تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

(إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (٢٩) : وهم أهل نصيبين (١).

ذكر بعضهم أنّ جنّ نصيبين أتوا النبيّ عليه‌السلام فقرأ عليهم القرآن ؛ فقالوا : يا رسول الله زوّدنا ، فقال : كلّ روثة لكم خضرة ، وكلّ عظم لكم عرق. فقالوا : يا رسول الله : إنّ أمّتك ينجّسونه علينا. فنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستنجى بعظم أو روثة (٢).

ذكروا عن صالح مولى التوأمة عن ابن عبّاس وعن ابن مسعود أنّ جنّ نصيبين لّما قرأ عليهم النبيّ عليه‌السلام القرآن فأرادوا أن يرجعوا زوّدهم الروث والعظام ، لا يأتون على شيء منه إلّا وجدوه لحما وتمرا.

ذكروا عن عون بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن مسعود قال : خرجنا حاجّين ومعتمرين ، حتّى إذا كنّا بالطريق هاجت ريح فارتفعت عجاجة من الأرض حتّى إذا كانت على رءوسنا انكشفت عن حيّة بيضاء (٣) ، فنزلنا ، وتخلّف صفوان بن المعطّل ، فأبصرها. فصبّ عليها من مطهرته (٤) ، وأخرج خرقة من عيبته فكفنها فيه ، ثمّ دفنها ، ثمّ اتّبعنا ، فإذا بنسوة قد جئن عند العشاء ، فسلّمن ثمّ قلن : أيّكم دفن عمرو بن جابر ، فقلنا : والله ما نعرف عمرو بن جابر.

فقال صفوان بن المعطّل : أبصرت جانّا أبيض فدفنته (٥). قلن : ذلك والله عمرو بن جابر ، بقيّة من استمع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قراءة القرآن من الجنّ ؛ التقى زحفان من الجنّ ، زحف من

__________________

(١) ذكرها ياقوت في معجم البلدان ، ج ٥ ص ٢٨٨ ـ ٢٨٩ وأطنب في وصفها والحديث عنها فقال : هي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة ، على جادة القوافل من الموصل إلى الشام ، وفيها وفي قراها على ما يذكر أهلها أربعون ألف بستان ، بينها وبين سنجار سبعة فراسخ ، وبينها وبين الموصل ستّة أيّام».

(٢) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجنّ ، (رقم ٤٥٠) من حديث ابن مسعود ، وفيه : «لكم كلّ عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكلّ بعرة علف لدوابّكم». وأخرجه أحمد وغيرهما من طرق عدّة. انظر هذا كلّه في تفسير ابن كثير ، ج ٦ ص ٢٩٠ ـ ٣٠٦.

(٣) كذا في ق وع : «انكشفت عن حيّة بيضاء» ، وفي ز ، ورقة ٣٢٥ : «تكشّفت عن جانّ بيضاء ، يعني حيّة».

(٤) المطهرة : كلّ إناء يتطهّر به ويتوضّأ به ، وهي بفتح الميم وكسرها ، «والفتح أعلى» ، كما قال الجوهريّ.

(٥) كذا في ق وع : وفي ز ، ورقة ٣٢٥ : «أبصرت جانّا بيضاء فدفنتها» وكلاهما صحيح. جاء الوصف في العبارة الأولى تابعا للفظ الجانّ ، وفي الثانية لمعناه ، لأنّ الجانّ هو الحيّة البيضاء.

١٤١

المسلمين وزحف من الكفّار ، فاستشهد رحمه‌الله.

ذكروا أنّ قوما نفروا إلى عبد الله بن مسعود فقالوا : بينما نحن نسير في طريق الشام إذ رفع إلينا إعصار. فلمّا انتهينا إليه إذا حيّة قتيل (١) ، فنزل بعض القوم فكفنها في عمامة له ثمّ دفنها. فلمّا نزلنا وجنّ علينا الليل إذا بامرأتين قد جاءتا ، فسلّمتا علينا ، ثمّ قالتا : أيّكم دفن عمرا اليوم؟ قلنا : ما دفنّا رجلا. قالتا : بلى ، الحيّة القتيل. قلنا : نعم. قالتا : فإن كنتم إنّما نويتم الآخرة والأجر فقد أصبتم. إن فسقة الجنّ ومسلميهم اقتتلوا اليوم فقتل فيهم ، والله إنّه لأحد النفر الذين استمعوا القرآن عند محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (منذرين) أي : أنذروا قومهم.

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) : كانوا على اليهوديّة قبل أن يسلموا. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) : أي من الكتاب.

(يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٠) : أي إلى دين مستقيم ، وهو الطريق المستقيم إلى الجنّة.

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) : يعنون النبيّ عليه‌السلام (وَآمِنُوا بِهِ) : أي وصدّقوا به (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) : أي ذنوبكم كلّها (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٣١).

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ) : أي النبيّ عليه‌السلام (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) : أي فليس بالذي يسبق الله حتّى لا يبعثه ثمّ يعذبه. (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) : أي يمنعونه من عذاب الله. قال : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٢) : أي بيّن ، يعني من لا يجيب داعي الله. أي لا يؤمن.

قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) : كقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٣٨) [سورة ق : ٣٨] أي من عياء. وذلك أنّ اليهود أعداء الله قالت : إنّه لمّا فرغ من خلق السماوات

__________________

(١) كذا في النسخ كلّها : «حية قتيل» ، وهي عربيّة عريقة. قال ابن السكيت : «إذا كان (فعيل) نعتا لمؤنّث وهو في تأويل مفعول ، كان بغير هاء». انظر ابن السكيت ، إصلاح المنطق ، ص ٣٤٣.

١٤٢

والأرض عيي فاستلقى فوضع إحدى رجليه على الأخرى فاستراح ، فأنزل الله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) أي : من شمس وقمر ونجوم وسحاب ومطر وريح وليل ونهار وماء ومدر وحجر ، وكلّ ما بينهما ممّا يرى وممّا لا يرى (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ). قال : (بِقادِرٍ) على أن يخلق مثلهم وبقادر (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٣).

قوله : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) : أي يقال لهم هذا ، في تفسير الحسن ، يقال لهم هذا وهم في النار. أليس هذا بالحقّ الذي كنتم توعدون في الدنيا.

(قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٤).

قوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) : قال بعضهم : أولو العزم من الرسل خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم‌السلام. يقول : اصبر يا محمّد كما صبروا هم جميعا. وأولوا العزم في تفسير الحسن : أولو الصبر. وبعضهم يقول : أولو الحزم. وتفسير الكلبيّ : يعني من أمر بالقتال من الرسل.

قال : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) : يعني المشركين ؛ لا تستعجل لهم بالعذاب.

كقوله : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧) [الطارق : ١٧]. وهذا وعيد لهم.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) : يعني العذاب (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ) : تفسير الحسن : في هذا الذي وصفت من إهلاك القرون ، وفيما أخبر أنّه يهلك كفّار آخر هذه الأمّة بقيام الساعة بلاغ. وفيها إضمار : يقول : في هذا الذي أخبرت بلاغ. (فَهَلْ يُهْلَكُ) : أي بعد البلاغ (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥) : أي المشركون.

* * *

١٤٣

تفسير سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قوله عزوجل : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي سبيل الهدى ، [يعني الإسلام] (١) (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (١) : أي أحبط أعمالهم في الآخرة ، أي : ما عملوا من حسن.

قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) : أي صدّقوا بما نزّل على محمّد ، يعني القرآن (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) : أي غفرها لهم.

(وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) (٢) : أي حالهم في الدنيا ، جعلهم على الحقّ ، يصلح به حالهم في الآخرة ، أي : يدخلهم الجنّة.

قال : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) : أي إبليس ، اتّبعوا وساوسه بالذي دعاهم إليه من عبادة الأوثان.

(وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) : أي القرآن الذي جاء به محمّد عليه‌السلام (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ) : أي يبيّن للناس (أَمْثَلُهُمْ) (٣) : أي صفات أعمالهم.

قوله : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سريّة إلى حيّ فأصابوهم ، فصعد رجل منهم شجرة ملتفّة أغصانها. قال الذي حضر : قطعناها فلا شيء ، ورميناها فلا شيء. قال : فجاءوا بنار فأضرموا بها تلك الشجرة ، فخر الرجل ميّتا. فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فتغيّر وجهه تغيّرا شديدا] (٢) ثمّ قال : إنّي لم أبعث لأعذّب بعذاب الله ، ولكنّي بعثت بضرب الأعناق وشدّ الوثاق.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٢٦.

(٢) زيادة من ز ، ولم أجد هذه القصّة فيما بين يديّ من مصادر الحديث والتاريخ. وقد رواها ابن سلّام بهذا السند : «يحيى عن المسعوديّ عن القاسم بن عبد الرحمن أنّ رسول الله بعث سريّة ...».

١٤٤

ذكر الحسن عن معاذ بن جبل قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أمكنك الله من فلان فأحرقه بالنار. قال : فلمّا ولّيت قال : ردّوه عليّ. فرجعت ، فقال : أمرتك إن أمكنك الله من فلان أن تحرقه بالنار؟ قلت : نعم. قال : إنّي قلته وأنا غضبان ، إنّه ليس لأحد أن يعذّب بعذاب الله ، فإن قدرت فاضرب عنقه (١).

قوله عزوجل : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) : فيها تقديم ، يقول : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرّقاب حتّى تضع الحرب أوزارها ، أي حتّى ينزل عيسى بن مريم فيقتل الدّجّال ، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ، وتضع الحرب أوزارها (٢).

ذكروا عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين. ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحقّ من ناوأهم إلى يوم القيامة (٣).

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب في كراهية حرق العدوّ بالنار عن محمّد بن حمزة الأسلميّ عن أبيه (رقم ٢٦٧٣) وعن أبي هريرة (رقم ٢٦٧٤). وأخرجه البخاريّ في كتاب الجهاد والسير ، باب لا يعذّب بعذاب الله عن أبي هريرة. وقيل : إن فلانا هذا هو هبّار بن الأسود ، الذي أسلم بعد ذلك. انظر قصّته مفصّلة في مغازي الواقدي ، ج ٢ ، ص ٨٥٧ ـ ٨٥٨. وانظر : ابن حجر ، فتح الباري ، ج ٦ ص ١٤٩ ـ ١٥١. وانظر : محمّد بن الحسن الشيباني ، شرح السير الكبير ، ج ٤ ص ١٤٦٩.

(٢) حذف الشيخ هود بعد هذا خبرا رواه ابن سلّام ، كما جاء في ز ورقة ٣٢٦ ، هكذا : «يحيى عن ابن لهيعة عن أبي الزبير قال : سألت جابر بن عبد الله قلت : إذا كان عليّ إمام جائر فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا؟ ليس بي حبّه ولا مظاهرته. قال : قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم ، وعلى الإمام ما حمّل وعليك ما حمّلت». وحذف بعده أيضا حديثا رواه ابن سلّام بالسند التالي : «يحيى عن عمّار الدهني عن جسر المصيصي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بني الإسلام على ثلاث : الجهاد ماض منذ بعث الله نبيّه إلى آخر فئة من المصلّين تكون هي التي تقاتل الدجّال لا ينقضه جور من جار ، والكفّ عن أهل لا إله إلّا الله أن تكفّروهم بذنب ، والمقادير خيرها وشرّها من الله». وكأنّي بالشيخ هود قد أسقط هذا الحديث لما قد يفهم منه من معنى الإرجاء.

(٣) حديث صحيح أخرجه أحمد والشيخان ؛ أخرجه البخاريّ في كتاب العلم ، باب من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خالفهم ، (رقم ١٠٣٧) كلاهما يرويه عن معاوية وهو على المنبر ، وأخرجه أيضا مسلم في ـ

١٤٥

وتفسير الحسن : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي : ذنوبها ، أي : شركها (١).

يريد قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة : ١٩٣] أي : حتّى لا يكون شرك. هذا في مشركي العرب. وأمّا أهل الكتاب فإذا أقرّوا بالجزية قبلت منهم وكفّ عنهم القتال. كذلك جميع المشركين إلّا مشركي العرب ، إلّا من كان دخل في أهل الكتاب منهم قبل أن يؤمر بقتال أهل الكتاب ، حتّى يسلموا أو يقرّوا بالجزية.

قال : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) وهذا في الأسرى. (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً). لم يكن لهم حين نزلت هذه الآية إذا أخذوا أسيرا إلّا أن يفادوه أو يمنّوا عليه فيرسلوه. وهي منسوخة ؛ نسختها : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي : عظ بهم من سواهم (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٥٧) [الأنفال : ٥٧]. فإن شاء الإمام قتل الأسارى ، وإن شاء جعلهم غنيمة ، وإن شاء أفدى. وأمّا المنّ بغير فداء فليس له ذلك. قال بعضهم : لا ينتقم منهم له.

قال : (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) : يعني بغير قتال ؛ يبتلي به المؤمنين والنبيّ عليه‌السلام (٢). قال : (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) : أي يبتلي بعضكم ببعض.

قال : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا) : وهي تقرأ على وجه آخر : (قاتلوا) (فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٤) : أي فلن يحبط أعمالهم. (سَيَهْدِيهِمْ) : تفسير الحسن : يحقّق لهم الهدى (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٥) : وهي مثل الأولى. (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٦) (٣). تفسير مجاهد : إنّهم

__________________

ـ نفس الباب مختصرا من حديث ثوبان (رقم ١٩٢٠) ومن حديث جابر بن عبد الله (رقم ١٩٢٣).

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٥٧ : «وقوله : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) : آثامها وشركها حتّى لا يبقى إلّا مسلم أو مسالم. والهاء التي في (أوزارها) تكون للحرب وأنت تعني : أوزار أهلها ...». وقال ابن أبي زمنين : «المعنى حتّى يضع أهل الحرب السلاح. وهو الذي ذهب إليه مجاهد. وأصل الوزر ما حملته ، فسمّي السلاح أوزارا لأنّه يحمل. قال الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

وانظر اللسان (وزر).

(٢) وقيل : «بملائكة غيركم». وقال قتادة : (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي : والله بجنوده الكثيرة ، كلّ خلقه له جند ، ولو سلّط أضعف خلقه لكان جندا».

(٣) قيل : إنّ هذه الآية نزلت في أهل أحد ، كما رواه الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٦ ص ٤٣ ـ ٤٤ عن قتادة.

١٤٦

يعرفون منازلهم في الجنّة إذا جاءوا إلى الجنّة. وتفسير الحسن : يعرفون الجنّة بالصفة التي وصفها الله لهم في الدنيا.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) : أي نصرهم النبيّ ودينه نصر لله (يَنْصُرْكُمْ) الله (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٧).

قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) : تفسير الحسن : إنّ التعس شتم من الله لهم ، وهي كلمة عربيّة (١). (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٨) : أي أحبط ما كان منها حسنا في الآخرة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) : أي القرآن (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٩).

قوله عزوجل : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) : أي أهلكهم الله.

(وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (١٠) : يعني عاقبة الذين من قبلهم. أي الذين تقوم عليهم الساعة ، كفّار آخر هذه الأمّة ، يهلكون بالنفخة الأولى.

قال الله عزوجل : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) : أي وليّهم (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (١١) : أي لا وليّ لهم إلّا الشيطان ، فإنّه وليّهم.

وأمّا قوله : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢] فمعناه مالكهم ، وليس هو من باب ولاية الله للمؤمنين. وقال : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢٥٧].

قال : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : أي : أنهار الجنّة تجري في غير خدود : الماء والعسل واللبن والخمر ، وهو أبيض كلّه ؛ فطينة النهر مسك أذفر ، ورضراضه الدرّ والياقوت ، وحافاته قباب اللؤلؤ.

قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) : أي في الدنيا (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) وهي غافلة عن الآخرة. قال : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (١٢) : أي منزل للذين كفروا.

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٥٨ : «كأنّه قال : فأتعسهم الله وأضلّ أعمالهم ؛ لأنّ الدعاء قد يجري مجرى الأمر والنهي ، ألا ترى أنّ (أضلّ) فعل ، وأنّها مردودة على التعس ، وهو اسم لأنّ فيه معنى أتعسهم ، وكذلك قوله : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا) مردودة على أمر مضمر ناصب لضرب الرقاب».

١٤٧

ذكروا عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء (١).

قوله عزوجل : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) : أي وكم من قرية (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً) : أي أهلها كانوا أشدّ قوّة (مِنْ قَرْيَتِكَ) : أي من أهل قريتك.

(الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) : يعني مكّة ، أخرجك أهلها (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (١٣) : أي يمنعهم منّا.

قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٤) وهذا المشرك ، أي : ليسوا بسواء (٢).

قوله عزوجل : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) : أي مثل صفة الجنّة (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) : أي غير متغيّر (٣).

(وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) : أي لم يخرج من ضروع المواشي فيتغيّر. (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) : أي لم يعصره الرجال بأقدامهم (٤).

(لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) : أي لم يخرج من بطون النحل. ذكروا عن كعب أنّه قال : دجلة في الجنّة لبن أغزر ما يكون من الأنهار التي سمّى الله ، والفرات خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمّى الله ، والنيل عسل أغزر ما يكون من الأنهار التي سمّى الله ، وجيحان

__________________

(١) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٣ من سورة الحجر.

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٥٩ بعد ذكر الآية : «ولم يقل : واتّبع هواه ، وذلك أن (من) تكون معنى واحد وجميع ، فردّت أهواؤهم على المعنى. ومثله : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) [الأنبياء : ٨٢] ، وفي موضع آخر : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام : ٢٥] ، وفي موضع آخر : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢].

(٣) يقال : أسن الماء ، يأسن ويأسن أسونا ، وأسن يأسن أسنا ، إذا تغيّرت رائحته. وأسن الرجل أسنا إذا دخل البئر فأصابه دوار وغشي عليه من خبث ريح البئر. اللسان : (أسن).

(٤) وكانوا إلى عهد قريب يعصرون الخمر بأقدامهم ، يدوسون العنب لاستخراج الخمر ، وذلك قبل أن تخترع آلات العصر المستحدثة.

١٤٨

ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمّى الله. ذكروا أنّ أربعة أنهار من الجنّة : سيحون (١) وجيحون (٢) والنيل والفرات. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر في حديث ليلة أسري به قال : ثمّ رفعت لنا سدرة المنتهى ، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، ونبقها مثل قلال هجر. وإذا أربعة أنهار يخرجون من أصلها : نهران باطنان ، ونهران ظاهران. قلت : يا جبريل : ما هذه الأنهار؟ قال : أمّا الباطنان فنهران في الجنّة ، وأمّا الظاهران فالنيل والفرات.

قوله : (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) : تفسير الحسن : ما يعرفونها في الدنيا وما لا يعرفون. وتفسير بعضهم في قوله : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) [البقرة : ٢٥] أي : في الدنيا ، يعرفونه باسمه.

قال بعضهم : أهبط الله من الجنّة إلى الأرض ثلاثين ثمرة ؛ عشرة يؤكل داخلها ولا يؤكل خارجها ، وعشرة يؤكل خارجها ولا يؤكل داخلها ، وعشرة يؤكل داخلها وخارجها.

قال : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١٥) : وهذا على الاستفهام. يقول : أهؤلاء المتّقون الذين وعدوا الجنّة فيها ما وصف الله ، كمن هو خالد في النار كما وصف الله ، أي : ليسوا سواء.

قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) : يعني المنافقين (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) : كانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمعون حديثه من غير حسبة (٣) ولا يفقهون حديثه ، فإذا خرجوا من عنده قالوا للذين أوتوا العلم ، قالوا لعبد الله [بن مسعود] (٤) : ماذا قال محمّد آنفا ، لم يفقهوا ما قال النبيّ عليه‌السلام. قال الله للنبيّعليه‌السلام :

__________________

(١) سيحون : نهر كبير يوجد فيما وراء النهر بعد سمرقند ، وهو يجمد في الشتاء.

(٢) جيحون ، واسمه الحالي : أموداريا ، من الأنهار الكبرى في آسيا. يأخذ منابعه من نواحي بامير الهند ، ثمّ يجتاز آسيا حتّى ينصبّ في بحيرة خوارزم (بحيرة آرال حاليا). وطول النهر حوالي ألفين وستّمائة كيلومتر. وقد وصفه ياقوت الحمويّ في معجمه ، ج ٢ ص ١٩٦ ، وصفا بديعا ، وخاصّة عند سورة البرد وتجمّد النهر.

(٣) في ق وع : «من غير خشية» ، وأثبتّ ما جاء في ز ، ورقة ٣٢٧ فهو أصحّ : «حسبة» أي : من غير أن يحتسبوا ثواب استماعهم عند الله.

(٤) زيادة من ز ، وجاء في بعض التفاسير أنّه عبد الله بن عبّاس. وقد روى الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٦ ص ٥١ خبرا جاء فيه ما يلي : «قال ابن عبّاس : أنا منهم ، وقد سئلت فيمن سئل». وأرى أنّ الآية عامّة تشمل كلّ ـ

١٤٩

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٦).

قال الله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧) : أي كلّما جاءهم من عند الله شيء صدّقوه فزادهم ذلك هدى (وَآتاهُمْ) أي أعطاهم (تَقْواهُمْ) أي جعلهم متّقين.

قوله : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) : [أي : فما ينتظرون] (١) (إِلَّا السَّاعَةَ) : أي النفخة الأولى التي يهلك الله بها كفّار آخر هذه الأمّة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) : أي فجأة (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) (٢).

كان النبيّ عليه‌السلام من أشراطها ، وكان انشقاق القمر من أشراطها ، ورمي الشياطين بالنجوم من أشراطها ، وأشراطها كثيرة (٣).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّما مثلي ومثل الساعة كهاتين ، فما فضل إحداهما على الأخرى ، فجمع بين أصبعيه الوسطى والسبّابة (٤).

وذكر بعضهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أشراط الساعة موت الفجاءة ، وأن يرى الهلال ليلته كأنه لليلتين ، وأن تكلّم الذئاب.

وقال بعضهم : من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أشراط الساعة أن يظهر العلم ، ويفيض المال ، وتكثر التجّار. ومن أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما نعالهم الشعر. ومن أشراط الساعة أن

__________________

ـ من أوتي العلم من الصحابة رضي الله عنهم.

(١) زيادة من ز ، وقد ورد النظر بمعنى الانتظار كثيرا في القرآن ، منها قوله تعالى : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] أي غير منتظرين. وقوله : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٥].

(٢) الأشراط : جمع شرط ، بفتح الراء ، وهي العلامات والأمارات. قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ، ص ٢١٥ : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) : أعلامها ، وإنّما سمّي الشرط فيما نرى لأنّهم أعلموا أنفسهم ، وأشراط المال صغار الغنم وشراره ...».

(٣) الأحاديث التي صحّت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أشراط الساعة كثيرة جمعها أصحاب السنن. انظر صحيح البخاريّ ، كتاب الفتن ، وصحيح مسلم ، كتاب الفتن وأشراط الساعة. وانظر السيوطي : الدر المنثور ، ج ٦ ص ٥٠ ـ ٦٢.

(٤) انظر ما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية الأولى من سورة الأنبياء.

١٥٠

تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجانّ المطرقة. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من أشراط الساعة أن يرى رعاء الشاء على رءوس الناس ، وأن يرى الحفاة العراة الجوّع يتبارون في البنيان ، وأن تلد الأمة ربّها وربّتها. ذكروا عن أبي عمران الجوني (١) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حين بعث إليّ بعث إلى صاحب الصور ، فأهوى به إلى فيه ، وقدّم رجلا وأخّر أخرى ينتظر متى يؤمر فينفخ ؛ ألا فاتّقوا النفخة. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج يوما على أصحابه فقال : كيف بكم وصاحب القرن قد حنى جبهته وأصغى بسمعه ينتظر متى يؤمر فينفخ فيه.

قال : (فَأَنَّى لَهُمْ) : أي فكيف لهم. (إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (١٨) : أي فكيف لهم التوبة إذا جاءتهم الساعة ، إنّها لا تقبل منهم.

قال : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) : أي في الدنيا.

(وَمَثْواكُمْ) (١٩) : إذا صرتم إليه. والمثوى المنزل الذي يثوون فيه ، أي : لا يزولون عنه.

قوله عزوجل : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا) : أي : هلّا (نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) : والمحكمة المفروضة (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) : وهي كلّ سورة فرض فيها القتال ، أي أمر به (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : يعني المنافقين (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) : أي : خوفا منه وكراهية للقتال. كقوله : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون : ٤].

قال : (فَأَوْلى لَهُمْ) (٢٠) : وهذا وعيد من الله لهم. ثمّ انقطع الكلام ، ثمّ قال : (طاعَةٌ) : أي طاعة لله ورسوله (وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) : أي خير لهم ممّا هم عليه من النفاق.

قال : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) : أي بالجهاد في سبيل الله (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) : فكان عزمهم في الجهاد صدقا (٢) (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) (٢١) : يعني به المنافقين.

__________________

(١) جاء هذا الاسم في ع هكذا : «عن أبي عمران الحولي» ، وجاء في ق هكذا : «أبي صمران الحوا» ؛ والتصحيح من ز ورقة ٢٢٨.

(٢) كذا في ق وع ، وفي ز ورقة ٣٢٦ : «فلو صدقوا الله فكان باطن أمرهم وظاهره صدقا».

١٥١

قال : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) : يعيبهم (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الجهاد في سبيل الله (١) (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢٢) : أي تقتلوا قرابتكم.

قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ) : عن الهدى (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٢٣) عنه.

قال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤) : أي إنّ على قلوب أقفالها ، وهو الطبع الذي طبع الله على قلوبهم بكفرهم.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) : أي من بعد ما أقرّوا بالإيمان وقامت عليهم الحجّة بالنبيّ والقرآن ، يعني المنافقين (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) : [أي : زيّن لهم] (٢) (وَأَمْلى لَهُمْ) (٢٥) : تفسير الحسن : وسوس إليهم أنّكم تعيشون في الدنيا بغير عذاب ، ثمّ تموتون وتصيرون إلى غير عذاب.

قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) : أي قال المنافقون للمشركين (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) : أي : سنعتلّ بعلل يقبلها منّا [المؤمنون] (٣) فنتخلّف عن قتالكم فلا نقاتلكم ، فاتّفقوا على ذلك في السرّ ؛ كقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) أي : إلى قادتهم ورؤسائهم (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي : في المودّة والهوى (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (١٤) [البقرة : ١٤] أي : مخادعون. قال بعضهم : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي في الشرك ، وافقوهم على الشرك في السّرّ.

قال : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) (٢٦) (٤).

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ ، إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عمّا في قلوبكم من النفاق حتّى تظهروه شركا. قال محمّد : قرأ نافع (عسيتم) بكسر السين ، وقرأ غير واحد من القراء بالفتح ، وهي أعلى اللغتين وأفصحهما. ذكره أبو عبيد». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٦٣ : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ ..). إن تولّيتم أمور الناس أن تفسدوا في الأرض ...».

(٢) زيادة من ز.

(٣) زيادة لا بدّ منها يقتضيها سياق الكلام.

(٤) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٦٣ : «قرأها الناس : (إِسْرارَهُمْ) ، جمع سرّ. وقرأها يحيى بن وثاب وحده : ـ

١٥٢

قال : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٢٧) : [تفسير الحسن : (تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) حشرتهم إلى النار (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) في النار] (١).

قال الله عزوجل : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٢٨) : أي في الآخرة (٢).

قال الله عزوجل : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : وهم المنافقون ومرضهم مرض النفاق (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) (٢٩) : [يعني ما يكنّون في صدورهم من الشرك] أي : أن لن يظهر الله عوراتهم للمؤمنين.

قال الله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) : أي بنعتهم ، أي من غير أن يعرفهم بلحن القول.

قال تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٣) يعني بعللهم الكاذبة وما كانوا يعتذرون به من الباطل في الغزو ، وفيما يكون منهم من القول فيجحدونه ويعتذرون ويحلفون بالله (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) [التوبة : ١٠٧]. ثمّ أخبره الله بهم ، فلم يخف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية منافق ، وأسرّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حذيفة (٤).

__________________

ـ (إِسْرارَهُمْ) بكسر الألف ، واتّبعه الأعمش وحمزة والكسائيّ ، وهو مصدر ، ومثله : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) [سورة ق : ٤٠].

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٢٦.

(٢) في ق وع : «في الأرض» ، ويبدو أنّه خطأ صوابه ما أثبتّه.

(٣) قال الفرّاء : (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ، في نحو القول وفي معنى القول» ، وقال الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٤ ص ٣٣٠ : «في نحو القول وأسلوبه». ومن معاني اللحن : الميل بالكلام إلى نحو خاصّ ليفطن له صاحبك دون غيره ، ومنه قول مالك بن أسماء بن خارجة الفزاريّ :

منطق رائع وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

وانظر مختلف معاني اللحن في اللسان (لحن).

(٤) هو أبو عبد الله حذيفة بن اليمان ، حليف لبني عبد الأشهل من الأنصار. من كبار أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يعرف فيهم بصاحب سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد ناشده عمر بن الخطّاب ذات يوم : أأنا من المنافقين؟ فقال : لا ، ولا أزكّي أحدا بعدك.

١٥٣

قال : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠) من قبل أن تعملوها.

قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) : وهذا علم الفعال (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٣١) : أي نختبركم فنعلم من يصدق منكم فيما أعطى من الإيمان ومن يكذّب ممّن لا يوفّي بما أقرّ به من العمل لله.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي عن الإسلام (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) : أي فارقوا الرسول وعادوه.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) : أي من بعد ما قامت عليهم الحجّة (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) : أي بكفرهم (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) (٣٢) : أي في الآخرة ، يعني ما كان من عمل حسن عملوه في الدنيا.

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٣٣).

ذكروا أنّ رجلا كان على عهد النبي عليه‌السلام يصوم ويصلّي ، وكان في لسانه شيء ، فقال له النبيّ عليه‌السلام : يا فلان إنّك تبني وتهدم (١).

قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣٤).

قوله عزوجل : (فَلا تَهِنُوا) : أي لا تضعفوا في الجهاد (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) : أي إلى الصلح. أي : لا تدعوا إلى الصلح (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : أي الظاهرون المنصورون ؛ يقوله للمؤمنين. وهذا الحرف يقرأ بوجه آخر : (إِلَى السَّلْمِ) ، أي : إلى الإسلام.

قال : (وَاللهُ مَعَكُمْ) : أي ناصركم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ) : أي ولن يظلمكم (أَعْمالَكُمْ) (٣٥).

قوله عزوجل : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) : أي إنّ أهل الدنيا ، يعني المشركين الذين لا يريدون غيرها أهل لعب ولهو ، سبتهم الدنيا ، وليسوا بأهل الآخرة.

__________________

(١) لم أجد هذا الحديث فيما بين يديّ من مصادر الحديث. ويعجبني هنا ما رواه الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٦ ص ٦٢ في الموضوع عن قتادة قال : «من استطاع منكم ألّا يبطل عملا صالحا عمله بعمل سيّئ فليفعل ، ولا قوّة إلّا بالله ، فإنّ الخير ينسخ الشرّ ، وإنّ الشرّ ينسخ الخير ، وإنّ ملاك الأعمال خواتيمها».

١٥٤

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر (١). (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) : أي ثوابكم (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) (٣٦) : أي إن محمّدا لا يسألكم أموالكم. (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) : بالمسألة (٢) (تَبْخَلُوا) : أي لو سألكم أموالكم لبخلتم بها. (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (٣٧) : أي عداوتكم. وهي تقرأ على وجه آخر : (وتخرج أضغانكم).

قوله عزوجل : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) : أي بالنفقة في سبيل الله ، يعني المنافق. قال الله تعالى : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ) : أي عنكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إلى الله ، يعني جماعة الناس.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) : عن الإيمان ، يعني جماعة الناس في تفسير الحسن (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) : أي خيرا منكم ، أي : أطوع منكم ، ويهلككم بالاستئصال. كقوله : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) [الواقعة : ٦٠ ـ ٦١] أي : خيرا منكم ويهلككم بالعذاب. قال الله تعالى : (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨) : يقوله للمشركين ، أي : يكونوا خيرا منكم وأطوع له منكم.

* * *

__________________

(١) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٣٢ من سورة الأنعام.

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢١٦ : «يقال أحفاني بالمسألة وألحف عليّ وألحّ. قال أبو الأسود : لن تمنع السائل الحفيّ بمثل المنع الحامس».

١٥٥

تفسير سورة الفتح ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١) : قال بعضهم : هو فتح مكّة. وقال الكلبيّ : هو فتح يوم الحديبيّة (١). ظهر فيه نبيّ الله على المشركين بعد حبس الهدي أن يبلغ محلّه ، وظهر عليهم المسلمون حتّى دخلوا دورهم وسأل المشركون الصلح. وتفسير هذا الظهور بعد هذا الموضع. وتفسير مجاهد : أنّه نحره بالحديبيّة وحلقه رأسه.

ذكروا عن أنس بن مالك أنّ هذه الآية (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢) : نزلت على النبيّ عليه‌السلام مرجعه من الحديبيّة ، وأصحابه مخالطو الحزن والكابة ، قد حيل بينهم وبين مناسكهم ، ونحروا الهدي بالحديبيّة ، فقال : لقد نزلت عليّ آية لهي أحبّ إليّ من الدنيا جميعا (٢). فتلاها عليهم رسول الله فقال رجل من القوم : هنيئا مريئا لك يا رسول الله ، لقد بيّن الله لنا ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا. فأنزل الله (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..). إلى آخر الآية.

قال الله تعالى : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣) : أي يذلّ بك أعداءك.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) : أي الطمأنينة والوقار ، في تفسير الحسن. وقال مجاهد : السكينة من أمر الله كهيئة الريح.

قال تعالى : (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) : أي يقينا مع يقينهم ، يعني تصديقا مع تصديقهم ، أي : يصدّقون بكلّ ما نزل من القرآن. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : ينتقم لبعضهم من بعض (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٤).

__________________

(١) وحديث البراء بن عازب في صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبيّة يؤيّده ؛ «قال : تعدّون أنتم الفتح فتح مكّة ، وقد كان فتح مكّة فتحا ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبيّة ...» وانظر الجمع بين هذه الأقوال في فتح الباري ، ج ٧ ص ٤٤١ ـ ٤٤٢. وسمّيت الحديبيّة كذلك باسم بئر بها ، وهي على مرحلة من مكّة وعلى تسع مراحل من المدينة ، انظر : ياقوت معجم البلدان ، ج ٢ ص ٢٢٩.

(٢) انظر ما سلف قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٩ من سورة الأحقاف ، وانظر الواحدي ، أسباب النزول ، ص ٤٠٣ ـ ٤٠٥.

١٥٦

قال : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وقد فسّرناه في الآية الأولى. قال تعالى : (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) : أي ذنوبهم (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) (٥) : وهي النجاة العظيمة من النار إلى الجنّة.

قال : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) : أي أهل الإقرار بالله وبالنبيّ عليه‌السلام من أهل التضييع والخيانة وعدم الوفاء (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) : أهل المساواة والإنكار والجحود.

(الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) (١) : وكان ظنّ المشركين أن لن يبعثوا ولن يحاسبوا ولا ثواب ولا عقاب ، وكان ظنّ المنافقين أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ؛ يقولون : إنّ محمّدا سيهلك ، ويهلك أصحابه ، ويهلك دينهم (٢).

قال الله عزوجل : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) : أي : عليهم يدور السوء والهلاك في الآخرة. (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٦) : أي وبئست المصير.

قوله عزوجل : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٧) : أي عزيزا في نقمته حكيما في أمره.

قوله عزوجل : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على أمّتك (وَمُبَشِّراً) بالجنّة (وَنَذِيراً) (٨) من النار (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) يقوله للناس (وَتُعَزِّرُوهُ) : أي وتنصروه (وَتُوَقِّرُوهُ) : أي وتعظموه ، يعني محمّدا عليه‌السلام في تفسير الكلبيّ.

وتفسير الحسن : وتعظّموه يعني الله (وَتُسَبِّحُوهُ) : أي تسبّحوا الله ، أي : تصلّوا لله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٩) : (بُكْرَةً) : صلاة الصبح ، (وَأَصِيلاً) : صلاة الظهر والعصر. وهي تقرأ على وجه آخر : (ليؤمنوا بالله ورسوله ...) إلى آخر الآية ، يقوله للنبيّعليه‌السلام : ليؤمنوا وليفعلوا وليفعلوا.

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٦٥ : «... ودائرة السّوء : العذاب ، والسّوء أفشى في اللغة وأكثر ، وقلّما تقول العرب : دائرة السّوء».

(٢) كذا في ق وع : «ويهلك دينهم» ، وفي ز : «ودينه».

١٥٧

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) : أي من بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنّما بايع الله ؛ وهذا يوم الحديبيّة ، وهي بيعة الرضوان ، بايعوه على ألّا يفرّوا.

ذكروا عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ألّا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت.

[قال بعضهم : أخبر أناس يوم بيعة رسول الله تحت الشجرة أنّ رسول الله بعث عثمان بن عفان إلى قريش بمكّة يدعوهم إلى الإسلام. فلمّا راث عليه ، أي : أبطأ عليه ، ظنّ رسول الله أنّ عثمان قد غدر به فقتل. فقال لأصحابه : إنّي لا أظنّ عثمان إلّا قد غدر به. فإن فعلوا فقد نقضوا العهد ، فبايعوني على الصبر وألّا تفرّوا] (١).

قوله : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) : أي فمن نكث حتّى يرجع كافرا أو منافقا فإنّما ينكث على نفسه (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) : أي ومن استكمل فرائض الله وعمل بها ووفّى بما عاهد عليه الله (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١٠) : أي فسنؤتيه الجنّة نثيبه بها.

قوله (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) : يعني المنافقين [المتخلّفين عن الجهاد في تفسير الحسن] (٢) (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) : أي : خفنا عليها الضيعة ، فذلك الذي منعنا أن تكون معك في الجهاد (فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) : أي يعتذرون بالباطل.

وقال الكلبيّ : لمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديبيّة تخلّف عنه عامّة الأعراب ، لم يتبعه أحد منهم ، وخافوا أن يكون قتال. فلمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبيّة وعده الله خيبر ؛ فأتوه ليعتذروا وليغزوا معه رجاء الغنيمة ، يقولون : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا ..). إلى قوله (بَلْ ظَنَنْتُمْ ، أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ ، أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٢٩ ـ ٣٣٠. وقد روى ابن سلّام هذا الخبر بسند لم يتّضح لي أسماء رواته إلّا : يحيى عن ابن لهيعة ، ولم أجد هذا الحديث بهذا اللفظ فيما بين يديّ من المصادر وإن كانت تتّفق على أنّ الرسول بايعهم على ألّا يفرّوا. وقد روي عنه أنّه قال : «لا نبرح حتّى نناجز القوم». انظر سيرة ابن هشام ، ج ٣ ص ٣١٥ ، ومغازي الواقدي ، ج ٢ ص ٦٠٣ ، فما بعدها.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٣٠. وقال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ٦٥ : «وهم أعراب أسلم وجهينة ومزينة وغفار».

١٥٨

قال الله عزوجل : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) : أي أن يهلككم بنفاقكم (١) فيدخلكم النار. (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) : أي : أن يرحمكم بالإيمان ، أي : يمنّ عليكم. وقد أخبر نبيّه بعد في غير هذه الآية أنّه لا يتوب عليهم في قوله : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) أي : وتموت أنفسهم ، أي يموتون. (وَهُمْ كافِرُونَ) (٥٥) [التوبة : ٥٥]. وقال : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [المنافقون : ٦]. قال : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١١).

قوله : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) : قد ذكرنا تفسير الكلبيّ أنّه يوم الحديبيّة. وقال الحسن : كان ذلك في غزوة تبوك. كان المنافقون يقولون : لن يرجع محمّد والمؤمنون إلى المدينة أبدا ، ويهلكون قبل أن يرجعوا ويهلك دينهم.

قال : (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) : وهو مثل قوله : (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) [الفتح : ٦] أي : ظنّوا أنّ محمّدا وأصحابه سيهلكون ويهلك دينهم. قال : (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (١٢) : أي فاسدين (٢).

قال : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي إنّهم لم يؤمنوا بالله ورسوله فيوفوا بما عاهدوا عليه ، ويكملوا فرائض الإيمان بالقول والعمل. قال : (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) (١٣) : أي فهم كفّار ، وقد اعتدنا للكافرين سعيرا. فسمّاهم كافرين إذ لم يكملوا فرضه ويوفوا بعهده في القول والعمل. وقال في آية أخرى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ..). إلى آخر الآية [الحشر : ١١]. قوله عزوجل : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) : أي إنّه لا يشاء أن يغفر إلّا لمن تاب من الشرك وبرئ

__________________

(١) في ق وع : «أن يهلككم ويعاقبكم» ، ويبدو أنّ في الكلمة تصحيفا صوابه ما أثبتّه من ز.

(٢) كذا في ق وع وز : (بُوراً) أي فاسدين». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٦٦ : «عن ابن عبّاس قال : البور في لغة أزد عمان : الفاسد ، (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) : قوما فاسدين. والبور في كلام العرب : لا شيء. يقال : أصبحت أعمالهم بورا ومساكنهم قبورا». وقال أبو عبيدة معمر في المجاز ، ج ٢ ص ٢١٧ : (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) هلكى». وهو ما ذهب إليه مجاهد أيضا فقد جاء في تفسيره ص ٦٣٠ : «يقول : كنتم قوما هالكين» ويبدو لي أنّ هذا التأويل الأخير هو أقرب إلى أصل المعنى اللغويّ للكلمة ، فالبوار هو الهلاك. وانظر اللسان (بور).

١٥٩

من النفاق ، ويعذّب من أقام على شركه ونفاقه حتّى يموت عليه ، وهو قوله : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) فيبقوا على نفاقهم (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [الأحزاب : ٢٤] فيرجعوا عن نفاقهم. وقد أخبر بعد أنّهم لا يرجعون عن نفاقهم ، وقد فسّرناه في الآية الأولى. قال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٤).

قوله عزوجل : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) : وهم المنافقون يقولونه للمؤمنين (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) : وهذا حين أرادوا أن يخرجوا إلى خيبر ؛ أحبّوا الخروج ليصيبوا من الغنيمة ، وكان الله وعدها النبيّ عليه‌السلام ، فلم يترك النبيّ عليه‌السلام أحدا من المنافقين أن يخرج معه إلى خيبر ، أمره الله بذلك ، وإنّما كانت لمن شهد بيعة الرضوان يوم الحديبيّة.

قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) : أي لن تخرجوا معنا (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) : لا تخرجوا.

وإنّما قال الله ذلك في براءة حيث قال : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) [التوبة : ٨٣]. فذلك قوله عزوجل : (لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) : أي إنّما تمنعوننا من الخروج معكم للحسد. قال الله عزوجل : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) عن الله (إِلَّا قَلِيلاً) (١٥) : أي إلّا التوحيد الذي قبلهم (١). وقال الكلبيّ : هم الذين تخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ انطلق إلى الحديبيّة من الأعراب وغيرهم.

قوله عزوجل : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) : والبأس القتال ؛ أي : يدعوهم المسلمون بعد النبيّ عليه‌السلام. (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) : أي تقاتلونهم على الإسلام. قال الحسن : هم فارس. وهو تفسير مجاهد (٢).

__________________

(١) كذا في ع وق ، وفي ز ، ورقة ٣٣٠ : «قال الله : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) عن الله ، ثمّ استثنى المؤمنين فقال : (إِلَّا قَلِيلاً) فهم الذين يفقهون عن الله». وقيل معناه : «يعني لا يعلمون إلّا أمر الدنيا». وقيل : «لا يفقهون من أمر الدين إلّا قليلا ، وهو ترك القتال». وانظر تفسير القرطبيّ ، ج ١٦ ص ٢٧١.

(٢) في تفسير مجاهد ، ص ٦٠٢ ـ ٦٠٣ : «هم فارس والروم». وفي الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ٧٣ : «عن مجاهد ـ

١٦٠