسير مجاهد : الشعوب : النسب البعيد ، والقبائل دون ذلك.

(لِتَعارَفُوا) أي : إنّ فلانا ابن فلان من كذا وكذا. وتفسير الكلبيّ : القبائل المرتفعة الناس : تميم ، وبكر ، وأسد ، وقيس ؛ والقبائل دون ذلك ، نحو نهشل وبني عبد الله بن حازم ، ونحو ذلك. (لِتَعارَفُوا) : أي بالشعوب والقبائل.

وبعضهم يقول : الشعوب : الأجناس ، والقبائل قبائل العرب.

قال تعالى : (لِتَعارَفُوا). ثمّ انقطع الكلام ، ثمّ قال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١٣).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الكرم التقوى والحسب المال (١).

ذكر الحسن أنّ أبا ذرّ كان بينه وبين رجل كلام ، قال : وكانت له أمّ إذا ذكرت لم يشاتم ، فذكرها أبو ذرّ ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا أبا ذرّ ، أعبت فلانا بأمّه؟ انظر إلى من حولك من أبيض وأحمر وأسود ، فما لك على أحد منهم فضل إلّا أن تفضله بتقوى الله.

قوله عزوجل : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) : يعني المنافقين من الأعراب. قال مجاهد : أعراب بني أسد بن خزيمة. قال الله عزوجل : (قُلْ) يا محمّد (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) : أي : أقررنا.

قال تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) : أي الإيمان بما أقررتم به من الأعمال التي لا يكون الإيمان إلّا بها. أي : إنّ الإيمان قول وعمل. فلا يكونون مؤمنين حتّى يستكملوها.

قال : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي في كلّ ما تعبّدكم به ، أي : من قول وعمل فتستكملوا فرائضه في القول والعمل (لا يَلِتْكُمْ) : أي لا ينقصكم (٢) (مِنْ أَعْمالِكُمْ) التي

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في كتاب التفسير ، سورة الحجرات عن سمرة بن جندب ، وقال الترمذيّ : «حديث حسن غريب صحيح». وأخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد ، باب الورع والتقوى (رقم ٤٢١٩).

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٢١ : (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) أي لا ينقصكم. لا يحبس وهو من ـ

١٧٨

هي إيمان وإسلام (شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤).

قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي الذين صدّقوا الله وصدّقوا رسوله في كلّ ما تعبّدهم به من قول وعمل (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) : أي لم يشكّوا (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ) : أي الذين هذه صفتهم (هُمُ الصَّادِقُونَ) (١٥) : أي المستكملو فرائض الله ، الموفون بها ، فهم المؤمنون ؛ أي : ليسوا كالمنافقين الذين أقرّوا بالله بألسنتهم وخالفوا النبيّ والمؤمنين في أعمالهم.

قوله عزوجل : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) : أي إنّ دينكم الذين عليه عقدكم (١) ترك الوفاء والتضييع والخيانة. قال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٦).

قوله عزوجل : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) : أي بأن هداكم للإيمان (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٧) : أي إن كنتم مؤمنين. أي : إنّكم لستم بصادقين ولستم بمؤمنين حتّى تستكملوا القول والعمل جميعا. كقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا ولم يعملوا (اتَّقُوا اللهَ) أي : اخشوا الله (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩) [التوبة : ١١٩] أي : أهل الوفاء والاستكمال لفرائض الله الذين صدقوا بالقول والعمل ، وهم المؤمنون أهل الصدق والوفاء (٢).

__________________

ـ ألت يألت ، وقوم يقولون : لات يليت ...». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ : (لا يَلِتْكُمْ) لا ينقصكم ، ولا يظلمكم من أعمالكم شيئا وهي من لات يليت ، والفرّاء مجمعون عليها. وقد قرأ بعضهم : (لا يَلِتْكُمْ) ، ولست أشتهيها ، لأنّها بغير ألف كتبت في المصاحف ...». انظر في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٧٤ تفصيلا لوجه ترجيح أصل الكلمة ، وكأنّه ردّ صريح على أبي عبيدة. والحقّ أنّ حجّة الفرّاء أبلغ في الموضوع ، وإن لم يكن على قراءة الكلمة إجماع كما قال ، فقد قرأ أبو عمرو والحسن وبعضهم : (يألتكم) وانظر : الداني ، كتاب التيسير ، ص ٢٠٢. وانظر : ابن خالويه ، الحجّة ، ص ٣٠٤.

(١) كذا في ق وع : «عقدكم».

(٢) كذا في ق وع ، وهو من تأويل الشيخ هود ولا شكّ. فقد جاء في ز ، ورقة ٣٣٤ ما يلي : «قال الحسن : هم مؤمنون وليسوا بمنافقين ، ولكنّهم كانوا يقولون لرسول الله : أسلمنا قبل أن يسلم بنو فلان ، وقاتلنا معك قبل أن يقاتل بنو فلان. فأنزل الله : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ ، أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ).

١٧٩

وقال الكلبيّ : هم المنافقون ، وكانوا يكثرون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ يوم ويقولون : أتيناك يا رسول الله بالذراري والأموال مسلمين ، وإنّما يأتيك من يأتيك على رحالهم ، فلنا عليك حقّ بإسلامنا وإقبالنا عليك بالذراري ، وأكثروا في ذلك وقال تعالى : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ ، أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). كانوا يحلفون بالله إنّهم لمؤمنون وليسوا بمؤمنين. قال الكلبيّ : وهي متّصلة بالقصّة الأولى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ..). إلى قوله : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ).

قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : كقوله : (يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النمل : ٢٥] أي : يعلم السرّ في السماوات والأرض. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨).

* * *

١٨٠