تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

وتفسير الكلبيّ : إنّها خاصّة (١) لمن خلقه الله [مؤمنا] (٢).

قال عزوجل : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) : أي أن يرزقوا أنفسهم ، (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧) : أي أنفسهم (٣). (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ) : في أمره وفي خلقه وفيما يحكم (الْمَتِينُ) (٥٨) : أي الذي لا تضعف قوّته (٤).

قوله عزوجل : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي أشركوا (ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) : أي من مضى قبلهم من المشركين.

ذكروا عن سعيد بن جبير قال : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) أي : سجلا من عذاب. والسّجل : الدّلو. وقال بعضهم : عذاب متدارك كما تدارك الدلاء في البئر. وقال الكلبيّ : ذنوبا كذنوب الدلو يتبع الدلو (٥).

ذكروا عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أنّ غربا ، يعني الدلو العظيم ، من جهنّم وضع في الأرض لآذى حرّه ما بين المشرق والمغرب (٦).

قوله عزوجل : (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) (٥٩) : أي بالعذاب ، لما كانوا يستعجلونه بالعذاب استهزاء وتكذيبا.

وتفسير الحسن : إنّه العذاب الذي لقيام الساعة ، عذاب كفّار آخر هذه الأمّة بالنفخة الأولى.

قال عزوجل : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠) : أي في الدنيا.

__________________

(١) في ق وع : «خالصة» ، وفي الكلمة تصحيف صوابها ما أثبتّه ، أي إنّ الآية خاصّة فيمن خلقه الله لعبادته من المؤمنين ، كما جاء في بعض التفاسير. انظر مثلا : تفسير القرطبيّ ، ج ١٧ ص ٥٥.

(٢) زيادة لا بدّ منها ليتّضح معنى الخصوص.

(٣) كذا في ق وع : «أي : أنفسهم» ، وفي ز ، ورقة ٣٣٩ : «أي أن يطعموا أحدا» ، وهو أصحّ.

(٤) في ق وع : «الذي لا يضعف» ، وأثبتّ ما ورد في ز.

(٥) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٢٨ : «أي نصيبا» وإنّما أصلها من الدلو ، والذنوب والسجل واحد ...». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٩٠ : «والذنوب في كلام العرب : الدلو العظيمة ، ولكنّ العرب تذهب بها إلى النصيب والحظّ. وبذلك أتى التفسير : فإنّ للذين ظلموا حظا من العذاب ... والذنوب يذكّر ويؤنّث».

(٦) أخرجه يحيى بن سلّام بالسند التالي : «يحيى عن تمام بن نجيح عن الحسن عن أنس بن مالك ...».

٢٠١

تفسير سورة الطور ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (وَالطُّورِ) (١) : أي الجبل.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) (٢) : أي مكتوب. (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (٣) : تفسير الحسن : إنّه القرآن في أيدي السفرة. ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : سألت كعباس عن (رَقٍّ مَنْشُورٍ) فقال : ينزل من السماء السابعة فيكتب فيه اسم المؤمن ثمّ يرفع ، وهو كتاب يكتب في الرقّ ثمّ يصعد به ، يشهده المقرّبون ، أي يشهدون كتابه في الرقّ. قال بعضهم : أظنّه عمل المؤمن. وقال مجاهد : هو رقّ منشور ، صحيفة.

ذكروا عن عون بن عبد الله قال : من قال : سبحان الله وبحمده كتب في الرقّ ثمّ ختم عليها ، ثمّ رفعت إلى يوم القيامة. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كلّ ميت يختم على عمله إلّا الذي يموت مرابطا في سبيل الله فإنّه يجري عليه ما كان الرباط (١).

قال : (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (٤) : ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا عن ليلة أسري به ، فكان في حديثه فيما رأى في السماء السابعة قال : ثمّ رفع لنا البيت المعمور فإذا هو بحيال الكعبة ، يدخله كلّ يوم سبعون ألفا من الملائكة ، إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم (٢).

ذكروا عن ابن عبّاس قال : البيت المعمور في السماء السابعة حيال الكعبة يحجّه كلّ يوم سبعون ألفا من الملائكة لا يعودون فيه حتّى تقوم الساعة ، يسمى الضّراح (٣).

__________________

(١) حديث صحيح ، أخرجه أحمد ، وأخرجه الترمذيّ في كتاب الجهاد ، باب ما جاء في فضل من مات مرابطا. وفيه : «فإنّه ينمى له عمله إلى يوم القيامة» ، من حديث فضالة بن عبيد. قال : «وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : المجاهد من جاهد نفسه». وقال الترمذيّ : حديث فضالة بن عبيد حديث حسن صحيح. وأخرج حديث فضالة بن عبيد هذا أبو داود في كتاب الجهاد ، باب فضل الرباط ولفظه : «كلّ الميّت يختم على عمله إلّا المرابط ، فإنّه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتّان القبر». (رقم ٢٥٠٠).

(٢) أخرجه أحمد من حديث أنس بن مالك ، وأخرجه البخاريّ ومسلم من حديث مالك بن صعصعة.

(٣) جاء في اللسان : «الضّراح : بيت في السماء مقابل الكعبة في الأرض ... وهو البيت المعمور ، من الضارحة وهي المقابلة والمضارعة».

٢٠٢

ذكروا عن عليّ قال : البيت المعمور. الضّراح فوق ستّ سماوات ودون السابعة.

ذكر بعضهم قال : قال الله يا آدم أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف على عرشي ، فحجّه آدم ومن بعده من المؤمنين. فلمّا كان زمان الطوفان ، زمان أغرق الله قوم نوح ، رفعه الله وطهّره من أن تصيبه عقوبة أهل الأرض فصار معمورا في السماء ، فتتبّع إبراهيم الأساس فبناه على أسّ قديم كان قبله.

قال عزوجل : (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٥) : يعني السماء ، بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام.

قال تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) : أي الفائض. أي : يفيض يوم القيامة على الأرض فتسعه الأرضون ، فتكون لجج البحار ورؤوس الجبال سواء. وقال الحسن : يسجر كما يسجر التنّور. وقال مجاهد : (الْمَسْجُورِ) : الموقد (١) ، وهو مثل قول الحسن. وبلغنا أنّ البحر موضع جهنّم. ذكروا عن أبي صالح عن عليّ قال : البحر المسجور في السماء.

قال تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) (٧) : أقسم بهذا كلّه ، من قوله : (وَالطُّورِ ..). إلى هذا الموضع : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) ، أي : بالمشركين.

(ما لَهُ) : أي ما للعذاب (مِنْ دافِعٍ) (٨) : أي يدفعه من الله.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٩) : فيها تقديم ؛ أي : إنّ عذاب ربّك لواقع يوم تمور السماء مورا ، أي : تتحرّك السماء تحرّكا. (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (١٠) : وقال في آية أخرى : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ). [التكوير : ٣].

قال : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) (١٢) : وخوضهم التكذيب. (يَوْمَ يُدَعُّونَ) : أي يدفعون (إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (١٣) : أي دفعا (هذِهِ النَّارُ) : أي يقال لهم : هذه النار (الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٤) : أي في الدنيا ، أي : إنّها لا تكون.

__________________

(١) من معاني السجر الملء ، والمسجور المملوء. وقد جمع الإمام عليّ بين المعنيين فقال : «المملوء نارا». وانظر اللسان (سجر).

٢٠٣

(أَفَسِحْرٌ هذا) : يقال لهم هذا على الاستفهام (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (١٥) : أي في الدنيا ، إذ كنتم تقولون : هذا سحر ، أي : إنّه ليس بسحر.

(اصْلَوْها) : يعني النار (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) : وهو كقوله : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) [إبراهيم : ٢١] قال : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦) : أي في الدنيا.

قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ) : أي مسرورين (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) : أي بما أعطاهم ربّهم. وقال بعضهم : معجبين بما هم فيه من نعيم الجنّة. (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ) : أي وصرف عنهم (عَذابَ الْجَحِيمِ) (١٨).

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٩) : ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ أهل الجنّة يأكلون فيها ويشربون ولا يبولون ولا يتغوّطون إنّما يكون جشاء ورشح مسك ، ويلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس (١).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ أحدهم ليعطى قوّة مائة رجل في الطعام والشرب والجماع. قيل : يا رسول الله ، إنّ الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة؟ قال : حاجة أحدهم أن يعرق فرشحه ريح مسك ، وهو البول.

ذكروا أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، كيف شهاء (٢) أهل الجنّة؟ قال : يأكلون ويشربون حتّى إذا امتلأت بطونهم قيل لهم : هنيئا لكم شهوتكم ، فيرشحون عند ذلك مسكا ، لا يتغوّطون ولا يمتخطون (٣).

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه أحمد ، وأخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب في صفات الجنّة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيّا ، من حديث جابر بن عبد الله (رقم ٢٨٣٥).

(٢) كذا في ق وع : «شهاء» ولم أعثر على هذه اللفظة فيما بين يديّ من معاجم اللغة. وإنّ كان القياس الصرفيّ لا يمنعها. يقال : شهي الطعام ، يشهاه ، وشهاه ، يشهوه شهوة ، وتشهّاه واشتهاه ، إذا أحبّه ورغب فيه. وانظر اللسان : (شها).

(٣) رواه أحمد والنسائي عن زيد بن أرقم. وقال المنذريّ في الترغيب والترهيب ، ج ٤ ص ٥٢٥ : «ورواته يحتجّ بهم في الصحيح. والسائل في الحديث رجل من أهل الكتاب».

٢٠٤

قوله : (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ). ذكروا عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الرجل من أهل الجنّة ليتنعّم في تكأة واحدة سبعين عاما [مع امرأة] (١) فتناديه أبهى منها وأجمل من غرفة أخرى : أما آن لنا منك دولة بعد؟ فيلتفت إليها فيقول : من أنت؟ فتقول : أنا من اللواتي قال الله : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣٥) [سورة ق : ٣٥] ، فيتحوّل إليها فيتنعّم معها سبعين عاما في تكأة واحدة ، فتناديه أبهى منها وأجمل من غرفة أخرى فتقول : أما لنا منك دولة بعد؟ فيقول : من أنت؟ فتقول : أنا من اللاتي قال الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) [السجدة : ١٧]. فيتحوّل إليها فيتنعّم معها في تكأة واحدة سبعين عاما. فهم كذلك يدورون (٢).

ذكروا عن الضحّاك بن مزاحم عن عليّ قال : إذا دخل أهل الجنّة يدخل الرجل منزله ، ويأتي الأرائك. فإذا فيها سرير ، وعلى السرير سبعون فراشا ، وعليهم سبعون زوجة ، على كلّ زوجة سبعون حلّة يرى مخّ ساقها من باطن الحلل ، فيقضي جماعهنّ في مقدار ليلة من لياليكم هذه.

قوله : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٢٠) : والحور : البيض في تفسير العامّة.

وتفسير مجاهد : الحور ، أي : يحار فيهنّ البصر ، وينظر الناظر وجهه في جيدها. وتفسير بعضهم : العين : العظام العيون.

ذكروا عن عبد الله بن عمر قال : شعر [شفر] (٣) عينيها أطول من جناح نسر.

وقال بعضهم : الحور العين بيض الألوان ، صفر الحليّ ، خضر الثياب ، يقلن في الجنّة : نحن الناعمات فلا نبؤس (٤) ، ونحن الخالدات فلا نموت ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، ونحن

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها.

(٢) رواه يحيى بن سلّام عن صاحب له عن أبان بن أبي عيّاش عن شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما جاء في ز ، ورقة ٣٤٠.

(٣) زيادة لا بدّ منها ليستقيم المعنى.

(٤) كذا في ق وع : «نبؤس» ، بضمّ الهمزة ، وهو صحيح فصيح ، ففي الحديث : «إنّ لكم أن تنعموا فلا تبؤسوا». وأصل الفعل : بؤس يبؤس بأسا ، إذا اشتدّ ، ومنه شدّة البأس في الحرب. ويأتي الفعل بفتح الهمزة ـ

٢٠٥

المقيمات فلا نظعن ، طوبى لمن كنّا له وكان لنا.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو أنّ امرأة من نساء أهل الجنّة اطّلعت على أهل الأرض [لملأت الأرض ريح] (١) مسك ، والذي نفسي بيده إنّ عليها لنصيفا (٢) خيرا من الدنيا وما فيها.

ذكروا عن عمرو بن ميمون الأزديّ قال : إنّ المرأة من أهل الجنّة ليكون عليها سبعون حلّة ، وإنّه ليرى مخّ ساقها من وراء ذلك كما يبدو الشراب الأحمر في الزجاج الأبيض.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما حضر قتال قطّ إلّا تزخرفت الجنّة ، ونزلت الحور العين. فإذا أقبل المقاتل قلن : اللهمّ انصره ، وإذا أدبر قلن : اللهمّ ثبّته. فإذا قتل كان أوّل قطرة تقطر من دمه يغفر بها ذنوبه ، وتهبط عليه زوجتاه من الحور العين فتجلسانه ، وتمسحان دمه والغبار عنه وتقولان له : مرحبا بك. فيقول : وأنتما مرحبا بكما. وإذا صرف وجهه عنهما ثمّ التفت إليهما قال : لقد ازددتما في عيني سبعين ضعفا حسنا وجمالا ممّا كنتما عليه. وإذا صرفتا وجوههما عنه قالتا مثل ذلك. فجيدها مرآته ، وجيده مرآتها ، مكتوب بين ثدييها : أنت حبيبي وأنا حبيبتك ، ليس عليّ معدل ولا مصرف. ثمّ قال : والذي بعثني بالحقّ إنّ إحداهن ليكون عليها سبعون حلّة مثل شقائق النعمان ، وإنّه ليرى مخّ ساقها من وراء ذلك ، وتمسك بين أصبعين من أصابعها سبعين حلّة من رقها وحسنها وجمالها ، قلوبهم على مثل قلب أنقاهم ، أو قال : على مثل قلب واحد ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، يسبّحن الله بكرة وعشيّا (٣).

__________________

ـ في المضارع. ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبيّ عليه‌السلام : «من يدخل الجنّة ينعم لا يبأس ...» الحديث. (رقم ٢٨٣٦). وانظر اللسان : (بأس). والحديث رواه الترمذيّ والبيهقيّ وأبو نعيم وغيرهم.

(١) ما بين المعقوفين ساقط من ع وق. ويبدو في الرواية اضطرب. فالجزء الأوّل من هذه الرواية حديث رواه الطبرانيّ والبزار عن سعيد بن عامر بن حذيم. تمامه : «ولأذهبت ضوء الشمس والقمر». والحديث الوارد هنا جزء من حديث رواه البخاريّ في كتاب الجهاد والسير ، باب الحور العين وصفتهنّ. أوّله : «لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها ...». وفيه : «ولو أنّ امرأة من أهل الجنّة اطّلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها». عن أنس بن مالك.

(٢) النصيف : الخمار ، ثوب تضعه المرأة على رأسها وتسدله على ظهرها وجانبيها.

(٣) لم أجده بهذا اللفظ وافيا فيما بين يديّ من مصادر الحديث. وبعض عباراته موجودة في وصف نساء الجنّة.

٢٠٦

قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ).

[... عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال] (١) : إنّ الله يرفع إلى المؤمن ولده في درجته في الجنّة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بذلك عينه ، وكذلك الآباء يرفعون إلى الأبناء إذا كانت الآباء دون الأبناء في العمل. ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلّا أدخله الله الجنّة بفضل رحمته إيّاهم (٢). ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأن أقدّم سقطا خير من أن أخلّف مائة فارس كلّهم يجاهدون في سبيل الله (٣).

قال : (وَما أَلَتْناهُمْ) : أي وما نقّصناهم (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١) : يعني أهل النار. (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ) أي بما عمل ، (رَهِينٌ) أي : غلق الرهن (٤). مثل قوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) (٣٩) [المدّثّر : ٣٨ ـ ٣٩] استثنى المؤمنين ، وعامّة الناس مشركون. قال عزوجل : (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) ، وهم أهل الجنّة ، وهم المقتصدون.

قوله عزوجل : (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) : ذكروا عن أبي هريرة قال : قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إنّ أهل الجنّة ليتناولون قطوفها وهم متّكئون على فرشهم ، فما تصل إلى في أحدهم حتّى يبدّل الله مكانها أخرى (٥).

__________________

انظر مثلا : المنذري ، الترغيب والترهيب ، ج ٤ ص ٥٣١ ـ ٥٣٦. وانظر : الدر المنثور ، ج ٦ ص ١١٩ تجد بعض هذا الحديث.

(١) ما بين المعقوفين زيادة من ز ورقة ٣٤٠.

(٢) حديث صحيح أخرجه البخاريّ في كتاب الجنائز ، باب من مات له ولد فاحتسب ، من حديث أنس بن مالك.

(٣) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٢٢٣ من سورة البقرة.

(٤) جاء في ع وق : «علق القوم في النار». والعبارة فاسدة لا معنى لها ، وأثبتّ ما جاء في هامش مخطوطة ع من تصحيح ، «غلق الرهن» ، وهو الصواب إن شاء الله ، أي : كلّ امرئ مرتهن بعمله ؛ يقال غلق الرهن غلوقا إذا لم يستطع الراهن افتكاكه من يد المرتهن.

(٥) لم أجده بهذا اللفظ فيما بين يديّ من المصادر إلّا من رواية يحيى بن سلّام ... عن أبي هريرة مرفوعا ، كما في ز ، ورقة ٣٤٧.

٢٠٧

قوله عزوجل : (وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢٢) : وقال في آية أخرى : (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة : ٢١]. ذكر الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إنّ في الجنّة لطيرا أمثال البخت. فقال أبو بكر : يا رسول الله ؛ إنّ ذلك الطير لناعم ، فقال : والذي نفسي بيده إنّ الذي يأكل منها أنعم منها ، وأرجو أن تأكل منها يا أبا بكر (١).

قال بعضهم : تصفّ الطير بين يدي الرجل ، فإذا اشتهى أحدها اضطرب ثمّ صار بين يديه نضيجا.

قال عليّ بن أبي طالب : إذا اشتهوا الطعام جاءتهم طير بيض فترفع أجنحتها فيأكلون من جنوبها أيّ الألوان شاءوا ، وفيها من كلّ لون ، يأكلون ، ثمّ تطير فتذهب. قال بعضهم : بلغنا أنّ الطير تصفّ بين يديه فرسخا في فرسخ ، والطير أمثال الإبل ، فيقول الطائر : يا وليّ الله ، أمّا أنا فرعيت في وادي كذا وكذا ، وأكلت من ثمار كذا وكذا ، وشربت من عين كذا وكذا ، وسمني كذا وكذا ، وريحي كذا وكذا ، فكل منّي ، فإذا اشتهى حسن الطير واشتهى صفته فوقع ذلك في نفسه قبل أن يتكلّم به ، وقع على مائدته ، نصفه قدير ، ونصفه شواء ، فيأكل أربعين سنة ، كلّما شبع ألقي عليه ألف باب من الشهوة. قالها : ثلاث مرّات (٢). ثمّ يؤتى بالشراب على برد الكافور ، وليس بهذا الكافور ، وطعم الزنجبيل ، وليس بهذا الزنجبيل ، وريح المسك ، وليس هذا المسك ، فإذا شرب هضم ما أكل من الطعام. وتوضع المائدة بين يديه قدر عمره في الدنيا ، ويعطى قوّة مائة رجل في الجماع ؛ يجامع مقدار أربعين سنة لكلّ يوم مائة عذراء.

ذكروا عن مالك بن مالك بن حميد قال : قال لي أبو هريرة : أحسن إلى غنمك : أوسط رعاها ، وأطب مراحها ، وصل صانعها ، فإنّها من دوابّ الجنّة.

قوله عزوجل : (يَتَنازَعُونَ فِيها) : أي يتعاطون فيها (كَأْساً) : والكأس : الخمر. (لا لَغْوٌ فِيها) : أي في الجنّة ، لا معصية فيها ، في قول الحسن. وقال مجاهد : أي : لا يسمعون فيها لغوا. (وَلا تَأْثِيمٌ) (٢٣) : أي لا يؤثم بعضهم بعضا. وتفسير الكلبيّ : (لا لَغْوٌ فِيها) أي : لا حلف (٣)

__________________

(١) أخرجه أحمد والترمذيّ والبيهقيّ وغيرهم من حديث أنس.

(٢) في ق وع : «قال ثلاث مرّات».

(٣) في ق وع : «لا خلف فيها» بالخاء المعجمة ، وأثبتّ ما رأيت أنّه أصحّ وأنسب : «لا حلف فيها». وفي تفسير ـ

٢٠٨

فيها ، (وَلا تَأْثِيمٌ) أي : لا إثم عليها في شربها. وقال بعضهم : (وَلا تَأْثِيمٌ) أي : ولا تكذيب.

قوله : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ) : وقال في آية أخرى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [الواقعة : ١٧] أي : لا يموتون ولا يشيبون. (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) (٢٤) : أي في صفاء ألوانهم. والمكنون : الذي في أصدافه.

ذكروا عن جابر بن عبد الله عن النبيّ عليه‌السلام قال : خدم أهل الجنّة نور وجوههم نور الشمس ، لو كانوا في الدنيا لاقتتل أهل الدنيا عليهم. قالوا يا رسول الله ، هذا حسن الخادم ، فكيف حسن المخدوم. فقال : والذي نفسي بيده لحسن الخادم عند المخدوم كالكوكب المظلم إلى جنب القمر ليلة البدر (١).

فبلغنا ـ والله أعلم ـ أنّ أولياء الله يخيّرون قبل أن يدخلوا أمان الله ورضوانه ، ثمّ تزلف لهم الجنّة ، ويؤمر بأبوابها فتفتّح لهم ، فيخرج منه المسك مقدار خمسمائة سنة ، أو ما شاء الله من ذلك. وتخرج الحور العين قد عرفت كلّ واحدة منهنّ زوجها إذا أقبلت إليه.

ويرى مخّ ساقها من وراء سبعين حلّة من الصفاء والطيب. ثمّ يقال لهم : لكم أنتم وأزواجكم ما تحبّون. ثمّ تقدمهم الملائكة إلى الجنّة يرونهم مواضعهم. فإذا دنوا من أبوابها استقبلتهم الملائكة يقولون : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣) [الزمر : ٧٣] أي ادخلوا دار الخلد ، ودار الجنّة ، ودار القرار ، ودار الملك ، ودار الأمان ، ودار النعيم الدائم ، ودار الفرح والسرور والبشرى ، أبشروا بنعيم مقيم أبدا ، لا ينفد ، ولا يسأم ، ولا ينقطع ، فعند ذلك يقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤]. فتنزل كلّ نفس درجتها بعملها.

في درجتها أزواج وخدم ، وفرش وأسرّة ، وأنهار تجري في غير أخدود من لبن وعسل مصفّى وماء وخمر ، وفاكهة كثيرة ، وألوان الرياحين ، والأكاليل على رؤوسهم ، ولباسهم من سندس وإستبرق وحرير. وريح المؤمن أطيب من ريح المسك الذكيّ.

__________________

ـ مجاهد : ص ٦٢٥ : «يقول : اللغو السبّ ، يقول : لا يستبّون (وَلا تَأْثِيمٌ) يقول : لا يأثمون ولا يؤثمون».

(١) أخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٧ ص ٢٩ عن قتادة مرسلا وليس فيه أوّل الحديث.

٢٠٩

أسكنهم الله في داره ، وهي الجنّة ، ليست كجنان الدنيا ؛ أرضها رخام ليس كرخامكم هذا ، ولكنّه رخام من فضّة بيضاء ، وترابها الورس والزعفران ، وكثبانها مسك أذفر ، وأنهارها تجري في غير أخدود ، وطينها مسك أذفر ، ورضراضها (١) الدرّ والياقوت ، وقصورها من الذهب والفضّة والدرّ والياقوت والزبرجد وألوان الجوهر. وعلى الجنان كلّها حائط طوله خمسمائة سنة ، لبنة من ذهب ولبنة من فضّة ولبنة من ياقوت. وجذوع نخلها ذهب أحمر ، وكربها (٢) درّ وزبرجد أخضر ، وسعفها حلل ، ورطبها أشدّ بياضا من الفضّة وأحلى من العسل ، وألين من الزبد ، ليس في شيء منه نوى.

وطيرها أمثال البخت ، فإذا أكل وليّ الرحمن جاءت الطير صفّا بين يديه ، فينعت كلّ طير منها نفسه وطيب لحمه ، ورائحته وطعمه. فإذا اشتهى وليّ الرحمن شيئا من غير أن يتكلّم ، وضع على مائدته نصفه قدير ونصفه شواء.

ويعطى أحدهم قوّة مائة رجل شابّ في الطعام والشراب والكسوة والشهوة والجماع. نور الوجوه ، بيض الألوان ، صفر الحليّ ، خضر الثياب ، جردا ، مردا ، مكحّلين ، مسوّرين ، متوّجين بالذهب واللؤلؤ والجوهر. فإذا شاء أحدهم ركب فرسا من ياقوت حمراء فطارت به إلى أيّ جنّة شاء. ولكلّ رجل منهم نجيبة من ياقوت أحمر ، لها أجنحة بيض أشدّ بياضا من الثلج ، لها رحل مقدّمه ومؤخّره درّ وياقوت ، وجانباه ذهب وفضّة ، وزمامها ياقوت أحمر ، وهو ألين من الحرير. خطوتها مدّ بصره. وله فيها أزواج مطهّرة من القذى كلّها : من الحيض والبول والغائط والبزاق ، عاشقات لأزواجهنّ ، عذارى أبكار ، كلّهن على سنّ واحدة ، يجد فيها ريح إحداهنّ من مسيرة خمسمائة عام. ولهنّ حلل ، كلّ حلّة خير من الدنيا وما فيها من أوّلها إلى يوم تفنى.

قوله عزوجل : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢٥) : أي يسائل بعضهم بعضا عن شفقتهم في الدنيا من عذاب الله.

(قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) : أي في الدنيا (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) (٢٦) : أي خائفين وجلين من عذاب الله (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) :

__________________

(١) الرضراض : ما استدقّ من الحصى.

(٢) الكرب : الأصول العريضة لسعف النخيل ، وهي الكرانيف ، مفردها كرنافة.

٢١٠

أي في الدنيا (نَدْعُوهُ) : أن يقينا عذاب السموم. (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢٨) : أي برّ بالمؤمنين ، رحيم بهم ، في تفسير الحسن. وقال بعضهم : البرّ الصادق.

قوله عزوجل : (فَذَكِّرْ) : أي بالقرآن (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩).

قوله عزوجل : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٣٠) : أي قد قالوا : نتربّص به الدهر حتّى يموت ، في تفسير الحسن. وقال مجاهد : يعني حوادث الدهر (١).

قال الله عزوجل لنبيّه عليه‌السلام (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) (٣١) : أي كانوا يتربّصون بالنبيّ عليه‌السلام أن يموت ، وكان النبيّ يتربّص بهم أن يأتيهم العذاب.

قال الله عزوجل : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) : أي بالتكذيب ، أي : ليست لهم أحلام (٢) (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٣٢) : أي بل هم قوم طاغون ، أي : إنّ الطغيان يأمرهم بهذا ؛ والطغيان الشرك.

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) : يعني محمّدا ، أي القرآن تقوّله محمّد ، أي قد قالوه.

قال الله عزوجل : (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) : أي بحديث مثل القرآن. (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤) : أي لا يأتون بمثله ، وليس ذلك عندهم.

قال عزوجل : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) : أي لم يخلقوا من غير شيء ، إنّا خلقناهم من نطفة ، وأوّل ذلك من تراب. قال عزوجل : (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (٣٥) : أي ليسوا بالخالقين ، وهم مخلوقون.

قال عزوجل : (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : أي لم يخلقوها.

(بَلْ لا يُوقِنُونَ) (٣٦) : بالبعث. (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) : يعني علم الغيب (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (٣٧) : أي الأرباب.

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٩٣ : «أوجاع الدهر ، فيشغل عنكم ويتفرّق أصحابه ، أو عمر آبائه ، فإنّا قد عرفنا أعمارهم».

(٢) وقال الفرّاء : «الأحلام في هذا الموضع العقول والألباب».

٢١١

وقال بعضهم : (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي : إنّ الله هو الربّ ، تبارك اسمه.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) : أي درج (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) (١) أي : إلى السماء (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٣٨) : أي بحجّة بيّنة بما هم عليه من الشرك ، أي : إنّه ليس لهم بذلك حجّة.

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (٣٩) : وذلك لقولهم : إنّ الملائكة بنات الله ، وجعلوا لأنفسهم الغلمان. كقوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي البنات (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي الغلمان (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) [النحل : ٦٢].

قال عزوجل : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) : أي على القرآن. (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٠) : فقد أثقلهم الغرم الذي تسألهم ، أي : إنّك لا تسألهم أجرا.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) : يعني علم غيب الآخرة (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤١) : أي لأنفسهم ما يتخيّرون من أمر الآخرة ، أي الجنّة ، إن كانت جنّة. ومعنى قولهم كقول الكافر : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصّلت : ٥٠] أي : الجنّة إن كانت. أي : ليس عندهم غيب الآخرة.

قوله عزوجل : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) : أي بالنبيّ ، أي : قد أرادوه ، وذلك ما كانوا يتآمرون فيه (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (٤٢) : كقوله : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً) (١٦) [الطارق : ١٥ ـ ١٦] أي : إنّ الله يكيدهم ، أي يجازيهم جزاء كيدهم وهو العذاب.

قال تعالى : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) : أي ليس لهم إله غير الله.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٣) : ينزّه نفسه عمّا يشركون.

وقوله عزوجل : أم ، أم ، أم من أوّل الكلام : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) إلى هذا الموضع كلّها استفهام ، وكذّبهم به كلّه.

قوله : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ) : أي قطعة من السماء (ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (٤٤) : [بعضه على بعض. وذلك أنّه قال في سورة سبأ : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٣٣ : «هي السلّم وهو السلّم ، ومجاز (فِيهِ) به وعليه. وفي القرآن : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٢٣] إنّما هو على جذوع النخل. والسّلّم : السبب والمرقاة ... ويقول الرجل : اتّخذتني سلّما لحاجتك ، أي سببا».

٢١٢

نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [سبأ : ٩] فقالوا للنبيّ عليه‌السلام : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى ... أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٢] ، فأنزل الله : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي : ولم يؤمنوا] (١).

قال الله : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (٤٥) : أي يموتون بالفزع ، وهي النفخة الأولى في تفسير الحسن ، يعني كفّار آخر هذه الأمّة الذين يكون هلاكهم بقيام الساعة. وقد قال في سورة سال سائل : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٤٢) [المعارج : ٤٢] وهي النفخة الآخرة.

قال : (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) : أي لا يغني عنهم عبادة الأوثان ولا ما كادوا به النبيّ عليه‌السلام شيئا. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٦) : أي إذا جاءهم العذاب.

قال تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي أشركوا (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) : أي بالسيف يوم بدر ، يعني من أهلك يوم بدر بالسيف في تفسير الحسن. وقال مجاهد : الجوع الذي أصابهم.

وبعضهم يقول : عذابا دون عذاب الآخرة : عذاب القبر. وقد كان الدخان والجوع الذي أصابهم بمكّة عذابا قبل عذاب السيف يوم بدر.

قال : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) يعني الجوع بمكّة (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٧٧) [المؤمنون : ٧٦ ـ ٧٧] وهو يوم بدر.

والعذاب خمس : عذاب الجوع الذي أصابهم بمكّة ، وعذاب السيف يوم بدر ، وعذاب القبر لمن مات من المشركين قبل قيام الساعة ، وعذاب الساعة الذي يهلك به كفّار آخر هذه الأمّة ، والعذاب الأكبر : جهنّم.

قال تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٧) : يعني بأكثرهم جماعتهم ، يعني من لم يؤمن.

قوله عزوجل : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) : أي لما يحكم الله عليك ، فأمره بقتالهم ، واصبر على أذاهم إيّاك (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) : أي نرى ما تصنع وما يصنع بك ، وسنجزيك ونجزيهم.

__________________

(١) ما بين المعقوفين زيادة من ز ورقة ٣٤٢ ، لا بدّ من إثباتها.

٢١٣

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (٤٨) : من منامك ، يعني صلاة الصبح ، في تفسير الحسن. وقال بعضهم : حين تقوم للصلاة (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) : أي صلاة المغرب وصلاة العشاء (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩) : يعني الركعتين قبل صلاة الصبح. وذكر عن عليّ قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) فقال : هما الركعتان قبل صلاة الصبح (١).

* * *

__________________

(١) حديث صحيح ، أخرجه يحيى بن سلّام بهذا السند : «يحيى عن عثمان عن أبي اسحاق الهمداني عن الحارث عن عليّ ...». وأخرجه الترمذيّ من حديث ابن عبّاس مرفوعا في كتاب التفسير سورة الطور بلفظ : «إدبار النجوم : الركعتان قبل الفجر ، وإدبار السجود : الركعتان بعد المغرب». وانظر ما سلف قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٤٠ من سورة ق. وأخرج مسلم في صحيحه ، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب استحباب ركعتي سنّة الفجر ... عن عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها». (رقم ٧٢٥).

٢١٤

تفسير سورة النجم ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) : أي والوحي إذا نزل ، في تفسير ابن عبّاس. ذكروا عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : نزل القرآن إلى السماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ؛ ثمّ جعل بعد ذلك ينزل نجوما : ثلاث آيات ، وأربع آيات ، وخمس آيات ، وأقلّ من ذلك وأكثر ؛ ثمّ تلا هذه الآية : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) [الواقعة : ٧٥].

وقال بعضهم : الثريّا إذا غابت. وتفسير الحسن : يعني الكواكب إذا انتثرت. والنجم جماعة النجوم ، كقوله عزوجل : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقّة : ١٧] يعني جماعة الملائكة. وكقوله : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١] يعني جماعة الطير. وقوله : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) قسم أقسم به.

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢) : أي محمّد. (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ) : إنّ القرآن الذي ينطق به محمّد (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤).

(عَلَّمَهُ) : أي علّم محمّدا (شَدِيدُ الْقُوى) (٥) : أي جبريل ، شديد الخلق. (ذُو مِرَّةٍ) : وهو من شدّة الخلق أيضا.

وتفسير الحسن : استمرّ على أمر الله (١).

قال تعالى : (فَاسْتَوى) (٦) : أي : استوى جبريل عند محمّد. أي : رآه في صورتة. (وَهُوَ

__________________

(١) كذا في ق وع : «استمر على أمر الله» ، ولم أجد هذا المعنى تأويلا لقوله تعالى (ذُو مِرَّةٍ) فيما بين يديّ من كتب التفسير ، فهل هو ممّا انفرد بروايته ابن سلّام؟ أم أنّ في العبارة سقطا أو خطأ من النسّاخ؟ والتفسير المشهور لقوله تعالى : (ذُو مِرَّةٍ) هو ما ذكره المؤلّف أوّلا ، وهو ما ذهب إليه جمهور المفسّرين. قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٣٦ : (ذُو مِرَّةٍ) : ذو شدّة وإحكام ، يقال : حبل ممرّ ، أي : مشدود». وقال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٤٢٧ : (ذُو مِرَّةٍ) أي : ذو قوّة ، وأصل المرّة الفتل». وقال الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٤ ص ٤١٧ : (ذُو مِرَّةٍ) : ذو حصافة في عقله ورأيه ومتانة في دينه». وهذا القول الأخير نسب أيضا لقطرب ، انظر : تفسير القرطبيّ ، ج ١٧ ص ٨٦. أمّا ما ذكر في بعض التفاسير منسوبا إلى الحسن من أنّ قوله تعالى : (شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ) هو الله عزوجل فهو قول خالف به الحسن جمهور المفسّرين.

٢١٥

بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (٧) : أي : جبريل بالأفق الأعلى (١) ، وهو المشرق ، فسدّ ما بين الأفقين ، في تفسير الحسن. وكان محمّد يرى جبريل في غير صورته ، أي التي هي صورته ، فرآه يومئذ في صورته.

ذكروا عن مسروق عن عائشة قالت : ثلاث من قالهنّ فقد أعظم على الله الفرية : من زعم أنّ محمّدا رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية ، لأنّ الله يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] ، ومن زعم أنّ محمّدا قد نقص شيئا من الوحي لم يخبر به فقد أعظم على الله الفرية ، لأنّ الله يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ، ومن زعم أنّه يعلم ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، لأنّ الله يقول : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤) [لقمان : ٣٤]. قال : فقلت : يا أمّ المؤمنين : ألا تخبرينني عن قوله : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣) [التكوير : ٢٣]. قالت : رأى جبريل في صورته قد سدّ ما بين السماء والأرض (٢).

قال عزوجل : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) (٨) : أي جبريل بالوحي إلى محمّد (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩) : والقاب : القدر. وقال بعضهم : (قابَ قَوْسَيْنِ) أي : ذراعين (أَوْ أَدْنى) أي : بل أدنى من ذراعين. (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ) : أي إلى عبد الله (ما أَوْحى) (١٠). ذكروا عن

__________________

(١) كذا في ق وع وفي ز ورقة ٣٤٢ ، وهو الصحيح ، وهذا ما ذهب إليه المحقّقون من المفسّرين. أي استوى جبريل ، (وَهُوَ) أي وجبريل بالأفق الأعلى. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٩٥ : «وقوله عزوجل (فَاسْتَوى) استوى هو وجبريل بالأفق الأعلى لمّا أسري به ، وهو مطلع الشمس الأعلى. فأضمر الاسم في (فَاسْتَوى) وردّ عليه (هُوَ). وأكثر كلام العرب أن يقولوا : استوى هو وأبوه ، ولا يكادون يقولون : استوى وأبوه ، وهو جائز ، لأنّ في الفعل مضمرا ... قال الله تبارك وتعالى ، وهو أصدق قيلا : (إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) [النمل : ٦٧] ، فردّ الآباء على المضمر في (كنا) إلّا أنّه حسن لمّا حيل بينهما بالتراب والكلام : إذا كنّا ترابا نحن وآباؤنا. انظر في هذا ابن الجوزي ، زاد المسير ، ج ٨ ص ٦٤ ـ ٦٥ ، وانظر كذلك : ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، ج ٢٧ ص ٩٤ ـ ٩٦.

(٢) حديث مسروق عن عائشة رواه أصحاب السنن ، انظر مثلا : صحيح البخاريّ ، كتاب التفسير ، سورة والنجم. ورواه الربيع بن حبيب في مسنده ، ج ١ ص ٢٢ (رقم ٦١) عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن عائشة مختصرا.

٢١٦

عروة بن الزبير عن عائشة أنّ النبيّ عليه‌السلام كان أوّل شأنه أنّه يرى في المنام. فكان أوّل ما رأى جبريل بأجياد ، إنّه خرج لبعض حاجته ، فصرخ به جبريل : يا محمّد ، يا محمّد! فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا. فرفع بصره ، فإذا هو بجبريل يلقي إحدى رجليه على الأخرى على أفق السماء. قال : يا محمّد ، جبريل ، جبريل ، يسكنه. فهرب محمّد عليه‌السلام حتّى دخل في الناس ، فلم ير شيئا. ثمّ خرج فنظر فرآه. وذلك قول الله عزوجل : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) ، أي جبريل إلى محمّد (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى). ويقال : إن القاب نصف الإصبع ، وبعضهم يقول : ذراعين ، كان بينهما. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، أي : جبريل إلى محمّد عليهما‌السلام. وكانت عائشة رضي الله عنها تنكر أنّ محمّدا رأى ربّه. وكان عروة ينكر ذلك إنكارا شديدا. قال : وكان المسلمون ينكرون ذلك إنكارا شديدا. قال : وبيان ذلك في سورة (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) (١٥) في قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (١٩) أي : جبريل (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَ) أي : في السماء (أَمِينٍ) (٢١) أي : على ما أتى به من الوحي (وَما صاحِبُكُمْ) يعني محمّدا عليه‌السلام (بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ) أي رأى محمّد جبريل (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣) [التكوير : ١٥ ـ ٢٣].

قوله عزوجل : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) : وهي تقرأ على وجهين : بالتثقيل والتخفيف ؛ فمن قرأها بالتثقيل فهو يقول : ما كذب فؤاد محمّد ما رأى من ملكوت السماوات وآياته. ومن قرأها بالتخفيف فهو يقول : ما كذب فؤاد محمّد ما رأى ، قد صدق الرؤية فأثبتها (١).

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) (١٢) : وهي تقرأ على وجه آخر : (أَفَتُمارُونَهُ) فمن قرأها : (أَفَتُمارُونَهُ) يقول للمشركين : أفتمارون محمّدا عليه‌السلام ، أي : أفتجادلونه على ما يرى؟ يجعل المراء منهم. ومن قرأها : (أَفَتُمارُونَهُ) فهو يثبت المراء منهم خاصّة وينفيه عن محمّد عليه‌السلام.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (١٣) : أي مرّة أخرى ، أي رأى جبريل في صورته مرّتين(٢).

__________________

(١) كذا جاء في ق وع ، وهو الصواب ، وانظر معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٩٦.

(٢) جمهور المفسّرين على أنّ الضمير في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) راجع إلى جبريل الذي كنّي عنه في ـ

٢١٧

قال تعالى : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤) : ذكروا عن سعد بن كعب عن رجل عن ابن عبّاس قال : سألت كعبا عن سدرة المنتهى فقال : ينتهى إليها بأرواح المؤمنين إذا ماتوا ، لا يجاوزها روح مؤمن. فإذا قبض المؤمن شيّعه مقرّبو أهل السماوات حتّى ينتهى به إلى السدرة فيوضع. ثمّ تصفّ الملائكة المقرّبون فيصلّون عليه كما تصلّون أنتم على موتاكم هاهنا.

ذكروا عن مالك بن صعصعة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر في حديث ليلة أسري به قال : ثمّ رفعت لنا سدرة المنتهى فإذا أوراقها مثل آذان الفيلة ، وإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا أربعة أنهار تجري من أصلها : نهران ظاهران ونهران باطنان. قلت : يا جبريل ، ما هذه الأنهار؟ فقال : أمّا الباطنان فنهران في الجنّة ، وأمّا الظاهران فالنيل والفرات (١).

قوله عزوجل : (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١٥) : أي الجنّة عند السدرة ، والمأوى : مأوى المؤمنين.

قوله عزوجل : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (١٦) : ذكروا عن عبد الله بن مرّة عن مسروق قال : غشيها فراش من الذهب.

وذكر عن أبي سعيد الخدريّ قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر في حديث ليلة أسري قال : ثمّ انتهينا إلى سدرة المنتهى فغشّاها من أمر الله ما غشّى ، فأيّده بتأييده ، ورفع عن كلّ ورق ملك (٢).

وقال مجاهد : وكان أغصان الشجر من لؤلؤ.

__________________

ـ قوله قبل ذلك : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) انظر : ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، ج ٢٧ ص ٩٤ ـ ١٠٢. وروى الطبريّ في ج ٢٧ ص ٥٠ ـ ٥١ بسند عن مسروق عن عائشة أنّها قالت : «من زعم أنّ محمّدا رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله. قال : وكنت متّكئا فجلست ، فقلت : يا أمّ المؤمنين ، أنظريني ولا تعجليني ، أرأيت قول الله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)؟ قالت : إنّما هو جبريل رآه مرّة على خلقه وصورته التي خلق عليها. ورآه مرّة أخرى حين هبط من السماء إلى الأرض ، سادّا عظم خلقه ما بين السماء والأرض. قالت : أنا أوّل من سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية. قال : هو جبريل عليه‌السلام». وانظر : ابن الجوزي ، زاد المسير ، ج ٨ ص ٦٤ ـ ٧٠.

(١) انظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء ، في أحاديث الإسراء والمعراج.

(٢) انظر ما سلف ، ج ٢ ، في نفس الموضع أيضا.

٢١٨

قوله عزوجل : (ما زاغَ الْبَصَرُ) : أي بصر النبيّ عليه‌السلام ، أي : ما زاغ البصر فلم يثبت ما رأى (وَما طَغى) (١٧) : أي ما قال ما لم ير.

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨) : ولم يقل رأى ربّه الكبير (١). يعني ما قصّ ممّا رأى. ثمّ قال للمشركين : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) : أي بعد الإلهتين. واللّات كانت لثقيف ، والعزى لقريش (٢) ، ومناة لبني هلال.

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) (٢١) : على الاستفهام. وذلك أنّهم جعلوا الملائكة بنات الله ، وجعلوا لأنفسهم الغلمان. قالوا إنّ الله صاحب بنات ، فسمّوا هذه الأصنام فجعلوها إناثا. قال الله : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) أي : ليس كذلكم.

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢) : أي جائرة. أي : قسمة جور في تفسير الحسن. يقول : إذ جعلوا لله البنات ولهم الغلمان. وقال مجاهد : (ضِيزى) أي : معوجّة (٣).

ثمّ قال الله : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) : يعني اللّات والعزّى ومناة (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) : أي من حجّة بأنّها آلهة.

ثمّ قال للنبيّ عليه‌السلام : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) : أي إنّ ذلك منهم ظنّ (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢٣) : أي القرآن.

ذكروا عن أبي العالية الرياحي قال : كان النبيّ عليه‌السلام في المسجد الحرام يصلّي وهو يقرأ سورة النجم. فلمّا أتى على هذه الآية : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان على لسانه : إنّهنّ من الغرانيق العلى ، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى. فأعجب ذلك المشركين. وقرأ السورة حتّى ختمها فسجد وسجد معه أهل مكّة المؤمنون والمشركون ، والجنّ والإنس ، فأنزل الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما

__________________

(١) هذه الجملة من الشيخ هود الهوّاريّ ولا شكّ ، فهي غير واردة في ز ، وقد جاء فيها ما قبلها وما بعدها.

(٢) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٩٨ : «وكانت العزّى سمرة لغطفان يعبدونها». وقال : «كانت مناة صخرة لهذيل ، وخزاعة يعبدونها».

(٣) انظر تحقيقا ممتعا مفيدا في أصل الكلمة (ضِيزى) ووزنها في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٩٨ ـ ٩٩. وانظر مجاز أبي عبيدة ، ج ٢ ص ٢٣٧.

٢١٩

يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني المنافقين (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) [الحج : ٥٢ ـ ٥٣] يعني المشركين. قوله : (إِذا تَمَنَّى) أي : إذا قرأ ، في تفسير بعضهم. وقال الكلبيّ : إذا حدّث نفسه.

وقال الكلبيّ : كان النبيّ عليه‌السلام يصلّي في البيت ، والمشركون جلوس ؛ فقرأ (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) فحدّث نفسه ، حتّى إذا بلغ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان على لسانه : فإنّها من الغرانيق العلى ، يعنى الملائكة ، وإنّ شفاعتهم ترتجى. وقال بعضهم : وإنّها مع الغرانيق العلى ، وإنّ شفاعتهم لترتجى.

وقال بعضهم : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند المقام يصلّي ، إذ نعس ، فألقى الشيطان على لسانه كلمة فتكلّم بها ، فتلقّفها المشركون عليه : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) وإنّها مع الغرانيق العلى ، فأنزل الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى ..). الآية.

قال الكلبيّ : فلمّا انصرف النبيّ عليه‌السلام من صلاته قال المشركون : قد ذكر محمّد آلهتنا بخير. فقال النبيّ عليه‌السلام : والله ما كذلك نزلت عليّ. فنزل عليه جبريل ، فأخبره النبيّ عليه‌السلام فقال : والله ما هكذا علّمتك ، وما جئت بها هكذا. فأنزل الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ..). وقال الكلبيّ : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) : إن سأل شيئا من الدنيا. فألقى الشيطان على لسانه هذا القول. وقال بعضهم : وبلغنا أنّه قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) أي : انقبضت (قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي : أوثانهم (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٥) [الزمر : ٤٥].

قوله عزوجل : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) (٢٤) : وذلك لفرح المشركين بما ألقى الشيطان على لسان النبيّ من ذكر آلهتهم (١).

قال : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٢٥) : [أي ثوابهما] (٢).

__________________

(١) قصّة الغرانيق هذه قصّة موضوعة ما أنزل الله بها من سلطان. وقد فنّدها جمع من علماء التفسير المحقّقين قديما وحديثا. انظر تعليقنا عليها فيما مضى ج ٣ ، تفسير الآية ٥٢ من سورة الحجّ.

(٢) زيادة من معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٩٩.

٢٢٠