تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

تفسير سورة الجنّ ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) : هؤلاء من جنّ نصيبين ، من الذين قال الله عزوجل عنهم للنبيّ عليه‌السلام : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩]. (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) : أي إلى الهدى (فَآمَنَّا بِهِ) : أي فصدّقناه. (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) (٢) : أي آمنوا به ، وكانوا قبل ذلك ـ فيما بلغنا ـ على اليهوديّة. وقد قالوا في سورة الأحقاف : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٠) [الأحقاف : ٣٠]. قال الكلبيّ : كانوا سبعة.

قال عزوجل : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) : أي عظمته وكبرياؤه (١) (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) (٣).

قال : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) : أي سفيه الجنّ ، وهو المشرك (٢).

(عَلَى اللهِ شَطَطاً) (٤) : أي جورا وكذبا ؛ أي : شركة (٣). (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) (٥).

قال : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) : هذا قول الله عزوجل في تفسير الحسن. قال : يقلبون عليهم وسوستهم في الضلال (٤) (فَزادُوهُمْ) بإقبالهم (٥) عليهم

__________________

(١) كذا في ز ، وهو الأصحّ ، وفي ق وع : «ذكر ربّنا». وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٧٢ : «علا ملك ربّنا وسلطانه». وفي رواية للفرّاء وللطبريّ عن مجاهد قال : «جلال ربّنا». ورجّح الطبريّ من هذه الأقوال قول من قال : «تعالت عظمة ربّنا وقدرته وسلطانه».

(٢) كذا في ق وع ، وفي ز ، وفي بعض التفاسير : «هو إبليس» ، كما ذهب إليه قتادة ومجاهد.

(٣) كذا في ق وع : «شركة» ، ولا أرى لها وجها إلّا أن تكون بمعنى الشرك.

(٤) كذا في ق وع : «يقلبون عليهم وسوستهم في الضلال» ، ولم ترد العبارة في ز ، ولم أر لها وجها أطمئنّ إليه ، وهي غير واردة في ز ولا في تفسير الطبريّ وغيرهما.

(٥) في ق وع : «بقبولهم» والصواب ما أثبتّه.

٣٨١

(رَهَقاً) (٦) : أي ضلالا إلى ضلالهم. وتفسير الكلبيّ أنّ رجالا من الإنس كان أحدهم في الجاهليّة إذا كان مسافرا ، فإذا أمسى في الأرض القفر الموحشة نادى : أعوذ بسيّد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيمسي (١) في جواره وفي منعته حتّى يصبح ، (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) ، أي : إنّ الإنس زادت الجنّ لتعوّذهم بهم ، رهقا ، أي : إثما. قال مجاهد : فهم الجنّ الكفّار.

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) : يعني المشركين من الجنّ (كَما ظَنَنْتُمْ) : يعني المشركين من الإنس (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٧) : أي يجحدون البعث.

قوله : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (٨) : هذا قول الجنّ ، يعنون من كان يفعل ذلك منهم ، وهم المردة من الجنّ. (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها) : أي من السماء (مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٩) : [أي : حفظة تمنع من الاستماع] (٢). وقوله : (لِلسَّمْعِ) أي للاستماع من الملائكة خبرا من أخبار السماء ؛ فأمّا الوحي فلم يكونوا يقدرون على أن يستمعوه. ذكروا عن أبي رجاء العطارديّ قال : كنّا قبل أن يبعث النبيّ عليه‌السلام ما نرى نجما يرمى به. فبينما نحن ذات ليلة إذا النجوم قد رمي بها. فقلنا : ما هذا؟ إن هذا إلّا أمر حدث. فجاءنا أنّ النبيّ عليه‌السلام قد بعث (٣). فأنزل الله تعالى هذه الآية في سورة الجن : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً).

قوله : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (١٠) : أي أراد الله بأهل الأرض أن يهلكهم ، أو أراد بهم رشدا ، أي : أم أحدث لهم منه نعمة وكرامة.

وقال بعضهم : قالوا : لا ندري أراد بهم أن يطيعوا هذا الرسول فيرشدهم ، أم يعصوه فيهلكهم.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) : [أي المؤمنون] (٤) (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) : [يعنون المشركين] (٥)

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز : «فيبيت» ، وهو أنسب.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٥ ، وفيها : «قال محمّد : الشهاب الرصد : الذي قد أرصد به للرجم».

(٣) من عادة ابن سلام أن يكرّر بعض الأخبار لأدنى مناسبة ، وقد روى هذا الخبر عن أبي رجاء العطارديّ عدّة مرّات في تفسيره ، آخرها في هذا الجزء ، تفسير الآية ٥ من سورة الملك.

(٤) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٥.

(٥) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٥.

٣٨٢

(كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) (١١) : أي مختلفون : مؤمن ومشرك. وفي الجنّ مؤمنون ويهود ونصارى ومجوس وعبدة الأوثان وصابئون.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا) : أي علمنا (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) : أي أن لن نسبق الله في الأرض (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (١٢) : أي في الأرض حتّى لا يقدر علينا فيبعثنا يوم القيامة.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) : أي القرآن (آمَنَّا بِهِ) : أي صدّقناه (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) : أي أن ينقص من عمله شيء.

(وَلا رَهَقاً) (١٣) : ولا يخاف أن يزاد عليه ما لم يعمل. وهي مثل قوله : (فَلا يَخافُ ظُلْماً) أي لا يخاف أن يزاد عليه في سيّئاته (وَلا هَضْماً) (١١٢) [طه : ١١٢] أي : ولا ينقص من حسناته.

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) : أي الجائرون ، وهم المشركون.

(فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (١٤) : [أي : أصابوا رشدا] (١). (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (١٥).

قال الله تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) : يعني المشركين ، لو استقاموا على الإيمان (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) (١٦) : أي ماء رواء (٢). والماء عيش الناس ؛ به تنبت زروعهم ، وتعيش مواشيهم. وهو مثل قول هود لقومه : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي : من شرككم (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [هود : ٥٢] وكقوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦].

وكقول نوح لقومه : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ..). إلى آخر الآية [نوح : ١٠ ـ ١٢].

__________________

(١) زيادة من ز. وقال الفرّاء في المعاني : (تَحَرَّوْا رَشَداً) يقول : أمّوا الهدى واتّبعوه».

(٢) كذا في ق وع : «ماء رواء» وهو صحيح فصيح ، وهو الماء الكثير العذب. قال الجوهريّ في الصحاح : «ماء رواء ، بالفتح ممدود ، أي عذب ... وإذا كسرت الراء قصرته وكتبته بالياء وقلت : ماء روى. ويقال : هو الذي فيه للواردة ريّ». وانظر اللسان : (روى). وجاء في ز ورقة ٣٧٥ : (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي : لأوسعنا لهم من الرزق».

٣٨٣

قال عزوجل : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) : أي لنختبرهم فيه فنعلم كيف شكرهم (١).

قال تعالى : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) : أي لا يؤمن (يَسْلُكْهُ) : أي ندخله (عَذاباً صَعَداً) (١٧) : أي لا راحة فيه. وتفسير مجاهد : مشقّة من العذاب. [قال ابن عبّاس : جبلا في جهنّم] (٢). ذكروا عن كعب قال : هو قوله عزوجل : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) وتفسيره في المدثر [١٧] (٣).

قوله عزوجل : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨) : قال الحسن : ما من قوم غير المسلمين يقومون في مساجدهم إلّا وهم يشركون بالله فيها ، فأخلصوا لله فيها.

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) : يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَدْعُوهُ) : أي يدعو الله (كادُوا) : أي كاد المشركون (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (١٩) : أي تظاهروا عليه حتّى كادوا يقتلونه ، في تفسير الحسن. وقال الكلبيّ : حتّى كاد يركب بعضهم بعضا ، أي : من الحرد عليه (٤).

قال عزوجل : (قُلْ) : [أي : قال النبيّ عليه‌السلام] (٥) (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) (٢٠).

قال تعالى : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) : أي أن أدخلكم في الكفر (وَلا رَشَداً) (٢١) : أي أن أكرهكم على الإيمان.

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي) : أي لن يمنعني (مِنَ اللهِ أَحَدٌ) : أي إن عصيته عذّبني. كقوله عزّ

__________________

(١) كذا في ق وع وفي ز. وقال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ١٩٣ : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) على طريقة الكفر (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) يكون زيادة في أموالهم ومواشيهم ... يقول : نفعل ذلك بهم ليكون عليهم فتنة في الدنيا وزيادة من عذاب الآخرة». وببدو لي أنّ ما ذهب إليه المؤلّف هنا في تأويل الآية هو أحقّ وأولى بالصواب. وهو ما رجّحه الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٩ ص ١١٤.

(٢) زيادة من تفسير الطبريّ ومن الدرّ المنثور للسيوطيّ.

(٣) وقع في ق وع اضطراب في نسبة هذه الأقوال إلى أصحابها ، فأثبتّ من تفسير الطبريّ والدرّ المنثور ما هو الصواب الصحيح إن شاء الله.

(٤) أي : من شدّة الإقبال عليه وقصده.

(٥) زيادة للإيضاح.

٣٨٤

وجلّ : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥) [الأنعام : ١٥](وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (٢٢) : أي ملجأ ألجأ إليه ، أي : يمنعني من عذاب الله ، في تفسير الحسن وغيره.

وقال بعضهم : (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) : أي إلّا أن أبلّغ عن الله الرسالة فإنّ ذلك يمنعني. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) : أي عذاب جهنّم ، يعني المشركين (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً) : أي إنّكم أيّها المشركون أضعف ناصرا من محمّد عليه‌السلام وأصحابه ، أي : إنّه لا ناصر لكم (وَأَقَلُّ عَدَداً) (٢٤) : [أي سيفرد كلّ إنسان بعمله] (١).

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) أيّها المشركون من مجيء الساعة. (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) (٢٥) وقال في آية أخرى (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) (١٠٩) [الأنبياء : ١٠٩]. (عالِمُ الْغَيْبِ) : والغيب هاهنا في تفسير الحسن : القيامة وخبر ما مضى وقال بعضهم : هو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤) [لقمان : ٣٤]. وقال بعضهم : الغيب هنا هو الوحي.

قال : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) : فإنّه يظهره على ما أراده من الغيب.

قال عزوجل : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : أي يدي ذلك الرسول (وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٢٧) : أي من الملائكة يحفظونه حتّى يبلّغ عن الله رسالته.

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) : أي ليعلم ذلك الرسول أنّ الرسل قبله قد بلّغوا رسالات (٢) ربّهم (وَأَحاطَ) : أي أحاط الله (بِما لَدَيْهِمْ) : أي بما عندهم ممّا أرسلوا به ، أي فلا يوصل إليهم حتّى يبلّغوا عن الله الرسالة. (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ) من خلقه (عَدَداً) (٢٨).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٦.

(٢) قال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ١٩٦ : (لِيَعْلَمَ) يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) يعني جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال بعضهم : هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي يعلم محمّد أنّه قد أبلغ رسالة ربّه. وقد قرأ بعضهم : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) يريد : لتعلم الجنّ والإنس أنّ الرّسل قد أبلغت ، لا هم ، بما رجوا من استراق السمع».

٣٨٥

تفسير سورة المزّمّل ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (١) : وهو المتزمّل بثيابه ، يعني النبيّ عليه‌السلام (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ). ذكروا عن الحسن أنّ رجلا خرج ليلة يريد المسجد ، فسمع قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدنا من الباب. فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسحسة ، فقال : من هذا؟ فقال : أنا فلان بن فلان ، سمعت قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأحببت أن أصلّي بصلاته. فقال له : ادخل. فصلّى بصلاته معه. فلمّا أصبح ذكر ذلك لخاصّة من أصحابه. فترصّدوا تلك الساعة ، فدنوا من باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمع حسيستهم فقال : من هذا؟ فقالوا : فلان بن فلان وفلان بن فلان ، أحببنا أن نصلّي بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ادخلوا. فدخلوا حتّى امتلأت الحجرة. وقفوا (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة ، فسقط القوم نعاسا. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجعوا إلى حالكم ، فليصلّ الرجل بقدر ما يستطيع ، فإنّكم لا تطيقون ما يطيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إنّ أعلمكم بأمر الله رسول الله ، وأقواكم في أمر الله رسول الله ، فإنّكم قد تعرّضتم لأمر إن أخذتم به لن تقوموا به (٢).

فأنزل الله عزوجل تصديق نبيّه : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ ، أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) فقام القوم اثني عشر شهرا حتّى انتفخت أقدامهم. ثمّ أنزل الله رخصة : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [المزّمّل : ٢٠].

قوله عزوجل : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤) : أي بيّنه تبيانا. وتفسير مجاهد : ترسّل فيه ترسّلا ، وهو واحد.

__________________

(١) أي : اتّبعوه.

(٢) لم أجد مثل هذا التفصيل لسبب نزول أوائل هذه السورة فيما بين يديّ من كتب التفسير والحديث إلّا عند ابن سلّام. وليت لي تفسير ابن سلّام كاملا حتّى نطّلع على سند الحديث. وقد أوردت المصادر ما روته عائشة وابن عبّاس عن قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الليل. انظر تفسير الطبريّ ، ج ٢٩ ص ١٢٥ ـ ١٢٦ ، والسيوطي ، الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ، والمنذري ، الترغيب والترهيب ، ج ١ ص ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

٣٨٦

ذكروا عن محمّد بن عبد الرحمن قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ يرتّل ويفسّر (١).

ذكروا عن صالح مولى التوأمة قال : كان ابن عبّاس يقرأ الآية ثمّ يسكت كقدر ما أعلمتك ، ثمّ يقرأ الآية الأخرى. وكان جارا لي ؛ فقلت : لم كان يفعل هذا؟ قال : من أجل تأويل القرآن.

ذكروا عن أبي حمزة قال : قلت لابن عبّاس : إنّني رجل خفيف القراءة أهذرم القراءة. فقال : لأن أقرأ سورة البقرة وأرتّل وأرسل فيها وأتدبّرها أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة (٢).

قوله عزوجل : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٥) : قال بعضهم : فرائضه وحدوده والعمل به (٣).

قوله عزوجل : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) : أي قيام الليل. ذكر بعضهم قال : ما كان بعد العشاء فهو من ناشئة الليل. وذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : ناشئة الليل قيامه ، وهي بلغة الحبش. فإذا قام الرجل قالوا : قد نشأ فلان. وفي تفسير مجاهد : أيّ ساعة تهجّد فيها متهجّد من الليل فهي ناشئة (٤).

قوله عزوجل : (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) : وهي تقرأ على وجهين : (وَطْئاً) مفتوحة الواو مقصورة ، و (وطاء) مكسورة الواو ممدودة ، فمن قرأها : (وَطْئاً) بفتح الواو فتفسيرها عند بعضهم :

__________________

(١) روى البخاريّ عن قتادة قال : سألت أنسا عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كان يمدّ مدّا ، إذا قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يمدّ بسم الله ، وبمدّ بالرحمن ويمدّ بالرحيم. وروى الترمذيّ عن أمّ سلمة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع قراءته يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ثمّ يقف ، (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ثمّ يقف. وانظر في ذيل تفسير ابن كثير ، فضائل القرآن ، الترتيل في القراءة ، تفسير ابن كثير ، ج ٧ ص ٤٩٨.

(٢) الهذرمة في الكلام أو في القراءة السرعة فيهما ، وقيل : هو التخليط أيضا. انظر الزمخشريّ ، الفائق في غريب الحديث ، وانظر اللسان : (هذرم).

(٣) كذا في ق وع وز ، وهو قول لقتادة. وقال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ١٩٧ : «أي : ليس بالخفيف ولا السفساف لأنّه كلام ربّنا تبارك وتعالى».

(٤) قال الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٤ ص ٦٣٨ : (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ، أي : تنهض وترتفع ، من نشأت السحابة إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشز إذا نهض ... وقيام الليل ، على أنّ الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض ، على فاعلة : كالعاقبة ... وقيل : هي ساعات الليل كلّها ، لأنّها تحدث واحدة بعد أخرى. وقيل : الساعات الأولى منه».

٣٨٧

أثبت في الخير. ومن قرأها بكسر الواو والمدّ فتفسيرها عند ابن عبّاس : أشدّ مواطأة للقلب لفراغه ، لأنّ الأصوات تهدأ في الليل (١). وتفسير مجاهد : أشدّ مواطأة للقرآن [أي أشدّ موافقة لسمعه وبصره وقلبه] (٢).

قوله عزوجل : (وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٦) : قال الحسن : أصدق في التلاوة وأجدر أن لا يلبس عليك الشيطان تلاوتك.

قال عزوجل : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) : أي : فراغا طويلا لحوائجك.

قال عزوجل : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٨) : أي تضرّع إليه تضرّعا ، في تفسير الحسن. وقال الكلبيّ : أخلص إليه إخلاصا.

ذكروا عن الحسن أنّ رجلا من السلف كان يصلّي من الليل فيتلو الآية ، فإذا فرغ منها أعادها ، يعيدها ويتدبّرها. قال : فهو قوله عزوجل : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) قال : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً).

قوله عزوجل : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) : أي مشرق الشمس ومغربها (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (٩) : أي وليّا.

قوله عزوجل : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) : أي على ما يقول لك المشركون : إنّك كاذب ، وإنّك شاعر ، وإنّك كاهن ، وإنّك مجنون. (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (١٠) : أي ليس فيه جزع ، وهي منسوخة نسختها القتال.

قال عزوجل : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) : أي في الدنيا ، أي : فساء عذابهم يوم القيامة. وهذا وعيد هوله شديد. بلغنا أنّها نزلت في بني المغيرة ، وكانوا ناعمين ذوي غنى. قال عزوجل : (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) (١١) : أي إنّ بقاءهم في الدنيا قليل ، ثمّ يصيرون إلى النار.

(إِنَّ لَدَيْنا) : أي عندنا ، وهذا وعيد (أَنْكالاً) : ذكروا عن الحسن قال : الأنكال : القيود.

__________________

(١) جاءت العبارات في اختلاف قراءة (وطئا) مضطربة ناقصة في ق وع ، فأثبتّ صحّتها من ز ومن تفسيري الطبريّ ومجاهد.

(٢) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٧٠٠.

٣٨٨

قال عزوجل : (وَجَحِيماً) (١٢) : الجحيم : النار (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) : أي يأخذ بالحلاقيم ، في تفسير الحسن ومجاهد. وقال الحسن : يأكلون النار ، ويشربون النار ، ويلبسون النار. قال عزوجل : (وَعَذاباً أَلِيماً) (١٣) : أي موجعا.

قال عزوجل : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) : أي تتزلزل (وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ) : [أي : وصارت الجبال] (١) (كَثِيباً مَهِيلاً) (١٤) : أي رملا سائلا. ذكروا عن الحسن قال : تطحن الجبال بعضها إلى بعض فتصير غبارا ذاهبا.

قوله عزوجل : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) : يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (شاهِداً عَلَيْكُمْ) : أي يوم القيامة أنّه بلغكم (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) (١٥) : يعني موسى عليه‌السلام(فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) (١٦) : أي عظيما ، والوبيل : الشديد. وقال مجاهد : (وَبِيلاً) : شديدا.

قال عزوجل : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) (١٧) : أي فكيف تتّقون ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيبا ، أي : إن كفرتم لم تتّقوه (٢).

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) : أي منشقّ به (٣). قال عزوجل : (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) (١٨) أي إنّ السماء سوف تنشقّ ذلك اليوم ، وتسير الجبال.

قوله عزوجل : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) : أي إنّ هذه السورة تذكرة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١٩) : أي بتقواه وطاعته. وقال تعالى في آية أخرى : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [المدّثّر : ٥٤ ـ ٥٦].

قوله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى) : أي أقلّ (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٦.

(٢) جاءت العبارة مضطربة في ق وع فأثبتّ التصحيح من ز.

(٣) في ق وع : «مثقل به» وهو تصحيف ، وفي ز : «منشقّ فيه». وقال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ١٩٩ : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) بذلك اليوم. والسماء تذكّر وتؤنّث ، فهي هاهنا على وجه التذكير قال الشاعر :

فلو رفع السماء إليه قوما

لحقنا بالنجوم مع السحاب

٣٨٩

عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

ذكر بعضهم قال : كان الله قد افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة بقوله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ). فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حولا حتّى انتفخت أقدامهم. فأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثمّ أنزل الله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ..). إلى قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فريضتان واجبتان لا رخصة لأحد فيهما ، فصار قيام الليل تطوّعا بعد إذ كان فريضة.

ذكروا عن بعضهم أنّه كان يقول : لا بدّ من قيام الليل ولو قدر حلب شاة.

ذكر بعضهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصب من الليل ولو ركعتين ولو أربعا (١).

وبلغنا عن الحسن أنّه قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقم أقلّ من ثلثي الليل. وقال بعضهم : إنّ قيام الليل على النبيّ عليه‌السلام فريضة وللناس تطوّع.

وكان الحسن يقرأها بالجرّ : (أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ). ولم يقم النبيّ عليه‌السلام أقلّ من ثلثي الليل ، وما كان من بعض فهو من غيره. وبعضهم يقرأها بالنصب ؛ أي : قام ثلثه.

قال تعالى : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) : تفسير الحسن : إنّ هذا في التطوّع. (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) : أي تجدوا ثوابه عند الله خيرا (وَأَعْظَمَ أَجْراً) : أي يثيبكم عليه الجنّة (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٠).

* * *

__________________

(١) انظر ما سلف ج ٣ ، تفسير الآية ٦٤ من سورة الفرقان.

٣٩٠

تفسير سورة المدّثّر ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (١) : أي : المتدثّر بثيابه ، يعني النبيّ عليه‌السلام. (قُمْ فَأَنْذِرْ) (٢) : أي من النار.

ذكروا عن جابر بن عبد الله قال : هذه أوّل سورة نزلت على النبيّ عليه‌السلام. قال [يحيى] (١) : والعامّة على أنّ أوّل ما نزل من القرآن : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ).

قال : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٤) : قال بعضهم : لا يلبسها على معصيته. وقد يقال للرجل الصالح : إنّه لطاهر الثياب. وتفسير الحسن : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي : من الغدر.

قال تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٥) : والرجز : الأوثان ، أي : لا تعبدها.

قال تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦). ذكروا عن الضحّاك بن مزاحم أنّه قال في قوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) [الروم : ٣٩] قال : تلك الهديّة تهديها ليهدى لك خير منها ، ليس لك فيها أجر ، وليس عليك فيها وزر ، نهى عنها النبيّ عليه‌السلام فقال : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ). قال بعضهم : وهي في مصحف أبيّ بن كعب : (ولا تمنن أن تستكثر) وذلك تفسيرها على قراءة من قرأها بالرفع (٢). ذكروا عن الحسن أنّه كان يقرأها بالجزم : (ولا تمنن تستكثر) موقوفة (٣). وقال : هي مقدّمة ومؤخّرة. يقول : لا تستكثر عملك فتمنّ علينا.

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها للإيضاح ، وهي موجودة في ز ، وهو المؤلّف : يحيى بن سلّام.

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٧٥ : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) رفع ، يقول : لا تمنن مستكثرا ، صفة ، ليس له هاهنا نهي». وقال الفرّاء في تفسير الآية : «يقول : لا تعط في الدنيا شيئا لتصيب أكثر منه ، وهي في قراءة عبد الله : (ولا تمنن أن تستكثر) فهذا شاهد على الرفع في (تَسْتَكْثِرُ) ولو جزمه جازم على هذا المعنى كان صوابا. والرفع وجه القراءة والعمل». وانظر في تفسير القرطبيّ ، ج ١٩ ص ٦٧ ـ ٦٩ ، أحد عشر تأويلا لهذه الآية لخّص معانيها القرطبيّ واستنبط ما فيها من فقه.

(٣) انظر تعليل ذلك عند ابن جنّي ، المحتسب ، ج ٢ ص ٣٣٧.

٣٩١

قال تعالى : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧) : [على ما أوذيت] (١).

قال : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) (٨) : أي : فإذا نفخ في الصور ، والصور : قرن ينفخ صاحب الصور فيه الأرواح فينطلق كلّ روح إلى جسده حتّى يدخل فيه ، فيقومون فيجيبون إجابة رجل واحد قال تعالى (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) (٩) كقوله (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨) [القمر : ٨] أي : عسير.

(عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١٠) : أي ليس لهم من يسره شيء ، وإنّما يسره للمؤمنين. ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما طول يوم القيامة على المؤمن إلّا كرجل دخل في الصلاة المكتوبة فأتمّها فأحسنها وأجملها (٢).

قوله عزوجل : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١١) : أي خلق كلّ إنسان وحيدا ، وعنى به في هذا الموضع الوليد بن المغيرة ، وهذا وعيد له.

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) (١٢) : أي واسعا (وَبَنِينَ شُهُوداً) (١٣) : يعني حضورا معه في مكّة لا يسافرون. وكان له اثنا عشر ولدا ذكورا رجالا (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) (١٤) : أي بسطت له في الدنيا بسطا.

قال تعالى : (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) (١٥) : قال بعضهم : فلم يزده بعد هذه الآية شيئا.

تفسير الحسن : (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي : أن أدخله الجنّة. أي : لقول المشرك (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصّلت : ٥٠] أي : للجنّة إن كانت جنّة. وكقوله : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٣٦) [الكهف : ٣٦]. وكقوله : (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) (٧٧) [مريم : ٧٧] أي : في الجنّة إن رددتّ إلى ربّي كما تقولون. قال الله : (كَلَّا) : أي : لا ندخله الجنّة ، وليس له فيها المال والولد. (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) (١٦) : أي معاندا لها ، جاحدا بها.

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (١٧) : ذكروا عن الحسن وغيره قال : عذابا لا راحة فيه (٣). ذكروا

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٧.

(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٧٠ من سورة الزمر.

(٣) كذا في ق وع ، وفي ز : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي : سأحمله على مشقّة من العذاب».

٣٩٢

عن كعب قال : هو جبل في جهنّم يصعده الكافر إلى أعلاه ، فإذا بلغ أعلاه ردّ حتّى يبلغ إلى أسفله ، ثمّ يصعد إلى أعلاه ، ثمّ ينزل إلى أسفله.

قال تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (١٩) : أي فلعن كيف قدّر. (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) (٢٢) : أي كلح (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) (٢٣) فقال (إِنْ هذا) : أي القرآن (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٢٥).

تفسير الكلبيّ أنّ الوليد بن المغيرة قال لقريش : إنّ أمر هذا الرجل ، يعني النبيّ عليه‌السلام ، قد فشا ، وقد حضر الموسم. وإنّ الناس سيسألونكم عنه فما تردّون؟ قالوا : نقول : إنّه مجنون. قال : إذن والله يستنطقونه فيجدونه فصيحا عاقلا فيكذّبونكم. قالوا : فلنخبرهم أنّه كاهن [فقال : إذن والله يلقونه فيخبرهم بما لا يخبرهم به الكاهن. قالوا : فنخبرهم أنّه شاعر] (١). قال : فإنّهم يعرفون الشعر ويروونه ، فلا يسمعون شيئا يشبه الشعر.

ثمّ انصرف إلى بيته فقالت قريش : صبا والله الوليد ، وايم الله لئن صبا (٢) الوليد لتصبونّ قريش كلّها. فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه. فانطلق أبو جهل فجلس إليه وهو كهيئة الحزين. فقال له : ما يحزنك يا ابن أخي. فقال : وما لي لا أحزن ، وهذه قريش تجمع لك نفقة ليعينوك بها على كبرك وزمانتك. قال : أو لست أكثر منهم مالا وولدا؟ قال : فإنّهم يقولون : إنّك قلت الذي قلت لتصيب من فضول طعام محمّد وأصحابه. فقال : والله ما يشبعون من الطعام ، فأيّ فضل يكون عندهم. ولكنّي أكثرت حديث نفسي (٣) فإذا الذي يقول سحر وقول بشر.

ذكروا عن سعيد بن المسيّب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الفتنة تلقح بالنجوى ، وتولد بالشكوى ، فلا توقظوها إذا رقدت ، ولا تثيروها إذا هي اجتمّت. قال : الفتنة راتعة في بلاد الله تطأ في خطامها حتّى يأذن الله لها فيها. فإذا أذن الله لها فويل لمن أخذ بخطامها. من طلب الفتنة ذهب بقاؤه ، وقلّ نماؤه ، وكانت النار مأواه. ألا ففرّوا من الفتنة كما تفرّ الوحوش بأولادها. ألا فالحذر الحذر ، فإنّه لن ينجو من الفتنة إلّا من صانع الذلّ ، ولأن يقال لك ذليل ضعيف خير من أن يقال

__________________

(١) سقط ما بين المعقوفين من ع وق فأثبتّه من ز ، حتّى يستقيم معنى الحوار.

(٢) صبا بالمدّ لغة في صبأ بالهمز يصبأ صبأ وصبوءا ، أي : خرج من دين إلى دين.

(٣) كذا في ق وع ، وفي ز ورقة ٣٧٨ : «أكثرت الحديث فيه».

٣٩٣

لك : إنّك من أصحاب السعير (١).

قال : فاجتمع إليه قومه فقالوا : يا أبا المغيرة ، كيف يكون قوله قول بشر وسحرا؟ قال : أذكركم الله ، هل تعلمون أنّه فرّق بين فلانة وزوجها ، وبين فلان وأبيه ، وبين فلان وأخيه ، وبين فلان ، مولى بني فلان ، ومواليه؟ يعني : من أسلم واتّبع النبيّ عليه‌السلام ، فقالوا : اللهمّ نعم ، قد فعل ذلك. قال : فهو ساحر.

قال مجاهد : وكان ذلك في دار الندوة. قال الله : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) يعني عدّاسا (٢) ، غلام عتبة. كقوله عزوجل : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ؛ عدّاس في تفسير الحسن.

قال الله عزوجل : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (٢٦) : وسقر اسم من أسماء جهنّم (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) (٢٧) : أي لم تكن تدري ما سقر حتّى أعلمتك.

قال تعالى : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) (٢٨) : أي : لا تبقي ، إذا دخلها ، شيئا من لحمه ودمه وشعره وبشره وعظامه وأحشائه حتّى تهجم على الفؤاد فتطبخ الفؤاد. فإذا انتهت إلى الفؤاد لم تجد شيئا تتعلّق به. ثمّ يجدّد الله خلقه فتأكله أيضا. وهو قوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦]. وقال مجاهد : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي : لا تحيي ولا تميت.

قوله عزوجل : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) (٢٩) : أي محرقة للجلد ، تأكل كلّ شيء إلّا الفؤاد. (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠). لمّا نزلت قال أبو جهل : يا معشر قريش إنّي أرى محمّدا يخوّفكم بخزنة النار ، ويزعم أنّهم تسعة عشر وأنتم الدّهم (٣) ، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم

__________________

(١) كذا أقحمت هذه الأقوال عن الفتنة في سياق قصّة الوليد بن المغيرة مع قريش في ق وع ، ولم أدرك لها مناسبة هنا. وهي غير واردة في ز.

(٢) في ق وع : «غداشا» ، وفي الكلمة تصحيف صواب الاسم ما أثبتّه : «عدّاسا». اقرأ في تاريخ الطبريّ ، ج ٢ ص ٣٤٥ ـ ٣٤٦ قصّة عداس هذا وهو غلام نصرانيّ لعتبة بن ربيعة ، مع النبيّ عليه‌السلام حينما خرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف يدعو ثقيفا إلى الإسلام.

(٣) الدّهم ، بفتح الدال : العدد الكثير من الناس ، وكذا الدهماء. انظر اللسان (دهم).

٣٩٤

فتخرجوا منها؟ فقال أبو الأشدّ (١) الجمحي : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر : عشرة على ظهري وسبعة على صدري ، فاكفوني أنتم اثنين. فأنزل الله :

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) : [أي : فمن يطيقهم] (٢) (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً) : أي بليّة (لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : لأنّهم في كتبهم تسعة عشر (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) : أي تصديقا (وَلا يَرْتابَ) : أي ولا يشكّ (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) : أي فيما أنزل الله من عددهم (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي نفاق (وَالْكافِرُونَ) : أي الجاحدون (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) : [أي : ذكرها] (٣) وذلك منهم استهزاء وتكذيب.

قال الله : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) بترك الإيمان بالقرآن الذي فيه التسعة عشر. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر في حديث ليلة أسري به قال : فعرج بي حتّى انتهيت إلى باب الحفظة وعليه ملك يقال له : إسماعيل جنده سبعون ألف ملك. ثمّ تلا هذه الآية : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (٤).

قال : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (٣١) : تفسير الحسن وغيره : يعني النار : رجع إلى قوله : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ).

قال : (كَلَّا وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) (٣٣) : أي إذا ولّى ، وبعضهم يقرأها : (إذا دبر) ، [أي إذا ولّى] (٥) قال (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) (٣٤) : أي إذا أضاء. هذا كلّه قسم. (إِنَّها لَإِحْدَى

__________________

(١) جاء الاسم في ق وع وز : «أبو الأسود» ، وهو خطأ أثبتّ صوابه : «أبو الأشدّ» ، وهو أبو الأشدّ بن كلدة الجمحيّ ، كما جاء في بعض كتب التفسير. انظر مثلا : ابن الجوزيّ : زاد المسير ، ج ٨ ص ٤٠٨.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٨.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٨.

(٤) انظر ما سلف ، في ٢ ص ، تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء.

(٥) زيادة من ز. يريد أن يقول : «أدبر» و «دبر» يأتيان بمعنى واحد. وقيل : «أدبر» : ولّى ، و «دبر» : خلّف. قال أبو عبيدة في المعاني ، ج ٢ ص ٢٧٥ : «... يقال : دبرني ، جاء خلفي وإذا أدبر إذا ولّى ...».

٣٩٥

الْكُبَرِ) (٣٥) : يعني النار في تفسير الحسن ومجاهد ؛ أي : إحدى العظائم. وقال الكلبيّ : (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) يعني سقر.

وجهنّم سبعة أبواب : جهنّم ، ولظى ، والحطمة ، وسقر ، والجحيم ، والسعير ، والهاوية.

قال : (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) (٣٦) : يعني النبيّ عليه‌السلام ينذرهم النار. رجع إلى أوّل السورة : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) أي : قم نذيرا للبشر ، فأنذرهم.

قال : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ) في الخير (أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٣٧) : في الشرّ.

وقال في آية أخرى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) [التكوير : ٢٨ ـ ٢٩] وقال في سورة الكهف : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) وهذا كلّه وعيد. فذكر ما للمؤمنين وما للكافرين في الآخرة فقال : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) وهو ظلم فوق ظلم وظلم دون ظلم ... إلى آخر الآية.

وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) [الكهف : ٢٩ ـ ٣١].

قوله : (كُلُّ نَفْسٍ) : يعني أهل النار.

(بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨) في النار. ثمّ قال : (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) (٣٩) : وهم أهل الجنّة كلّهم في هذا الموضع. وقال مجاهد : لا يحاسبون. قال : (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (٤١) : أي المشركين ، أي : يسائلون المجرمين : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٤٢) : فأجابهم المشركون : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) (٤٧).

قال الله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨) : أي لا يشفع لهم الشافعون في تفسير مجاهد وغيره ، وإنّما يشفعون للمؤمنين.

قال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ) : أي عن القرآن.

(مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) (٥٠) : وهي حمر وحشيّة.

٣٩٦

(فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (٥١) : قال الحسن : القسورة : الرماة ، وقال بعضهم : القسورة : الأسد (١). والعامّة على أنّها الرماة.

قال : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) : يعني المشركين (أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (٥٢) : أي إلى كلّ إنسان باسمه ، أي : من الله ربّ العالمين إلى أبي جهل بن هشام وإلى فلان بن فلان وإلى فلان بن فلان أن آمن بمحمد فإنّه رسول الله.

قال الله عزوجل : (كَلَّا) : أي أنتم أهون على الله من ذلك. ثمّ قال : (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) (٥٣) : أي لا يؤمنون بها (كَلَّا إِنَّهُ) : يعني القرآن (تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) : أي أهل أن يتّقى (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (٥٦) : أي هو أهل أن يغفر ، ولا يغفر إلّا للمؤمنين.

* * *

__________________

(١) هو قول أبي عبيدة في المجاز ، والكلبيّ ، كما في معاني الفرّاء ، وابن عبّاس في أحد قوليه ، كما في تفسير الطبريّ ، ورواه زيد بن أسلم عن أبي هريرة.

٣٩٧

تفسير سورة القيامة ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) : هذا قسم ، وهي كلمة عربيّة : أقسم ، ولا أقسم واحد. أراد القسم (١).

قال : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٢) : ذكروا عن الحسن أنّها نفس المؤمن ، لا تلقاه إلّا وهو يلوم نفسه ، ويقول : ماذا أردت بكلامي ، وما أردت بحديث نفسي ، فلا نلقاه إلّا وهو يعاتبها [يندم على ما فات ويلوم نفسه] (٢).

قوله عزوجل : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) : وهو المشرك (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (٣) : أي أن لن نبعثه. (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤).

قال عمر بن عبد العزيز : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ) مفاصله. يعني البعث.

وهو مثل قوله : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (١٢) [الأنفال : ١٢] أي : كلّ مفصل. وقال بعضهم : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي أصابعه فيجعلها مثل خفّ البعير أو كحافر الدابّة ، يعني في الدنيا. وتفسير مجاهد : كخفّ البعير فلا يعمل بها شيئا. قال تعالى : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) : وهو المشرك (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) (٥) : قال الحسن : فلا تلقاه إلّا يمضي قدما ، لا يعاتب نفسه كما يعاتبها المؤمن. ذكروا عن عمرو عن الحسن قال : يمضي على فجوره حتّى يلقى ربّه (٣).

قال تعالى : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) (٦) : أي متى يوم القيامة الذي كذّب به المشرك ؛ يقول ليست بجائية.

__________________

(١) انظر وجوه معاني «لا» وإعراب (لا أُقْسِمُ) في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٢٠٧ ، وكشّاف الزمخشريّ ، ج ٤ ص ٦٥٨ ـ ٦٥٩.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٧٩.

(٣) وجاء في معاني الفرّاء ما يلي : «عن سعيد بن جبير في قوله : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) قال : يقول : سوف أتوب ، سوف أتوب. وقال الكلبيّ : يكثر الذنوب ويؤخّر التوبة».

٣٩٨

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) (٧) : أي إذا شخص لإجابة الداعي. كقوله : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [إبراهيم : ٤٣].

قال الكلبيّ : (بَرِقَ الْبَصَرُ) ، أي : عجب فلا يطرف لمّا نظر إلى السماء ، فقد تمزّقت من كلّ جانب ، وهي محمرّة كالدهان ، والملائكة على حافاتها وهي تطوى ، وقد طمست نجومها ، وخسفت شمسها ، ودرست أعلامها ، وأظهرت الملائكة أسارير المجرم بيّنة الندامة ، فهو شاخص البصر مخلوع القلب ، معلّقة روحه في حنجرته لا هي تخرج ولا هي ترجع. قال مجاهد : ذلك عند الموت.

قال : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) (٨) : أي ذهب ضوءه (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (٩) : قال الحسن : أذهبا جميعا. وهو قول مجاهد ؛ قال : كوّرا يوم القيامة. وبعضهم يقول : حين تطلع الشمس والقمر من المغرب كالبعيرين المقرونين.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الشمس والقمر ثوران عقيران في النار (١) قال بعضهم : أي : يمثلان في النار لمن عبدهما ، يوبّخون بذلك. قال الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ١٨].

قال : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) (١٠) قال عزوجل : (كَلَّا لا وَزَرَ) (١١) : أي لا جبل ولا ملجأ يلجأون إليه. قال الحسن : كلّا ، لا جبل ولا حرز. وكانت العرب إذا أتاها الأمر قالوا : الجبل الجبل ، فيحترزون به. وقال مجاهد : لا ملجأ.

قال الله : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (١٢) : أي المرجع.

قال تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (١٣) : وهو مثل قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٥) [الانفطار : ٥].

__________________

(١) في ق وع : «الشمس والقمر نوران عفيران في الثرى» ، وسقطت كلمة «نوران» من ق. وفيهما تصحيف وفساد ، صواب الحديث ما أثبتّه. والحديث صحيح أخرجه البخاريّ في كتاب بدء الخلق ، باب صفة الشمس والقمر. عن أبي هريرة. انظر : فتح الباري ، ج ٦ ص ٢٩٩ ـ ٣٠٠. وفي رواية للطيالسيّ في مسنده عن أنس مرفوعا : «إنّ الشمس والقمر ثوران عقيران في النار». والشرح الذي أورده المؤلّف هنا عن بعضهم يؤيّد هذه العبارة الصحيحة.

٣٩٩

ذكروا عن ابن مسعود قال : ما قدّمت من خير أو شرّ ، وما أخرت من سنّة حسنة فعمل بها بعده ، فإنّ له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيئا ، أو سيّئة ولا ينقص من أوزارهم شيئا.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّما داع دعا إلى هدى فاتّبع عليه كان له مثل أجر من تبعه ولا ينقص من أجره شيئا. وأيّما داع دعا إلى ضلالة فاتّبع عليها كان عليه وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيئا (١). وتفسير الحسن : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي ينبّأ بآخر عمله وأوّل عمله.

قال : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (١٤) : أي شاهد على نفسه أنّه كافر. قال : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (١٥) : أي ولو اعتذر لم يقبل عذره.

قال مجاهد : ولو جادل عنها فهو بصيرة عليها (٢). وقال الكلبيّ : (عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) أي عليه من نفسه شاهد ، أي : يداه ورجلاه وسائر جوارحه ، يعني مثل قوله تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦٥) [يس : ٦٥].

قوله عزوجل : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (١٨).

ذكروا عن الحسن قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه القرآن يقرأه ويذيب فيه نفسه مخافة أن ينساه ، فأنزل الله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [أي نحن نحفظه عليك فلا تنساه] (٣) (فَإِذا قَرَأْناهُ) نحن (فَاتَّبِعْ) أنت (قُرْآنَهُ) يعني فرائضه وحدوده والعمل به (٤).

__________________

(١) انظر الإشارة إليه فيما سلف ج ٣ ، تفسير الآية ١٣ من سورة العنكبوت.

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٧٧ : (بَصِيرَةٌ) جاءت هذه الهاء في صفة الذّكر كما جاءت في راوية ، وعلّامة ، وطاغية».

(٣) سقط ما بين المعقوفين من ق وع ، فأثبتّه من ز ورقة ٣٨٠.

(٤) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٧٨ : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) اتّبع جمعه. (فَإِذا قَرَأْناهُ) : جمعناه ، وهي من قول العرب : ما قرأت هذه المرأة سلى قطّ. قال عمرو بن كلثوم : لم تقرأ جنينا».

٤٠٠