تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

عليه الرزق بأن يوسّع عليه يسرا.

ذكر عن الحسن عن عبد الله بن مسعود قال : ما أبالي على أيّ حال رجعت إلى أهلي ؛ لئن كانوا على عسر ، إنّي لأنتظر اليسر ، وإن كانوا على يسر إنّي لأنتظر العسر.

قوله عزوجل : (وَكَأَيِّنْ) : أي وكم (مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) : أي عصت أمر ربّها ورسله ، يعني أهلها ، أي : أهل هذه القرية (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) (٨) : قال الحسن : عذابا عظيما (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) : أي جزاء ذنوبها ، وهي العقوبة ، أي عقوبة شركهم وتكذيبهم الرسل ، يعني من أهلك من الأمم السالفة ، والوبال العقوبة ، وهي الجزاء. قال عزوجل : (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) (٩) : أي خسروا به الجنّة. (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) : أي في الآخرة بعد عذاب الدنيا.

قال عزوجل : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) : أي يا ذوي العقول (الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) (١٠) : أي القرآن (رَسُولاً) : أي محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : أنزل إليكم ذكرا بالرسول الذي جاءكم (١).

(يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) : أي القرآن (مُبَيِّناتٍ) : أي بيّنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا على مقرأ من قرأها مفتوحة الياء ، وهي تقرأ أيضا (مُبَيِّناتٍ) مكسورة الياء ، أي هي تبيّن.

قال عزوجل : (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) : أي من الضلالة إلى الهدى.

قال عزوجل : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١) : أي في الجنّة.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) : ذكروا عن الحسن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه يوما : ما تسمّون هذا؟ أو قال : هذه؟ قالوا : السماء. قال : هي الرقيع الموج المكفوف ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام ، وبينها وبين السماء الثانية مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها

__________________

(١) انظر : أبو البركات بن الأنباريّ ، البيان في إعراب غريب القرآن ، ج ٢ ص ٤٤٤ ، فقد أورد المؤلّف خمسة أوجه لإعراب (رسولا).

٣٤١

مسيرة خمسمائة عام ، وبينها وبين السماء الثالثة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها كذلك ، حتّى عدّ سبع سماوات. وبين السماء السابعة وبين العرش كما بين السماءين. وغلظ هذه الأرض مسيرة خمسمائة عام ، وبينها وبين الثانية مسيرة خمسمائة عام وغلظها مسيرة خمسمائة عام ، وكذلك ما بينها وبين الثالثة إلى سبع أرضين كما بين السماء والسماء وكغلظها (١).

قال عزوجل : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) : أي يتنزل الوحي بين السماء والأرض. وقال مجاهد : بين الأرض السابعة وبين السماء السابعة (لِتَعْلَمُوا) بهذا الوحي (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢) : أي أحاط علمه بكلّ شيء فلا يخرج عن علمه شيء.

* * *

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٢٢ من سورة البقرة.

٣٤٢

تفسير سورة التحريم ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١). كان النبيّ عليه‌السلام حرّم أمّ إبراهيم على نفسه ، وأسرّ ذلك إلى حفصة دون أزواجه ، وذلك أنّ حفصة زارت أباها فرجعت ، فوجدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع مارية ، أمّ إبراهيم ، في البيت. فلمّا خرجت مارية دخلت حفصة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له : أما إنّي (١) قد رأيت من معك في البيت. فقال : والله لأرضينّك ، هي عليّ حرام ، فلا تخبري بذلك أحدا. وقال بعضهم : لا تخبري عائشة. فانطلقت حفصة إلى عائشة فأخبرتها. وقد كانتا تظاهران ـ أي : تعاونان ـ على نساء النبيّ عليه‌السلام ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢).

قال تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) : أي كفّارة أيمانكم. وهو قوله في سورة المائدة : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) [المائدة : ٨٩]. قال تعالى : (وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ) : أي بخلقه (الْحَكِيمُ) (٢) في أمره.

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكفّارة ، فكفّر عن يمينه.

ذكروا عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال في الرجل يحرّم عليه امرأته قال : عليه كفّارة يمين ، وقال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١] (٣).

__________________

(١) في ق وع : «أما أنا» ، وأثبتّ ما جاء في ز ، ورقة ٣٦٥ ، فهو أبلغ.

(٢) هذا سبب من أسباب نزول الآية. وهنالك سبب آخر ذكره المفسّرون ورجال الحديث في كتبهم ، وهو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرب عسلا عند زينب بنت جحش ، فتواطأت عائشة وبعض أزواج النبيّ عليه‌السلام على أن يقلن له عليه‌السلام : أكلت مغافير ... إلى آخر القصّة ، انظر مثلا : صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، سورة التحريم. وانظر صحيح مسلم كتاب الطلاق ، باب وجوب الكفّارة على من حرّم امرأته ولم ينو الطلاق (رقم ١٤٧٤) وانظر الواحدي ، أسباب النزول ، ص ٤٦٦ ـ ٤٦٨.

(٣) انظر صحيح مسلم ، كتاب الطلاق ، نفس الباب (رقم ١٤٧٣).

٣٤٣

قال الحسن : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم جاريته فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) وقوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) قال الحسن : هو في الإماء يمين ، وفي الحرائر طلاق. والقول في ذلك عندنا قول ابن عبّاس (١).

وذكر الحسن عن عليّ أنّه قال في الرجل يحرّم عليه امرأته : إنّها ثلاثة ، لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره. وذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : في الحرام كفّارة الظهار.

قوله : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) : وهو ما أسرّ النبيّ عليه‌السلام إلى حفصة من تحريم أمّ إبراهيم على نفسه وقوله : لا تخبري بهذا أحدا. وأخبرت به عائشة ففشا ذلك ، واطّلع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سرّهما. ذكروا عن يحيى بن سعيد عن عبيد بن حنين عن ابن عبّاس (٢) قال : قلت لعمر بن الخطّاب : من المرأتان اللتان تظاهر تا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : حفصة وعائشة.

قوله عزوجل : (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) تفسير الكلبيّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لحفصة : ألم آمرك أن تكتمي سرّي ولا تخبري به أحدا ، لم أخبرت به عائشة؟ (٣). وذكر لها بعض الذي قالت ، وأعرض عن بعض ولم يذكره لها. قال عزوجل : (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (٣).

قال عزوجل : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) : يعني عائشة وحفصة (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) : أي : زاغت ، أي : مالت إلى الإثم ، فأمرهما بالتوبة (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) : أي تعاونا عليه ، أي على

__________________

(١) وهو الحقّ إن شاء الله. وهذا ما ذهب إليه جمهور علماء الإباضيّة قديما وحديثا. قال أبو الحواري في تفسير الخمسمائة آية ، ص ٢٠١ بعد أن أورد آية التحريم هذه : «فمن قال لامرأته أو لجاريته أنت عليّ حرام فليكفّر يمينه ، وإن كان نوى طلاقا فله ما نوى». وانظر : بكلي ، فتاوى البكري ، ج ٢ ص ٢٢٩ حيث اعتبر تحريم الزوجة يمينا تحلّتها كفّارة مرسلة ، وهي التي وردت في سورة المائدة.

(٢) ورد هذا السند فاسدا مضطربا في ق وع هكذا : «وبظاهر ذلك عن يحيى بن سعيد بن أبي عبيدة بن جبير» ، فأثبتّ تصحيحه من صحيح البخاريّ ، كتاب التفسير ، سورة التحريم ، ومن صحيح مسلم ، كتاب الطلاق. باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهنّ ، وقوله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) (رقم ١٤٧٩) من حديث ابن عباس الطويل وسؤاله لعمر بن الخطّاب.

(٣) في ق وع : «ثمّ أخبرت به عائشة» ، وأثبت ما جاء في ز.

٣٤٤

النبيّ عليه‌السلام (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) : أي وليّه في العون له (وَجِبْرِيلُ) وليّه (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أولياؤه ، وهم النبيّون. قال عزوجل في آية أخرى : (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣٩) [آل عمران : ٣٩]. وقال عزوجل : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) [التحريم : ١٠] أي نبيّين (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ) : أي مع ذلك (ظَهِيرٌ) (٤) : أي أعوان له. يعني النبيّ عليه‌السلام.

قوله عزوجل : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍقانِتاتٍ) : أي : مطيعات (١) (تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ) : أي صائمات (٢) (ثَيِّباتٍ) : الواحدة ثيّب (وَأَبْكاراً) (٥). ذكروا أنّ عمر بن الخطّاب قال : وافقت ربّي في أربعة ، أو قال : وافقني ربّي في أربعة : قلت : يا رسول الله ، لو اتّخذنا مقام إبراهيم مصلّى ، فأنزل الله (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥]. قلت : يا رسول الله ، يدخل عليك البارّ والفاجر ، فلو أمرت نساءك أن يحتجبن ، فأنزل الله آية الحجاب (٣). وبلغنا أنّه كان بين أزواج النبيّ عليه‌السلام وبين النبيّ عليه‌السلام بعض الشيء ، فقلت : لتنتهنّ عن رسول الله أو ليبدّلنّه الله أزواجا خيرا منكنّ ، فأنزل الله : (عَسى رَبُّهُ ، إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ).

ولمّا نزلت هذه الآية : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤] قلت : تبارك الله أحسن الخالقين.

__________________

(١) في ق وع : «طائعات» ، وأثبت ما جاء في ز ، ورقة ٣٦٦ : «مطيعات» ، وبهذا اللفظ فسّره أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٦١ ، وهو أفصح.

(٢) جمهور المفسّرين على أنّ السائحين والسائحات هم الصائمون والصائمات ، معتمدين في ذلك على حديث روي مرفوعا وموقوفا عن أبي هريرة. وهنالك من يقول إنّ السائحات هنّ المهاجرات. انظر ما مضى ، ج ٢ ، تفسير الآية ١١٢ من سورة التوبة. وانظر تفسير الطبريّ ج ١٤ ص ٥٠٠ ـ ٥٠٦ ، ط. دار المعارف ، وج ٢٨ ص ١٦٤ ـ ١٦٥ ط. الحلبي. وقال الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٣ ص ١٦٧ : «هنّ الصائمات ، ونرى أنّ الصائم إنّما سمّي سائحا لأنّ السائح لا زاد له ، وإنّما يأكل حيث يجد ، فكأنّه أخذ من ذلك ، والله أعلم».

(٣) هي في سورة الأحزاب ، الآية : ٥٩ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ..). الآية.

٣٤٥

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده لقد ختمها الله بما قلت (١).

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) : أي بطاعة الله نارا. قال بعضهم : لمّا نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله : هذا نقي أنفسنا ، فكيف نقي أهلينا. قال : تأمرونهم بطاعة الله (٢).

قوله عزوجل : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) : أي حطبها الناس والحجارة ، أي : تأكل الناس وتأكل الحجارة ، في تفسير الحسن ، وهي حجارة من كبريت [أحمر. قال عزوجل : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) : أي على أعداء الله. قال أبو العوام : الملك منهم في يده مرزبة من حديد لها شعبتان يضرب بها الضربة فيهوي بها سبعين ألفا. (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦).

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) : وهذا يقال لهم يوم القيامة (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧) : أي في الدنيا.

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) : يحيى عن حماد عن سماك بن حرب عن النعمان بن بشير قال : سألت عمر بن الخطّاب عن التوبة النصوح قال : هي أن يتوب العبد من الذنب ثمّ لا يعود فيه (٣). يحيى عن الفرات عن عبد الكريم عن زيّاد بن الجرّاح عن عبيد الله بن معقل قال : كان أبي عند عبد الله بن مسعود فسمعته يقول لعبد الله : أسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : الندم توبة؟ (٤). قال : نعم. يحيى عن سفيان الثوريّ عن عاصم

__________________

(١) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٣ ص ١٣٣.

(٢) أخرجه ابن مردويه عن زيد بن أسلم مرسلا ، كما جاء في الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ٢٤٤ ، ولفظه : «تأمرونهم بما يحبّه الله ، وتنهونهم عمّا يكره الله». وذكر أنّ السائل هو عمر كما رواه الألوسيّ في روح المعاني ، ج ١٠ ص ١٥٦ بدون سند.

(٣) هذا الأثر ورد منسوبا هنا إلى عمر بن الخطّاب ، وورد منسوبا إلى ابن مسعود في تفسير مجاهد ، ص ٦٨٤. وورد حديثا مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسند ضعيف في بعض المراجع. انظر : السيوطي ، الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ٣٤٥.

(٤) حديث صحيح أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد ، باب ذكر التوبة (رقم ٤٢٥٢) وصحّحه الحاكم عن ابن مسعود ، وأورد الحديث الطبرانيّ في الكبير ، وأبو نعيم في الحلية ، بزيادة : «الندم ـ

٣٤٦

الأحول عن الشعبيّ قال : التائب من الذنب كمن لا ذنب له (١).

قوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ) : وعسى من الله واجبة.

(أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : يقودهم إلى الجنّة (وَبِأَيْمانِهِمْ) : كتبهم ، وهي بشراهم بالجنّة] (٢).

(يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨). تفسير الكلبيّ : إنّه يعطي كلّ مؤمن نورا ، وبعضهم أكثر من بعض ، فيجوزون على الصراط منهم كالبرق ، ومنهم من يكون كركض الفرس الجواد ، ومنهم من يسعى سعيا ، ومنهم من يزحف زحفا ، وهم الذين (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وقد فسّرنا ما بلغنا من ذلك في سورة الحديد (٣).

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) : أي جاهد الكفّار المشركين بالسيف ، واغلظ على المنافقين بالحدود. قال : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٩).

قوله عزوجل : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) : تفسير ابن عبّاس : فخالفتاهما ، يقول : كانتا منافقتين [تظهران الإيمان وتسرّان الشرك] (٤). فأمّا امرأة نوح فكانت تفشي سرّه ،

__________________

ـ توبة ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب عليه».

(١) هذا نصّ حديث أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد ، باب ذكر التوبة عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه (رقم ٤٢٥٠).

(٢) ما بين المعقوفين ابتداء من الصفحة الماضية إلى هنا ساقط كلّه من ق وع ، فأثبتّه من ز لإتمام النقص الذي ورد في تفسير الآيتين. وهذا دليل آخر على أنّ مخطوطتي ق وع نقلتا من أصل واحد ، أو أنّ الواحدة نقلت من الأخرى.

(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ١٣ من سورة الحديد.

(٤) زيادة من ز ، ورقة ٣٦٦.

٣٤٧

وكانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخّنت لتعلم أنّه نزل بلوط ضيف لعملهم السوء ، وإتيانهم الرجال في أدبارهم ، فنافقتا بذلك. وتفسير الحسن مثل تفسير ابن عبّاس إلّا أنّه يذهب في الخيانة أيضا إلى أمر قبيح يجعلهما باغيتين بذلك. وحاشا لأنبياء الله من ذلك ، وليس مذهبه هذا مذهبا ، لأنّه كان يقال : ما بغت امرأة نبيّ قطّ.

قال تعالى : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) : أي لم يغن عمل نوح ولوط عليهما‌السلام عن امرأتيهما من الله شيئا. (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١٠).

وهذا مثل ضربه الله يحذّر حفصة وعائشة للذي كان ممّا قصّ في أوّل السورة.

وضرب لهما أيضا مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، يأمرهما بالتمسّك بطاعة الله وطاعة رسوله (١) فقال :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) : أي في السماء ، لأنّ الجنّة في السماء ، والنار في الأرض. (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١١). يقول الله : فامرأة فرعون ومنزلتها عند الله لم تغن عن فرعون من الله شيئا إذ كان كافرا.

قال تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) : أي عفّت جيب درعها عن الفواحش (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) : أي فتناول جبريل جيبها بأصبعه فنفخ فيه فسار (٢) إلى بطنها فحملت (٣).

قال تعالى : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢) : تفسير الكلبيّ : إنّ الكلمات : إنّه عيسى ؛ وذلك لقول جبريل : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ

__________________

(١) انظر : ابن الجوزي ، زاد المسير ، ج ٨ ص ٣١٥ حيث ورد هذا القول منسوبا إلى يحيى بن سلّام ، وانظر ابن قيّم الجوزيّة ، الأمثال في القرآن ، ص ٢٦٦.

(٢) كذا في ق وع : «فسار» وفي ز ، ورقة ٣٦٧ : «فصار إلى بطنها».

(٣) قال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ١٦٩ : «والفرج هاهنا جيب درعها. وذكر أنّ جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفخ في جيبها. وكلّ ما كان في الدرع من خرق أو غيره يقع عليه اسم الفرج. قال الله تعالى : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [سورة ق : ٦] يعني السماء ، من فطور ولا صدوع».

٣٤٨

غُلاماً زَكِيًّا) (١٩) [مريم : ١٩] ولقوله : (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [آل عمران : ٤٥ ـ ٤٩]. وقال تعالى في هذه الآية : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) أي وجميع الكتب في تفسير الحسن ؛ وهو مقرأه. وتفسير الكلبيّ : الإنجيل ، ومقرأه : (وكتابه) (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) قال الحسن : القنوت طول القيام في الصلاة. وقال بعضهم : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي : من المطيعين لربّها.

* * *

٣٤٩

تفسير سورة الملك ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (تَبارَكَ) : وهو من باب البركة ، كقوله : (تَعالى) وهو من العلوّ. (الَّذِي بِيَدِهِ) : أي في يده.

(الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) : أي الذي لا يعجزه شيء.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). ذكروا عن الأعمش عن أبي سفيان عن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يؤتى بملك الموت يوم القيامة في صورة كبش أملح ، فيجعل على سور بين الجنّة والنار ، ثمّ ينادي مناد : يا أهل الجنّة ويا أهل النار ، هل تعرفون هذا؟ هذا الموت ، فيقولون : نعم ، فيذبح على السور وهم ينظرون إليه. ثمّ يقال : يا أهل الجنّة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، وكلّ خالد فيما هو فيه (١).

قوله عزوجل : (لِيَبْلُوَكُمْ) أي : ليختبركم (أَيُّكُمْ ، أَحْسَنُ عَمَلاً). قال : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في نقمته (الْغَفُورُ) (٢) لمن تاب وآمن.

قوله عزوجل : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) : أي بعضها فوق بعض ، غلظ كلّ سماء كما فسّرناه قبل هذا (٢). وما بينهما كذلك ، وهو كقوله عزوجل : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) [سورة المؤمنون : ١٧].

قال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) : أي من اختلاف ، وهي مستوية كلّها ، كقوله عزوجل : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٧) [الذاريات : ٧].

والحبك : استواؤها وحسنها.

__________________

(١) هذا حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، سورة مريم ، وأخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب النار يدخلها الجبّارون والجنّة يدخلها الضعفاء ، (رقم ٢٨٥٠) ، كلاهما يرويه من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد. وانظر الإشارة إليه فيما مضى ، ج ٣ ، تفسير الآية ٣٩ من سورة مريم.

(٢) انظر ما مضى قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ١٢ من سورة الطلاق.

٣٥٠

قال تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) : أي فانظر إلى السماء (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (٣) : على الاستفهام ، أي : هل ترى من شقوق ، أي : إنّك لا ترى فيها شقوقا. (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) : أي مرّة بعد مرّة (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) : أي فاترا (وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤) : أي كليل ، أي : قد أعيا لا يجد منفذا.

قال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) : وهي الكواكب (وَجَعَلْناها) : أي الكواكب (رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) : يعني ما جعل منها رجوما. وكان الوقت التي جعلت فيه رجوما حين (١) بعث النبيّ عليه‌السلام.

ذكروا عن أبي رجاء العطارديّ قال : كنّا قبل أن يبعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نرى نجما يرمى به ، فبينما نحن ذات ليلة إذا النجوم قد رمي بها. فقلنا : ما هذا؟ إن هذا إلّا أمر حدث. فجاءنا أنّ النبيّ عليه‌السلام قد بعث ، فأنزل الله هذه الآية. وفي سورة الجنّ : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٩) [الجن : ٩].

ذكروا عن حسّان بن أبي بلال قال : من قال في النجوم سوى هذه الأشياء الثلاثة فهو كاذب ، ثمّ مفتن مبتدع. قال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ). وقال : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٩٧] فهي مصابيح ورجوم ويهتدى بها (٢).

ذكروا عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : إذا رأيتم الكواكب قد رمي بها فتواروا فإنّها تحرق ولا تقتل. وفي تفسير الحسن : إنّه يقتلهم في أسرع من طرف (٣).

قال تعالى : (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) : أي وأعددنا لهم (عَذابَ السَّعِيرِ) (٥) : أي في الآخرة ،

__________________

(١) في ق وع : «حيث بعث ...» ، ويمكن أن تكون الكلمة صحيحة لأنّ (حيث) التي تأتي للمكان أصلا قد ترد أحيانا للزمان ، وإن كان هذا قليلا. انظر : ابن هشام ، مغني اللبيب ، ج ١ ص ١٣١.

(٢) نسب مثل هذا القول أيضا لقتادة ، قال : «خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها في البرّ والبحر والأوقات ، فمن تأوّل فيها غير ذلك فقد تكلّف ما لا علم له به ، وتعدّى وظلم». انظر : تفسير القرطبيّ ، ج ١٨ ص ٢١١.

(٣) جاء في ق وع : «فإنّه يحرق ولا يقتل» أي : فإنّ الرمي بها يحرق ولا يقتل.

٣٥١

أي : للذين يرجمون من الشياطين ولجماعة الشياطين. تفسير الحسن : الذين هم يسترقون السمع ، يسترق أحدهم السمع وهو يعلم أنّه محترق وأنّ له في الآخرة عذاب السعير. والكلبيّ يقول : هم شرار إبليس. وقال الحسن : الشيطان والعفريت والمارد لا يكون إلّا الكافر من الجنّ.

قوله عزوجل : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) : أي صوتا في تفسير الحسن (وَهِيَ تَفُورُ) (٧) : أي تغلي (تَكادُ تَمَيَّزُ) : أي تتفرّق (مِنَ الْغَيْظِ) : أي تكاد يبين بعضها من بعض تغيّظا على أعداء الله.

قال : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) : أي التسعة عشر (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (٨) : أي نبيّ ينذركم عذاب الله في الدنيا والآخرة (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ) : يعنون الرسل والمؤمنين. (إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (٩) : أي في الدين. وهذا خاصّة في بعض المشركين دون جميع المنافقين. وأهل الكتاب اليهود والنصارى لا يقولون هذا القول ، فكيف أهل الإقرار بالله والنبيّ والكتاب ، لأنّ اليهود والنصارى يقولون : إنّ الله أنزل عليه كتابا. وكانت اليهود يقرّون بالتوراة ويجحدون الإنجيل ، وكانت النصارى يقرّون بالإنجيل ويجحدون التوراة والقرآن. (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (١٠) : هؤلاء جميع أصحاب النار. أي : لو كنّا نسمع أو نعقل في الدنيا لآمنا في الدنيا وأوفينا بفرائض الله في الدنيا ، فلم نكن من أصحاب السعير. والسعير : اسم من أسماء جهنّم ، وجهنّم كلّها سعير تسعر بهم. قال الله تعالى : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً) : أي فبعدا (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (١١) : أي أهل السعير ، أهل النار.

ثمّ قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) : أي في السرّ ، ومثلها في سورة ق : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [سورة ق : ٣٣] أي : يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١٢).

قوله عزوجل : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) : أي فهو يعلمه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٣) : أي بما في الصدور.

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) : على الاستفهام ، أي : هو خلقكم فكيف لا يعلم سرّكم وعلانيتكم؟ (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) : فبلطفه خلق الخلق ، وهو الخبير بأعمالهم.

٣٥٢

قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) : أي : [سهّل لكم السلوك فيها (١) و] ذلّلها لكم. وهو كقوله : (فراشا) و (بساطا) و (مهادا) (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) : أي فامضوا في مناكبها ، ومناكبها ، جوانبها (٢). وتفسير الحسن : جوانبها وطرقها ، وقال الكلبيّ : مناكبها : أطرافها. وقال بعضهم : نواحيها ، وتفسير مجاهد : طرقها وفجاجها. قال : (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) : أي الذي أحلّ لكم (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥) : أي البعث.

قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) : على الاستفهام ، يعني نفسه (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) : أي إنّكم لا تأمنون ذلك (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) (١٦) : أي تتحرّك حين تخسف بكم. (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) يعني : نفسه ، وهي مثل الأولى ، أي لا تأمنون (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) : أي كما حصب قوم لوط ، أي : بالحجارة التي أمطرها عليهم. قال تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) (١٧) : وهذا تخويف. قال الحسن : يعني المشركين.

ثمّ قال للنبيّ عليه‌السلام : (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي من قبل قومك يا محمّد (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (١٨) : على الاستفهام ، أي : كان شديدا. و (نكيري) أي : عقوبتي.

قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) : أي : بأجنحتها ، أي : قد رأوها (وَيَقْبِضْنَ) (٣) : قال الحسن : حين تحرّك الطير جناحيها. وبعضهم يقول : (وَيَقْبِضْنَ) يعني إذا وقف الطائر صافّا جناحيه لا يزول. قال تعالى : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (١٩).

قوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) : على الاستفهام ، أي : إن أراد عذابكم. أي : ليس أحد ينصركم من دون الله. قال تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ) : أي ما الكافرون (إِلَّا فِي غُرُورٍ) (٢٠) : يعني في غرور من الشياطين.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٦٧.

(٢) في ق وع : «جبالها» ، وفي الكلمة تصحيف صوابه ما أثبتّه : «جوانبها». وبهذا اللفظ فسّرها أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٦٢ ، والفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٧١.

(٣) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٦٢ : (إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) باسطات أجنحتهنّ (وَيَقْبِضْنَ) فيضربن بأجنحتهنّ».

٣٥٣

قوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) : على الاستفهام. أي : لا أحد. يقول : إنّ هذه الأوثان التي تعبدونها ليست بالتي ترزقكم. قال : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ) : أي من العتوّ ، وهو الشرك (١) (وَنُفُورٍ) (٢١) : أي عن الإيمان. وقال مجاهد : أي : وكفور ، وهو واحد (٢).

قال تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) : أي : لا يبصر موضع قدميه ، وهذا مثل الكافر. أي : هو أعمى عن الهدى (أَهْدى) : أي هو أهدى (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢) : أي عدلا مهتديا يبصر حيث يسلك ، على طريق مستقيم ، وهو الطريق إلى الجنّة. وهذا مثل المؤمن ، أي : المؤمن أهدى من الكافر. قال تعالى : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) : أي خلقكم (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٢٣) : أي أقلّكم من يشكر ، أي : أقلّكم المؤمن.

(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) : أي خلقكم في الأرض (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤) : أي يوم القيامة (٣).

قال : (وَيَقُولُونَ) : يعني المشركين (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥).

قال الله لنبيّه عليه‌السلام (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) : أي علم الساعة. أي : متى الساعة؟ لا يعلم قيامها إلّا هو (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) : أي أنذركم عذاب الله (مُبِينٌ) (٢٦) : أي أبيّن لكم عن الله.

قال الله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ) : يعني العذاب (زُلْفَةً) : أي قريبا ، في تفسير الكلبيّ. وقال

__________________

(١) كذا في ق وع وفي ز : «وهو الشرك». والحقّ أنّ لفظ العتوّ يفيد معنى الطغيان والتكبّر والتجبّر. وفي مفردات الراغب : «العتوّ : النبوّ عن الطاعة».

(٢) وقال الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٤ ص ٥٨١ : «بل تمادوا في عناد وشراد عن الحقّ لثقله عليهم فلم يتّبعوه». (٣) قال الراغب الأصبهانيّ : «الذرء : إظهار الله تعالى ما أخفاه. يقال : ذرأ الله الخلق ، أي : أوجد أشخاصهم». وقال ابن قتيبة في قوله تعالى من سورة الأعراف ، آية ١٧٩ : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) أي : خلقنا لجهنّم ، ومنه ذرّيّة الرجل ؛ إنّما هي الخلق ، ولكنّ همزها يتركه أكثر العرب. وانظر : ابن قتيبة تفسير غريب القرآن ، ص ١٧٥.

٣٥٤

مجاهد : قد اقترب ، وقال الحسن : عيانا (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي ساء العذاب وجوههم (وَقِيلَ) : [لهم عند ذلك] (١) (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) (٢٧) (٢) : لقولهم : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ٢٩] استهزاء وتكذيبا.

قال الله تعالى : (قُلْ) يا محمّد (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ) : من المؤمنين ، وهذا على القدرة ، كقوله تعالى : (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [المائدة : ١٧] قال تعالى : (أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٨) : أي موجع. أي ليس لهم مجير يمنعهم من عذاب الله.

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ) : أي صدّقنا به (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ) : أي يوم القيامة (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٩) : أي إنّكم أيّها المشركون في ضلال مبين. قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) : والغور : الذي لا يقدر عليه ، أي : لا تدركه الدلاء ، أي : قد غار في الأرض فذهب (٣). يعني أهل مكّة. وماؤهم فيما بلغنا زمزم وبئر ميمون (٤).

قال تعالى : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠) : أي لا أحد. والمعين : الظاهر. وتفسير الحسن : المعين أصله من العيون.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٦٨.

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٦٢ : (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي : تدّعون به وتكذّبون وتردّون» ، وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٧١ : «يريد : تدّعون ، وهو مثل قوله : تذكرون وتذّكّرون ، وتخبرون وتختبرون ، والمعنى واحد. والله أعلم».

(٣) قال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن : (أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي : غائرا ، وصف بالمصدر ، يقال ماء غور ومياه غور ، ولا يجمع ولا يثنّى ولا يؤنّث ، كما يقال : رجل صوم ، ورجال صوم ، ونساء صوم». وانظر :

معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ١٧٢.

(٤) بئر ميمون : ذكرها ياقوت في معجمه ولم يزد على أن قال : «بمكّة» ، ولم يحدّد موقعها. وقد ذكرها الطبريّ في تاريخه عدّة مرّات. وذكر ابن قتيبة في المعارف ص ٢٨٣ أنّها بأبطح مكّة ، وزاد البكريّ في معجم ما استعجم ص ١٢٨٥ : «بين البيت والحجون». وإنّما نسبت إلى ميمون لأنّ الذي حفرها في الجاهليّة هو ميمون الحضرميّ ، ولم ترو له صحبة. أمّا أخوه العلاء بن الحضرميّ فقد أسلم وحسن إسلامه ، فولّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البحرين ، وتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو واليها. وأقرّه على ذلك أبو بكر فعمر رضي الله عنهما ، وتوفّي في خلافة عمر سنة أربع عشرة للهجرة.

٣٥٥

تفسير سورة ن ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ) : ذكروا عن الحسن قال : نون : الدواة (وَالْقَلَمِ) : هذا القلم الذي يكتب به. وتفسير الكلبيّ : القلم الذي يكتب به الملائكة الذكر وأعمال العباد.

قوله : (وَما يَسْطُرُونَ) (١) : أي وما يكتبون ، يعني الملائكة (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (٢).

ذكروا أنّ عليّا قال : (الر) و (حم) و (ن) : الرحمن. وبعضهم يقول : (ن) الحوت الذي عليه قرار الأرض. أقسم بهذا كلّه للنبيّ عليه‌السلام (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) لقول المشركين : إنّه مجنون. ومقرأ العامّة : (ن) بالوقف والإسكان. ووقع القسم على القلم وما يسطرون ، وبعضهم يجرّ (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) ويحمله كلّه على القسم.

قال تعالى : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) : أي ثوابا ، يعني الجنّة (غَيْرَ مَمْنُونٍ) (٣) : أي غير محسوب ، في تفسير مجاهد. وتفسير الحسن : غير ممنون عليك منّ أذى (١).

قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) : أي لعلى دين عظيم ، يعني الإسلام.

ذكروا عن سعيد بن هشام عن عائشة قالت : كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن. قالت : والقرآن فيه الدين.

قال : (فَسَتُبْصِرُ) : أي يوم القيامة (وَيُبْصِرُونَ) (٥) : يعني المشركين (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) (٦) : أي : بأيّكم الشيطان ، والشيطان مفتون في تفسير مجاهد. أي : سيبصرون يوم القيامة أنّك كنت المهتدي وأنّهم الضّلّال. (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي [أيّكم الضالّ في تفسير الحسن ؛ يجعل الباء صلة] (٢). والمفتون الضالّ.

__________________

(١) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٧٣ : «غير مقطوع». وقال ابن قتيبة : «غير مقطوع ولا منقوص. يقال : مننت الحبل إذا قطعته». وبهذا اللفظ الأخير أورده ابن أبي زمنين في ز ، ورقة ٣٦٨.

(٢) زيادة من ز ورقة ٣٦٨ : «يجعل الباء صلة» ، أي زائدة. وقال ابن قتيبة : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي : أيّكم المفتون ، ـ

٣٥٦

قال عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٧) : أي إنّهم ضلّال عن سبيل الهدى ، وإنّك وأصحابك مهتدون. (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (٨) إنّهم كانوا يريدون أن يترك النبيّ عليه‌السلام ما جاء به.

قال عزوجل : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٩) : قال الحسن : ودّوا لو تدع هذا الأمر الذي بعثت به فيدعونه. [وتفسير بعضهم يقول : لو تداهن في دينكم فيداهنون في أديانهم. كانوا أرادوه على أن يعبد الله سنة ويعبد هو آلهتهم سنة] (١).

قوله عزوجل : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) : أي مكثار في الشرّ (مَهِينٍ) (١٠) : أي ضعيف في الخير (هَمَّازٍ) : أي يهمز الناس بلسانه وعينه ، أي يغتابهم (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (١١) : أي يفسد ذات البين (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) : أي يمنع حقّ الله عليه ، في تفسير الحسن. وقال بعضهم : منّاع للإسلام. وتفسير مجاهد : (مَهِينٍ) : ضعيف القلب. وتفسير الكلبيّ : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يمنع نفسه وقرابته أن يتّبعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (مُعْتَدٍ) : من الاعتداء ، أي : ظالم (أَثِيمٍ) (١٢) : أي آثم.

قوله عزوجل : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) : والعتلّ الفاحش ، (بَعْدَ ذلِكَ) أي : مع ذلك ، كقول الرجل : وهو مع ذلك كذا وكذا ، وهو واحد. (زَنِيمٍ) (١٣) : والزنيم في تفسير الحسن : اللئيم الضريبة ، يعني الطبيعة. ذكروا عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : الزنيم : الدعيّ. قال الشاعر :

زنيم تداعاه الرجال زيادة

كما زاد في عرض الأديم الأكارع (٢)

__________________

ـ أي الذي فتن بالجنّة ، والباء زائدة كما قال الراجز : نضرب بالسيف ونرجو بالفرج ، أي : ونرجو الفرج. وأورد أبو عبيدة الشطر الأوّل من الرجز هكذا : نحن بنو جعدة أصحاب الفلج .... وقال الفرّاء : (الْمَفْتُونُ) هاهنا بمعنى الجنون ، وهو في مذهب الفتون ، كما قالوا : ليس له معقول رأي». وقال ابن الأنباريّ في البيان في إعراب غريب القرآن ، ج ٢ ص ٤٥٣ (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي : بأيّكم الفتنة ، كما يقال : ما له معقول ، أي : عقل. وقيل : الباء في (بِأَيِّكُمُ) زائدة ، وتقديره : أيكم المفتون ، أي : المجنون».

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٦٨. وقال الفرّاء : «يقال : ودّوا لو تلين في دينك فيلينون في دينهم. وقال بعضهم : ودّوا لو تكفر فيكفرون : أي فيتّبعونك على الكفر».

(٢) نسب هذا البيت لشاعر جاهليّ يدعى الخطيم التميمي ، وقيل : إنّه لحسّان بن ثابت ، انظر اللسان : (زنم).

٣٥٧

وتفسير مجاهد : العتلّ : الشديد ، والزنيم : الملحق في النسب.

ذكروا عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب عن أبي الدرداء ، قال : العتلّ الزنيم : رحب الجوف ، وثيق الخلق ، أكول شروب ، غشوم ظلوم.

قال بعضهم : هو الكافر المعروف ، كالشاة التي لها زنمتان تعرف بزنمتيها في سائر الغنم. وبلغنا أنّ هذه الصفات كلّها في رجل من المشركين. وقد نهى الله المسلمين عن هذه الأخلاق كلّها.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : خياركم الذين إذا رءوا ذكر الله ، وشراركم النمّامون المفرّقون بين الأحبّة ، الباغون للبرآء العنت (١).

قال عزوجل : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) (١٤) : على الاستفهام ، أي : بأن كان ذا مال وبنين (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٥) : أي كذب الأوّلين وباطلهم. (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (١٦) : أي على أنفه بسواد يعرف به يوم القيامة. وقال بعضهم : أي : سيما لا تفارقه.

قوله عزوجل : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) : يعي أهل مكّة ، ابتلوا بالجوع حين كذّبوا النبيّ عليه‌السلام (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) (١٧) : أي إذا أصبحوا.

تفسير مجاهد : إنّ هؤلاء قوم كانوا أوّل أمرهم على الشرك.

وتفسير الكلبيّ : إنّهم أبناء قوم صالحين ، وإنّ آباءهم جعلوا من جنّتهم حظّا للمساكين وابن السبيل. وكان حظّ المساكين وابن السبيل عند الحصاد ما أخطأ المنجل ، وعند القطاف ما أخطأ القاطف ، وعند صرام النخل ما انتثر خارجا من البساط الذي يبسط تحت النخل. فخلف

__________________

وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٦٥ : «الزنيم المعلّق في القوم ليس منهم. قال حسّان بن ثابت :

وأنت زنيم نيط في آل هاشم

كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

(١) حديث صحيح ، أخرج أوّله ابن ماجه في كتاب الزهد ، باب من لا يؤبه له ، عن أسماء بنت يزيد أنّها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ... (رقم ٤١١٩). وأخرجه أحمد بتمامه من طريقين ، كما في تفسير ابن كثير ، ج ٧ ص ٨٣.

٣٥٨

أبناؤهم من بعدهم وقالوا : كثرنا وكثر عيالنا فليس للمساكين عندنا شيء (١). فتقاسموا ليصرمنّها مصبحين أي صبحا (وَلا يَسْتَثْنُونَ) (١٨) : أي ولا يقولون : إن شاء الله.

قال عزوجل : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) أي عذاب من ربّك (وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (٢٠) : الصريم : بمعنى المصروم. أي : الذاهب الهالك فأهلك تلك الجنان وذلك الحرث.

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) (٢١) : أي حين أصبحوا (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) (٢٢).

قال تعالى : (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) (٢٣) : أي يتسارّون بينهم (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) (٢٤) : أي أن لا تطعموا اليوم مسكينا.

قال عزوجل : (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) أي على جدّ من أمرهم ، أي جادّين ، (قادِرِينَ) (٢٥) أي قادرين على جنّتهم في أنفسهم. قال الحسن. (عَلى حَرْدٍ) أي : على منع من الفاقة (٢).

قال عزوجل : (فَلَمَّا رَأَوْها) خرابا سوداء ، وعهدهم بها في الأمس عامرة ، (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) (٢٦) : أي ضللنا الطريق ، أي ظنّوا أنّها ليست جنّتهم. ثمّ أيقنوا أنّها جنّتهم فقالوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٢٧) : أي حرمنا خير جنّتنا. (قالَ أَوْسَطُهُمْ) : أي أعدلهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (٢٨) : أي هلّا تستثنون (٣).

__________________

(١) قيل : إنّ قصّة أصحاب الجنّة جرت لأبناء رجل صالح من أهل اليمن كان له زرع ونخل وعنب ، فخلفه ثلاثة أبناء لم يتّبعوا سيرة أبيهم في إكرام اليتامى والمساكين والأرامل. اقرأ القصّة بعبارات موجزة بليغة في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ١٧٤ ـ ١٧٥ ، وفي بعض كتب التفسير.

(٢) أورد أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦ عدّة معان لكلمة (حَرْدٍ) منها القصد ، والمنع ، والغضب ، وفسّرها الفرّاء في المعاني وقال : «على جدّ وقدرة في أنفسهم» ، وقال : «والحرد أيضا : القصد». وردّ الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٩ ص ٣٣ معنى المنع وقال مرجّحا : «صحّ أنّ الذي هو أولي بتأويل الآية قول من قال : معنى قوله : (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) وغدوا على أمر قد قصدوه واعتمدوه ، واستسرّوه بينهم ، قادرين عليه في أنفسهم».

(٣) قال ابن منظور : «وقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي تستثنون ، وفي الاستثناء تعظيم الله والإقرار بأنّه ـ

٣٥٩

(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) (٣٢).

قال الله عزوجل : (كَذلِكَ الْعَذابُ) : أي هكذا كان العذاب ، أي : كما قصصته عليك ، يعني ما عذّبهم به من إهلاك جنّتهم. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) : من عذاب الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٣٣) : يعني قريشا. رجع إلى قوله : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) ، يعني قريشا ، لو كانوا يعلمون لعلموا أنّ عذاب الآخرة أكبر من عذاب الدنيا. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الحصاد ليلا وعن الجداد ليلا. ذكروا عن الحسن أنّ رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن أن يصرم ليلا وأن يحصد ليلا (١).

ذكروا عن ابن عمر في قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام : ١٤١] قال : هو سوى العشر ونصف العشر أن يناول منه يوم حصاده. وذكروا عن مجاهد (٢). وقال بعضهم : هو ما أخطأ المنجل. قال بعضهم تراه إنّما نهى عن الصرام ليلا وعن الحصاد ليلا وأن يضحّى ليلا لما كان للمساكين لئلّا يحرموا أن يطعموا منه ولا يصنعون كما صنع أصحاب الجنّة. ذكروا عن الحسن وسعيد بن جبير قالوا : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قالوا : الزكاة المفروضة.

قوله عزوجل : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (٣٥) : أي كالمشركين. أي : لا نفعل ذلك. ثمّ قال الله عزوجل للمشركين : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٦) : أي ليس لكم حكم أن نجعل (٣) المسلمين في الآخرة كالمشركين.

ذكروا عن ابن مسعود قال : ثلاثة أحلف عليهنّ ولا أستثني : لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له ، ولا ولّى الله عبدا في الدنيا فيوليه (٤) غيره [في الآخرة] ، ولا يحبّ عبد

__________________

ـ لا يشاء أحد إلّا أن يشاء الله ، فوضع تنزيه الله موضع الاستثناء. اللسان : (سبح).

(١) حديث صحيح أخرجه البيهقيّ من حديث الحسن.

(٢) جاء في تفسير مجاهد ص ٢٢٥ ما يلي : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : نافلة واجبا حين يصرم سوى الزكاة». وانظر تفسير الطبريّ ، ج ١٢ ص ١٦٣. ط دار المعارف.

(٣) كذا في ق وع ، وفي ز «أي : ليس حكمنا أن نجعل ...».

(٤) كذا في ق : «فيوليه» ، وفي ع «فوليه» ، وفي كليهما غموض.

٣٦٠