تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (١٣) : أي مطيقين (١). (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (١٤). ذكروا عن الحسن أنّه كان يقول : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، وعلّمنا القرآن ، ومنّ علينا بمحمّد عليه‌السلام ، ويقول : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) لو لا أنّ الله سخّره لنا.

ذكروا عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سافر ركب راحلته فكبّر ثلاثا ثمّ قال :

(سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) اللهمّ إنّي أسألك في سفري هذا البرّ والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهمّ اصحبنا في سفرنا ، واخلفنا في أهلنا. اللهمّ هوّن علينا السفر ، واطو لنا بعد الأرض. اللهمّ أنت الصاحب في السفر والحضر ، والخليفة في الأهل (٢).

ذكروا عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول أحيانا إذا قرب راحلته ليركب ، وأحيانا إذا ركب راحلته : بسم الله ، اللهمّ ازو لنا الأرض وهوّن علينا السفر. اللهمّ أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل. اللهمّ إنّا نعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر في الأهل والولد والمال.

وقال بعضهم : قد بيّن الله لكم ما تقولون إذا ركبتم في البرّ ، وما تقولون إذا ركبتم في البحر ؛ إذا ركبتم في البرّ قلتم : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ، وإذا ركبتم في البحر قلتم : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤١) [هود : ٤١].

قوله : (وَجَعَلُوا لَهُ) : يعني المشركين (مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) : يعني الملائكة جعلوهم بنات لله. قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) (١٥).

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٠٢ : (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ضابطين ، يقال : فلان مقرن لفلان ، أي : ضابط له مطيق».

(٢) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الحجّ ، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحجّ وغيره ، عن ابن عمر (رقم ١٣٤٢) وجاء في آخر الحديث : «وإذا رجع قالهنّ ، وزاد فيهنّ : آيبون ، تائبون ، عابدون ، لربّنا حامدون». وقد روى هذا الحديث أحمد وأبو داود والنسائيّ ، ولم أجده فيما بين يديّ من المصادر من رواية أبي هريرة ، ولعلّ هذا ممّا انفرد بروايته ابن سلّام من هذه الطريق.

١٠١

قال : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) : على الاستفهام (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) (١٦) : أي لم يفعل ذلك.

قال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) : أي بالأنثى ، لقولهم : إنّ الملائكة بنات الله ، وكانوا يقولون : إنّ الله صاحب بنات ، فألحقوا البنات به ، فيقتلون بناتهم (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) : أي مغبرّا (وَهُوَ كَظِيمٌ) (١٧) : أي قد كظم على الغيظ والحزن ، أي : رضوا لله ما كرهوا لأنفسهم.

قال : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) : وهذا تبع للكلام الأوّل : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) ، يقول : أو يتّخذ من ينشأ في الحلية ، يعني النساء ، بنات؟ لقولهم : الملائكة بنات الله. قال الله عزوجل : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (١٩) : أي لا تبين عن نفسها من ضعفها ، (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أي : لم يفعل. قال الكلبيّ في قوله : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) يقول : هؤلاء النساء اتّخذهنّ منكم ، جعلتم لله بنات مثلهنّ.

قوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) : كقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) [الأنبياء : ١٩] يعني الملائكة. وقرأ ابن عبّاس : (الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) كقوله : (سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢٦) [الأنبياء : ٢٦]. قال : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) : أي إنّهم لم يشهدوا خلقهم (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) (١٩) : أي عنها يوم القيامة.

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) : أي لو كره الله هذا [الدين] (١) الذي نحن عليه لحوّلنا عنه إلى غيره. قال الله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) : أي بأنّي أمرتهم أن يعبدوا غيري ، إنّما قالوا ذلك على الشكّ والظّنّ (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٢٠) : أي يكذبون.

قال : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) : أي من قبل هذا القرآن ، فيه ما يدّعون من أنّ الملائكة بنات الله ، وقولهم : لو كره الله ما نحن عليه لحوّلنا عنه إلى غيره (فَهُمْ بِهِ) : أي بذلك الكتاب (مُسْتَمْسِكُونَ) (٢١) : أي يحاجّون به ، أي : لم نؤتهم كتابا فيه ما يقولون فهم به مستمسكون.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣١٤.

١٠٢

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (١) أي : على ملّة ، وهي ملّة الشرك.

(وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (٢٢) : أي إنّهم كانوا على هدى ، ونحن نتّبعهم على ذلك الهدى.

قال الله : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) : أي من نبيّ ينذرهم العذاب (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) : أي جبابرتها وعظماؤها ، أي : مشركوها ، وهم أهل السعة (٢) والقادة في الشرك ، فاتّبعهم من دونهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) : أي على ملّة (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٢٣) : أي إنّهم كانوا مهتدين ، فنحن مقتدون بهداهم.

قال الله للنبيّ عليه‌السلام : قل لهم يا محمّد (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ). ثمّ رجع إلى قصّة الأمم السالفة فأخبر بما قالوا لأنبيائهم : (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٢٤).

قال : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) : يعني الذين كذّبوا رسلهم ، أي : فأهلكناهم. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٢٥) : أي كان عاقبتهم أن دمّر الله عليهم ثمّ صيّرهم إلى النار.

قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) : أي لكن أعبد الذي فطرني ، أي : الذي خلقني ، كقوله : (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) [يونس : ١٠٤] قال : (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (٢٧) : أي يثبّتني على الإيمان.

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) : أي في ذرّيّته ، والكلمة : لا إله إلّا الله. كقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] وقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩](لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٨) : أي لكي يرجعوا إلى الإيمان.

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٣٠ : «قرأ القرّاء بضمّ الألف من (أمّة) ، وكسرها مجاهد وعمر بن عبد العزيز ، وكأنّ الإمة مثل السنة والملّة. وكأنّ الإمّة الطريقة ، والمصدر من أممت القوم ، فإنّ العرب تقول : ما أحسن إمّته وعمّته وجلسته إذا كان مصدرا. والإمّة أيضا الملك والنعيم».

(٢) في ع وق «أهل السفه» ، وفي الكلمة تصحيف ، صوابه : «السعة» كما جاء في ز.

١٠٣

قوله : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) : يعني قريشا ، أي : لم أعذّبهم.

كقوله : (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (٨) [سورة ص : ٨] قال : (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ) : أي القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) (٢٩) : أي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ) : أي القرآن (قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) (٣٠) : أي جاحدون.

(وَقالُوا لَوْ لا) : أي هلّا (نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣١) : والقريتان مكّة والطائف. أي : لو كان هذا القرآن حقّا لكان هذان الرجلان أحقّ به منك يا محمّد ، يعنون : الوليد بن المغيرة المخزوميّ وأبا مسعود الثقفيّ.

قال الله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) : يعني النبوّة ، على الاستفهام ، أي : ليس ذلك في أيديهم فيضعوا النبوّة حيث شاءوا (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) : أي في الرزق (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) : [أي : يملك بعضهم بعضا] (١) من باب السخرة. قال : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٣٢) : أي ممّا يجمع المشركون من الدنيا.

قال : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) : ذكروا عن الحسن أنّه قال : ولو لا أن يجتمعوا على الكفر (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) : أي ودرجا (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (٣٣) : أي عليها يرقون إلى ظهور بيوتهم.

(وَلِبُيُوتِهِمْ) : أي ولجعلنا لبيوتهم (أَبْواباً) من فضّة (وَسُرُراً) من فضّة (عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً) : والزخرف الذهب.

(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي يستمتع به ثمّ يذهب (وَالْآخِرَةُ) : يعني الجنّة (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٥). ذكروا عن الحسن قال : دخل عمر بن الخطّاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على سرير مرمول (٢) بشريط من شرط المدينة ، وتحته وسادة من أدم حشوها

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣١٤.

(٢) أي : منسوج بشرط من سعف نخل المدينة. يقال : رملت الحصير وأرملته إذا نسجته. انظر : ابن قتيبة ، ـ

١٠٤

ليف ، وقد أثّر في جسمه ، وفي البيت أهب فيها إهاب قد عطن ، أي : أنتن. فقال : يا رسول الله ، أتجد ما أجد. قال : متاع البيت وما لا بدّ لهم منه. قال عمر : أمّا أنا فأشهد أنّك رسول الله وأنّك أكرم على الله من كسرى وقيصر ، وهما متّكئان على سرر الذهب. فقال : يا ابن الخطّاب ، أما ترضى بأن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة. قال : بلى. قال : كذلك (١).

ذكر الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر (٢).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كانت الدنيا عند الله تعدل جناح ذبابة ، أو بعوضة ، ما أعطى الكافر منها شيئا (٣).

ذكروا أنّ كعبا قال : يقول الله : لو لا أن أحزن عبدي المؤمن لأعطيت الكافر منها كذا وكذا. قال صاحب الحديث : لجعلت على رأسه غطاء من حديد لا يصدع رأسه.

قوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) : أي ومن يعم عن ذكر الرحمن ، وهذا المشرك (نُقَيِّضْ) : أي : نسبّب (٤) (لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٣٦).

قوله : (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) : أي عن سبيل الهدى (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٧).

(حَتَّى إِذا جاءَنا) : أي هو وقرينه ، يعني شيطانه. وهي تقرأ على وجه آخر : (حَتَّى إِذا جاءَنا) [أي : العاشي عن ذكر الرحمن]. (قالَ) : أي لقرينه (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (٣٨).

__________________

ـ غريب الحديث ، ج ١ ص ٥٩٨ ، وانظر : اللسان : (رمل).

(١) حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، سورة التحريم ، وأخرجه مسلم مطوّلا في كتاب الطلاق ، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهنّ وقوله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) (رقم ١٤٧٩) كلاهما يرويه من حديث عمر ، ولم أجد في كتب الحديث الجملة الأخيرة : «قال : كذلك».

(٢) انظر ما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ٦٢ من سورة العنكبوت ، وج ١ ، تفسير الآية ٣٢ من سورة الأنعام.

(٣) انظر ما سلف ، ج ٣ ، تفسير نفس الآية أيضا.

(٤) في ع : «ننسب» ، وفيه تصحيف ، صوابه ما أثبتّه : «نسبب» كما أورده ابن الجوزي في زاد المسير ، ج ٧ ص ٣١٥. وانظر اللسان : (قيض).

١٠٥

[قال بعضهم : إنّ الكافر إذا خرج من قبره وجد عند رأسه شيطانه ، فيأخذ بيده فيقول : أنا قرينك حتّى أدخل أنا وأنت جهنّم. قال محمّد : عند ذلك يقول : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)] (١).

قال الله عزوجل : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) : أي أشركتم (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٩) : أي يقرن هو وشيطانه في سلسلة واحدة يتبرّأ كلّ منهما من صاحبه [ويلعن كلّ منهما صاحبه] (٢).

قوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) : يعني النبيّ عليه‌السلام (تُسْمِعُ الصُّمَّ) أي عن الهدى (أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) : أي عن الهدى (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٠) ، يقوله على الاستفهام ، أي : إنّك لا تسمعهم ولا تهديهم ، يعني من لا يؤمن.

قوله : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) : أي نتوفينّك (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (٤٢).

ذكروا عن الحسن قال : كانت بعده نقمة شديدة ؛ أكرم الله نبيّه من أن يريه ما كان من النقمة في أمّته بعده.

قال بعضهم : وقد أنزل الله آية في المشركين : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) [غافر : ٧٧] وأشباه ذلك ممّا أوعدهم الله من العذاب ، فكان بعض ذلك يوم بدر وبعده ، وبعضه يكون مع قيام الساعة بالنفخة الأولى ، بها يكون هلاك كفّار آخر هذه الأمّة.

قال : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) : أي القرآن (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٣) : وهو الإسلام ، أي : الطريق إلى الجنّة.

قال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) : يعني القرآن شرف لك ولقومك ، يعني قريشا. تفسير الحسن : أن يذكروا به الحلال والحرام والأحكام ، فيعلمون ما يحلّون وما يحرّمون.

__________________

(١) وقع اضطراب ونقص في مخطوطة ج ، فأثبتّ تصحيحه وإكماله من كتب التفسير. والزيادة من كتاب الحجّة لابن خالويه ، ص ٢٩٥. وقد سقط ما بين المعقوفين كلّه فأثبتّه من ز ، ورقة ٣١٥.

(٢) زيادة من ز.

١٠٦

(وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) (٤٤) : يوم القيامة ، أي : أستمسكتم بهذا الدين أم ضيّعتموه. وقال بعضهم : تسألون عن أداء شكره.

وقال بعضهم : عمّا ولّيتم من أمر هذه الأمّة. ذكروا عن الحسن وعن سليمان بن يسار أنّ عمر بن الخطاب قال : لو ضاع شيء بشاطئ الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه.

ذكروا عن الزهريّ أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قدّموا قريشا ولا تتقدّموها ، وتعلّموا منها ولا تعلّموها (١).

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الناس في هذا الأمر تبع لقريش (٢).

قوله عزوجل : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) : أي واسأل الناس عمّن أرسلنا من قبلك من رسلنا ، أي : واسأل جبريل ، فإنّه هو الذي كان يأتيهم بالرسالة. أي : هل أرسلنا من رسول إلّا بشهادة ألّا إله إلّا الله وأنّك رسول الله؟. كقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥) [الأنبياء : ٢٥].

وتفسير الكلبيّ : اسأل الذين أرسلنا إليهم الرسل قبلك ، يعني أهل الكتاب ، من آمن منهم.

(أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥) : فلم يسأل ولم يشكّ. قال بعضهم : هو مثل قوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) [يونس : ٩٤] فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أشكّ ولا أسأل (٣). وبعضهم يقول : كان هذا ليلة أسري به وصلّى بالنبيّين.

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) : يعني قومه (فَقالَ إِنِّي

__________________

(١) حديث صحيح ، أخرجه الطبرانيّ عن عبد الله بن السايب ، وأخرجه ابن عديّ في الكامل عن أبي هريرة.

(٢) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاريّ بأطول ممّا هو هنا في المناقب ، باب قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش ، من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (رقم ١٨١٨) ولفظه : «الناس تبع لقريش في هذا الشأن ، مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم».

(٣) أخرجه ابن جرير الطبريّ من طريقين عن قتادة مرسلا. انظر : تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ص ٢٠٢ ، ط. دار المعارف.

١٠٧

رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) (٤٧) : أي استهزاء وتكذيبا. قال الله : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) : كانت اليد أكبر من العصا في تفسير الحسن. وقال الكلبيّ : الآيات التي عذّبوا بها ، يعني الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم. قال : (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤٨) : أي لعلّ من بعدهم ممّن كان على دينهم من الكفّار يرجعون إلى الإيمان.

قوله عزوجل : (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) : أي فيما تدّعي (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) (٤٩) : أي لمؤمنون. أخذ الله آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلّهم يذّكّرون ، فأجدبت أرضهم ، وهلكت مواشيهم ، ونقصت ثمارهم ، فقالوا : هذا ما سحرنا به هذا الرجل. قالوا : يا موسى (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٣٢) [الأعراف : ١٣٢] أي : بمصدّقين. فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم آيات مفصّلات. وقد فسّرنا ذلك في سورة (المص) (١). قال الله عزوجل : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (٥٠) [أي : ينقضون عهدهم] (٢).

قال : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) : أي حين جاءه موسى يدعوه إلى الله ؛ (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) : أي في ملكي.

(أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٥١) : فيها إضمار ، أفلا تبصرون [أم تبصرون] (٣).

ثمّ استأنف الكلام فقال : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) : أي بل أنا خير (٤) (مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) : أي ضعيف (وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٥٢) : يعني العقدة التي كانت في لسانه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو صغير حين تناول لحية فرعون ، فأراد أن يقتله فقالت له امرأته : هذا صغير لا يعقل ، فإن أردت أن تعلم ذلك فادع بتمرة وجمرة فاعرضهما عليه ؛ فأتي بتمرة وجمرة فعرضتا عليه

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآيات ١٣٢ ـ ١٣٧ من سورة الأعراف.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣١٦.

(٣) زيادة يقتضيها سياق الكلام من بعض الوجوه. انظر : تفسير القرطبيّ ، ج ١٦ ص ٩٩.

(٤) هذا هو التأويل الصحيح ، وانظر وجوها أخرى من تأويل (أم) ، في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٣٥ ، وفي تفسير القرطبيّ ، ج ١٦ ص ٩٩ ـ ١٠٠ ، واختلاف القرّاء في موضع الوقف من الآيتين.

١٠٨

فأخذ الجمرة فألقاها في فيه. فمنها كانت العقدة التي في لسانه. وقال الكلبيّ : كانت رتّة شديدة (١).

قال : (فَلَوْ لا) : أي فهلّا ، يقوله فرعون (أُلْقِيَ عَلَيْهِ) : أي على موسى (أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) : تفسير الحسن : كنز. أي مال من ذهب (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (٥٣) : أي جماعة الملائكة يمشون جميعا عيانا يصدّقونه بمقالته أنّه رسول الله.

قال الله عزوجل : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٤) : أي عاصين.

(فَلَمَّا آسَفُونا) : أي أغضبونا (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) (٥٦) : قال مجاهد : يقول : فجعلنا كفّارهم سلفا لكفّار أمّة محمّد عليه‌السلام (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) [أي : عبرة لمن بعدهم] (٢).

قوله عزوجل : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) (٥٧) : [أي : يضحكون في قراءة من قرأ بكسر الصاد ؛ ومن قرأها برفعها فهو من الصدود ؛ أي : يفرّون] (٣). تفسير الكلبيّ قال : لمّا نزلت (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨) [الأنبياء : ٩٨] قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقابل الكعبة فقرأ هذه الآية ، فوجد منها أهل مكّة وجدا شديدا. فدخل عليهم ابن الزبعريّ الشاعر ، وقريش يخوضون في ذكر هذه الآية فقال : أمحمّد تكلّم بهذا؟ قالوا : نعم. فقال والله لئن اعترف لي بهذا لأخصمنّه. فلقيه فقال : يا محمّد ، أرأيت الآية التي قرأت آنفا ، أفينا وفي آلهتنا نزلت خاصّة ، أم في الأمم وآلهتهم معنا؟ فقال : لا ، بل فيكم وفي آلهتكم وفي الأمم وآلهتهم (٤).

__________________

(١) في ع وق : «رثة» وفيه تصحيف صوابه ما أثبتّه. «رتّة» بضمّ الراء ، وهي من عيوب الكلام ، وقيل : «هي عجلة في الكلام وقلّة أناة».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣١٦.

(٣) ما بين المعقوفين زيادة من ز. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٠٥ : «من كسر الصاد فمجازها : يضجّون ، ومن ضمّها فمجازها : يعدلون».

(٤) انظر ما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ٩٨ من سورة الأنبياء.

١٠٩

فقال : خصمتك والذي يحلف به. ـ قال بعضهم : خصمتك وربّ الكعبة ـ ، أليس تثني على عيسى ومريم والملائكة خيرا ، وقد علمت أنّ النصارى يعبدون عيسى وأمّه ، وأنّ طائفة من الناس يعبدون الملائكة ، أفليس هؤلاء مع آلهتنا في النار. فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتضاحكت قريش وضجّوا. فذلك قول الله عزوجل : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي : من الصدود. (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) : قال الكلبيّ : يعنون عيسى. قال الله للنبيّ عليه‌السلام (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٥٨) : يقول : ما ضربوه لك إلّا ليجادلوك به ، وهم أهل خصومة وجدال. فقال الله عزوجل جوابا لهم : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) ..). [الأنبياء : ١٠١] إلى آخر الآيات (١). وتفسير مجاهد في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) يعني عيسى وعزير والملائكة.

وتفسير الحسن : (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) أي : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك أنّ المشركين قالوا : إنّما تريد يا محمّد أن نتّخذك ربّا كما اتّخذ النصارى عيسى ابن مريم. فآلهتنا أحقّ بذلك منك. فقال الله عزوجل : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) يعني ما هذا الذي قالوه إلّا جدل (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي يخاصمونك في غير الحقّ.

قال الله عزوجل : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) : أي : بالنبوّة ، يعني عيسى (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) : أي جعله الله مثلا لهم ، يعني عبرة لبني إسرائيل أي بما كان يصنع من تلك الآيات ممّا يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، وممّا علّمه الله ، وما كان يخبرهم به ممّا يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم.

قوله عزوجل : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) (٦٠) : أي ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يعمرون الأرض بدلا منكم (٢).

__________________

(١) وردت هنا في ع وق جملة لا صلة لها بتفسير الآية وهي هذه : «قال الله عزوجل : فلو لا إذ سألتك أولا قلت هذا. ولكن ادكرت إذ حلوت» (كذا) ولم أفهم لمناسبتها هنا معنى ، ويبدو أنّ ذلك سهو من ناسخ لذلك حذفتها ونبّهت عليها بالهامش.

(٢) في ع وق : «لجعلنا خلفاء منكم يعمرون الأرض مكانكم». وفي العبارة اضطراب ونقص. فأثبتّ ما جاء ـ

١١٠

قوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) : رجع إلى قصّة عيسى عليه‌السلام ، يعني نزول عيسى. [قال محمّد : قوله : (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) في قراءة من قرأ بكسر العين. المعنى : نزوله يعلم به قرب الساعة] (١) (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) : أي فلا تشكّنّ فيها.

(وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) : أي إلى الجنّة ، والطريق الإسلام. (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) : أي عن الطريق المستقيم (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٢) : أي بيّن العداوة.

قوله عزوجل : (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) : يعني تبديلهم التوراة في تفسير مجاهد (٢).

وقال الحسن : كان من البيّنات إحياؤه الموتى بإذن الله ، وإبراؤه الأكمه والأبرص ، وما كان يخبرهم به ممّا يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم. ومن البيّنات التي جاء بها أيضا الإنجيل ، فيه ما أمروا به وما نهوا عنه.

قال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (٦٣) : يقوله عيسى لهم (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦٤) : أي : إلى الجنّة ، يعني الإسلام.

قال : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) : يعني النصارى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي أشركوا (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٦٥) (٣).

قوله عزوجل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) : أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٦٦).

__________________

ـ في ز ورقة ٣١٦ ، وهو أصحّ عبارة وأوضح وأتمّ معنى. والقول لمجاهد كما ورد في تفسيره ، ص ٥٨٣.

(١) زيادة من ز ، والقول لابن أبي زمنين. وجاء في تفسير القرطبيّ ، ج ١٦ ص ١٠٥ ما يلي : «وقرأ ابن عبّاس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحّاك : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي : أمارة».

(٢) في تفسير مجاهد ص ٥٨٣ : «يعني به تبديل اليهود التوراة».

(٣) جاء في ز قول لقتادة في اختلاف النصارى إلى طوائف : اليعقوبيّة والنسطوريّة والإسرائيليّة. ومحاجّة المسلم لهم حتّى حجّهم.

انظر ذلك فيما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ٣٧ من سورة مريم.

١١١

قال : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧) : الأخلّاء من باب الخلال (١) ، الواحد خليل ، والجماعة أخلّاء. [استثنى من الأخلّاء المتّقين فقال : إلّا المتّقين منهم فإنّهم ليسوا بأعداء بعضهم لبعض] (٢).

قوله : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) : يقوله يوم القيامة (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (٧٠) تفسير الكلبيّ : تكرمون. وتفسير الحسن : تفرحون.

قال : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) : أي يغدى عليهم بها ، في كلّ واحدة منها لون ليس في صاحبتها ، يأكل من آخرها كما يأكل من أوّلها ، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أوّلها ، لا يشبه بعضها بعضا ، ويراح عليهم بمثلها. ويطوف على أرفعهم درجة كلّ يوم سبعمائة ألف غلام ، مع كلّ غلام صحفة من ذهب فيها لون من الطعام ليس في صاحبتها ، يأكل من آخرها كما يأكل من أوّلها ، ويجد طعم أوّلها كما يجد طعم آخرها ، ولا يشبه بعضه بعضا.

قال : (وَأَكْوابٍ) : والكوب : المدوّر ، القصير العنق ، القصير العروة ، والإبريق : المستطيل ، الطويل العنق ، الطويل العروة.

قال : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) : أي ما خطر على بالهم شيء أتاهم من غير أن يدعوه ، وإنّ أحدهم ليكون الطعام في فيه فيخطر على باله طعام آخر فيتحوّل ذلك الطعام في فيه. قال : (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).

ذكروا أنّ كعبا قال : إنّ الملك يأتي من عند الله إلى وليّ الله فيستأذن عليه فيقول وليّ الله : ائذنوا له ، فيؤذن له ، حتّى ينتهي إليه وبين أصبعه سبعون حلّة خير من الدنيا وما فيها ، فينظر وليّ الله فيقول : لقد أعطاني الله ما اشتهت نفسي ولذّت عيني ، ما رأيت في الجنّة مثل هذا ، فيقول له الملك : أبشر ، كان يكون لك مثل هذا إن اشتهيت ، فيقول : نعم. فيقول الملك لمن حوله من الشجر : أنا

__________________

(١) في ق وع : «من الخلل» ، والصحيح ما أثبتّه : «خلال» ، يقال : خاللت الرجل مخالّة وخلالا. «والخلّة : الصداقة والمحبّة التي تخلّلت القلب فصارت خلاله أي في باطنه». والخلال في قوله تعالى : (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) [إبراهيم : ٣١] إمّا مصدر ، وإمّا جمع خلّة. انظر : اللسان (خلل).

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣١٧.

١١٢

رسول ربّي إليكنّ ، لتعطوا فلانا مثل هذا إذا شاء. فما يمدّ يده إلى مثلها إلّا أخذها.

ذكروا عن أبي هريرة قال : دار المؤمن درّة مجوّفة (١) ، في وسطها شجرة تنبت الحلل ، ويمسك بين أصبعين من أصابعه سبعين حلّة منظومة باللؤلؤ والمرجان.

قال : (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) (٧١) : أي لا تموتون ولا تخرجون منها.

قال : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧٢) : أي على قدر أعمالهم. ورّث الله المؤمنين منازل الكافرين التي أعدّت لهم ، لو آمنوا ، مع منازلهم ، وهي مثل التي في المؤمنون : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) (١٠) [المؤمنون : ١٠].

قوله عزوجل : (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) (٧٣). ذكروا عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : والذي نفسي بيده إنّ أهل الجنّة ليتناولون من قطوفها وهم متّكئون في فرشهم ، فما تصل إلى في أحدهم حتّى يبدل الله مكانها أخرى (٢).

قوله عزوجل : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (٧٤) : يعني المشركين خالدين في جهنّم لا يموتون ولا يخرجون منها.

(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) : أي العذاب (وَهُمْ فِيهِ) : أي في العذاب (مُبْلِسُونَ) (٧٥) : أي آيسون من أن يخرجوا منها.

قال : (وَما ظَلَمْناهُمْ) : [يعني كفّار الأمم كلّها فيعذّبهم في الآخرة بغير ذنب] (٣) (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٧٦) : أي لأنفسهم بكفرهم.

(وَنادَوْا يا مالِكُ) : ولمالك خازن النار أعوان من الملائكة.

وخزنة النار تسعة عشر ، أحدهم مالك ، وهو رأسهم. (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧).

__________________

(١) في ق وع : «درّة محفوفة» ، والصواب ما أثبتّه : «مجوّفة».

(٢) رواه يحيى بن سلّام عن عثمان عن نعيم بن عبد الله عن أبي هريرة ، وانظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٣٥ من سورة الرعد.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣١٧.

١١٣

وذلك أنّهم يدعون مالكا فلا يجيبهم مقدار أربعين عاما (١) ثمّ يجيبهم (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ). ثمّ يدعون ربّهم فيذرهم مقدار عمر الدنيا مرّتين : ثمّ يجيبهم (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٨] فأيسوا بعدها ، فما نبس القوم بعدها بكلمة ، ما كان إلّا الزفير والشهيق. شبّه أصواتهم بأصوات الحمير ، أوّله زفير وآخره شهيق.

قوله : (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ) : أي بالقرآن ، يقوله للأحياء ، وانقطع كلام أهل النار. (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٨) : يعني من لم يؤمن.

قال : (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) : أي : كادوا كيدا بمحمّد (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) (٧٩) : أي : فإنّا كائدون. وذلك ما كانوا اجتمعوا له في دار الندوة في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠) [الأنفال : ٣٠]. وقد فسّرنا ذلك في سورة الأنفال (٢).

قوله : (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي : فإنّا كائدون لهم بالعذاب. قال مجاهد : فإنّا مجمعون.

قال : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) : أي : ما كانوا يتناجون فيه من أمر النبيّ عليه‌السلام. (بَلى وَرُسُلُنا) : يعني الحفظة (لَدَيْهِمْ) : أي عندهم (يَكْتُبُونَ) (٨٠) : أي يكتبون عليهم أعمالهم.

قوله : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) : أي ما كان للرحمن ولد (٣). ثمّ انقطع الكلام ، ثمّ قال :

__________________

(١) كذا في ع وق. وفي ز ورقة ٣١٨ : «ثمانين عاما».

(٢) انظر. ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٣٠ من سورة الأنفال.

(٣) لهذه الآية وجوه من التأويل لم يورد المؤلّف هنا إلّا واحدا منها. قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٠٦ : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (إن) في موضع (ما) في قول بعضهم : ما كان للرحمن ولد ، والفاء مجازها مجاز الواو : ما كان للرحمن ولد وأنا أوّل العابدين ... وقال آخرون : مجازها : إن كان في قولكم : (لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) ، أي الكافرين بذلك والجاحدين لما قلتم ، وهي من عبد يعبد عبدا». وقال مجاهد في تفسيره ، ص ٥٨٤ : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) يقول : إن كان له ولد كما تقولون (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) يقول : أنا أوّل المؤمنين بالله عزوجل ، فقولوا ما شئتم». وفي قول لمجاهد أيضا رواه الطبريّ ، ج ٢٥ ص ١٠١ : «فأنا أوّل من عبد الله ووحّده وكذّبكم». وانظر اللسان (عبد) ففيه تلخيص واف لهذه الأقوال. وقد رجّح الأزهريّ فيه قول مجاهد وقال عنه : «وهو الذي لا يجوز عندي غيره». وانظر كذلك ـ

١١٤

(فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٨١) : تفسير بعضهم : فأنا أوّل الدائنين من هذه الأمّة بأنّه ليس له ولد.

قال : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٨٢) : ينزّه نفسه عمّا يكذبون. (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) : أي : فقد أقمت عليهم الحجّة (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٨٣) : أي يوم القيامة. وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم.

قوله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) : أي : هو إله أهل السماء وإله أهل الأرض (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أمره (الْعَلِيمُ) (٨٤) بخلقه.

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) : أي علم مجيء الساعة ، لا يعلم علم مجيئها إلّا هو (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٥) : أي يوم القيامة.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) : أي الأوثان ، في تفسير الحسن ، أي : لا تملك أن تشفع لعابدها ، يقول : ليست الشفاعة لمن كان يدعو الأوثان ، أي : يعبدها من دون الله في الدنيا. قال : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) في الدنيا. يقول إنّما الشفاعة لمن شهد بالحقّ (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٨٦) أنّه الحقّ.

قال الكلبيّ : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) يعني الملائكة ، أي : لا يملك الملائكة أن يشفعوا إلّا لمن شهد بالحقّ ، أي : لا إله إلّا الله مخلصا وصلّى الخمس ، أي : فأولئك تشفع لهم الملائكة. وتفسير مجاهد : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) أي : الملائكة وعزير ، وعيسى.

قوله عزوجل : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) : يعني المشركين (مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٨٧) : أي فكيف يصدّون فيعبدون غيره.

قوله : (وَقِيلِهِ) : وهي تقرأ على ثلاثة أوجه : (وقيله) ، (وقيله) ، (وقيله) ؛ فمن قرأها بالنصب رجع إلى قوله : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) وقيله ، أي ولا نسمع قيله. ومن قرأها بالرفع ، فهو كلام مبتدأ ، يخبر بقوله. ومن قرأها بالجرّ رجع إلى قوله : (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ

__________________

ـ ابن الجوزي ، زاد المسير ، ج ٧ ص ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، وانظر ابن الأنباري ، البيان في غريب إعراب القرآن ، ج ٢ ص ٣٥٥.

١١٥

ملك السّماوات والأرض وما بينهما وعنده علم السّاعة) وعلم قيله.

وقيله : (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) (٨٨) : [هذا قول النبيّ يشكو قومه إلى الله] (١).

قال الله : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) : وهي منسوخة ، نسخها قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥](وَقُلْ سَلامٌ) : كلمة حلم بين المؤمنين والمشركين ؛ وكان ذلك قبل أن يؤمر بقتالهم ، ثمّ أمر بقتالهم. قال : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩) : أي يوم القيامة ، وهي كلمة وعيد.

* * *

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣١٨.

١١٦

تفسير سورة الدخان ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (حم) (١) : قد فسّرنا ذلك فيما مضى من الحواميم. قوله عزوجل : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) : قسم ، أقسم بالقرآن المبين.

[(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ)] : ذكر الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : نزل القرآن إلى السماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ، ثمّ جعل بعد ذلك ينزل نجوما : ثلاث آيات ، وأربع آيات وخمس آيات وأقلّ من ذلك وأكثر. ثمّ تلا هذه الآية : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) [الواقعة : ٧٥].

ذكروا عن الأعمش قال : نزل به جبريل ليلة القدر جملة واحدة في سماء الدنيا ، فوضعه في البيت المعمور ، ثمّ جعل ينزل بعد ذلك الأوّل فالأوّل.

قوله : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (٣) : أي منذرين العباد من النار.

(فِيها) : يعني ليلة القدر (يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤) : أي : يفصل كلّ أمر حكيم ، أي : محكم.

قال بعضهم : يدبّر فيها أمر السنة إلى السنة ، ثمّ يدفع إلى الحفظة فيعملون عليها. وفيها يدبّر الله ما يدبّر ، وينزل من الوحي ما ينزل ممّا يريد من الأمور في سمائه وأرضه وخلقه تلك السنة ، من الحياة والموت ، وما ينزل من المطر ، وما يقبض ويبسط ، وما يحدث في خلقه تلك السنة ، فينزله في ليلة القدر إلى بعض سمائه ، ثمّ ينزله في الليالي والأيّام على ما قدّر حتّى يحول الحول من تلك السنة من قابل ليلة القدر (١). وذلك إلى اليوم على هذه الصفة إلّا الوحي فإنّه قد انقطع بموت النبيّ عليه‌السلام.

__________________

(١) جاءت العبارة مضطربة في ق وع ، ولعلّ صوابها : «إلى قابل ليلة القدر». وفي ز ، ورقة ٣١٨ جاءت العبارة مختصرة واضحة هكذا : «قال الحسن : ما يريد الله أن ينزل من الوحي وينفذ من الأمور في سمائه وأرضه وخلقه تلك السنة ينزله في ليلة القدر إلى سمائه ، ثمّ ينزله في الأيّام والليالي على قدر حتّى يحول الحول من تلك الليلة».

١١٧

قال : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٥) : أي مرسلين الرسل إلى العباد. (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) : أي لا أسمع منه (الْعَلِيمُ) (٦) : أي لا أعلم منه. (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : ومقرأ الحسن : (رب السماوات والأرض) (١) (وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٨).

قال : (بَلْ هُمْ) : أي المشركون (فِي شَكٍّ) : يعني من البعث (يَلْعَبُونَ) (٩).

ثمّ قال للنبيّ عليه‌السلام : (فَارْتَقِبْ) أي فانتظر (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١) : يعني الجدب وإمساك المطر عن قريش. (رَبَّنَا) : أي يقولون : ربّنا (اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) (١٢).

قال الله عزوجل : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) : أي كيف لهم الذكرى ، أي : الإيمان ، بعد نزول العذاب (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) (١٣) : أي محمّد عليه‌السلام. (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (١٤) : أي إنّما يعلّمه عبد بني الحضرميّ ، وكان كاهنا في تفسير الحسن. وقال بعضهم : عدّاس ، غلام عتبة بن ربيعة ، وكان يقرأ الكتب.

قال الله عزوجل : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١٦) : أي من أعدائنا يوم القيامة.

ذكر بعضهم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود أنّه قيل له : هاهنا رجل يزعم أنّه يأتي دخان قبل يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام. وكان متّكئا فغضب وجلس ثمّ قال : أيّها الناس اتّقوا الله ؛ من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإنّ من العلم أن يقول العبد فيما لا يعلم : الله أعلم. قال الله لنبيّه عليه‌السلام : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٨٦) [سورة ص : ٨٦] (٢). وسأخبركم عن الدخان : إنّ قريشا ، لمّا أبطأوا عن الإسلام ، دعا عليهم رسول الله فقال : اللهمّ أعنّي عليهم بسبع كسبع

__________________

(١) من هنا تتوقّف مخطوطة ع ويسقط منه نحو ورقتين أو ثلاث من القطع الكبير فيها تفسير بقيّة سورة الدخان ، وسورة الجاثية إلى الآية ٢٥ منها. ومن حسن الحظّ أنّ ما سقط من ع موجود كلّه في مخطوطة ق في خمس ورقات من القطع المتوسّط ، وموجود مختصرا في ز ، من ورقة ٣١٨ إلى ورقة ٣٢٢.

(٢) ورد هذا الخبر مضطربا في ق فأثبتّ تصحيحه من ز ، ورقة ٣١٩ ، ومن تفسير الطبريّ ، ج ٢٥ ص ٨٦.

١١٨

يوسف (١). فأصابهم الجوع حتّى أكلوا الميتة والعظام ، حتّى كان أحدهم يرى ما بينه وبين السماء دخانا من الجهد (٢). فذلك قوله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ). فسألوا أن يكشف عنهم العذاب فيؤمنوا. قال الله : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) ، فكشف عنهم العذاب ، فعادوا في كفرهم. فأخذهم يوم بدر ، فهو قوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ).

قال عبد الله بن مسعود : قد مضت البطشة الكبرى والدخان واللزام والروم والقمر. ذكروا عن محمّد بن سيرين عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : قد مضى الدخان سنين كسني يوسف.

وكان الحسن يحلف : ما جاء الدخان ، وليأتينّ حتّى يدخل في سمع الكافر والمنافق وبصره ، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام.

ذكروا عن عبد الرحمن بن البيلمانيّ (٣) أنّه قال : سمعت ابن عمر : يذكر خروج الدابّة ، قال : ثمّ يخرج الدخان فيأخذ المؤمن منه شبه الزكمة فيدخل في مسامع الكافر والمنافق وفي جلده حتّى يكون كالرأس الحنيذ ، وإنّ التوبة لمفتوحة ، ثمّ تطلع الشمس من مغربها فترفع التوبة (٤).

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) : قال الحسن : ابتليناهم بالدين. كقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) (٣٠) [المؤمنون : ٣٠] أي : لمختبرين. قال الله عزّ

__________________

(١) حديث صحيح متّفق عليه رواه أحمد والبخاريّ ومسلم وأبو داود والنسائيّ. أخرجه البخاريّ من طرق متعدّدة في كتاب التفسير ، سورة الدخان. وأخرجه مسلم كذلك في تفسير سورة الدخان ، باب في قوله (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) ، وأخرجه الترمذيّ أيضا في تفسير سورة الدخان ، كلّهم يرويه من حديث مسروق عن عبد الله بن مسعود. ورواه يحيى بن سلّام في ز بهذا السند : " يحيى عن المعلّى عن الأعمش عن أبي وائل عن أبي الضحا عن مسروق عن عبد الله بن مسعود ...».

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٣٩ : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم فقال : اللهمّ اشدد وطأتك على مضر ، اللهمّ سنين كسني يوسف ، فأصابهم جوع ، حتّى أكلوا العظام والميتة ، فكانوا يرون فيما بينهم وبين السماء دخانا».

(٣) جاء الاسم في ق هكذا : «عبد الرحمن السماني» ، وفيه تصحيف صوابه ما أثبتّه : «عبد الرحمن بن البيلماني» ، وهو مولى عمر ، تابعيّ ثقة وإن تكلّم فيه بعض العلماء. أمّا ابنه محمّد فضعيف جدّا يروي المناكير.

(٤) اقرأ ترجيح الطبريّ لقول ابن مسعود في تفسير هذا الدخان ، في تفسيره ، ج ٢٥ ص ١١٤.

١١٩

وجلّ : (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) (١٧) : أي على الله ، يعني موسى.

(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) : أي أرسلوا معي بني إسرائيل (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٨) : أي على ما أتاني من الله ، لا أزيد شيئا ولا أنقص منه شيئا (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) : أي لا تستكبروا على عبادة الله (إِنِّي آتِيكُمْ) : أي قد أتيتكم (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٩) : أي بحجّة بيّنة.

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) (٢٠) : يعني القتل بالحجارة (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي) : أي تصدّقوني (فَاعْتَزِلُونِ) (٢١) حتّى يحكم الله بيني وبينكم. (فَدَعا) موسى (رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) (٢٢) : أي مشركون. وإذا أراد الله أن يهلك قوما أذن لنبيّهم أن يدعو عليهم.

قال الله عزوجل : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٢٣) : أي يتّبعكم فرعون وجنوده (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) : أي طريقا في تفسير الحسن. وقال مجاهد : منفرجا (١). وقال بعضهم : ساكنا (٢) ، [بعد أن ضربه موسى بعصاه] (٣) (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (٢٤) : فأغرقهم الله وأنجى موسى ومن معه.

قال : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٢٦) : [أي : ومنزل حسن](وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (٢٧) : أي مسرورين.

قال الله عزوجل : (كَذلِكَ) : قال الحسن : أي هكذا كان الخبر. قال : (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) (٢٨) : يعني بني إسرائيل.

قال الله عزوجل : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) : ذكروا عن أنس بن مالك أنّه قال : للمؤمن بابان مفتوحان في السماء ، يصعد من أحدهما عمله ، والآخر ينزل منه رزقه ، فإذا

__________________

(١) وفي تفسير مجاهد ص ٥٨٩ قول آخر لمجاهد : «يقول : يعني طريقا يابسا كهيئته بعد ما ضربه ، يقول : لا تأمره أن يستوي ، اتركه حتّى يدخله آخرهم». وفي الدر المنثور ، ج ٦ ص ٣٠ عن مجاهد قال : «طريقا منفرجا».

(٢) هذا لفظ لقتادة ، وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٠٨ : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) ساكنا ؛ يقال : أره على نفسك ، أي : ارفق بها ولا تخرق. يقال : عيش راه ...». وانظر اللسان : (رهو).

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣١٩.

١٢٠