تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

١
٢

الجزء الثالث

ويبدأ بتفسير سورة مريم

٣
٤

تفسير سورة مريم وهي مكّيّة كلّها (١)

بسم الله الرحمن الرحیم قوله : (كهيعص) (١) : كان الكلبيّ يقول : كاف ، هاد ، عالم ، صادق ؛ ويقول : كاف لخلقه ، هاد لعباده ، عالم بأمره ، صادق في قوله. وكان الحسن يقول : لا أدري ما تفسيره ، غير أنّ قوما من أصحاب النبيّ عليه‌السلام كانوا يقولون : أسماء السور ومفاتيحها.

قال : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢) : يقول : ذكره لزكرياء رحمة من الله له (٢).

(إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٣) : أي دعاء لا رياء فيه ، في تفسير الحسن. وقال قتادة : (خفيّا) : سرّا.

(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) : أي ضعفت العظام منّي ، في تفسير قتادة. وقال الحسن : ضعف. قال يحيى : ضعف العظم منّي : رقّ. قال : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ) : أي لم أكن بدعائي إيّاك (رَبِّ شَقِيًّا) (٤) : يقول : لم أزل بدعائك سعيدا ، لم تردده عليّ. وقال الكلبيّ : لم يكن دعائي ممّا يخيب عندك.

قوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) : أي الورثة من بعدي ، يعني العصبة وهو تفسير

__________________

(١) لم أتمكّن من الحصول في مخطوطة القرارة ، ولا في مخطوطة جربة على الربع الثالث من هذا التفسير. وهذا الربع الثالث منه موجود في مخطوطة العطف ونقص من أوّله نحو ورقة من القطع الكبير ؛ وموجود أيضا في مكتبة القطب ببني يسجن ، التي لا يوجد فيها من كامل الكتاب إلّا هذا الربع. وأرمز له بحرف الباء هكذا : ب. وقد ضاع منه أيضا نحو ورقة من القطع المتوسّط. ورأيت من الأحسن ، لاستكمال هذا النقص أن أرجع إلى مخطوطة تفسير ابن سلّام نفسه ، فنقلت منها تفسير الآيات الأولى من هذه السورة.

(٢) هذا وجه من وجوه تأويل الآية ، وللآية وجوه أخرى ذكرها المفسّرون تتّضح بإعرابها. فمنها ما أورده أبو الفتح ابن جنّي في كتابه المحتسب ، ج ٢ ص ٣٧ عند ما أشار إلى قراءة الحسن : (ذكّر رحمة ربّك) قال : «فاعل ذكّر ضمير ما تقدّم ، أي : هذا المتلوّ من القرآن الذي هذه الحروف أوّله وفاتحته يذكّر رحمة ربّك ... وعلى هذا أيضا يرتفع قوله : (ذكر رحمة ربّك) ، أي هذا القرآن ذكر رحمة ربّك. وان شئت كان تقديره : ممّا يقصّ عليك ، أو يتلى عليك ذكر رحمة ربّك عبده زكرياء».

٥

السّدّيّ ، الذين يرثون ماله. فأراد أن يكون من صلبه من يرث نبوّته (١) في تفسير قتادة ، ويرث ماله. وتفسير الحسن : يرث علمه ونبوّته.

سعيد قال قتادة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رحم الله زكرياء ما كان عليه من ورثة (٢).

وحدّثنا المبارك بن فضالة والحسن بن دينار عن الحسن قال : قال رسول الله صلّى الله وعليه وسلّم : رحم الله زكرياء ما كان عليه من ورثة.

قوله : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) : أي لا تلد (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) : ملكهم وسلطانهم (٣). كانت امرأة زكرياء من ولد يعقوب ؛ ليس يعني يعقوب الأكبر ، إنّما يعني يعقوب دونه. (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦). فأوحى الله إليه : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) : أي أحياه الله بالإيمان. قوله : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٧) : أي لم نسمّ به أحدا قبله يحيى. وقال ابن عبّاس : لم تلد العواقر مثله ، يقول : سميّا يساميه ، [أي] نظيرا له في ذلك.

قوله : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) : أي من أين يكون لي غلام؟ (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) : لا تلد (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) : (٨) قال الحسن : أراد زكرياء أن يعلم كيف ذلك. قوله : (وقد بلغت من الكبر عتيّا) قال مجاهد : قحول العظم (٤). وقال الكلبيّ : العتيّ :

__________________

(١) جاء في سع ، ٢١ ظ : «يرث ماله في تفسير قتادة ويرث ماله». ولعلّه سهو من الناسخ لم يصحّح ، فأثبتّ ما رأيته صوابا إن شاء الله تلافيا للتكرار.

(٢) هكذا في سع ورقة ٢١ ظ : «ما كان عليه من ورثته». وفي تفسير ابن كثير : «من وراثة ماله». وهما حديثان مرسلان أخرجهما ابن جرير وابن أبي حاتم ، وقال عنهما ابن كثير : «وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح ، والله أعلم». والقول الراجح الذي عليه بعض المحقّقين أنه يقصد وراثة نبوّة وعلم وأخلاق».

(٣) من هنا تبتدئ مخطوطة بني يسجن ، ب ، أمّا مخطوطة العطف فلا تبتدئ إلّا فيما يلي ، عند تفسير قوله تعالى : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [الآية : ١٨] بعد حوالي صفحتين.

(٤) في ب ، وفي تفسير الطبريّ ، وفي الدرّ المنثور : «نحول العظم» ، بالنون ، وأصحّ منه ما أثبتّه : «قحول العظم» بالقاف ، وهو ما ورد في سع ورقة ٢١ ظ ، وفي زاد المسير لابن الجوزي ، ج ٥ ص ٢١١. وكان هذا تفسيرا لقوله : (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي). يقال : قحل الشيخ : «إذا التزق جلده على عظمه من الهزال والبلى». انظر اللسان : (قحل).

٦

اليبس ، وهي في قراءة عبد الله بن مسعود : (وقد بلغت من الكبر عتيّا) (١). قال بعضهم : يبس جلدي على عظمي. وقال بعضهم : (عتيّا) ، أي غاية ومنتهى. (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) : الله يقوله. وهو كلام موصول ؛ أخبره الملك عن الله أنّي أعطيك هذا الولد. (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٩).

(قالَ) : زكرياء (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) (١٠) : أي صحيحا. أي لا يمنعك من الكلام مرض.

قال بعضهم : إنّما عوقب لأنّه سأل الآية بعدما شافهته الملائكة مشافهة ، فبشّرته بيحيى عليه‌السلام ، فأخذ عليه لسانه ، فجعل لا يفيض الكلام ، أي لا يبين الكلام إلّا ما أومأ إيماء ، وهو قوله تعالى : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : ٤١].

قوله : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) : قال الحسن : من المسجد (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) : أي أومأ إليهم. وقال مجاهد : أشار إليهم (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١١) : قال الحسن : أي صلّو الله بالغداة والعشيّ.

قوله : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) : أي بجدّ. (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١٢) : أي الفهم والعقل. وبلغنا أنّه كان في صغره يقول له الصبيان : يا يحيى تعال نلعب ؛ فيقول : ليس للّعب خلقنا.

قوله : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) : قال مجاهد : تعطّفا عليه من ربّه. وقال الحسن وقتادة : الحنان الرحمة ، وهو واحد. قوله : (وَزَكاةً). وقال الحسن : زكاة لمن قبل عنه حتّى يكونوا أزكياء. وقال الكلبيّ : الزكاة الصدقة. قوله : (وَكانَ تَقِيًّا) (١٣) : ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من آدميّ إلّا قد عمل خطيئة أو همّ بها غير يحيى بن زكرياء (٢).

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٦٢ : «وقرأ ابن عبّاس (عسيّا) وأنت قائل للشيخ إذا كبر : قد عثا وعسا ، كما يقال للعود إذا يبس».

(٢) أخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ٦ ص ٣٧٧ (ط. دار المعارف) ، وبزيادة ننزّه مقام الأنبياء عنها. ورواه مرّة أخرى في ج ١٦ ص ٥٨ بدون زيادة ، كما أخرجه ابن أبي حاتم ، كلاهما يرويه من طريق سعيد بن المسيّب عن ابن العاص مرفوعا وموقوفا. وانظر تفسير ابن كثير ، ج ٤ ص ٣٥.

٧

قوله : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) : [يعني مطيعا لوالديه] (١) (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) (١٤) : أي مستكبرا عن عبادة الله وطاعته.

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥) : ذكر الحسن أنّ يحيى وعيسى التقيا فقال له عيسى : استغفر لي ، أنت خير منّي ، فقال له يحيى : استغفر لي ، أنت خير منّي. فقال له عيسى : أنت خير منّي : سلّمت على نفسي ، وسلّم الله عليك. قال الحسن : عرف والله فضله. وإنّما يعني بقوله : سلّم الله عليك قوله تعالى في يحيى : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥).

وقال عيسى : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ..). إلى قوله : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣) [مريم : ٣٠ ـ ٣٣].

قوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) : يقول للنبيّ عليه‌السلام : اقرأ عليهم أمر مريم (إِذِ انْتَبَذَتْ) : يعني إذ انفردت (مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) : يعني جبريل (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) : (١٧) أي سويّ الخلق. أرسل إليها جبريل في صورة آدميّ.

وقال الكلبيّ : كان زكرياء كفل مريم ، وكانت أختها تحته (٢). وكانت تكون في المحراب. فلمّا أدركت كانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله ، إلى أختها. فإذا طهرت رجعت إلى المحراب. فطهرت مرّة ، فلمّا فرغت من غسلها قعدت في مشرقة (٣) في ناحية الدار ، وعلّقت عليها ثوبا سترة.

__________________

(١) زيادة من سع ، ورقة ٢١ ظ.

(٢) في ب وع : «وكانت خالتها تحته» ، وفي سع ٢٢ و : «وكانت أختها تحته». وهذا راجع إلى اختلاف المؤرّخين والمفسّرين حول امرأة زكرياء ، هل كانت أختا أو خالة لمريم. أمّا الطبريّ فيروي في تاريخه ، ج ١ ص ٥٨٥ قائلا : «... فلمّا ولدت مريم كفلها زكرياء بعد موت أمّها ، لأنّ خالتها ـ أخت أمّها ـ كانت عنده. واسم أمّ مريم حنّة بنت فاقود بن قبيل ، واسم أختها أمّ يحيى الاشباع ابنة فاقود».

(٣) كذا في ب وفي ز ورقة ٢٠١ : «مشرفة» ، وفي ع : «شرقة» ، والصحيح ما جاء في ب وز وع : «مشرقة» أو «شرقة». وفيما جاء في سع تصحيف. والمشرقة هو موضع القعود للشمس ، و «خصّ بعضهم به الشتاء». وقال الفرّاء : «يقال : في مشرقة دار أهلها». انظر اللسان (شرق).

٨

فجاء جبريل إليها في ذلك الموضع. فلمّا رأته (قالَتْ) له : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (١٨) : أي إن كنت لله تقيّا فاجتنبني. (قالَ) : يعني جبريل قال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) (١٩) : أي صالحا.

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) : أي من أين يكون لي غلام؟. وقال بعضهم : كيف يكون لي غلام؟ (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (٢٠) : أي ولم أك زانية. (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) : أن أخلقه (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) : أي لمن قبل دينه. قال : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢١) : أي كائنا. [قال بعضهم : يعني كان عيسى أمرا من الله مكتوبا في اللوح المحفوظ أنّه يكون] (١). فأخذ جبريل جيبها بأصبعه فنفخ فيه فسار (٢) إلى بطنها فحملت.

قال تعالى : (فَحَمَلَتْهُ) قال الحسن : تسعة أشهر في بطنها. وقال بعضهم في قوله : (فاتّخذت من دونهم حجابا) أي : سترة من الأرض بينها وبينهم. (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) (٢٢) : أي منتحّيّا. أي : انفردت به مكانا شاسعا منتحيّا.

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) : قال مجاهد : فألجأها المخاض (٣) (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) : قال الحسن : ممّا خشيت من الفضيحة. (وَكُنْتُ نَسْياً) : لا أذكر (مَنْسِيًّا) (٢٣) : أي لم أذكر.

وقال بعضهم : شيئا لا يعرف ولا يذكر. وذكر بعضهم فقال : حيضة نسيتها. وقال بعضهم : المرأة النسوء (٤). وقال الكلبيّ : (نسيا مّنسيّا) قال القوم ينزلون المنزل ثمّ يرحلون فينسون الشيء ،

__________________

(١) زيادة من سع ورقة ٢٢ و ، ومن ز ورقة ٢٠٢.

(٢) كذا في ب وع : «فسار» ، وفي سع وز : «فصار».

(٣) كذا في ب وفي تفسير مجاهد ص ٣٨٥. وأصحّ منه اشتقاقا وأدقّ تفسيرا ما أورده الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٦٤ قال : (فأجآءها المخاض) من جئت ، كما تقول : فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة. فلمّا ألقيت الباء جعلت في الفعل ألفا ؛ كما تقول : آتيتك زيدا ، تريد : أتيتك بزيد. ومثله (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) [الكهف : ٩٦] فلمّا ألقيت الباء زدت ألفا ، وإنّما هو ائتوني بزبر الحديد». وقد نقل الطبريّ في تفسيره ج ١٦ ص ٦٣ هذا الشرح اللغويّ ، وذكر نفس الأمثلة والشواهد ، ولكنّه لم ينسب الشرح إلى صاحبه.

(٤) في سع ورقة ٢٢ و : «قال حمّاد : النسوء التي يظنّ بها حمل فلا يكون كذلك». وأصل الكلمة من نسأ ، لا من نسي.

٩

فيسمّى ذلك الشيء النسي.

قوله : (فَناداها مِنْ تَحْتِها) : أي الملك ، يعني جبريل. وقوله : (تحتها) أي : تحتها من الأرض. وقال بعضهم : (فناداها من تحتها) يعني عيسى. (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (٢٤).

ذكروا عن البراء بن عازب قال : هو الجدول. وقال بعضهم : السريّ هو الجدول ، وهو النهر [الصغير] ، وهو بالسريانية : سري (١).

قوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) (٢٥) : وهي تقرأ : (تسّاقط) و (يساقط). فمن قرأها (يساقط) يقول : يساقط عليك الجذع. وكان جذع النخلة يابسا وكان آية. ومن قرأها (تسّاقط) بالتاء فهو يقول : تساقط عليك النخلة رطبا جنيّا. [أي حين اجتني] (٢).

قوله : (فَكُلِي) : أي من الرطب (وَاشْرَبِي) : أي من الجدول (وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) : قال بعضهم : كانت تقرأ في الحرف الأوّل : (صمتا). وذكروا عن أنس بن مالك أنّه كان يقرأها : (صوما صمتا) (٣).

(فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) : (٢٦) قال بعضهم : بلغني أنّه أذن لها في هذا الكلام (٤).

وقال بعضهم : إنّما كانت آية جعلها الله لها يومئذ. وإن شئت رأيت امرأة سفيهة تقول : أصوم صوم مريم ولا تتكلّم في صومها (٥).

__________________

(١) تفسير السريّ بالجدول هو ما ذهب إليه الجمهور ، وبعض المفسّرين ذهب إلى أنّ السريّ يعني السيّد الكريم المحمود الخصال.

(٢) زيادة من سع ورقة ٢٢ و ، ومن ز ورقة ٢٠٢.

(٣) كذا في سع وب : «صوما صمتا» ، وفي ع : «صوما وصمتا». وقد وردت الرواية بالواو وبدونه في بعض التفاسير ، ونسبت هذه القراءة أيضا إلى أبيّ بن كعب.

(٤) كذا في سع وز ، وفي ع وب : «لم يؤذن لها في الكلام» ، والصحيح ما أثبتّه كما جاء في سع وز ، كأنّه يقول : لم يؤذن لها إلّا في هذا الكلام.

(٥) كذا وردت العبارة في سع ، وفي ب وع : «وإذا رأيت امرأة سفيهة ...» ، وكلتا العبارتين لا تفيدان معنى ـ

١٠

قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) (٢٧) : أي أتيت شيئا عظيما.

(يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) : أي رجل سوء ، يعني ما كان أبوك زانيا. (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٢٨) : أي ما كانت أمّك زانية.

قال بعضهم : ليس بهرون أخي موسى ، ولكنّه هرون آخر كان يسمى هرون الصالح المحبّب في عشيرته (١). ذكر لنا أنّه اتّبع جنازته يوم مات أربعون ألفا ، كلّهم يسمّى هرون من بني إسرائيل. أي : فقالوا لها : يا شبيهة هرون في عبادته وفضله (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت امّك بغيّا).

قوله : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) : أي بيدها. قال بعضهم : أي أمرتهم بكلامه. (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ) : أي من هو (فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢٩) : قال بعضهم : المهد هو الحجر (٢).

(قالَ) عيسى (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) : قال بعضهم : جعلني معلّما ومؤدّبا.

ولا أحد أيمن ولا أعظم بركة من المعلّم المؤدّب ، الفقيه العالم ؛ يعلّم الناس الحكمة ، ويؤدّبهم عليها ، ويفقّههم فيها ؛ فمقامه مقام الأنبياء ، وحقّه حقّ الأصفياء ، وما يفضلهم الأنبياء إلّا بالرسالة (٣).

__________________

ـ واضحا. وأوضح منهما ما جاء في تفسير الطبريّ ، ج ١٦ ص ٧٥ منسوبا إلى قتادة في قوله : (إنّي نذرت للرّحمن صوما) قال : «في بعض الحروف : صمتا. وذلك أنّك لا تلقى امرأة جاهلة تقول : نذرت كما نذرت مريم ألّا تكلّم يوما إلى الليل. وإنّما جعل الله تلك آية لمريم ولابنها. ولا يحلّ لأحد أن ينذر صمت يوم إلى الليل».

(١) كذا في سع ، وفي ب وع : «المصلح المخبت في عشيرته».

(٢) قال الفرّاء في المعاني ج ٢ ص ١٦٧ : «ويقال : إنّ المهد حجرها وحجرها ، ويقال : سريره ، والحجر أجود».

(٣) هذه الفقرة من زيادات الشيخ هود الهوّاريّ ؛ وهذا كلام عالم مجرّب عارف بمقام العلماء المتّقين المخلصين الذين هم بحقّ ورثة الأنبياء. فتأمّل كلامه فإنّه نفيس. عسى الله أن ينفعنا به وإيّاك ، ويفقّهنا في ديننا ، ويوفّقنا إلى العمل بما في كتابه ، وسنّة نبيّه عليه‌السلام ، لإعلاء كلمة الله ، ونشر دينه ، وتعليم الناس الخير.

١١

(وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي) : أي وجعلني برّا بوالدتي. (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) : أي مستكبرا عن عبادة الله (١) ، ولم يجعلني (شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا). (٣٣) ولم يتكلّم بعد ذلك بشيء حتّى بلغ مبلغ الرجال.

قال الله تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ) : قال الحسن : الحقّ هو الله (٢) ؛ وهو قوله : (قَوْلُهُ الْحَقُ) [الأنعام : ٧٣](الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) : (٣٤) قال بعضهم : امترت فيه اليهود والنصارى ؛ أمّا اليهود فزعموا أنّه ساحر كذّاب ، وأمّا النصارى فزعموا أنّه ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وإله.

قال الله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) : ينزّه نفسه عمّا يقولون. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٥). [يعني عيسى ، كان في علمه أن يكون من غير أب] (٣).

قوله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : (٣٦) هذا قول عيسى لهم. ذكر جماعة من العلماء في عيسى بن مريم أنّ مريم لم تلد من فرجها ، وإنّما كان خروجه من الخاصرة. وبعضهم يقول : من تحت إبطها ، والله أعلم (٤). قوله : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٣٧). قال بعضهم : ذكر لنا أنّ عيسى لمّا رفع انتخبت بنو إسرائيل أربعة من فقهائهم ، فقالوا للأوّل : ما تقول في عيسى؟ قال : هو الله ، هبط إلى الأرض فخلق ما خلق ، وأحيى ما أحيى ، ثمّ صعد إلى السماء. فتابعه على ذلك أناس من الناس. فكانت اليعقوبيّة من النصارى. فقال الثلاثة الآخرون : نشهد أنّك كاذب. فقالوا للثاني : ما تقول في

__________________

وهذا يبيّن لنا جانبا من جوانب شخصيّة الشيخ هود العلميّة ، فهو يجلّ العلماء والعاملين المخلصين.

(١) كذا في المخطوطات وفي سع. وقال الفرّاء : «الجبّار الذي يقتل على الغضب ، ويضرب على الغضب».

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٦٨ : «والحقّ في هذا الموضع يراد به الله. ولو أريد به قول الحقّ ، فيضاف القول إلى الحقّ ، ومعناه : القول الحقّ كان صوابا. كما قيل : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥] ، فيضاف الشيء إلى مثله ...».

(٣) زيادة من سع ، ورقة ٢٢ ظ. والقول للسّدّيّ.

(٤) هذا غير وارد في سع ولا في ز ، ويبدو أنّه من زيادة بعض النسّاخ المولعين برواية غرائب الإسرائيليّات.

١٢

عيسى؟ قال : هو ابن الله. فتابعه على ذلك أناس من الناس ، فكانت النسطوريّة من النصارى. فقال الاثنان : نشهد أنّك كاذب. فقالوا للثالث : ما تقول في عيسى؟ فقال : هو إله ، وأمّه إله ، والله إله. فتابعه أناس من الناس ، فكانت الإسرائيليّة من النصارى. فقال الرابع : أشهد أنّك كاذب ، أشهد أنّك كاذب ، ولكنّه عبد الله ورسوله ، من كلمة الله وروحه. فاختصم القوم ؛ فقال المسلم : أناشدكم الله ، هل تعلمون أنّ عيسى كان يأكل الطعام ، وأنّ الله لا يطعم الطعام؟ فقالوا : اللهمّ نعم. فقال : هل تعلمون أنّ عيسى كان ينام ، وأنّ الله لا ينام؟ قالوا : اللهمّ نعم ، فخصمهم المسلم ، فاقتتل القوم. فذكر لنا أنّ اليعقوبيّة ظهرت يومئذ وأصيب المسلمون ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢١) [آل عمران : ٢١]. قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٣٧). قوله : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) : أي يوم القيامة ، أي : ما أسمعهم يومئذ ، وما أبصرهم ، أي : سمعوا حين لم ينفعهم السمع ، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر (١). قال تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ) : يعني المشركين والمنافقين (الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٨).

قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ). ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه ذكر حديثا في البعث فقال : فليس من نفس إلّا وهي تنظر إلى بيت في الجنّة وبيت في النار ، فيقال لصاحب النار : هذا منزلك لو أطعت الله (٢) ، فتأخذه الحسرة. ويقال لصاحب الجنّة : هذا منزلك لو لا أنّ الله منّ عليك ؛ فهو قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ).

وذكروا عن بعض أصحاب النبيّ عليه‌السلام أنّه قال : يجاء بالموت في صورة كبش أملح أبلق ـ وهو الذي يخالط بياضه شيء من سواد (٣) ـ حتّى يجعل على سور بين الجنّة والنار ، فيقال : يا أهل الجنّة ويا أهل النار ، هل تعرفون هذا؟ هذا الموت (٤) ، فيقولون : نعم ، فيذبح على السور

__________________

(١) في ب وفي ع جاءت العبارة هكذا : «سمعوا حيث لا ينفعهم السمع وأبصروا حيث لا ...» ، وأثبت ما جاء في سع ٢٢ ظ ، وفي ز ورقة ٢٠٣ ، فهو أصحّ وأبلغ.

(٢) كذا في ب وع ، وفي سع ورقة ٢٢ ظ : «فيرى أهل النار البيت الذي في الجنّة ، قال : ثمّ يقال : لو عملتم ، فتأخذهم الحسرة».

(٣) هذا الشرح اللغويّ لكلمة «أبلق» انفردت به مخطوطة ب ، وكأنّها زيادة من ناسخ.

(٤) في ع : «هذا ملك الموت» ، وهو خطأ انفردت به هذه المخطوطة ، ولم أجده في تفسير.

١٣

وهم ينظرون. ثمّ ينادي مناد : يا أهل الجنّة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت. فهو قوله عزوجل : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ).

ذكروا عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إذا دخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ينادي مناد : يا أهل الجنّة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، وكلّ خالد فيما هو فيه (١).

قوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) : أي في الدنيا. وهذا كلام مستقبل (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٩) : يعني المشركين.

قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) : أي نهلك الأرض ومن عليها (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) : (٤٠) أي يوم البعث.

قوله عزوجل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) : أي اذكر لأهل مكّة أمر إبراهيم ، واقرأه عليهم. (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٤٢) : يعني الأصنام.

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) : يعني النبوّة. (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) (٤٣) : أي عدلا ، وهو الإسلام ، أي : طريقا مستقيما إلى الجنّة.

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (٤٤) [النساء : ١١٧].

قوله : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) (٤٥) : أي إذا نزل بك العذاب لم تقبل توبتك ، وما لم ينزل بك العذاب فتوبتك مقبولة إن تبت. وقد كان إبراهيم يرجو أن يتوب أبوه. فلمّا مات على الكفر ذهب ذلك الرجاء.

قوله (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) : أن تعبدها (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) : أي عن

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدريّ ، وأخرجه البخاريّ عن ابن عمر في كتاب الرقاق ، باب صفة الجنّة والنار. وأخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب النار يدخلها الجبّارون والجنّة يدخلها الضعفاء ، عن أبي سعيد (رقم ٣٨٤٩) وعن ابن عمر (رقم ٢٨٥٠) ، وأخرجه الترمذيّ وابن ماجه بألفاظ أكثر تفصيلا.

١٤

شتمها وذمّها (لَأَرْجُمَنَّكَ) : أي بالحجارة فأقتلنّك بها (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) : (٤٦) أي واهجرني سالما. قال مجاهد : واهجرني حينا. وقال الحسن : واهجرني طويلا ، أي : أطل هجراني.

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) : قال الحسن : وهذه كلمة حلم. (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧) : أي بدعائي فلا يردّه عليّ. وفي تفسير الكلبيّ : إنّه كان بي رحيما. وقال بعضهم : كان بي لطيفا. وقال بعضهم : الحفيّ : ذو المنزلة (١). وأمّا قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) فهو كقوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤].

قوله : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : يعني أصنامهم (وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (٤٨) : أي عسى أن أسعد به.

قوله عزوجل : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) : (٤٩) أي إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) : أي النبوّة (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠) : أي سنّة يقتدي بها من بعدهم ، ويثني عليهم من بعدهم. كقوله عزوجل : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٨٤) [الشعراء : ٨٤] أي الثناء الحسن. وهو قوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) [العنكبوت : ٢٧] أي : أبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين.

قوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى) : [يقول : اذكر لأهل مكّة أمر موسى] ، أي : اقرأه عليهم. (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ:) أي أيمن الجبل ، وهو كقوله : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [سورة طه : ١١ ـ ١٢]. قوله : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) : (٥٢) أي حين كلّمه الله. (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)) : أي جعله الله وزيرا وأشركه معه في الرسالة.

قوله عزوجل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) : أي اقرأ عليهم أمر إسماعيل بن إبراهيم (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) : (٥٤) ذكروا أنّ إسماعيل وعد رجلا موعدا فجاء

__________________

(١) انفردت بهذا القول مخطوطتاب وع ؛ ولم أفهم له وجها ، ولم أجد في كتب التفسير معنى يشبهه. والصحيح أنّ الحفيّ هو «المبالغ في البرّ والإلطاف».

١٥

الموعد فلم يجد الرجل ، فأقام في ذلك الموضع حولا ينتظره (١).

قوله : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) وأهله قومه (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) : (٥٥) أي قد رضي عنه.

قوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) : (٥٧) قال بعضهم : في السماء الرابعة. ذكروا عن مجاهد أنّه قال : لم يمت ، رفع كما رفع عيسى (٢).

قوله عزوجل : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) : أي أنعم الله عليهم بالنبوّة ، يعني من ذكر منهم من أوّل السورة إلى هذا الموضع. (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) : أي ذرّيّة من كان في السفينة مع نوح. كان إدريس من ولد آدم قبل نوح ، وكان إبراهيم من ذرّيّة نوح.

قال عزوجل : (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) : وهو يعقوب ، وهو من ذرّيّة إبراهيم.

وقد ذكر فيها من كان من ولد يعقوب. قال عزوجل : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) : للإيمان (وَاجْتَبَيْنا) بالنبوّة. وتفسير (اجتبينا) : اخترنا ، وهو أيضا اصطفينا. (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨).

قوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) : يعني اليهود (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) : وقال في سورة النساء : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً

__________________

(١) هذا قول ابن عبّاس. وقال الرقاشيّ : اثنين وعشرين يوما. وقال مقاتل : ثلاثة أيّام. وقال الطبريّ رواية عن سهل بن عقيل : يوما وليلة.

(٢) روى الفراء ـ على غير ما عهدنا منه ـ خبرا غريبا في ج ٢ ص ١٧٠ من المعاني فقال في تفسير الآية : «ذكر أنّ إدريس كان حبّب إلى ملك الموت حتّى استأذن ربّه في خلّته. فسأل إدريس ملك الموت أن يريه النار ، فاستأذن ربّه فأراها إيّاه ، ثمّ استأذن ربّه في الجنّة فأراها إيّاه فدخلها. فقال له ملك الموت : اخرج ، فقال : والله لا أخرج منها أبدا. وإن الله قال : (وإن مّنكم ، إلّا واردها) فقد وردتها ، يعني النار ، وقال : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) فلست بخارج منها إلّا بإذنه. فقال الله : بإذني دخلها فدعه ، فذلك قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا). وهذا من نسيج خيال القصّاص ومن قبيل الإسرائيليّات التي كان لها سوق رائجة في ذلك العهد.

١٦

(٢٧)) [النساء : ٢٧] أي : تخطئوا خطأ كبيرا ، يعني اليهود في نكاح بنات الأخ. وقال بعضهم : يعني المنافقين ، أهل التضييع للصلاة (١).

قال عزوجل : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) : (٥٩) ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : هو واد في جهنّم بعيد القعر ، خبيث الطعم.

قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) : (٦٠) أي ولا ينقصون من حسناتهم شيئا.

قال عزوجل : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) : ذكروا عن ابن عبّاس قال : عدن بطنان الجنّة ، وبلغنا أنّ الجنان تنسب إليها ، وقال الحسن : عدن اسم من أسماء الجنّة.

قوله : (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) : أي وعدهم في الدنيا الجنّة في الآخرة ، والغيب : الآخرة في قول الحسن. وقال بعضهم في قوله عزوجل : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] أي : بالبعث وبالحساب. وبالجنّة وبالنار. وهذا كلّه غيب. وقال عزوجل : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) : (٦١) أي جائيا (٢).

قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها) : أي في الجنّة (لَغْواً) : قال بعضهم : كذبا. وقال بعضهم : باطلا ، وقال بعضهم : معصية ، وهو نحو واحد. وقال بعضهم : حلفا ، أي إذا شربوا الخمر ، كما يحلف أهل الدنيا إذا شربوا.

قوله عزوجل : (إِلَّا سَلاماً) : أي إلّا خيرا. وقال بعضهم : يسلّم بعضهم على بعض.

قوله عزوجل : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) : (٦٢) قال بعضهم : ولهم رزقهم فيها كلّ ساعة ، والبكرة والعشيّ ساعتان من الساعات ، وليس ثمّ ليل ، وإنّما هو ضوء ونور.

__________________

(١) هذا القول الأخير أقرب إلى حقيقة التأويل. وهو يصدق على كثير ممّن ينتمي إلى الإسلام اليوم ، الذين أضاعوا الصلاة ، إمّا بتأخيرها عن أوقاتها ، كما ذهب إلى ذلك ابن مسعود في تأويل الآية ، وإمّا بترك الصلاة ، كما رجّحه الطبريّ. وأغلب الذين يضيّعون الصلاة هم الذين يتّبعون الشهوات.

(٢) كذا في المخطوطات ، وقال الفرّاء : «ولم يقل : آتيا ، وكلّ ما أتاك فأنت تأتيه ؛ ألا ترى أنّك تقول : أتيت على خمسين سنة ، وأتت عليّ خمسون سنة ، وكلّ ذلك صواب».

١٧

قال بعضهم : بلغنا أنّه يعني ساعتي الغداء والعشاء ، وليس ثمّ بكرة ولا عشيّة ، قال : وبلغنا أنّه إذا مضى ثلاث ساعات أتوا بغدائهم ، وإذا انقضت (١) ثلاث ساعات أتوا بعشائهم. ومقدار النهار اثنتا عشرة ساعة في عدد نهار الدنيا.

ذكروا عن سعيد بن المسيّب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الجنّة بيضاء تتلألأ ، وأهلها بيض ، لا ينام أهلها ، وليس فيها شمس ولا قمر ، ولا ليل يظلم ولا حرّ ولا برد يؤذيهم (٢).

ذكر الحسن قال : إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة آخرهم دخولا ، فيقال له : انظر ما أعطاك الله ، فيفسح له في بصره ، فينظر إلى مسيرة مائة سنة كلّه له. ليس فيه موضع شبر إلّا وهو عامر قصور الذهب والفضّة وخيام اللؤلؤ والياقوت. فيها أزواجه وخدمه ، يغدى عليه كلّ يوم بسبعين ألف صحفة من ذهب ، ويراح عليه بمثلها ، في كلّ واحدة منها لون ليس في الأخرى ؛ يأكل من آخرها كما يأكل من أوّلها ، لو نزل به الجنّ والإنس في غداء واحد ، أو قال : في غداة واحدة ، لأوسعهم ، ولا ينقص ذلك ممّا عنده شيئا.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : والذي نفسي بيده ، إنّ أسفل أهل الجنّة منزلة الذي يسعى بين يديه سبعون ألف غلام ، ما منهم غلام إلّا وبيده صحفة من ذهب فيها لون من الطعام ليس في صاحبتها مثله ، يجد طعم أوّلها كلّه وآخرها ، ويجد لذّة آخرها كطعم أوّلها لا يشبه بعضها بعضا. ثمّ قال : ألا تسألوني عن أرفع أهل الجنّة درجة؟ قالوا : بلى. قال : والذي نفسي بيده إنّ أرفع أهل الجنّة درجة للّذي يسعى عليه مائة ألف غلام (٣) ، ما منهم غلام إلّا وبيده صحفة من ذهب فيها لون من الطعام ليس في صاحبتها مثله ، ويجد طعم أوّلها كما يجد طعم آخرها ، لا يشبه بعضها بعضا. وإنّ أدنى أهل الجنّة منزلة للّذي له مسيرة ألف سنة ، ينظر إلى أقصاها كما ينظر إلى أدناها. وقصوره درّة بيضاء وياقوتة حمراء ، مطّردة فيها أنهارها ، وفيها ثمارها متدلّية (٤).

قوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ) أي التي وصف (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا

__________________

(١) كذا في ع وب : «وإذا انقضت» وهو الصحيح ، وفي سع ورقة ٢٣ ظ : «فإذا بقيت».

(٢) لم أجده بهذا اللفظ فيما بين يديّ من المصادر.

(٣) كذا في ع وفي ب ، وفي سع : «سبعمائة ألف غلام».

(٤) أخرجه ابن أبي الدنيا والطبرانيّ ، واللفظ له ، عن أنس بن مالك. وقال الحافظ المنذريّ : رواته ثقات.

١٨

(٦٣)). ذكر بعضهم قال : إنّ الله تبارك وتعالى قال : ادخلوا الجنّة برحمتي واقتسموها بأعمالكم.

قوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) : قال بعضهم : هذا قول جبريل عليه‌السلام. احتبس عن النبيّ عليه‌السلام في بعض الوحي ، فقال نبيّ الله عليه‌السلام : «ما جئت حتّى اشتقت إليك». فقال جبريل : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) (١).

(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) : من أمر الآخرة (وَما خَلْفَنا) : أي من أمر الدنيا ، أي : إذا كنّا في الآخرة (وَما بَيْنَ ذلِكَ) : من أمر الدنيا والآخرة. وقال الكلبيّ : هو البرزخ ، يعني ما بين النفختين. قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (٦٤) ولكنّ الأمر إليه ليس إلينا (٢).

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) : قال الحسن : أي لما فرض عليك. قوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) : (٦٥) أي هل تعلم له عدلا ، أي من قبل المساماة.

ذكروا عن الحسن قال : الله والرحمن اسمان ممنوعان لم يستطع أحد من الخلق أن ينتحلهما. وقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) على الاستفهام ، أي : إنّك لا تعلمه. أي : لا سمّي يخلق كخلقه ، ويرزق كرزقه. وهو من باب المساماة.

قوله : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) (٦٦) : هذا المشرك يكذّب بالبعث. وقد ذكروا أنّه قول أبيّ بن خلف للنبيّ عليه‌السلام حيث جاءه بعظم نخر ففتّه بيده ثمّ قال : يا محمّد ، أيحيي الله هذا؟ وتفسيره في سورة يس.

قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (٦٧) : أي فالذي خلقه ولم يكن شيئا قادر على أن يبعثه يوم القيامة. ثمّ أقسم بنفسه فقال : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) : يعني المشركين (وَالشَّياطِينَ) : الذين دعتهم إلى عبادة الأوثان. (ثُمَ

__________________

(١) أورد عكرمة وقتادة والضحّاك والكلبيّ هذا الخبر بلفظ : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبطأت عليّ حتّى ساء ظنّي وحتّى اشتقت إليك». وأخرج البخاريّ في كتاب التوحيد ، باب : (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) ، عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا جبريل ، ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا؟ فنزلت : (وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك). انظر السيوطي ، الدرّ المنثور ، ج ٤ ص ٢٧٨ ، وتفسير القرطبي ، ج ١١ ص ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٢) وردت هذه العبارة فى ب وع دون سع وز. وهذا يدلّ على أنّ المخطوطات ليست واحدة.

١٩

لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) (٦٨) : أي على ركبهم (١). وهذا قبل دخولهم النار. وقال بعضهم : (جثيّا) أي : جماعة جماعة. وقال الكلبيّ : جميعا ، كلّ أمّة على حدتها.

قوله : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) : أي من كلّ أمّة. قال الحسن : يعني كفّارها. (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٦٩) : أي كفرا. وقال الحسن : شدّة في المساءة. وقال الكلبيّ : أشدّ معصية.

ذكر بعضهم قال : إذا كان يوم القيامة قال الجبّار : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟) فلا يجيبه أحد ، فيردّ على نفسه : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧) [غافر : ١٦ ـ ١٧]. ثمّ أتت عنق من النار تسمع وتبصر وتتكلّم حتّى إذا أشرفت على رؤوس الخلائق ، نادت بصوتها (٢) : ألا إنّي قد وكّلت بثلاثة ، ألا إنّي قد وكّلت بثلاثة : بمن ادّعى مع الله إلها آخر ، أو قال : بمن جعل مع الله إلها آخر ، وبمن ادّعى لله ولدا ، وبمن زعم أنّه العزيز الحكيم. ثمّ صوّبت رأسها وسط الخلائق فالتقطتهم كما يلتقط الحمام حبّ السمسم ، ثمّ غاضت بهم فألقتهم في النار.

ثمّ عادت حتّى إذا كانت مكانها نادت : إنّي قد وكّلت بثلاثة ، إنّي قد وكّلت بثلاثة : بمن سبّ الله ، وبمن كذب على الله ، وبمن آذى الله. فأمّا الذي سبّ الله فالذي زعم أنّ الله اتّخذ صاحبة وولدا ، وهو أحد صمد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) [الإخلاص : ٣ ـ ٤]. وأمّا الذي كذب على الله فهم الذين قالوا : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) (٣٩) [النحل : ٣٨ ـ ٣٩]. وأمّا الذي آذى الله فالذي يصنع الصورة. فتلتقطهم كما يلتقط الطير الحبّ ، حتّى تغيض بهم في جهنّم.

وقال بعضهم : تندلق عنق من النار (٣) فتقول : أمرت بثلاثة : بالذين كذّبوا الله ، وبالذين

__________________

(١) هذا هو القول الراجح ، وهو جمع جاث ، كما أنّ «بكيّا» جمع باك. قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٩ : «خرّج مخرج فاعل ، والجميع فعول ، غير أنّهم لا يدخلون الواو في المعتلّ».

(٢) في ب وع : «أشرفت على النار قالت بصوتها». والصحيح ما أثبتّه من سع ورقة ٢٧ و.

(٣) في ب وع : «تنزل عنق من النار» ، وفي الكلمة تصحيف صوابه ما أثبتّه : «تندلق» أي تخرج بسرعة ، والعنق ـ

٢٠