تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

مات بكيا عليه أربعين صباحا (١). (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢٩) : أي مؤخّرين بالعذاب ، يعني الغرق.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) (٣٠) : أي من الهوان

(مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) : أي من المشركين. والعلوّ هاهنا الشرك (٢).

قال : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٢) : يعني اخترنا بني إسرائيل على العالمين ، يعني على عالم زمانهم ، ولكلّ زمان عالم.

قال (وَآتَيْناهُمْ) يعني أعطينا بني إسرائيل (مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) (٣٣) : أي نعمة بيّنة (٣).

قوله عزوجل : (إِنَّ هؤُلاءِ) : أي مشركي العرب (لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) (٣٥) : أي بمبعوثين. (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٦) : أي فأحيوا لنا آباءنا حتّى نصدّقكم بمقالتكم : إنّ الله يحيي الموتى إن كنتم صادقين.

قال الله : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : من الكفّار ، أي : إنّهم ليسوا بخير منهم (أَهْلَكْناهُمْ) : أي بذنوبهم (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٣٧) : أي مشركين ، يخوّفهم بالعذاب.

قوله عزوجل : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) : أي للبعث والحساب والجنّة والنار (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) : أي جماعتهم ، جماعة المشركين (لا يَعْلَمُونَ) (٣٩) : أي أنّهم مبعوثون ومحاسبون ومجازون.

__________________

(١) روى الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٤١ بسند عن سعيد بن جبير قال : «يبكي على المؤمن من الأرض مصلّاه ، ويبكي عليه من السماء مصعد عمله».

(٢) كذا في ق : «والعلوّ هاهنا الشرك». ولم أر له وجها ، وأرى أنّ الصواب معناه الاستكبار والطغيان ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤] ، وما فسّر القرآن مثل القرآن.

(٣) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٤٢ : «يريد نعم مبيّنة ، منها أن أنجاهم من آل فرعون ، وظلّلهم بالغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وهو كما تقول للرجل : إنّ بلائي عندك لحسن. وقد قيل : إنّ البلاء عذاب ، وكلّ صواب».

١٢١

قال : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) : [أي : القضاء] (١) (مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٠) : هذا جواب لقولهم : (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). قال الله عزوجل : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ ، أَجْمَعِينَ) أي ميقات بعثهم.

قال : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) : أي وليّ عن وليّ شيئا ؛ أي : لا يحمل عنه من ذنوبه شيئا. كقوله : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر : ١٨] قال : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤١) : أي لا يمنعون من العذاب.

قال : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٤٢) : تفسير الحسن : إنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض فينفعهم ذلك عند الله.

قوله عزوجل : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ) (٤٤) : يعني المشرك (كَالْمُهْلِ) : [المهل ما كان ذائبا من الفضّة والنحاس وما أشبه ذلك] (٢). ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه أهديت له فضّة فأمر بها فأذيبت ، حتّى أزبدت وماعت قال لغلامه : ادع لي من حضر من أهل الكوفة. فدخل عليه نفر من أهل الكوفة فقال : ما شيء أشبه بالمهل من هذا.

قال : (يَغْلِي) : أي الشجرة. فمن قرأها (تغلي) يعني الشجرة ، ومن قرأها : (يَغْلِي) يعني المهل. (فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٦) : يعني الماء الشديد الحرّ.

(خُذُوهُ) : يعني المشرك (فَاعْتِلُوهُ) : تفسير الحسن : فجرّوه. وتفسير مجاهد : فادفعوه (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) (٤٧) : أي إلى وسط الجحيم. وتفسير بعضهم : إلى معظمها ، أي : حيث يصيبه الحرّ من جوانبها.

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) (٤٨) : هو كقوله : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (٢١) [الحج : ١٩ ـ ٢١]. يقمع بالمقمعة فتخرق رأسه ، فيصبّ على رأسه الحميم ، فيدخل فيه حتّى يصل إلى جوفه.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٢٠.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٢٠.

١٢٢

قال : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩) : يعني المنيع الكريم عند نفسك إذ كنت في الدنيا ، ولست كذلك. قال بعضهم : نزلت في أبي جهل ، كان يقول : أنا أعزّ قريش وأكرمها (١). قال : (إِنَّ هذا) : أي العذاب (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) (٥٠) : أي تشكّون في الدنيا أنّه كائن.

قال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ) : أي في منزل (٢) (أَمِينٍ) (٥١) : أي هم آمنون فيه من الغير. (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ).

ذكروا عن عكرمة قال : أمّا السندس فقد عرفتموه ، وأمّا الإستبرق فالديباج الغليظ. قال بعضهم : السندس يعمل بسوس العراق ، وهو الخزّ المرقوم. وتفسير الحسن أنّهما جميعا حرير. قال : يعني (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) (٢٣) [الحج : ٢٣].

قال : (مُتَقابِلِينَ) (٥٣) : قال بعضهم : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وتفسير الحسن أنّهم يقابل بعضهم بعضا على الأسرّة. وبعضهم يقول : ذلك في الزيارة إذا تزاوروا.

(كَذلِكَ) : أي هكذا (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٥٤) : تفسيره : كذلك حكم الله لأهل الجنّة بهذا. قوله : (بِحُورٍ عِينٍ) ، وهي كلمة عربيّة. تزوّج فلان فلانة ، وفلانة فلانا. و (الحور) البيض في تفسير بعضهم. [والعين : عظام العيون] (٣). وتفسير مجاهد : الحور : اللاتي يحار فيهنّ البصر ، وينظر الناظر وجهه في جيدها.

قال : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) : أي يأتيهم ما يشتهون منها (آمِنِينَ) (٥٥) : أي من الموت.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) : وليس ثمّة موتة إلّا هذه الموتة الواحدة في الدنيا. وهو كقوله : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٠) [النجم : ٥٠] ، ولم يكن قبلها عاد.

قال : (وَوَقاهُمْ) : أي وصرف عنهم (عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ

__________________

(١) انظر الفرّاء ، معاني القرآن ، ج ٣ ص ٤٣ ، في سبب نزول الآية.

(٢) هذا على قراءة من قرأ (مقام) بفتح الميم ، وقرّاء المدينة يقرأون بضمّها بمعنى الإقامة.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٢٠ ، وهو جمع عيناء.

١٢٣

هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥٧) : أي النجاة العظيمة من النار إلى الجنّة.

قوله عزوجل : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) : يعني القرآن (بِلِسانِكَ) : يعني النبيّ عليه‌السلام. [أي : لو لا أنّ الله يسّره بلسان محمّد] (١) ما كانوا ليقرأوه ولا ليفقهوه.

قال : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥٨) : أي لكي يتذكّروا.

قوله عزوجل : (فَارْتَقِبْ) : أي فانتظر العذاب فإنّه واقع بهم (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (٥٩) : أي منتظرون. كقوله : (وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠) [السجدة : ٣٠].

* * *

__________________

(١) سقط ما بين المعقوفين من ق ، ولا بدّ من إثباته حتّى يتّضح المعنى ويتمّ ، وهو موجود في ز.

١٢٤

تفسير سورة الجاثية ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (حم) (١) : قد فسّرناه فيما مضى من الحواميم. قال : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : يعني القرآن (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (٢).

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي فيما يرون ممّا خلق الله فيهما (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣).

(وَفِي خَلْقِكُمْ) : أي في بدء خلقكم من تراب يوم خلق آدم ، ثمّ من نطفة ، أي : نسل آدم ، ثمّ من علقة ، ثمّ من مضغة ، وفي الأسماع والأبصار وما لا يحصى من خلق الله في الإنسان (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) : أي وما يخلق من دابّة (١) من صغير وكبير في البرّ والبحر (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤) : أي يؤمنون.

قال : (وَاخْتِلافِ) : أي وفي اختلاف (اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) : [يعني المطر ، فيه أرزاق الخلق] (٢) (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) : أي بعد إذ كانت يابسة ليس فيها نبات (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) : في الرحمة والعذاب (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥) : وهم المؤمنون.

قال الله عزوجل : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٦) : أي يصدّقون. أي : ليس بعد ذلك إلّا الباطل. كقوله : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٣].

__________________

(١) كذا في ق : «أي : وما يخلق من دابّة». وكنت ظننت أنّ في كلمة «خلق» التي جاءت في تفسير الآية ٢٩ من سورة الشورى من هذا الجزء تصحيفا وقلت : إنّ صوابها : «فرّق» اعتمادا على بعض التفاسير. ثمّ تتبّعت أغلب المواضع التي وردت فيها كلمة (بثّ) في آي القرآن فوجدت أنّ المؤلّف يفسّرها بقوله : «خلق». والحقّ أنّ لفظ خلق لا يؤدّي معنى (بثّ) إلّا تجوّزا ، وأصحّ منه تأويلا وأحسن تفسيرا وأدقّ لفظا كلمة : «فرّق» ، فمعنى بثّ : نشر وفرّق مع إكثار ، واقرأ قوله تعالى (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ ، إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) [الشورى : ٢٩] يتّضح لك ذلك. فإنّ الجمع يكون أنسب لما هو مفرّق ومنشور منه لما هو مخلوق ، وإن كان الكلّ مخلوقا لله. تأمّل هذا تجده صوابا إن شاء الله.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٢١.

١٢٥

قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) : أي كذّاب (أَثِيمٍ) (٧) : يعني المشرك (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) : على ما هو عليه من الشرك (مُسْتَكْبِراً) : أي عن عبادة الله (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) : يعني آيات الله ، أي : بلى قد سمعها وقامت عليه الحجّة بها. وقال مجاهد : يعني جميع المصرّين. (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨) : أي موجع.

قال : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) : قال بعضهم : هو النضر بن الحارث (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩).

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) : أي أمامهم ، كقوله : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧) [سورة إبراهيم : ١٧]. وهي كلمة عربيّة ، تقول للرجل : من ورائك كذا ، لأمر سيأتي عليه (١). قال : (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) : تفسير الحسن : ما عملوا من الحسنات يبطل الله أعمالهم في الآخرة. قال : (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) : قال : ولا يغني عنهم تلك الأوثان التي عبدوها من دون الله شيئا (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠).

قوله : (هذا) : يعني القرآن (هُدىً) : أي يهتدون به إلى الجنّة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (١١) : أي موجع.

قوله : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : يعني طلب التجارة في السفر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢) : أي لكي تشكروا ، أي : تؤمنوا. كقوله : (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (٨١) [النحل : ٨١].

قال : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) : أي من الله ، أي : كلّ ذلك تفضّلا منه ، أي : ما سخّر لكم من السماوات ، أي : الشمس والقمر والنجوم والمطر ، وما في الأرض ، أي : الأنهار والبحار وما ينبت في الأرض من النبات ، وما يستخرج من الذهب والفضّة والصفر والحديد والنحاس وغير ذلك ممّا ينتفع به ممّا في الأرض ، فذلك كله تسخير الله. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) : وهم المؤمنون.

قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) : وهم المشركون.

__________________

(١) وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢١٠ : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي : من بين أيديهم».

١٢٦

[أمر الله المؤمنين أن يغفروا لهم] (١) ، وهي منسوخة ، نسختها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] قال : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) : أي يعملون ؛ يجزي المؤمنين بحلمهم عن المشركين ، ويجزي المشركين بشركهم ، وكان هذا قبل أن يؤمروا بقتالهم ، ثمّ نسخ بالقتال.

قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) : أي يجده عند الله (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) : أي فعلى نفسه. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٥) يوم القيامة.

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا) : أي أعطينا (بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي أنزلنا عليهم (الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) : قال بعضهم : الحكمة وهي السّنّة (٢). (وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : أي ما أحلّ الله لهم. وقال بعضهم : المنّ والسلوى. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٦) : أي : على عالم زمانهم الذي كانوا فيه ، ولكلّ زمان عالم.

قال : (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) : أي إنّهم أرادوا الدنيا ورخاءها ، فغيّروا كتابهم ، فأحلّوا فيه ما شاءوا ، وحرّموا فيه ما شاءوا ، فترأّسوا على الناس ليستأكلوهم ، واتّبعوهم على ذلك. كقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] أي : يحلّون لهم ما حرّم الله عليهم فيستحلّونه ، ويحرّمون عليهم ما أحلّ الله لهم فيحرّمونه.

قال : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٧) :

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٢١.

(٢) هذا وجه من وجوه تأويل معنى الحكمة بالسنّة. ويبدو أنّ المؤلّف فسّر هنا كلمة الحكمة كما جاءت مكتوبة خطأ في مخطوطة ق ، فإن كان ذلك كذلك ، فهو خطأ ، لأنّ ما ورد في الآية هنا إنّما هو (الحكم) لا الحكمة. نعم ، إنّ كلمة (الحكم) قد تدلّ أحيانا على معنى الحكمة كما في قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] أي : الفهم واللبّ والعلم كما ذكره المفسّرون. ولكن قد يراد بالحكم أيضا الحكم على الناس والملك والسلطان. ولعلّ هذا المعنى يكون أولى بالصواب هنا ، يؤيّده قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ ، أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ..). [المائدة : ٢٠]. وقال القرطبيّ في تفسيره ، ج ١٦ ص ١٦٢ : (الْحُكْمَ) الفهم في الكتاب ، وقيل : الحكم على الناس والقضاء». وهذا المعنى الأخير هو الراجح عندي ، والله أعلم.

١٢٧

فيكون قضاؤه فيهم أن يدخل المؤمنين منهم الذين يتمسّكون بدينهم الجنّة ، ويدخل الكافرين منهم النار.

قوله عزوجل : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) : تفسير الحسن : الشريعة : الفريضة. وقال الكلبيّ : (عَلى شَرِيعَةٍ) أي : على سنّة (١). قال : (فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١٨) : يعني المشركين ، قال : أهواؤهم الشرك.

قال : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) : أي إن اتّبعت أهواءهم عذّبتك ، وإن عذّبتك فإنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئا. وقد عصمه الله من ذلك ، وإنّما أمره أن يثبت على ما هو عليه.

قال : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) : يعني المشركين (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) : أي في الحياة الدنيا ، وهم أعداء في الآخرة ، يتبرّأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا قال : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (١٩) : يعني المؤمنين.

قوله : (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ) : يعني القرآن ، أي : لمن آمن به (وَهُدىً) : يهتدون به إلى الجنّة. (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢٠) : وهم المؤمنون. والمؤمن والموقن واحد.

قوله عزوجل : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا) : أي اكتسبوا (السَّيِّئاتِ) : والسّيّئات هاهنا الشرك. (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : وذلك كقول أحدهم (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي ،) كما تقولون ، (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصّلت : ٥٠] ، أي الجنّة ، إن كانت جنّة ، أي : لا نجعلهم مثلهم ؛ الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنّة ، والمشركون في النار.

قال : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) : وهي تقرأ على وجهين : مقرأ مجاهد بالرفع ؛ سواء محيا المؤمن ومماته ، هو في الدنيا مؤمن وفي الآخرة مؤمن ، والكافر في الدنيا كافر ، وفي الآخرة كافر.

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢١٠ : (عَلى شَرِيعَةٍ) على طريق وسنّة». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٤٦ : «(على شريعة) على دين وملّة ومنهاج ، كلّ ذلك يقال». وقال الشريف الرضيّ : «وهذه استعارة لأنّ الشريعة في أصل اللغة اسم للطريق المفضية إلى الماء المورود ، وإنّما سمّيت الأديان شرائع لأنّها الطرق الموصلة إلى موارد الثواب ، ومنافع العباد ، تشبيها بشرائع المناهل التي هي مدرجة إلى الماء ، ووصلة إلى الرواء». انظر : الشريف الرضي ، تلخيص البيان في مجازات القرآن ، ص ٣٠٥.

١٢٨

ومقرأ الحسن : (سواء) بالنصب ، على معنى أن يكونوا ـ يعني المؤمنين والمشركين ـ سواء فيما حسب المشركون ، أي : ليسوا سواء (١) أي : إن مات المؤمنون على الإيمان يرزقون الجنّة ، وأمّا المشركون الذين ماتوا على الشرك فهم يدخلون النار. قال الله عزوجل : (ساءَ) : أي بئس (ما يَحْكُمُونَ) (٢١) : أي أن نجعلهم سواء.

قوله : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) : أي للبعث والحساب والجنّة والنار. قال الله عزوجل : (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٢).

قال : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) : هو المشرك اتّخذ إلهه هواه فعبد الأوثان من دون الله ، وبعضهم يقرأها (اتخذ ألهة هواه). قال : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) : أي بكفره فلا يسمع الهدى سمع قبول. (وَقَلْبِهِ) : أي وختم على قلبه ، أي : فلا يفقه الهدى. (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) : فلا يبصر الهدى (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) : أي لا أحد. قال : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣) : يقوله للمشركين.

قوله عزوجل : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) : أي نموت ونولد. [قال محمّد : يموت قوم ويحيى قوم] (٢) (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) : قال مجاهد : وما يهلكنا إلّا الزمان. أي : هكذا كان أمر من قبلنا ، وكذلك نحن نموت ولا نبعث.

قال الله تعالى : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) : أي بأنّهم لا يبعثون.

(إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢٤) : أي إن ذلك منهم إلّا ظنّ.

قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) : أي القرآن (بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥) : أي فأحيوا آباءنا حتّى نصدّقكم بمقالتكم أي : بأنّ الله يحيي الموتى.

قال الله جوابا لقولهم : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) : يعني هذه الحياة (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) : يعني الموت

__________________

(١) انظر وجوه إعراب (سواء) المختلفة في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٤٧ ، وانظر ابن الأنباري ، البيان في غريب إعراب القرآن ، ج ٢ ص ٣٦٥.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٢٢ ، والقول لابن أبي زمنين.

١٢٩

(ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) : أي ليوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) : أي لا شكّ فيه ، يعني البعث (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٦) : أي إنّهم مبعوثون.

قوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) (٢٧) : أي المشركون المكذّبون بالبعث. خسروا أنفسهم أن يغنموها فصاروا في النار ، وخسروا أهليهم من الحور العين.

قوله عزوجل : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ) : يعني كفّارها في تفسير الحسن (جاثِيَةً) : أي على ركبها في تفسير بعضهم. وقال مجاهد : أي : على الركب مستوفزين (١). وقال الكلبيّ : (جاثية) : جميعا ، يعني : جثى ، والجثوة عنده جماعة (٢). قال : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) : أي إلى حسابها ، وهو الكتاب الذي كتبته الملائكة من أعمالهم. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) : أي يقال لهم : اليوم تجزون (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٨).

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩).

ذكروا عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عبّاس قال : أوّل ما خلق الله القلم ، فقال : اكتب. قال : ربّ ، وما أكتب؟ قال : ما هو كائن ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ؛ فأعمال العباد تعرض كلّ يوم اثنين وخميس فيجدونه على ما في الكتاب. وزاد فيه بعضهم : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ثمّ قال : ألستم قوما عربا؟ هل يكون النسخ إلّا من كتاب (٣).

قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) : أي الجنّة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (٣٠) : أي البيّن. والفوز : النجاة من النار إلى الجنّة. كقوله :

__________________

(١) يقال : استوفز في قعدته : إذا قعد قعودا لم يطمئنّ إليه ، وكأنّه متهيّئ للوثوب ، وانظر اللسان : (وفز).

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٤٨ : «وقوله : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) يريد : كلّ أهل دين. (جاثِيَةً) يقول : مجتمعة للحساب». وانظر اللسان : (جثو).

(٣) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٤٨ : «الاستنساخ : أنّ الملكين يرفعان عمل الرجل صغيره وكبيره ، فيثبت الله من عمله ما كان له ثواب أو عقاب ، ويطرح منه اللغو الذي لا ثواب فيه ولا عقاب ، كقولك : هلمّ ، وتعال ، واذهب ، فذلك الاستنساخ».

١٣٠

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥].

قال : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) : أي يقول الله لهم يوم القيامة : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) [المؤمنون : ١٠٥]. (فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣١) : أي مشركين. (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) : أي يوم القيامة (وَالسَّاعَةُ) : أي القيامة (لا رَيْبَ فِيها) : أي لا شكّ فيها (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) : ذكروا أنّهم تدخلهم خلجات شكّ. قال بعضهم : إن نشكّ إلّا شكّا. (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٣٢) : أي أنّ الساعة آتية.

قال : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) : أي حين غضب عليهم علموا أنّ أعمالهم كانت سيّئات ، ولم يكونوا يرون أنّها سيّئات. (وَحاقَ بِهِمْ) : أي نزل بهم.

(ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٣) : أي إنّهم كانوا يستهزئون بالنبيّ والمؤمنين فحاق بهم عقوبة ذلك الاستهزاء ، فصاروا في النار.

قوله : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) : أي نترككم في النار (كَما نَسِيتُمْ) : أي كما تركتم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) : فلم تؤمنوا به. قال بعضهم : نسوا من أهل الخير ولم ينسوا من أهل الشرّ. (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) : والمأوى : المنزل (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٤) : أي ينصرونكم من عذاب الله.

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) : فكنتم لا تقرّون بالبعث (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) : أي من النار (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣٥) : (١) أي : لا يخرجون فيستعتبون ، أي ليعتبوا ، أي ليؤمنوا ، وقد فاتهم ذلك.

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٦) : والعالمون : الخلق. (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) : أي العظمة (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). قال : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) : في نقمته (الْحَكِيمُ) (٣٧) : في أمره.

__________________

(١) هو مثل قوله : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [سورة فصّلت : ٢٤] وانظر التعليق على تفسير هذه الآية ما سلف في هذا الجزء.

١٣١

تفسير سورة الأحقاف ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (حم) (١) : قد فسّرناه فيما مضى من الحواميم. قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : أي القرآن (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (٢) : أي : العزيز في نقمته الحكيم في أمره.

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) : أي للبعث والحساب والجنّة والنار. (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) : أي القيامة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (٣).

قوله عزوجل : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : يعني أوثانهم (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) : أي لم يخلقوا منها شيئا. (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) : أي هل خلقوا منها شيئا؟ على الاستفهام ، أي : لم يخلقوا شيئا. (ائْتُونِي) : يقول للنبيّ عليه‌السلام : قل لهم : إيتوني (بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) : فيه أنّ هذه الأوثان خلقت من الأرض أو من السماوات شيئا. (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) : أي بهذا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) : أي لستم بصادقين ، وليس عندكم بهذا علم ولا أثارة من علم. ومقرأ الحسن وتفسيره (أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي من السنن التي قالها النبيّ عن الله غير منصوصة في الكتاب (١). وتفسير الكلبيّ : بقيّة من علم (٢) قد كان قبل هذا القرآن (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). وهي تقرأ على وجهين : (أَثارَةٍ) و (أثرة) ؛ فمن قرأها (أثارة) فهي البقيّة (٣) ومن قرأ : (أثرة) فهو يقول : خاصّة من علم. ذكروا عن ابن عبّاس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخطّ فقال : هو أثرة من علم (٤). ذكروا عن عطاء بن يسار قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الخطّ فقال : كان نبيّ من الأنبياء يعلمه ، فمن وافق مثل علمه (٥) علم.

__________________

(١) كذا ورد هذا التأويل منسوبا إلى الحسن البصريّ. ولم أجد فيما بين يديّ من مصادر التفسير من فسّر أثارة العلم بعلم سنن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل نسب إلى الحسن قوله في هذا : «هو الشيء يثيره مستخرجه».

(٢) هذا هو التأويل الذي عليه جمهور المفسّرين ، وهذا ما رجّحه الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٦ ص ٣.

(٣) كذا في ق ، وفي ز ورقة ٣٢٣ : «فمن قرأ (أثارة) ، يعني رواية».

(٤) أخرجه أحمد وابن أبي حاتم والطبرانيّ عن ابن عبّاس مرفوعا وموقوفا.

(٥) كذا في ق : «مثل علمه» ، وفي ع : «مثل عمله». والحديث أخرجه عبد بن حميد عن أبي هريرة مرفوعا.

١٣٢

قوله عزوجل : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) : يعني أوثانهم (وَهُمْ) : يعني الأوثان (عَنْ دُعائِهِمْ) : يعني عن دعاء من عبدها (غافِلُونَ) (٥).

قوله : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦) : قال الحسن : إنّ الله يجمع يوم القيامة بين كلّ عابد ومعبود ، فيوقفون بين يديه ، يحشرها الله بأعيانها فينطقها لتخاصم من كان يعبدها ، وهو قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) الأصنام والذين عبدوها (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي فصلنا بينهم بالمسألة ، فسألنا هؤلاء على حدة ، وهؤلاء على حدة ، (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (٢٨) أي : ما كنّا ندعوكم إلى عبادتنا (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ) إيّانا (لَغافِلِينَ) [يونس : ٢٨ ـ ٢٩].

قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ) : أي للقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧).

قال الله عزوجل : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) : أي محمّد ، أي : قد قالوا افتراه محمّد (قُلْ) يا محمّد لهم (إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) : أي لا تستطيعون أن تمنعوني من عذاب الله شيئا (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) : أي بما تقولون فيه من الشرك ، (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) : أي أنّي جئت بالقرآن من عنده وأنّي لم أفتره. قال : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٨) : أي لمن آمن بالله.

قال : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) : أي ما كنت أوّلهم ، قد كانت الرسل قبلي (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) : تفسير الحسن : وما أدري ما يحكم لي ولكم الله من الأحكام والشرائع ، وهل يتركني مقيما بين أظهركم في دار الشرك أم يخرجني إلى دار الهجرة. وقال الكلبيّ : إنّ النبيّ عليه‌السلام قال : لقد رأيت في منامي أرضا أخرج إليها من مكّة. فلمّا اشتدّ البلاء على

__________________

وأخرجه ابن جرير في تفسيره ، ج ٢٦ ص ٢ موقوفا من طريق أبي سلمة عن ابن عبّاس قال : «خطّ كان يخطّه العرب في الأرض ...». وقال أبو بكر بن عياش : «الخطّ هو العيافة». وانظر : السيوطي ، الدر المنثور ، ج ٦ ص ٣٧ ـ ٣٨ ، وانظر ابن الجوزي ، زاد المسير ، ج ٧ ص ٣٦٩.

١٣٣

أصحابه بمكّة قالوا : يا نبيّ الله ، حتّى متى نلقى هذا البلاء ، متى نخرج إلى الأرض التي رأيت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، أنموت بمكّة أم نخرج منها (١).

قال : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٩). قال بعضهم : أنزل الله بعد ذلك : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣) [الفتح : ١ ـ ٣].

ذكروا عن أنس بن مالك قال : إنّ هذه الآية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [عند] مرجعه من الحديبيّة وأصحابه مخالطون الحزن والكآبة ، قد حيل بينهم وبين مناسكهم ، ونحروا الهدي بالحديبيّة ، فقال : لقد نزلت عليّ آية لهي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها جميعا (٢). فتلاها عليهم ، فقال رجل من القوم : هنيئا لك يا رسول الله ، قد بيّن الله لك ما يفعل بك ، فما يفعل بنا؟

فأنزل الله : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) (٥) [الفتح : ٥].

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : يعني القرآن ، (وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) : أي على مثل القرآن يعني التوراة ، (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ).

ذكر بعضهم فقال : الشاهد من بني إسرائيل هو موسى ، شهد على التوراة ، فآمن واستكبرتم.

وقال بعضهم : هو من بني إسرائيل ، آمن بموسى وبالتوراة وأنتم لا تؤمنون بمحمّد

__________________

(١) ذكر الواحديّ في أسباب النزول ، ص ٤٠١ هذا الخبر عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس بدون سند ، وفيه : «أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ...». انظر اختلاف المفسّرين في تأويل الآية وترجيح الطبريّ وآخرين لما ذهب إليه الحسن ، انظر ذلك في تفسير الطبريّ ، ج ٢٦ ص ٥ ـ ٨ ، وفي تفسير القرطبيّ ، ج ١٦ ص ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٢) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاريّ في المغازي ، باب غزوة الحديبيّة ، عن زيد بن أسلم عن أبيه يرويه عن عمر بن الخطّاب. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب صلح الحديبيّة في الحديبيّة ، من حديث أنس. رقم (١٧٨٦). لفظه عند البخاريّ : «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس». ثمّ قرأ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

١٣٤

والقرآن. فذكر ذلك للحسن فقال : ما نسمع إلّا أنّه عبد الله ابن سلام (١).

ذكروا عن أبي قلابة عن عبد الله بن سلام قال : أنزل الله فيّ آيتين حيث يقول : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣) [الرعد : ٤٣] وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ، إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ).

قال : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠) : أي المشركين الذين يلقون الله بشركهم.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) : ذكروا عن أبي المتوكّل الناجي قال : كان أوّل إسلام أبي ذرّ أنّه جاء يطلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان في أستار الكعبة خمسة عشر يوما يخرج بالليل ، يطوف بالبيت ، ويشرب من ماء زمزم ، ليس له طعام ولا شراب غيره. فبينما هو كذلك إذا نبيّ الله ذات ليلة ومعه أبو بكر ، فرآهما فعرف النبيّ بالنعت. فعرض النبيّ عليه‌السلام الإسلام فأسلم. فقال له النبيّ عليه‌السلام : اذهب فادع قومك ، فذهب ، فلقي زعيما لهم كانوا يأتمرون به ولا يعصونه في الأمر إذا أمرهم. فقال له أبو ذرّ : إنّي تركت الظهر (٢) بمكّة غاليا ، فاجلب إليها ظهرا فإنّك تصيب به بمنى. فجلب إليها ظهرا فأصاب به بمنى. فلقيه نبيّ الله عليه‌السلام ، فعرض عليه الإسلام فأسلم. ثمّ قال له النبيّ عليه‌السلام : اذهب فادع لي قومك فأتاهم فقال : يا قوم ، أطيعوني هذه المرة ثمّ اعصوني. قالوا : وما ذلك؟ قال : أسلموا تدن لكم العجم ، وتعترف لكم العرب ، فتفرّقوا ونفروا عنه ، وقالوا : ما كنّا نراك تقول لنا هذا.

ثمّ تلاوموا بينهم وتراجعوا ، ثمّ قالوا : أليس صاحبنا الذي عرفنا يمنه وحسن رأيه في الأمر إذا أمرنا ، فما لنا هذه المرّة؟ فرجعوا إليه فقالوا : ما هذا الذي تعرض علينا؟ فقال : أسلموا تدن

__________________

(١) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٥١ : «شهد رجل من اليهود على مثل ما شهد عليه عبد الله بن سلام من التصديق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنّه موصوف في التوراة ، فآمن ذلك الرجل واستكبرتم».

(٢) الظهر : الركاب ، أي الإبل التي يركب عليها ويحمل في السفر الطويل ، وفي الحديث : «من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له». أخرجه مسلم في كتاب اللقطة ، باب استحباب المؤاساة بفضول المال (١٧٢٩).

١٣٥

لكم العجم وتعترف لكم العرب ، فأسلموا. فبلغ ذلك قريشا فقالوا : إنّ غفارا لحلفاء (١) ، فلو كان هذا خيرا ما سبقونا إليه ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ).

قال الله عزوجل : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) : أي بالقرآن (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (١١).

قال : (وَمِنْ قَبْلِهِ) : أي ومن قبل هذا القرآن (كِتابُ مُوسى إِماماً) : يعني التوراة يهتدون به (وَرَحْمَةً) : أي لمن آمن به (وَهذا كِتابٌ) : يعني القرآن (مُصَدِّقٌ) : أي للتوراة والإنجيل (لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي أشركوا (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) (١٢) : يعني المؤمنين بالجنّة.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) : أي على ذلك وعلى الفرائض التي فرضها الله عليهم (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٣). ذكروا أنّ أبا بكر قرأ هذه الآية فقالوا له : وما الاستقامة يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : لم يشركوا. وذكروا عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال : ثمّ استقاموا على الفرائض ، لم يروغوا روغان الثعلب.

قال : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) : أي لا يخرجون منها ولا يموتون. (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤) : أي على قدر أعمالهم.

قال : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) : أي حملته بمشقّة ووضعته بمشقّة ، (وَحَمْلُهُ) : أي في البطن (وَفِصالُهُ) : أي وفطامه (ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) : أي إذا احتلم ، وبعضهم يقول : عشرين سنة (٢) ، (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ

__________________

(١) كذا وردت هذه الكلمة في ق وع : «لحلفاء» ، ولست مطمئنّا إليها ، ولم أجد القصّة مفصّلة في بعض المصادر حتّى أتحقّق من صحّتها. وجاء في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٥١ ما يلي في تفسير الآية : «لّما أسلمت مزينة وجهينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأشجع وأسد : لو كان هذا خيرا ما سبقنا إليه رعاة البهم ، فهذا تأويل قوله : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ). ويبدو لي أنّ في الكلمة تصحيفا صوابها «حنفاء». فإنّ من معاني الحنيف المائل عن الأديان إلى الإسلام. وانظر اللسان : (حنف).

(٢) جاء في ز ، ورقة ٣٢٤ ما يلي : «قال محمّد : وجاء في الأشدّ هاهنا أنّه بضع وثلاثون سنة وهو الأكثر». واقرأ ـ

١٣٦

سَنَةً) : أي في السنّ (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) : أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١٥).

قال الحسن : هذا دعاء المؤمن لوالديه إن كانا مؤمنين ، ودعاؤهما لذرّيتّهما المؤمنين. وقال الكلبيّ : بلغنا أنّها نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه ، وهي بعد مرسلة في المؤمنين.

قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) : أي مع أصحاب الجنّة (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (١٦) : أي في الدنيا ، وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار.

قوله عزوجل : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) : أي أن أبعث (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) : أي فلم يبعثوا. قال : (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ) : أي يقولان له : ويلك آمن (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) : أي القيامة ، (فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧) : أي كذب الأوّلين وباطلهم.

نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل أن يسلم ، وفي أبويه أبي بكر وامرأته أمّ رومان ، وهي أمّ عائشة ، كانا يقولان له قبل أن يسلم هذا القول ، فيقول هو هذا القول الذي أجابهما به (١).

قال الله عزوجل جوابا لقول عبد الرحمن في القرون التي قد خلت فلم يبعثوا : (أُولئِكَ

__________________

ـ هذا التعليل الذكيّ وهذا الترجيح البديع الذي كتبه الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٥٢ ؛ قال : «... إنّ الأشدّ هاهنا هو الأربعون. وسمعت بعض المشيخة يذكر بإسناد له في الأشدّ : ثلاث وثلاثون سنة ، وفي الاستواء : أربعون. أو سمعت أنّ الأشدّ في غير هذا الموضع : ثماني عشرة. والأوّل أشبه بالصواب ، لأنّ الأربعين أقرب في النسق إلى ثلاث وثلاثين منها إلى ثماني عشرة. ألا ترى أنّك تقول : أخذت عامّة المال أو كلّه ، فيكون أحسن من أن تقول : أخذت أقلّ المال أو كلّه. ومثله قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) [المزّمّل : ٢٠] ، فبعض ذا قريب من بعض ، فهذا سبيل كلام العرب. والثاني يعني ثماني عشرة ، لو ضمّ إلى الأربعين كان وجها». وقد نقل الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٦ ص ١٦ ما ذهب إليه الفرّاء ولم يذكره. وانظر اللسان : (شدد).

(١) انظر اختلاف المفسّرين فيمن نزلت فيهم الآية في تفسير القرطبيّ ، ج ١٦ ص ١٩٧.

١٣٧

الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : [أي : وجب عليهم الغضب] (١) (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) : أي مع أمم قد خلت (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) صاروا إلى النار (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (١٨).

قوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) : أي للمؤمنين وللمشركين ؛ للمؤمنين درجات في الجنّة على قدر أعمالهم ، وللمشركين دركات في النار على قدر أعمالهم. قال : (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) : أي جزاء أعمالهم (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٩).

قوله عزوجل : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) : وعرضهم ـ في تفسير الحسن ـ دخولهم النار. (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) : وهي تقرأ أيضا على الاستفهام بمدّ : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا)؟ فمن قرأها بغير مدّ فهو يقول : [على الخبر] (٢) : قد فعلتم. ومن قرأها بالمدّ فهي على الاستفهام. وإضمارها : أي قد فعلتم. المعنى : إنّكم أذهبتم طيّباتكم ، أي : من الجنّة إذ كنتم في الدنيا ، أذهبتموها بشرككم.

قال : (وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) : أي في الدنيا (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ) : أي عن عبادة الله (بِغَيْرِ الْحَقِّ) : أي بشرككم وتكذيبكم (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠) : أي فسق الشرك.

قوله : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) : يعني هودا ، أخوهم في النسب وليس بأخيهم في الدين ، (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) : أي أنذرهم عذاب الله (بِالْأَحْقافِ) : وكانت منازلهم في أحقاف الرمال (٣). (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) : وهذا بدء كلام مستقبل ؛ يخبر الله أنّ الرسل قد خلت ، أي : مضت ، من بين يدي هود ، أي : من قبله ومن خلفه ، أي من بعده ، يدعون إلى ما

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٢٤.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٢٤.

(٣) الأحقاف ، جمع حقف ، ويجمع على حقاف ، وهو ما اعوجّ من الرمل ، وقال الفرّاء : «الحقف : الرملة المستطيلة المرتفعة إلى فوق». والأحقاف : منازل عاد ، وهي رمال فيما بين عمان إلى حضرموت. وقال ابن عبّاس : «واد بين عمان ومهرة». انظر : ياقوت ، معجم البلدان ، ج ١ ص ١١٥ ، واقرأ ما كتبه البكريّ رواية عن الكلبيّ في موضع الأحقاف في معجم ما استعجم ، ج ١ ص ١١٩ ـ ١٢٠.

١٣٨

دعا إليه هود عبادة الله (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢١) : رجع إلى قصّة هود فأخبر بقوله لقومه.

(قالُوا) : أي قال له قومه (أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) : أي لتصرفنا (عَنْ آلِهَتِنا) : أي عن عبادتها. وهذا منهم على الاستفهام. أي قد فعلت (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٢) : أي إنّه كان يعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا.

(قالَ) لهم (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) : أي علم متى يأتيكم العذاب (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) (٢٣).

قوله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ) : أي رأوا العذاب (عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) : أي حسبوه سحابا ، وكان قد أبطأ عنهم المطر.

قال الله عزوجل : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) : أي لما كانوا يستعجلون به هودا من العذاب استهزاء وتكذيبا. فقال : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) : أي : تدمّر كلّ شيء أمرت به ، وهي ريح الدبور.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور (١). وذكروا عن ابن عبّاس عن النبيّ عليه‌السلام مثل ذلك.

قال الله : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) : يقوله للنبيّ عليه‌السلام ؛ أي : لا تبصر إلّا مساكنهم. وهي تقرأ على وجه آخر : (لا ترى إلّا مساكنهم) أي : قد هلكت وبقيت مساكنهم. وهي تقرأ على وجه ثالث : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) (٢). قال الله (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥) : أي المشركين.

قال : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) : أي فيما لم نمكّنكم فيه ، يعني مشركي العرب ، كقوله (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) [التوبة : ٦٩].

__________________

(١) حديث متّفق على صحّته ، انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ٩ من سورة الأحزاب.

(٢) هذا الوجه الأخير من القراءة هو ما رجّحه الفرّاء ، وهي قراءة عاصم وحمزة ويعقوب. وقرأ الحسن (لا ترى إلّا مساكنهم) انظر تفصيل وجوه هذه القراءات وعللها في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٥٥.

١٣٩

قال : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ) : أي ونزل بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢٦) : أي نزل بهم عقوبة استهزائهم ، يعني ما عذّبهم به.

قوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) : يقوله لأهل مكّة ، وهي أمّ القرى ، منها دحيت الأرض ، وما حولها البلاد كلّها (١). أخبر بهلاك من أهلك.

قال : (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) : أي أخبرناكم كيف أهلكناهم.

قال : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٧) : أي لعلّ من بعدهم يرجعون إلى الإيمان ، يحذّرهم بذلك ، كقوله : (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) (٣٩) [الفرقان : ٣٩] ، وكقوله : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) (٤٥)

[إبراهيم : ٤٥] يعني ما أهلك به من قبلهم من الكفّار ، يحذّرهم بهذا كلّه.

(فَلَوْ لا) : أي فهلّا (نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) : يعني آلهتهم التي عبدوها من دون الله والتي يزعمون أنّها تقرّبهم إلى الله زلفى ليصلح لهم معايشهم في الدنيا ، ولم يكونوا يقرّون بالآخرة. قال : فهلّا نصروهم إذ جاءهم العذاب.

(بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) : أي كذبهم (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٨). ذكروا عن عبد الله بن كثير المكّيّ (٢) أنّه كان يقرأها : (وذلك أفكهم) (٣) أي : صدّهم عن الهدى.

قوله عزوجل : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) : أي يقوله بعضهم لبعض (فَلَمَّا قُضِيَ) : أي فلمّا قرأه عليهم النبيّ عليه‌السلام وأسلموا (وَلَّوْا) : أي رجعوا.

__________________

(١) قيل : هي ديار ثمود بالحجر ، ومدائن قوم لوط المؤتفكات ، وغيرها من منازل الأمم المهلكة.

(٢) في ق وع : «عبد الله بن أبي كثير» ، وهو خطأ» ، صوابه ما أثبتّه : عبد الله بن كثير المكّي الداري ، إمام أهل مكّة في القراءة. قال عنه ابن مجاهد : «ولم يزل عبد الله هو الإمام المجتمع عليه في القراءة بمكّة حتّى مات سنة عشرين ومائة». انظر ابن الجزري ، طبقات القرّاء ، ج ١ ، ص ٤٤٣ ، ترجمته رقم (١٨٥٢).

(٣) وهذه قراءة نسبت أيضا إلى ابن عبّاس وأبي عياض وعكرمة وغيرهم. ويبدو أنّ ابن كثير أخذ هذه القراءة على درباس ، مولى عبد الله بن عبّاس ، انظر : ابن جنّي ، المحتسب ، ج ٢ ص ٢٦٧.

١٤٠