تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

لأصحابه : إذا سلّم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك. أي : عليك ما قلت (١).

قال تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا) : أي هلّا (يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) من السام ، أي : إن كان نبيّا فسيعذّبنا الله بما نقول. قال الله تعالى : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٨).

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : [يعني الذين أقرّوا بالألسنة] (٢) (إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) : أي كما صنعت اليهود من هذه النجوى التي ذكروا. قال : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩) : أي : يوم القيامة.

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٠).

تفسير الحسن أنّ رجلا من المسلمين كان يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيستخليه لحاجته ، فكان الشيطان يوقع في قلوب المؤمنين الحزن ، يقول : إنّ صاحبكم هذا إنّما خلا برسول الله ليبغّضكم عنده ، قال تعالى : (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ) ذلك ، أي الذي وقع في قلوبهم ، (شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فأراد أن يعصم المؤمنين ألّا يستخلي أحد منهم بالنبيّ عليه‌السلام.

وقال الكلبيّ في قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ ..). إلى آخر الآية : إنّ المنافقين كانوا إذا غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعث سريّة يتغامزون بالرجل إذا رأوه وعلموا أنّ له حميما في الغزو ، فيتناجون وينظرون إليه ، فيقول الرجل : ما هذا إلّا لشيء قد بلغهم عن حميمي ، فلا يزال من ذلك في غمّ وحزن حتّى يقدم حميمه. فأنزل الله هذه الآية.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) : قال الحسن : هذا في القتال ؛ كانوا يكونون في مصافّهم فيجيء الرجل فيقول : وسّعوا ، ولا يوسّعون له ، كلّهم يرغب في الشهادة ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا

__________________

(١) انظر الإشارة إليه فيما مضى ، ج ١ ، تفسير الآية ٨٦ من سورة النساء.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٥.

٢٨١

الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي إذا قيل : انهضوا إلى قتال عدوّكم فانهضوا. ونظيرها في سورة آل عمران : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) [آل عمران : ١٢١] والمقاعد والمجالس واحد.

وتفسير مجاهد : يعني مجلس النبيّ عليه‌السلام. (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) إلى كلّ خير من قتال عدوّ ، أو أمر معروف ما كان.

وتفسير الكلبيّ : (إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) أي : مجلس النبيّ عليه‌السلام (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) أي : ارتفعوا إلى الصلاة وإلى ما سواها من الخير فارتفعوا.

قال : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) : أي في الجنّة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١).

ذكروا عن عبد الله بن مسعود قال : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي : على الذين آمنوا الذين ليسوا بعلماء.

ذكروا عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال : العالم أفضل من المجاهد ؛ يقول الله عزوجل : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) فقد دخل فيهم المجاهد ، قال : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي : على غيرهم.

وبلغنا عن رجل من أصحاب النبيّ عليه‌السلام أو التابعين قال : أفضل الناس العلماء والشهداء ، أمّا العلماء فأخبروا بما جاءت به الرسل ، وأمّا الشهداء فإنّهم قاتلوا على ما جاءت به الرسل.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فضل العالم أحبّ إليّ من فضل العابد. قيل له : لم؟ قال : لأنّه أورع لله عن محارمه (١).

__________________

(١) لم أجد فيما بين يديّ من المصادر هذا الحديث بهذا اللفظ. وقد وردت أحاديث في فضل العالم على العابد تؤكّد معنى هذا الحديث. منها ما روي من حديث أبي الدرداء الذي أورده الترمذيّ في باب فضل الفقه على العبادة ، والذي أخرجه البغويّ في شرح السنّة ، ج ١ ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ولفظه : «إنّ فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب». ومنها حديث أبي أمامة الباهليّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضل ـ

٢٨٢

ذكروا عن بعضهم قال : موت العالم أحبّ إلى إبليس من موت ألف عابد.

ذكروا عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : معلّم الخير يستغفر له كلّ شيء حتّى الحيتان في البحر (١).

ذكر الزهريّ قال : ذهب أبيّ بن كعب ليركب ، فأمسك له ابن عبّاس الركاب فقال له : مه يا ابن أخي. فقال له ابن عبّاس : إنّ الله يحبّ أن يعظّم حقّ خيار المسلمين. وبلغنا أنّ النظر في وجه الفقيه عبادة.

ذكروا عن ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن أبي سليم عن عمّار بن ياسر قال : ثلاثة لا يستخفّ بحقّهم إلّا منافق : الإمام المقسط ، وهو إمام الهدى ، وذو الشيبة المسلم ، ومعلّم الخير.

ذكروا عن أبي الدرداء قال : ويل لمن لا يعلم مرّة ، وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرّات.

ذكروا عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه (٢).

ذكروا عن أنس بن مالك أنّ رجلا تجرّ مصارنه في النار يتأذّى أهل النار من نتنه. قيل له : من هو؟ قال : من علّم علمه ولم يعمل به.

ذكروا عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الله يقول لرجل كان عالما : ما صنعت فيما آتيتك؟ فيقول : بيّنت علمي وعبدتك حتّى جاءني الموت. فيقول : كذبت ، بل أردت أن يقال : فلان عالم ، فلان مصلّ ، وقد قيل ذلك ، اذهبوا به إلى النار (٣).

ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من تعلّم العلم ليباهي به العلماء ، أو يماري به السفهاء ، أو

__________________

ـ العالم على العابد كفضلي على أدناكم». أخرجه الترمذيّ كذلك في فضل الفقه على العبادة.

(١) هذا نصّ حديث أخرجه ابن ماجه في المقدّمة ، باب ثواب معلّم الناس الخير ، من حديث أبي الدرداء ، ولفظه : «إنّه ليستغفر للعالم من في السماوات والأرض حتّى الحيتان في البحر».

(٢) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٢ تفسير الآية ١٧٦ من سورة الأعراف.

(٣) هذا جزء من حديث أخرجه النسائيّ في كتاب الجهاد ، باب من قاتل ليقال فلان جريء ، من حديث أبي هريرة.

٢٨٣

يصرف به وجوه الناس إليه فله النار (١).

ذكر بعضهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يبتغ العلم أو الحديث ليحدّث به الناس لم يرح رائحة الجنّة (٢).

ذكروا عن أبي هريرة أنّه قال : إنّ أخوف ما أخاف يوم القيامة أن يقال : يا عويمر ، قد علمت ، فما ذا عملت فيما علمت.

[يحيى عن الخليل بن مرّة عن عمران القصير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي] (٣).

قوله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) : أي لذنوبكم. ولم يكن فيها شيء مؤقّت (٥). ولكن ما قلّ أو كثر. فكان الرجل يستخلي بالنبيّ عليه‌السلام في اليوم مرارا لحوائجه فلا يستطيع أحد أن يخلو به حتّى يقدّم بين يدي نجواه صدقة.

وبلغنا أنّ أوّل من قدّم بين يدي نجواه صدقة عليّ بن أبي طالب. فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : لا بدّ لنا منك لحوائجنا أن نستخلي فيها يا رسول الله ، وكلّما أردنا أن نستخلي لحوائجنا أردنا أن نقدّم بين يدي نجوانا صدقة ، فإنّا والله ما نطيق ذلك ، وإنّ أموالنا لا تطيق ذلك.

__________________

(١) أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده مرسلا عن جابر بن زيد ، ج ٤ ص ٢٣ (رقم ٩٦٤). وأخرجه ابن ماجه في مقدّمة سننه ، في باب الانتفاع بالعلم والعمل به ، من حديث ابن عمر (رقم ٢٥٣). وأخرجه الربيع بن حبيب في مسنده عن أنس بن مالك مرفوعا بلفظ : «من تعلّم العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء لقي الله يوم القيامة ، وهو خائب من الحسنات» (رقم ٣٣).

(٢) أخرجه بمعناه ابن ماجه في المقدّمة ، باب الانتفاع بالعلم والعمل به ، من حديث أبي هريرة (رقم ٢٥٢). وأخرجه أبو داود في كتاب العلم ، باب في تعلّم العلم لغير الله تعالى ، من حديث أبي هريرة أيضا (رقم ٣٦٦٤).

(٣) زيادة من ز ورقة ٣٥٥. وانظر ما سلف قريبا قبل صفحتين في الهامش من هذا الجزء.

(٤) في ع تقديم وتأخير في إيراد الآيات الثلاث وتفسيرها ، فأثبتّ ترتيبها حسبما جاءت في المصحف. وقد سقطت بعض هذه الآيات مع تفسيرها من ق.

(٥) أي : محدّد معلوم.

٢٨٤

فأنزل الله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) : أي دون أن شكوتم فقلتم : إنّ أموالنا لا تطيق ذلك (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) : أي إنّ ذلك يضع عنكم هذه الصدقات ، وهي الصلاة المكتوبة والزكاة المفروضة.

وقال بعضهم : كان الناس أحفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسألة ففطمهم الله (١) عنه بهذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فكان أحدهم لا يسأل النبيّ عليه‌السلام حاجة حتّى يقدّم بين يدي نجواه صدقة.

فاشتدّ ذلك عليهم ، فأنزل الله هذه الآية فنسختها : (أَأَشْفَقْتُمْ ، أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي : أتمّوا الصلاة (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي : أتمّوا الزكاة. قال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٣).

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) : وهم المنافقون وادّوا المشركين وناصحوهم فأدّوا إليهم أخبار المؤمنين وأسرارهم. قال : (ما هُمْ مِنْكُمْ) يقوله للمؤمنين. (ما هُمْ مِنْكُمْ) أي ليسوا من المؤمنين في الاسم والثواب ، [ما هم منكم في باطن أمرهم ، إنّما يظهرون لكم الإيمان وليس في قلوبهم] (٢) (وَلا مِنْهُمْ) يعني من المشركين [في ظاهر أمرهم لأنّهم يظهرون لكم الإيمان ويسرّون معهم الشرك] (٣). ليسوا من المشركين في الحكم والسيرة. كقوله تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [النساء : ١٤٣]. قال : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤) : أي وهم يعلمون أنّهم كاذبون فيما حلفوا عليه ، أي أنّهم منكم وليسوا منكم. كقوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (٥٦) [التوبة : ٥٦].

__________________

(١) في ع وق : «فعصمهم الله» ، وفيه تصحيف. وقد وردت العبارة في ز ورقة ٣٥٥ هكذا : «كان الناس أحفوا رسول الله بالمسألة حتّى آذوه ففطمهم الله عنه بهذه الآية ...» ، أي : حبسهم وصدّهم عنه. وهو قول لقتادة كما في ز ، وفي تفسير ابن كثير ، ج ٦ ص ٥٨٨ نسب هذا القول إلى قتادة ومقاتل بن حيّان.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٥.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٥.

٢٨٥

قال عزوجل : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) : أي حلفهم جنة : وهو كقوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) [المنافقون : ١]. وذلك أنّهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا إذا أتينا المشركين شهدنا إنّك لرسول الله ، فكذّبهم الله في الذي قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أي : إنّا شهدنا بذلك عند المشركين. قال عزوجل : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أي فيما ذكروا لك أنّهم يشهدون عند المشركين إنّك لرسوله. وكانوا يحلفون للنبيّ وللمؤمنين ليصدّقوهم ، فقال : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي حلفهم لك (جُنَّةً) اجتنّوا بها منكم ، وأسرّوا نفاقهم ولم يظهروه. لكي لا يقتلوا [ولا تسبى ذرّيّتهم ولا تؤخذ أموالهم] (١) ، إذا أظهروا نفاقهم لأنّهم يعلمون أنّ الحكم فيهم ـ إذا أظهروا نفاقهم ـ القتل. كقوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) [الأحزاب : ٦٠ ـ ٦٢] أي : هكذا سنّة الله في منافقي كلّ أمّة خلت من قبل : القتل إن لم ينتهوا عن إظهار نفاقهم. وكذلك سنّته في منافقي أمّتك إن لم ينتهوا عن إظهار نفاقهم.

قال تعالى : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي عن الإسلام ، كانوا يصدّون عنه. قال : (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٦) : أي من الهوان في عذاب جهنّم.

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٧).

قال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) : أي يوم القيامة (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) : أي إنّهم كانوا في الدنيا مؤمنين ، أي : بالآخرة ، بالإقرار الذي كان منهم (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أنتم في الدنيا فتقبلون منهم (وَيَحْسَبُونَ) : أي يحسب المنافقون (أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) : أي أنّ ذلك يجوز لهم عند الله كما جاز لهم عندكم في الدنيا إذا أقرّوا بإقراركم ، وادّعوا ملّتكم ، فقالوا : إنّهم مؤمنون

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٥.

٢٨٦

حيث أقرّوا بالإيمان وجرت عليهم أحكامه.

قال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٨) : أي إذا ظنّوا أنّهم على شيء ولم يعملوا بفرائض الله ويوفوا كوفاء المؤمنين (١) كقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ،) أي : حتّى تعملوا بما عهد إليكم ربكم في كتبه التي أنزل على أنبيائه. ثمّ قصد إلى المسلمين فقال : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [المائدة : ٦٨] يقول : وأنتم أيضا يا معشر من أقرّ للنبيّ عليه‌السلام بما جاء (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) ، أي : لستم مؤمنين حتّى تقيموا ما أنزل إليكم من ربكم في كتابه الذي أنزل إليكم وما عهد إليكم على لسان نبيّه.

قال تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) : أي غلب واستولى عليهم ، فأنساهم أن يذكروا الله في كلّ ما عهد إليهم فيؤمنوا به على حال ما فرضه عليهم (٢).

قال : (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) : أي شيعة الشيطان (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٩) : أي خسروا أنفسهم فصاروا في النار وخسروا الجنّة.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي يعادون الله ورسوله (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) (٢٠) : أي أذلّهم الله (كَتَبَ اللهُ) : أي فرض الله (٣) (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) في سلطانه (عَزِيزٌ) (٢١) في نقمته (٤).

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز : «ألا إنّهم هم الكاذبون يوم يحلفون له». والجمل التي تأتي بعد هذا كلّها من الشيخ هود الهوّاريّ ولا شكّ ، فهو من عادته أن يقف عند كلّ مناسبة ، ليؤكّد بها أصلا من أصول الإباضيّة في أنّ الإيمان الحقّ لا يتمّ إلّا بالعمل الصالح. وكأنّي به في تفسير آية المائدة يحمّلها ما لا تحتمل. فالآية مصدّرة بخطاب أهل الكتاب ، وليست موجّهة في قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) لمن أقرّ للنبيّ محمّد عليه‌السلام بالإسلام كما يراه الشيخ هود. وإذا كان ما زاده حقّا وصوابا فليس مستنبطا من الآية. وانظر تفسيرها مختصرا فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٦٨ من سورة المائدة.

(٢) هكذا وردت هذه الجملة في ق وع : «فيؤمنوا به على حال ما فرضه عليهم» ولست مطمئنّا إلى صحّة عبارتها.

(٣) كذا في ق وع : «فرض الله» ، وفي ز ، ورقة ٣٥٦ : «قضى الله» ، وهذه الكلمة الأخيرة أصحّ وأبلغ.

(٤) كذا في ق وع ، وجاء في ز ما يلي : «قال محمّد : قيل : إنّ معنى غلبة الرسل على نوعين : فمن بعث بالحرب فغالب بالحرب ، ومن بعث منهم بغير حرب فغالب بالحجّة».

٢٨٧

قوله عزوجل : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ) : أي يحبّون ، من المودّة والمحبّة (مَنْ حَادَّ) : أي من عادى (اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ).

تفسير الحسن : إنّهم المنافقون يوادّون المشركين.

وتفسير الكلبيّ : إنّ هذا نزل في أمر حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب إلى أهل مكّة ينذرهم خروج النبيّ عليه‌السلام إليهم (١) ؛ وتفسيره في سورة الممتحنة (٢).

قال تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ) : أي جعل (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) : وهم المؤمنون الذين لا يوادّون المشركين. قال تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) : وقد فسّرنا أمرها في غير هذا الموضع.

قال : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) : أي بأعمالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) : أي بثوابه إيّاهم.

(أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) : أي جند الله (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ) : أي جند الله (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) : أي السعداء ، وهم أهل الجنّة ، صاروا إلى دار القرار ، ودار السعادة ، ودار الخلود ؛ فطوبى لهم.

* * *

__________________

(١) وهذا ما ذهب إليه الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٤٢.

(٢) انظر قصّته في تفسير الآيات الأولى من سورة الممتحنة الآتية بعد سورة الحشر. والحقّ أنّ الآية عامّة في كلّ من يوادّ المشركين أو العصاة الذين يحادّون الله ويجاهرون بمعاصيهم في كلّ زمان ومكان.

٢٨٨

تفسير سورة الحشر ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) : تفسير الحسن قال : (الْعَزِيزُ) : بعزّته ذلّ من دونه. وقال بعضهم : العزيز في نقمته ، الحكيم بأمره.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) : تفسير الحسن : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أجلى بني النّضير إلى الشام قال : هذا أوّل الحشر ، ونحن على الأثر إن شاء الله (١). يعني أمّته الذين تقوم عليهم الساعة بالشام.

وبعضهم يقول : يبعث الله النار قبل أن تقوم الساعة تطرد الناس إلى الشام ، تنزل معهم إذا نزلوا ، وترحل معهم إذا ارتحلوا. تطردهم إلى الشام ، ثمّ تقوم عليهم الساعة بالشام.

وبعضهم يقول : كان بنو النضير أوّل من أخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لئن عشت إن شاء الله لأخرجنّ اليهود من جزيرة العرب حتّى لا أدع فيها إلّا مسلما (٢). فقبض قبل أن يفعل.

ذكروا عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبيّ عليه‌السلام أنّه أمر أن يخرج اليهود من جزيرة العرب (٣).

قوله تعالى : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) : أي ما ظننتم أن يحكم الله بأن يجلوا إلى الشام. (وَظَنُّوا) : أي اليهود ، يعني بني النضير (أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) : أي لم يكونوا يحتسبون أن يخرجوا من ديارهم ومن حصونهم.

قال تعالى : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) : أي يخربونها من

__________________

(١) أخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٨ ص ٢٩ عن الحسن مرسلا ، وانظر : السيوطي ، الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٨٧.

(٢) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٤٩ من سورة المائدة.

(٣) انظر : صحيح مسلم ، كتاب الجهاد والسير : باب إجلاء اليهود من الحجاز ، (رقم ١٧٦٥ ـ ١٧٦٦).

٢٨٩

داخل ، يقولون : لا نتركها للمؤمنين. قال تعالى : (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) : أي يخربها المؤمنون من خارج في تفسير الحسن.

وقال الكلبيّ : لمّا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسير إلى بني النضير درّبوا الأزقّة (١) وحصّنوا الدور ، فأتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقاتلهم إحدى وعشرين ليلة ؛ كلّما ظهر على دار من دورهم أو درب من دروبهم هدمه ليتسع المقاتل (٢) وجعلوا ينقبون دورهم من أدبارها إلى الدار التي تليها ويرمون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنقضها ، فلمّا يئسوا من نصر المنافقين ، وذلك أنّ المنافقين كانوا واعدوهم إن قاتلهم النبيّ عليه‌السلام أن ينصروهم ، فلمّا يئسوا من نصرهم سألوا نبيّ الله عليه‌السلام الصلح. فأبى عليهم إلّا أن يخرجوا من المدينة. فصالحوه على أن يجليهم إلى الشام على أنّ لهم أن يحملوا ـ كلّ ثلاثة منهم على بعير واحد ـ ما شاءوا من (٣) طعام وسقاء ، ولنبيّ الله وأصحابه ما فضل ؛ ففعلوا.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاهم إلى الصلح فأبوا. فلمّا رآهم لا ينزلون من حصونهم أمر بنخلهم فعقرت. فعقر يومئذ من صنوف التمر غير العجوة. فلمّا رأوا أنّه قد ذهب بعيشهم هبطوا إلى الصلح على أن يجليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الشام ، وشارطهم على أنّ لهم ما حمل الظهر ، سوى الحلقة والكراع (٤). وزعم بعضهم أنّ الحلقة الدروع والسلاح كلّه. فاحتملوا شروطهم حتّى إنّهم لينقضون سقوفهم. وفيهم أنزل الله : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ).

__________________

(١) أي : اتّخذوها دروبا ، أي ضيّقوها.

(٢) أي : موضع القتال ، وجاءت عبارة الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٤٣ هكذا : «فتحصّنوا [أي اليهود] في دورهم ، وجعلوا ينقبون الدار إلى التي هي أحصن منها ، ويرمون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجارة التي يخرجون منها ، وجعل المسلمون يهدمون دورهم ليتّسع موضع القتال ...». واقرأ تفاصيل غزوة بني النضير في مغازي الواقديّ ، ج ١ ص ٣٦٣ ـ ٣٨٣ فقد أفاض فيها القول وأتى بمختلف الروايات بتحقيق جيّد وأسلوب جذّاب.

(٣) كذا في ق وع ، وفي ز ورقة ٣٥٦ : «على أنّ لهم أن يحمل أهل كلّ ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من طعام وسقاء ...».

(٤) في ق وع : «والحلقة والكراع» ، وهو خطأ صوابه ما أثبتّه : «سوى الحلقة والكراع» ، كما جاءت في كتب التفسير والسيرة» ، على أنّي لم أجد فيها ذكرا للكراع. وفي اللسان : الكراع اسم يجمع الخيل. والكراع : السلاح ، وقيل هو اسم يجمع الخيل والسلاح.

٢٩٠

قال تعالى : (فَاعْتَبِرُوا) : أي تفكّروا واعرفوا الحقّ (يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢) : أي يا أهل العقول (١). يعني المؤمنين.

قال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) : أي ولو لا حكم الله بالجلاء ، أي : بالخروج إلى الشام (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) : أي : بالقتل والسباء (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي فارقوا (٢) الله ورسوله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤).

قوله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) : أي إنّ الله أذن لكم في ذلك ، فجعل ذلك إليكم : أن تقطعوا إن شئتم وأن تتركوا إن شئتم. قال تعالى : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) (٥). ذكروا عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّق نخل بني النضير وترك العجوة (٣) وهي التي يقول فيها الشاعر (٤).

وهان على سراة بني لؤيّ

حريق بالبويرة (٥) مستطير (٦).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقر يومئذ من صنوف النخل غير العجوة وترك العجوة.

ذكروا عن عكرمة أنّه قال : كلّ ما كان دون العجوة من النخل فهو لينة (٧).

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٤٣ : (يا أُولِي الْأَبْصارِ) يا أولي العقول. ويقال : (يا أُولِي الْأَبْصارِ) يا من عاين ذلك بعينه». والصحيح الأوّل ، لأنّ العبرة باقية مدى الأزمان لكلّ من قرأ القرآن.

(٢) كذا في ق وع : «فارقوا» ، وفي ز : «عادوا» ، وهذه اللفظة الأخيرة أدقّ تعبيرا وأصحّ تأويلا.

(٣) انظر ما رواه عبد الله بن عمر في صحيح مسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب جواز قطع أشجار الكفّار وتحريقها ، (رقم ١٧٤٦).

(٤) هو حسّان بن ثابت ، شاعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) البويرة : تصغير بئر ، وقيل : تصغير بور ، وهي الحفرة. وهي هنا علم لموضع به نخل بني النضير ومنازلهم ، يقع قبلة مسجد قباء إلى جهة الغرب. انظر : ياقوت ، معجم البلدان (بور).

(٦) انظر : عبد الرحمن البرقوقي ، شرح ديوان حسّان بن ثابت ، نشر دار الأندلس ، بيروت ، ١٣٨٦ ه‍ / ١٩٦٦ م.

(٧) هذا هو القول المشهور في معنى اللينة. وقال بعضهم : هو جميع أنواع التمر سوى العجوة والبرني. وهنالك أقوال أخرى في معنى اللينة وردت في كتب التفسير. انظر مثلا : تفسير القرطبيّ ، ج ١٨ ص ٨ ـ ١٠.

٢٩١

وتفسير مجاهد أنّ المهاجرين وقعوا في النخل ، فنهاهم بعضهم عن قطع النخل وقالوا : إنّما هي مغانم للمسلمين. وقال الذين قطعوا : بل هي غيظ للعدوّ ، فأنزل الله تصديق من نهى عن قطعه و [تحليل] من قطعه من الإثم [وإنّما قطعه وتركه بإذنه] (١).

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : العجوة من الجنّة ، وهى شفاء من السمّ (٢).

قال تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦) فظنّ المسلمون أنّه سيقسمه بينهم جميعا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار : إن شئتم أن أقسم لكم وتقرّون المهاجرين معكم في دياركم فعلت ، وإن شئتم عزلتهم وقسمت لهم هذه الأرض والنخل. فقالوا : يا رسول الله ، بل أقرّهم في ديارنا واقسم لهم الأرض والنخل. فجعلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المهاجرين (٣).

قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) : [تفسير قتادة : لمّا نزلت هذه الآية كان الفيء في هؤلاء كلّهم ، فلمّا نزلت الآية في الأنفال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)] (٤) [الأنفال : ٤١] نسخت الآية الأولى وجعلت الخمس لمن كان له الفيء فصار ما بقي من الغنيمة لأهل القتال.

قال بعضهم : وكتب عمر بن عبد العزيز : إنّ كلا الآيتين واحدة لم تنسخ إحداهما الأخرى.

وتفسير الحسن : إنّ الفيء الجزية ، ولا يجعلها منسوخة. قال : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) فهذا سهم واحد. قال : (وَلِذِي الْقُرْبى) أي : قرابة النبيّ

__________________

(١) ما بين معقوفين زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٦٦٣ لإيضاح المعنى.

(٢) أخرجه الترمذيّ في كتاب الطبّ ، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطبّ ، باب الكمأة والعجوة (رقم ٣٤٥٥) كلاهما يرويه من حديث أبي هريرة ، وأخرجه أيضا أحمد والدارميّ.

(٣) انظر تفصيل ذلك في مغازي الواقديّ ، ج ١ ص ٣٧٩ وما قاله سعد ب ن عبادة وسعد بن معاذ.

(٤) سقط ما بين المعقوفين من ق وع فأثبتّه من ز ورقة ٣٥٦ ـ ٣٥٧ حتّى يستقيم المعنى ، وانظر تفصيل هذا القول في تفسير الطبريّ ، ج ٢٨ ص ٣٨ ، وانظر ابن العربي ، أحكام القرآن ، ج ٤ ص ١٧٦٠ ، وانظر الجصّاص ، أحكام القرآن ، ج ٥ ص ٣١٨ ـ ٣١٩.

٢٩٢

عليه‌السلام ، (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).

ذكروا أنّ نجدة بن عامر كتب إلى ابن عبّاس يسأله عن سهم ذوي القربى ، فكتب إليه : إنّا كنّا نراها قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى ذلك علينا قومنا.

ذكروا أنّ أبا بكر وعمر حملا عليه في سبيل الله.

قال : [يحيى] (١) وبلغني عن الحسن أنّه قال : يعطى منه قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال في ابن السبيل : هو الغازي يعطى منه إذا احتاج وإن كان في بلده غنيّا.

قال تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) : يعني الفيء فلا يكون فيه للفقراء والمساكين حقّ.

قال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) : نزلت في الغنيمة صارت بعد في جميع الدين. (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) : من الغلول (فَانْتَهُوا) : وهي بعد في جميع الدين. (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٧) : أي إذا عاقب.

ثمّ قال : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) : أي وللفقراء المهاجرين ، رجع إلى أوّل الآية : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وللفقراء المهاجرين. ثمّ قال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) أي : وللذين تبوّءوا الدار ، تبعا للكلام الأوّل ، إلى قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). ثمّ قال الله عزوجل : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : وللذين جاءوا من بعدهم تبعا للكلام الأوّل أيضا. قال [بعضهم] : فلم يبق أحد إلّا وله في هذا المال حقّ. وهذا تفسير الحسن.

ذكروا أنّ عمر بن الخطّاب قال : ما من أحمر ولا من أسود إلّا يملكون فيئه (٢) ، أي : إلّا وله في هذا المال حقّه ، أعطيه أو منعه. ولئن عشت إن شاء الله ليأتينّ الراعي باليمن حقّه منه قبل أن يسأله أو يحمرّ فيه وجهه (٣).

__________________

(١) زيادة من مخطوطة ابن سلّام ، قطعة ١٨٠.

(٢) كذا في ق : «فيئه» ، وفي ع : «إلّا يملكون فيه إلّا وله في هذا المال حقّه ...».

(٣) كذا في ق وع وفي مخطوطة ابن سلّام ، قطعة ١٨٠ ، وفي تفسير القرطبيّ ج ١٨ ص ٢٢ : «لئن عشت ليأتينّ ـ

٢٩٣

[ابن لهيعة عن أبي الأسود قال : أدركت زمان عثمان بن عفّان وما من المسلمين أحد إلّا وله في مال الله حقّ] (١). قوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ). ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه لعن المتفلّجات والمتوشّمات والمتنمّصات المغيّرات خلق الله. فجاءته امرأة من بني أسد فقالت : أنت الذي تقول : لعن الله المتفلّجات والمتوشّمات والمتنمّصات المغيّرات خلق الله؟ فقال : ألا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وقال بعضهم : قال : يسعني أن ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت هذا فيه (٢). فقال : إن كنت قرأت ما بين اللوحين إنّه لفيه ، أما وجدت : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت : بلى. فقالت : والله إنّي رأيت امرأتك تفعله. قال : اذهبي وانظري إليها ، فإن رأيت فيها شيئا من ذلك لم تصحبني. فدخلت فنظرت فلم تر شيئا. ثمّ رجعت فقالت : ما رأيت فيها شيئا من ذلك.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا هل عسى رجل أن يكذّبني وهو متّكئ على حشاياه ، يبلغه الحديث عنّي فيقول : كتاب الله ودعونا من حديث رسول الله(٣).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تقوم الساعة حتّى يرفع العلم. فقال زياد بن لبيد : أيرفع العلم يا رسول الله ونحن نقرأ القرآن إيمانا ولسانا؟ فقال : ثكلتك أمّك يا زيّاد بن لبيد ، قد كنت أعدّك من فقهاء المدينة. أو ليس كتاب الله عند اليهود والنصارى فما أغنى عنهم؟ إنّ ذهاب العلم ذهاب العلماء (٤).

__________________

ـ الراعي وهو بسر وحمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه». وانظر : أبو يوسف : كتاب الخراج ، ص ٦٧ ـ ٧٢.

(١) زيادة من مخطوطة تفسير ابن سلّام ، قطعة ١٨٠.

(٢) كذا في مخطوطة ابن سلّام ، وفي ق وع : «فما وجدت بأنّه لعنه».

(٣) حديث صحيح أخرجه أبو داود في كتاب السنّة ، باب في لزوم السنّة من حديث المقدام بن معديكرب (رقم ٤٦٠٤) ومن حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (رقم ٤٦٠٥). وأخرجه ابن ماجه في المقدّمة ، باب تعظيم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتغليظ على من عارضه ، من حديث المقدام بن معديكرب (رقم ١٢) ومن حديث أبي رافع (رقم ١٣). ورواه الشافعيّ بسند صحيح أيضا من حديث أبي رافع مرفوعا ومن حديث محمّد بن المنكدر مرسلا ، انظر : الشافعي : الرسالة ، ص ٩٠ ـ ٩١. وانظر صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ). وانظر فتح الباري ، ج ٨ ص ٦٣٠.

(٤) انظر ما مضى ، ج ١ ، تفسير الآية ٨٠ من سورة آل عمران.

٢٩٤

ذكروا عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنّ الله لا ينزع العلم عنكم بعد أن أعطاكموه انتزاعا ، ولكن ينزعه عنكم بقبض العلماء. أي : يذهب العلماء بعلمهم ويبقى الناس جهّالا يستفتون فيقولون برأيهم فيضلّون ويضلّون. قال عروة : فحدّثت بذلك عائشة فقالت : والله لقد حفظ عبد الله (١).

ذكر غير واحد ، وذكروه عن عمر بن الخطّاب قال : أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، وتفلّتت منهم أن يعوها فسئلوا فقالوا برأيهم فضلّوا وأضلّوا.

ذكروا عن بعضهم قال : ما حدّثك به أصحاب النبيّ عليه‌السلام فحدّث.

ذكروا عن الحسن عن أبي مسلم الخولانيّ قال : مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم يهتدي بها الناس ما بدت ، فإذا خفيت تحيّروا. ذكروا عن بعضهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : السنّة سنّتان : سنّة في فريضة الأخذ بها هدى وتركها ضلالة ، وسنّة في غير فريضة الأخذ بها فضيلة ، وتركها ليس بخطيئة (٢).

ذكروا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أمرتكم به من شيء فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فانتهوا (٣). فهذا الأمر في غير السنّة التي لا تترك فيما كان من فضيلة (٤).

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب العلم ، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (رقم ٢٦٧٣) وأخرجه ابن سلّام بهذا السند : «ابن لهيعة عن ابن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ...» كما في مخطوطة تفسير ابن سلّام.

(٢) في مخطوطة تفسير ابن سلّام ، قطعة ١٨٠ ورد هذا الحديث بالسند التالي : «الخليل بن مرّة عن الوضين بن مرّة عن مكحول قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وانظر ما سلف ج ١ ، تفسير الآية ٣ من سورة البقرة.

(٣) حديث صحيح ، أخرجه ابن ماجه في المقدّمة ، وهو أوّل أحاديث السنن ، باب اتّباع سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرجه مسلم في كتاب الحجّ ، باب فرض الحجّ مرّة في العمر (رقم ١٣٣٧) من حديث أبي هريرة ، وفيه : «ذروني ما تركتكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فآتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه». وأخرجه أحمد والنسائيّ وغيرهم.

(٤) هذه الجملة الأخيرة من كلام مجاهد ، كما في مخطوطة ابن سلّام ، قطعة ١٨٠.

٢٩٥

ذكروا عن الحسن أنّه قال : ركوب النهي أشدّ من ترك الأمر. قال بعضهم : يعني بالأمر الذي فيه فضيلة ليس بسنّة لا تترك.

قوله عزوجل : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) : أي أخرجهم المشركون من مكّة (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) : أي بالعمل الصالح (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨) : أي في القول والعمل.

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) : أي وطّنوا الدار ، يعني المدينة (وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : يعني الأنصار. وكان إيمان الأنصار قبل أن يهاجر إليهم المهاجرون ، وكان إيمان المهاجرين قبلهم.

قال تعالى : (يُحِبُّونَ) : يعني الأنصار (مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) : أي ممّا أوتي المهاجرون ، أي ممّا آثروهم به (١) من الطعام والشراب وغير ذلك ، في تفسير الحسن. وقال بعضهم : ممّا قسّم للمهاجرين من [أموال] (٢) بني النضير.

قال تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).

ذكروا أنّ رجلا من المهاجرين قام ثلاثة أيّام صائما ، يمسي فلا يجد ما يفطر عليه ، فيصبح صائما حتّى فطن له رجل من الأنصار يقال له : ثابت بن قيس ، فقال لأهله : إنّي أجيء الليلة بضيف لي. فإذا وضعتم طعامكم فليقم أحدكم إلى السراج كأنّما يصلحه فليطفئه ، ثمّ اضربوا بأيديكم كأنّكم تأكلون ، ولا تأكلوا حتّى يشبع الضيف. فلمّا أمسى وضع أهله طعامهم ، فقامت امرأته إلى السراج كأنّها تصلحه فأطفأته. ثمّ جعلوا يضربون بأيديهم إلى الطعام كأنّهم يأكلون ولا يأكلون ، حتّى شبع ضيفهم. وإنّما كانت خبزة هي قوتهم. فلمّا أصبح ثابت غدا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النبيّ عليه‌السلام : يا ثابت ، لقد رضي الله فعلكم البارحة بضيفكم. وأنزلت فيه : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي : حاجة (٣).

__________________

(١) في ق وع : «أتوهم» ، وأثبتّ ما هو أصحّ وأبلغ : «آثروهم به» ، من مخطوطة ابن سلّام ، قطعة ١٨٠.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) حديث صحيح ، أخرجه البخاريّ في كتاب المناقب ، باب (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) عن أبي هريرة. وقد أكّد الحافظ ابن حجر العسقلانيّ أنّ الصحابيّ الذي نزلت فيه هذه الآية إنّما هو أبو طلحة وليس ثابت بن قيس ، وردّ هذه الرواية التي أوردها ابن سلّام ، وذكره باسمه يحيى بن سلّام.

٢٩٦

ذكروا أنّ عبد الرحمن بن عوف قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فآخى النبيّ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاريّ ، فقال له سعد : أقاسمك مالي نصفين ، وكان ذا غنى ، قال : وعندي امرأتان فأيّتهما أعجبتك (١) حتّى أطلّقها فإذا انقضت عدّتها فتزوّجها. فقال له : بارك الله لك في مالك وأهلك. دلّوني على السوق. فما رجع حتّى استحصل إقطا كثيرا وسمنا ، وأحسبه قال : وتمرا. فجاء به إلى منزله. فمكثا ما شاء الله. فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثر صفرة في صدره فقال. مهيم؟ (٢) فقال : يا رسول الله ، تزوّجت امرأة من الأنصار. قال : ما سقت إليها؟ قال : تومة (٣) من ذهب أو ورق. فقال : أو لم ولو بشاة (٤). ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى من غنائم خيبر الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى عيينة بن حصن بن بدر مائة من الإبل ، فقال أناس من الأنصار : يعطي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنائمنا رجالا سيوفنا تقطر من دمائهم وسيوفهم تقطر من دمائنا!. [فبلغ ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعا الأنصار] (٥) فاجتمعت إليه الأنصار ، فقال النبيّ عليه‌السلام : هل فيكم غيركم؟ قالوا : لا يا رسول الله إلّا ابن أخت لنا. فقال : ابن أخت القوم منهم. ثمّ قال : يا معشر الأنصار ، ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وبالشاء والإبل وتذهبون أنتم بمحمّد إلى دياركم؟ قالوا : بلى ، يا رسول الله. قال : لو أخذ الناس واديا وأخذت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. الأنصار كرشي وعيبتي ، ولو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار (٦).

__________________

وقال : «وهو غلط بيّن». انظر : ابن حجر ، فتح الباري ، ج ٧ ص ١١٩ ـ ١٢٠ ، وج ٨ ص ٦٣١ ـ ٦٣٢ ، وانظر : السيوطي ، الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٩٥ ، والواحدي ، أسباب النزول ، ص ٤٤٥ ـ ٤٤٦ وغيرها من مصادر التفسير والحديث.

(١) كذا في ق وع ، وفي مخطوطة تفسير ابن سلّام قطعة ١٨٠ : «فانظر أيّهما أعجب إليك».

(٢) «مهيم» أي : ما وراءك؟ وفي رواية : «ما هذا؟».

(٣) «تومة» : هي حبّة تعمل مستديرة كاللؤلؤة من فضّة. وفي البخاريّ : «زنة نواة من ذهب».

(٤) حديث متّفق عليه ، رواه البخاريّ في مناقب الأنصار ، باب إخاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار. وفي كتاب النكاح ، باب الصفرة للمتزوّج ، وباب كيف يدعى للمتزوّج. وفيه عن أنس رضي الله عنه «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة ، قال : ما هذا؟ قال : إنّي تزوّجت امرأة على وزن نواة من ذهب. قال : بارك الله لك ، أو لم ولو بشاة».

(٥) زيادة لا بدّ منها.

(٦) حديث صحيح رواه البخاريّ في باب مناقب الأنصار ، وفي باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا الهجرة لكنت امرءا ـ

٢٩٧

قوله عزوجل : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) : [تفسير سعيد بن جبير : وقي إدخال الحرام ومنع الزكاة] (١) (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بريء من الشحّ من أعطى زكاة ماله ، وقرى الضيف ، وأعطى النائبة في قومه (٢).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أدّى زكاة ماله فقد أدّى حقّ الله في ماله ، ومن زاد فهو خير له (٣).

قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) : يعني بعد أصحاب النبيّ عليه‌السلام إلى يوم القيامة [فلم يبق أحد إلّا وله في هذا المال حقّ أعطيه أو منعه] (٤) (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) : أي أصحاب النبيّ عليه‌السلام (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي حسدا. وقال بعضهم : عداوة (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٠).

__________________

ـ من الأنصار ، عن أنس ، وعن عبد الله بن زيد وعن أبي هريرة بألفاظ متقاربة. وفي حديث أنس : «قالت الأنصار يوم فتح مكّة وأعطى قريشا : والله إنّ هذا لهو العجب إنّ سيوفنا تقطر من دماء قريش ...». وأخرجه ابن ماجه مختصرا في المقدّمة. فضل الأنصار (رقم ١٦٤) من طريق عبد المهيمن بن عبّاس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جدّه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الأنصار شعار والناس دثار ، ولو أنّ الناس استقبلوا واديا أو شعبا ، واستقبلت الأنصار واديا لسلكت وادي الأنصار ، ولو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار».

(١) زيادة من ز ورقة ٣٥٧.

(٢) أخرجه ابن سلّام بهذا السند : «نصر بن طريف وعاصم بن حكيم عن محمّد بن يحيى عن عمّه زيد بن خالد الجهني». وأخرجه عبد بن حميد عن خالد بن يزيد بن جارية ، كما في الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٩٦.

(٣) انظر ما سلف ، ج ٢ تفسير الآية ٣٥ من سورة التوبة ، ففيها الإشارة إلى هذا الحديث. وفي المسألة خلاف قديم ، وجمهور الصحابة على أنّه ليس في المال حقّ سوى الزكاة. وقال ابن عمر : في المال حقّ سوى الزكاة. ومعتمد من يرى رأى ابن عمر الآية : ١٧٧ من سورة البقرة ؛ قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ..). إلى قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). ويرى جمهور العلماء بأنّ في الآية نسخا بعد أن فرضت الزكاة وحدّدت صنوفها ومقاديرها. انظر في الموضوع : كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلّام. ص ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

(٤) زيادة من ز ورقة ٣٥٧.

٢٩٨

تفسير الحسن : إنّ من اتّبعهم إلى يوم القيامة ، وهي مثل التي في براءة : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) [التوبة : ١٠٠] إلى يوم القيامة.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : دعوا أصحابي ولا تسبّوا أصحابي ، فإنّ أحدكم لو أنفق كلّ يوم مثل جبل أحد لم يبلغ مدّ أحدهم (١).

ذكروا عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا ذكر القدر فأمسكوا ، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا ، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا (٢).

ذكر النضر قال : سمعت أبا قلابة يقول لأيّوب : يا أيّوب ، احفظ عليّ ثلاثا : لا تجالس أهل البدع ، ولا تسمع منهم ، ولا تفسّر القرآن برأيك ، فإنّك لست من ذلك في شيء ، وانظر إلى هؤلاء الرهط من أصحاب النبيّ ولا تذكرنهم إلّا بخير.

قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : تفسير الحسن : يعني قريظة والنضير.

(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) : يقول المنافقون : لا نطيع فيكم محمّدا وأصحابه (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) فاغترّت قريظة بذلك (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (١٢). فأجلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النضير إلى الشام فلم يخرجوا معهم ، وقتل بني قريظة بعد ذلك بحكم سعد بن معاذ ، فلم يقاتلوا معهم.

قال الكلبيّ : كان بين إجلاء بني النضير وقتل بني قريظة سنتان. كانوا مقيمين بالمدينة بعد إجلاء بني النضير في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

__________________

(١) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في فضائل أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كنت متّخذا خليلا. وأخرجه مسلم كذلك في كتاب فضائل الصحابة ، باب تحريم سبّ الصحابة رضي الله عنهم ، عن أبي سعيد الخدريّ (رقم ٢٥٤٠) وفي آخره : «مدّ أحدهم ولا نصيفه».

(٢) أخرجه يحيى بن سلّام كما في مخطوطة تفسيره بهذا السند : «النضر بن معبد عن أبي قلابة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...». وأخرجه الطبرانيّ من حديث ابن مسعود أيضا ، وأخرجه ابن عديّ في الكامل عن ثوبان. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ، ج ١ ص ٤٢ ـ ٤٦ (رقم ٣٤).

٢٩٩

فلمّا سار أبو سفيان بالأحزاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غدرت بنو قريظة نبيّ الله ، وقطعوا الحلف الذي كان بينه وبينهم.

فلمّا هزم الله الأحزاب أمر الله نبيّه أن يقاتل بني قريظة. فأرسل إليهم المنافقون : إن أراد محمّد أن يخرجكم من المدينة كما أخرج بني النضير فلا تخرجوا ، فو الله لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم وإن قوتلتم لننصرنكم. فاغترّ بنو قريظة بذلك ولزموا حصونهم. فقاتلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريبا من شهر. وقذف الله في قلوبهم الرعب فلم ينصروهم. فلمّا رأت بنو قريظة أنّ المنافقين قد خذلوهم وأيسوا من نصرتهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، وتقسم أموالهم بين المهاجرين والأنصار.

ذكروا عن عبد الله بن عمر بن سعد بن معاذ عن أبيه أنّ سعدا لم يحكم فيهم ، ولكنّ النبيّ عليه‌السلام أرسل إليه فجاء على حمار فقال : أشر عليّ فيهم. فقال سعد : لقد علمت أنّ الله أمرك فيهم بأمر أنت فاعل ما أمرت به. قال : أشر عليّ فيهم. قال : لو ولّيت أمرهم لقتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم ونساءهم ولقسمت أموالهم. فقال النبيّ عليه‌السلام : والذي نفسي بيده لقد أشرت عليّ فيهم بالذي أمرني الله به فيهم (١).

ذكروا عن عطيّة القرظيّ ، وكان فيمن عرض على النبيّ عليه‌السلام يوم قريظة ؛ فمن نبتت عانته قتل ، ومن لم تنبت ترك. قال : فنظروا فإذا عانتي لم تنبت وتركت.

قوله عزوجل : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) : أي : هم أشدّ خوفا منكم منهم من الله ، يعني بني النضير (٢). قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٣).

قال : (لا يُقاتِلُونَكُمْ) : يعني اليهود (جَمِيعاً) : أي لا يقاتلونكم شذاذا ، أي : لا

__________________

(١) انظر الإشارة إلى هذه القصّة وبعض مصادرها فيما سلف ج ١ ، تفسير الآية ١٥٩ من سورة آل عمران.

(٢) في ق وع ، وفي ز ، وفي مخطوطة ابن سلّام ، قطعة ١٨٠ : «يعني المنافقين» ، ويبدو لي أنّ هذا خطأ من ناسخ أوّل تناقله من بعده ، فإنّ سياق الآية بعده لا يدلّ على أنّ المعنيّين هم المنافقون ، والصواب ما أثبتّه إن شاء الله ، «يعني بني النضير» ، كما جاء في بعض كتب التفسير ، انظر مثلا : تفسير الطبريّ ، ج ٢٨ ص ٤٧ ؛ وإن كان ابن عاشور يرى أنّ الضمير يعود للمنافقين وإلى اليهود معا ، كما جاء في التحرير والتنوير ، ج ٢٨ ص ١٠١ ـ ١٠٢.

٣٠٠