تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

السفرة الكرام البررة. (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٧٩) : أي : من الذنوب ، يعني الملائكة (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٠) : أي نزل به جبريل. وفيها تقديم ؛ يقول : نزل من ربّ العالمين في كتاب مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون.

قال : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) : يعني القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) (٨١) : أي تاركون له ، يقوله للمشركين. كقوله عزوجل : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٩) [القلم : ٩] أي : ودّوا لو تدع هذا الأمر الذي بعثت به فيدعونه.

قال : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٨٢) : كقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم : ٢٨].

قال : (فَلَوْ لا) : أي فهلّا (إِذا بَلَغَتِ) : أي النفس التي زعمتم أنّ الله لا يبعثها.

(الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا) : أي فهلّا (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) (٨٦) : أي غير محاسبين ، في تفسير بعضهم ، وقال بعضهم : غير مقرّين بالبعث. وقال بعضهم : غير مملوكين (١) (تَرْجِعُونَها) : يعني النفس إلى الدنيا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٨٧) : أي بأنّكم لا تبعثون.

قال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) : وهي تقرأ على وجهين : (فروح) ، و (فروح) وكان الحسن يقرأها : (فروح) ، بضمّ الراء. وتفسير الحسن في (روح) : الحياة الطويلة في الجنّة. وبعضهم يقول : الروح : الرحمة. ومقرأ الكلبيّ : (فروح) ، يعني الراحة. وقال الكلبيّ : الريحان : الرزق (٢).

__________________

(١) اختلف المفسّرون قديما في المراد من قوله : (غَيْرَ مَدِينِينَ) وروي في معناه خمسة أقوال ، والراجح منها ـ حسبما ذهب إليه جمهور المفسّرين ـ أنّ معناه غير مجزيّين ، وهو ما ذهب إليه أبو عبيدة في المجاز ، وكان الفرّاء رجّح معنى غير مملوكين.

(٢) جاء في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ١٢١ ما يلي : «قال الفرّاء قال : وحدّثني شيخ عن حمّاد بن سلمة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) وقراءة الحسن كذلك والأعمش وعاصم والسلميّ وأهل المدينة وسائر القرّاء (فَرَوْحٌ) ، أي : فروح في القبر. ومن قرأ : (فَرَوْحٌ) يقول : حياة لا موت فيها (وَرَيْحانٌ) : رزق».

٢٦١

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الميّت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرجل صالحا قالوا : اخرجي أيّتها النفس الطيّبة كانت في الجسد الطيّب ، اخرجي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ، وربّ راض غير غضبان. يقال لها ذلك حين ينتهى بها إلى السماء ، فيستفتح لها ، فيقال : من هذا؟ فيقولون : فلان بن فلان. فيقولون : مرحبا بالنفس الطيّبة كانت في الجسد الطيّب. ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ، وربّ راض غير غضبان. فيقال لها ذلك ، حتّى ينتهى بها إلى السماء السابعة.

فإذا كان الرجل السوء قالوا : اخرجي أيّتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) (٥٨) [سورة ص : ٥٨]. فيقولون ذلك لها حتّى تخرج ، ثمّ يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها. فيقال : من هذا؟ فيقولون : فلان. فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة ، ارجعي ذميمة فإنّه لن يفتح لك ، فترسل بين السماء والأرض ، ثمّ يصيران إلى القبر.

ذكروا عن الحسن أنّه قرأ هذه الآية : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) فقال : ذلك في الآخرة. فسأله بعض القوم فقال : أما والله إنّهم ليرون عند الموت.

ذكروا عن بعض التابعين قال : إنّ المؤمن عند الموت يؤتى بحزمة (١) ريحان فيشمّها ثمّ يموت.

قال تعالى : (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) (٨٩).

قال تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ) : [أي فخير لك] (٢) (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩١) : وهؤلاء أصحاب اليمين من غير المقرّبين. وهم أصحاب المنزل الثاني في هذه السورة وفي سورة الرحمن. وهي أيضا في سورة الملائكة في المقتصد والسابق ، والسابق يدخل الجنّة بغير حساب. والمقتصدون هم الذي يحاسبون حسابا يسيرا ، وهم أصحاب المنزل الآخر.

__________________

(١) في ق وع : «بحوزة ريحان» ، ولا معنى لحوزة هنا ، فأثبتّ ما رأيت أنّه الصواب : «حزمة».

(٢) زيادة من ز ورقة ٣٥١. وفي معاني الفرّاء ج ٣ ص ١٢١ : «أي : فذلك مسلّم لك أنّك من أصحاب اليمين». وانظر معاني أخرى لقوله : (فَسَلامٌ لَكَ) في تفسير القرطبيّ ، ج ١٧ ص ٢٣٣.

٢٦٢

قال : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (٩٤). ذكروا عن عطاء بن السايب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وبعضهم يرفعه إلى النبيّ عليه‌السلام قال : من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، وإنّ المؤمن إذا احتضر أحبّ لقاء الله وأحبّ الله لقاءه ... وإنّ الكافر إذا احتضر كره لقاء الله وكره الله لقاءه (١). ثمّ تلا هذه الآية : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ ..). إلى ختام السورة.

قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (٩٥) : [أي إنّ هذا الذي قصصنا عليك في هذه السورة ليقين حقّ] (٢) (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦) : [أي : نزّه الله من السوء] (٣).

* * *

__________________

(١) حديث متّفق عليه : أخرجه البخاريّ في كتاب الرقائق ، باب من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه ، عن عائشة. وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار. باب من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه ، (رقم ٢٦٨٣) عن عبادة بن الصامت ، و (رقم ٢٦٨٤) ، عن عائشة.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٢.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٢.

٢٦٣

تفسير سورة الحديد ، وهي مدنيّة كلّها (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) : قال بعضهم : العزيز في نقمته ، الحكيم في أمره. وتفسير الحسن : العزيز : بعزته ذلّ من دونه.

قوله (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).

قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) : [يعني قبل كلّ شيء](وَالْآخِرُ) : [بعد كلّ شيء](وَالظَّاهِرُ) : [يعني العالم بما ظهر](وَالْباطِنُ) : [يعني العالم بما بطن] (٢) (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣).

ذكروا عن الحسن قال : اجتمعت أربعة أملاك فقالوا لأحدهم : من أين جئت؟ فقال : من السماء السابعة من عند ربّي ، ثمّ قالوا للثاني : من أين جئت؟ فقال : من الأرض السابعة من عند ربّي. فقالوا للثالث : من أين جئت؟ فقال : من المشرق من عند ربّي. فقالوا للرابع من أين جئت؟ فقال : من المغرب ، من عند ربّي. ثمّ تلا هذه الآية : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). ولا أعلمه إلّا رفعه إلى النبيّعليه‌السلام.

قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : وفيها إضمار : خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام ، اليوم منها ألف سنة ، كقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧]. قال : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) : ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بين السماء السابعة وبين العرش كما بين سماءين. ذكروا عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال : لا يعلم قدر العرش إلّا الذي خلقه.

__________________

(١) في ق وع : «مكيّة كلّها» ، وهو خطأ من ناسخ ولا شكّ ، فإنّه لم يقل بأنّها مكيّة إلّا ابن السائب. والجمهور على أنّها مدنيّة. وممّن قال بأنّها مدنيّة ابن عبّاس والحسن ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد وقتادة ومقاتل. وممّا يؤكّد أنّها مدنيّة ذكر الفتح فيها في الآية : ١٠ ، وهو فتح مكّة. وكذلك ذكر المنافقين والمنافقات في الآية : ١٣. وأغلب الآيات التي نزلت في المنافقين إنّما هي آيات مدنيّة وفي سور مدنيّة. وجاء في ز ورقة ٣٥٢ : «وهي مدنيّة كلّها».

(٢) ما جاء بين معقوفين في تفسير هذه الآية زيادة من ز.

٢٦٤

قوله عزوجل : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) : أي ما يدخل في الأرض من المطر (وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي من النبات (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) أي من وحي وغيره. (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي ما يصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد (١).

قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٥) : أي يوم القيامة.

قوله عزوجل : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) : وهو أخذ كلّ واحد منهما من صاحبه. (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٦) : أي بما في الصدور.

قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) : أي بعد الأمم التي أهلك الله واستخلفكم في الذي كان في أيديهم (٢). كقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) [يونس : ١٤] قال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) : أي في سبيل الله (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧) : أي الجنّة.

قال عزوجل : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) : أي في صلب آدم عليه‌السلام.

قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨) : أي : إن كنتم مؤمنين بالله وبالرسول فأنتم مؤمنون بذلك الميثاق. وإن كفرتم بالله وبالرسول فأنتم كافرون بذلك الميثاق.

قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ) : أي القرآن (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) : أي من الضلالة إلى الهدى ، يعني من أراد الله أن يهديه. قال : (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٩).

قوله عزوجل : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) : رجع إلى الكلام الأوّل : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ). قال تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : يعني يبقى بعد

__________________

(١) جاء في ق وع ما يلي : (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي : من الوحي الذي تعرج به الملائكة». وما أثبتّه من ز ورقة ٣٥٢ أصحّ عبارة وأوفى معنى.

(٢) وقال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ١٣٢ : «مملّكين فيه ، وهو رزقه وعطيّته».

٢٦٥

كلّ شيء ويهلك كلّ شيء. كقوله عزوجل : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠) [مريم : ٤٠].

قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) : [فيها تقديم : لا يستوي من أنفق منكم من قبل الفتح وقاتل] (١) ، وهو فتح مكّة (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) : أي الجنّة ، من أنفق وقاتل قبل فتح مكّة وبعده. قال : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠).

ذكروا عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا هجرة بعد فتح مكّة (٢).

ذكروا عن صفوان بن أميّة (٣) وسهيل بن عمرو (٤) ورجلين آخرين قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكّة فقال : ما جاء بكم؟ فقالوا : سمعنا أنّه لا إيمان لمن لم يهاجر. فقال : إنّ الهجرة قد انقطعت ، ولكن جهاد ونية وحسبة (٥). ثمّ قال : أقسمت عليك يا أبا وهب لترجعنّ إلى أباطح مكّة.

قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) : [أي محتسبا] (٦) وهذا في النفقة في سبيل الله وفي صدقة التطوّع (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) : وتفسيره في سورة البقرة : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٦١) [البقرة : ٢٦١].

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٢.

(٢) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاريّ في كتاب الجهاد والسير ، عن ابن عبّاس ، بلفظ : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا». وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، عن ابن عبّاس (رقم ١٣٥٣) وعن عائشة (رقم ١٨٦٤).

(٣) هو صفوان بن أميّة بن خلف القرشيّ الجمحيّ ، وكنيته : أبو وهب. انظر ترجمته في الاستيعاب لابن عبد البرّ ، ج ٢ ص ٧١٨ ، وفي سير أعلام النبلاء ، للذهبيّ ، ج ٢ ص ٤٠٥.

(٤) في ق وع جاء الاسم هكذا : «سهل بن عمر» والصحيح ما أثبتّه سهيل بن عمرو بن عبد شمس القرشيّ العامريّ من سادات قريش وأشرافهم ، ويكنّى أبا يزيد. وكان خطيب قريش ، له مواقف قبل إسلامه وبعد إسلامه. انظر ترجمته في الاستيعاب ، ج ٢ ص ٦٦٩.

(٥) كذا وردت الكلمة : «وحسبة». ولعلها : «ونية حسنة».

(٦) زيادة من ز ورقة ٣٥٢.

٢٦٦

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله عزوجل : كلّ حسنة يعملها ابن آدم بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلّا الصيام فهو لي وأنا أجازي به الجنّة (١).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنفق عبد من نفقة أفضل من نفقة قول (٢).

قال تعالى : (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١١) : أي ثواب كريم ، وهو الجنّة.

قوله عزوجل : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : أي يقودهم إلى الجنّة (وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : أي وبأيمانهم كتبهم ، وهي بشراهم بالجنّة ، وذلك على الصراط. ومثلها في سورة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) في قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [التحريم : ٨] قال تعالى : (خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢) : أي النجاة العظيمة من النار إلى الجنّة.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) : أهل التضييع والخيانة من أهل الإقرار (٣) (لِلَّذِينَ آمَنُوا) : وهم على الصراط ، يقولون للمؤمنين إذا طفئ نورهم (انْظُرُونا) : [أي : انتظرونا] (٤) (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) : وذلك أنّه يعطى كلّ مؤمن وكلّ منافق نورا على الصراط ، فيطفأ نور المنافقين ويبقى نور المؤمنين ، فيقول المنافقون للمؤمنين (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) ويحسبون أنّه قبس كقبس الدنيا إذا طفئت نار أحدهم اقتبس (٥). [(قِيلَ) : أي] فقال لهم

__________________

(١) انظر الإشارة إليه فيما مضى ، ج ١ ، تفسير الآية ٢٦١ من سورة البقرة.

(٢) انظر الإشارة إليه فيما مضى ، نفس الموضع.

(٣) هذه عبارة للشيخ هود الهّواريّ ، وكأنّها تعريف للمنافقين عنده.

(٤) زيادة من ز. وانظر معاني الفرّاء ج ٣ ص ١٣٣ كيف حقّق المؤلّف معنى القراءتين : (انْظُرُونا) بمعنى الانتظار ، و (انْظُرُونا) بمعنى التأخير ، ثمّ جمع بين القراءتين فقال : «وقد تقول العرب انظرني ، وهم يريدون انتظرني ، واستشهد ببيت عمرو بن كلثوم :

أبا هند فلا تعجل علينا

وانظرنا نخبرك اليقينا

وقال : «فمعنى هذه : انتظرنا قليلا نخبرك». وقد نقل الطبريّ في تفسيره ج ٢٧ ص ٢٢٤ عبارات الفرّاء هذه حرفيّا ونسبها إليه.

(٥) الاقتباس أن يطلب الإنسان من جاره القبس ، وهو الشعلة ، أو الجذوة ، من النار.

٢٦٧

المؤمنون ، وقد عرفوا أنّهم منافقون (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) : أي إلى الدنيا (١) ، (فَالْتَمِسُوا نُوراً) : أي فمن ثمّ يكسب الإيمان الذي هو نور. فرجعوا وراءهم فلم يجدوا شيئا. فهنالك أدركتهم خدعة الله. وخدعة الله إيّاهم قوله (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢].

ذكروا عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ... أعطى كلّ إنسان مؤمن ومنافق نورا ، وتغشى ظلمة (٢) معهم المنافقين على جسر جهنّم ، فيه كلاليب وحسك يأخذون من شاء الله. ثمّ يطفأ نور المنافقين وينجو نور المؤمنين. وينجو أوّل زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ، ثمّ الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء أضاء. ثمّ كذلك [حتّى] ينجو آخر زمرة. وبلغنا أنّ النور الذي يعطى المؤمنون على قدر أعمالهم فيجوزون الصراط على قدر أعمالهم كالبرق وكالريح وكجواد الخيل وكجواد البهائم. ويسعى الرجل سعيا ، ويمشي مشيا ، وتزلّ قدم وتستمسك أخرى ، ولا يجاوز نور أحدهم قدميه. وبعضهم يزحف زحفا ، وبعضهم يتلبّط على بطنه. وقال الكلبيّ في الذي يزحف زحفا : هم الذين (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا) [التحريم : ٨].

قوله عزوجل : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) : تفسير مجاهد : السور : الأعراف (٣). (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) : أي الجنّة (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) (١٣) : أي النار.

قال بعضهم : بلغنا أنّه جبل أحد. قال : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أحد جبل يحبّنا ونحبّه. وإنّه يمثل يوم القيامة بين الجنّة والنار ويحبس عليه أقوام يعرفون بسيماهم ، هم إن شاء الله من أهل الجنّة (٤). وتفسير الحسن : إنّ السّور فصل (٥) بين الجنّة والنار. وبلغنا أنّ أصحاب الأعراف يميل بهم الصراط مرّة إلى الجنّة ومرّة إلى النار ، ثمّ يصيرون إلى الجنّة ؛ وهم قوم استوت حسناتهم

__________________

(١) وقال الفرّاء : «أي ارجعوا إلى الموضع الذي أخذنا منه النور».

(٢) كذا وردت هذه العبارة بل هذا الحديث كلّه مضطربا غير كامل في ق وع. ولم أعثر عليه في كتب الحديث لتحقيقه وتصحيحه. وأقرب حديث في معناه ما أورده السيوطيّ في الدرّ المنثور ، ج ٤ ص ١٧٢ ، وأخرجه الطبرانيّ وابن مردويه عن ابن عبّاس.

(٣) في تفسير مجاهد ، ص ٦٥٧ : «والسور كالحجاب في الأعراف».

(٤) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٤٦ من سورة الأعراف.

(٥) كذا في ق وع ، ولعلها : «يفصل» ، أو «فاصل».

٢٦٨

وسيّئاتهم ، وقد فسّرنا أمرهم في سورة الأعراف (١).

قال : (يُنادُونَهُمْ) : أي ينادي المنافقون المؤمنين حين ضرب الله بينهم بسور : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) : أي في الدنيا ، أي على دينكم ، نشهد بشهادتكم ، ونتنسّك مناسككم (قالُوا) : أي قال لهم المؤمنون : (بَلى) : [أي فيما أظهرتم] (٢) (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) : أي بالمعاصي (وَتَرَبَّصْتُمْ) : أي بالتوبة.

(وَارْتَبْتُمْ) : أي وشككتم أن يعذّبكم الله بعد إقراركم وشهادتكم (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ) : التي منّيتم بها أنفسكم من قولكم : يهلك محمّد وأصحابه فلا نستفسد إلى إخواننا من المشركين. (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) : أي الموت وأنتم على حالكم هذه (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (١٤) : وهو الشيطان ، غرّكم بوسواسه إليكم أنّ الله لا يعذّبكم بعد إقراركم وتوحيدكم (٣).

قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) : يا أهل النفاق لأنّ المخاطبة إنّما كانت من الله لهم (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أيضا ، يعني أهل الإنكار والجحود (٤). قال تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ) : يعني المنافقين والكفّار والجاحدين ، كقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠) [النساء : ١٤٠] قال : (مَأْواكُمُ النَّارُ) أنتم المنافقون والكفّار. (هِيَ مَوْلاكُمْ) : أي كنتم تتولّونها في الدنيا فتعملون عمل أهلها الذين يدخلونها اليوم ، فهي مولاكم اليوم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٥).

__________________

(١) انظر ما مضى ، ج ٢ ، تفسير الآية ٤٦ من سورة الأعراف.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٢.

(٣) كذا ورد تأويل هذه الآية في ق وع ، وهو تأويل من الشيخ هود الهوّاريّ يؤكّد به رأي الإباضيّة في مسألة الكفر والإيمان. وهذا ما جاء في تفسير ابن سلّام من اختصار ابن أبي زمنين كما جاء في مخطوطة ز ، ورقة ٣٥٢ : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ ، أَنْفُسَكُمْ) أي أكفرتم أنفسكم ، (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي بالنبيّ ، وقلتم : يهلك ونرجع إلى ديننا (وَارْتَبْتُمْ) أي : وشككتم ، (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ) أي ما كنتم تتمنّون من قولكم : يهلك محمّد وأصحابه فنرجع إلى ديننا ، (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) قال بعضهم : يعني الموت (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الشيطان أخبركم بالوسوسة إليكم أنّكم لا ترجعون إلى الله».

(٤) كذا في ق وع ، وجاء في ز ما يلي : «يعني الذين جحدوا في الدنيا في العلانية. وأمّا المنافقون فجحدوا في السرّ وأظهروا الإيمان فآمنوا كلّهم في الآخرة فلم يقبل منهم».

٢٦٩

قوله : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) : (١) والخشوع : الخوف الثابت في القلب (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) : أي القرآن (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) : يعني اليهود والنصارى (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) : أي الدهر ، يعني بقاءهم في الدنيا (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) : فغلظت قلوبهم (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١٦) : أي من ثبت منهم على الشرك.

وتفسير الحسن قال : نزلت هذه الآية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) قال : نزلت والله وهم أهل الصلاة والصوم والأعمال الحسنة ، وهم أصحاب النبيّ عليه‌السلام فاستزادهم بذلك.

وبعضهم يقول : نزلت في المنافقين : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : الذين أقرّوا ولم يعملوا (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) أي : فيصدقوا في القول والعمل كما فعل المؤمنون الذين صدقوا الله في قولهم وعملهم (٢).

قوله : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) : أي فكذلك يقدر أن يحيي الموتى. وقال بعضهم : وكذلك يلين القلوب بالذكر بعد قساوتها. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧) : أي لكي تعقلوا عن الله بيانه لكم.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) : أي المتصدّقين والمتصدّقات (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) : هذا في التطوّع ، أي يقدّمون لأنفسهم (يُضاعَفُ لَهُمْ) : أي يضاعف لهم الثواب عليه (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١٨) : أي ثواب كريم ، أي : الجنّة.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) : أي صدّقوا بما جاء من عند الله ، وعملوا بما صدّقوا به (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : أي الذين يقاتلون في سبيل الله.

__________________

(١) قال ابن أبي زمنين : (أني الشيء يأنى إذا حان). وقال الفراء في المعاني ج ٣ ص ١٣٤ : وفي (يأن) لغات : من العرب من يقول : ألم يأن لك ، وألم يئن مثل : يعن ، ومنهم من يقول : ألم ينل لك باللام ، ومنهم من يقول : ألم ينل. وأحسنهن التي اتى بها القرآن.

(٢) كذا في ق وع ، وهو من تأويل الشيخ هود الهوّاريّ ، وفي ز ، ورقة ٣٥٣ : «نزلت في المنافقين ، أمرهم أن يخلصوا الإيمان كما أخلص المؤمنون».

٢٧٠

وتفسير الشهداء : يشهدون كرامة الله ، في تفسير الحسن. وقد ترجى الشهادة لأقوام لم يقتلوا في سبيل الله سيلحقهم الله بالشهداء.

ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال لأصحابه يوما : ما الشهيد عندكم؟ قالوا : القتيل في سبيل الله. فقال : إنّ شهداء أمتي إذا لقليل. ثمّ قال : القتيل في سبيل الله شهادة ، والبطن شهادة ، والطاعون شهادة ، والغرق والحرق شهادة ، والنفاس شهادة ، والسّلّ شهادة (١).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بين حياة الشهيد في الدنيا وحياته في الآخرة إلّا كمضغ تمرة (٢).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الشهيد لا يجد ألم القتل إلّا كما يجد القرصة (٣).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من سأل الشهادة صادقا من قبل نفسه فله أجر الشهيد وإن مات على فراشه (٤).

ذكروا عن الحسن أنّه قرأ هذه الآية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ). فقال : كلّ مؤمن شهيد وإن مات على فراشه. [وتفسير مجاهد في قوله : (وَالشُّهَداءُ) : يشهدون على أنفسهم بالإيمان] (٥).

قال تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ). قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١٩).

__________________

(١) رواه الربيع بين حبيب في مسنده من حديث أبي هريرة في كتاب الجهاد ، باب في عدّة الشهداء ، (رقم ٤٤٩ ، ورقم ٤٥١). وأخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الإمارة ، باب بيان الشهداء ، من حديث أبي هريرة ، وأوّله : «ما تعدّون الشهيد بينكم ...» (رقم ١٩١٥).

(٢) لم أجده فيما بين يدي من مراجع التفسير والحديث.

(٣) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ١٥٤ من سورة البقرة.

(٤) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى ، عن سهل بن حنيف ، (رقم ١٩٠٩) ، وأخرجه الترمذيّ في فضائل الجهاد ، باب ما جاء فيمن سأل الشهادة ، من حديث معاذ بن حبل.

(٥) زيادة من ز ورقة ٣٥٣ ، ومثلها في تفسير مجاهد ص ٦٥٨.

٢٧١

قوله : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) : أي إنّما أهل الدنيا أهل لعب ولهو ، [يعني المشركين] (١) (وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ) : أي مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) (٢) : يعني ما أنبتت الأرض من ذلك المطر (ثُمَّ يَهِيجُ) ذلك النبات (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) : أي يصفارّ (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) : [أي متكسّرا ذاهبا] (٣) كقوله : (هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) [الكهف : ٤٥].

(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) : أي للكافرين (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) : أي للمؤمنين. (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٢٠) : أي يغترّ بها أهلها.

ذكروا عن أبي عبد الله قال : سمعت أبا الدرداء يقول : الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلّا ذكر الله ، وما أوى إليه ذكر الله.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر (٤).

قوله : (سابِقُوا) : أي بالأعمال الصالحات (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : يعني جميع السماوات وجميع الأرضين مبسوطات كلّ واحدة إلى جانب صاحبتها. هذا عرضها ، ولا يصف أحد طولها. وقال في آية أخرى : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣] أي : الأرضين السبع.

قال تعالى : (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ). ذكروا عن الحسن قال : أرض الجنّة رخام من فضّة ، وترابها مسك أذفر أشدّ بياضا من جواريكم هذه ، وحيطانها لبنة من ذهب ولبنة من فضّة ، وبلاطها المسك الأذفر ، وجذوع نخلها ذهب ، وسعفها حلل ، ورطبها مثل قلال هجر ، أشدّ بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزبد ، وإنّ أدنى أهل الجنّة منزلا آخرهم

__________________

(١) زيادة من ز.

(٢) جاء في ز ورقة ٣٥٣ ما يلي : قال محمّد : لم يفسّر يحيى معنى الكفّار ، ورأيت في كتاب غيره أنّهم الزرّاع. يقال للزارع كافر لأنّه إذا ألقى البذر في الأرض كفره ، أي : غطّاه. وقيل : قد يحتمل أن يكون أراد الكفّار بالله ، وهم أشدّ إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين ، والله أعلم بما أراد».

(٣) زيادة من ز ورقة ٣٥٣.

(٤) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٣٢ من سورة الأنعام.

٢٧٢

دخولا ، فيعطى فيقال له : انظر ما أعطاك الله ، فيفسح له في بصره فينظر إلى مسيرة خمسمائة سنة كلّه له ، ليس فيه شبر إلّا وهو عامر : قصور الذهب والفضّة وخيام الياقوت ، فيه أزواجه وخدمه ، يغدى عليه كلّ يوم بسبعين ألف صحفة من ذهب ، ويراح عليه بمثلها ، في كلّ واحدة منها لون ليس في صاحبتها ، يأكل من آخرها كما يأكل من أوّلها. لو نزل به الجنّ في غداء واحد لوسعهم ، ولا ينقص ذلك ممّا عنده شيئا.

بلغنا أنّ رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله عزوجل : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) قال : هي مائة درجة ، كلّ درجة منها عرضها السماوات والأرض (١).

قال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢١).

قوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) : يعني الجدوبة ونقص الثمار (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) : يعني الأمراض والبلايا في الأجساد (إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) : أي من قبل أن نخلقها. تفسير الحسن : من قبل أن يخلق الله تلك النفوس. وبعضهم يقول : من قبل أن يخلق الله السماوات والأرض. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢٢) : أي هيّن.

تفسير الحسن : إنّ الله كتب عنده كتابا : إنّ ذنب كذا وكذا عقوبته كذا وكذا ، فيعفو عن أكثر ذلك ، ويعاقب من ذلك ما يشاء ؛ وهو قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ). [الشورى : ٣٠].

قال تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) : أي لكي لا تحزنوا (عَلى ما فاتَكُمْ) : أي من الدنيا ، أي فيما أصابكم في الأرض وفي أنفسكم. أي : فيعلمون أنّ ذلك بذنب ، فيعتبرون ويتوبون. (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) : أي من الدنيا.

ذكروا عن الحسن عن عبد الله بن عمر أنّه قال : ما أبالي على أيّ حال رجعت إلى أهلي ؛ لئن كانوا على عسر إنّي أنتظر اليسر ، وإن كانوا على يسر إنّي لأنتظر العسر.

وبلغنا أنّ حذيفة قال : إنّ أقرّ أيّامي لعيني يوم أرجع إلى أهلي وهم يشكون إليّ الحاجة.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ من حديث أبي هريرة. وانظر ما سلف ج ١ ، تفسير الآية ١٣٤ من سورة آل عمران ، ورواه الترمذيّ عن أبي هريرة بلفظ : «في الجنّة مائة درجة ما بين كلّ درجتين مائة عام».

٢٧٣

ذكروا أنّ ... (١) امرأة مسروق ، قالت : ما قلت لمسروق قطّ : ما أصبح لعيالك اليوم رزق إلّا تبسّم ضاحكا ، وقال : أما والله ليأتينّهم الله برزق. وبلغنا أنّ عمر بن الخطّاب قال : والله ما أبالي أيّ حال سبق إليّ : يسر أم عسر ، لأنّ أحد هما يتلو صاحبه ، ثمّ تلا هذه الآية : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) [الشرح : ٥ ـ ٦]. قال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (٢٣).

قوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) : يعني اليهود يأمرون إخوانهم بالبخل ، أي : بكتمان ما في أيديهم من نعت محمّد عليه‌السلام ، وبالإسلام وبالزكاة. قال : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ) : أي عن خلقه (الْحَمِيدُ) (٢٤) : أي المستحمد إلى خلقه ، أي : أوجب عليهم أن يحمدوه.

قوله عزوجل : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) : أي وجعلنا معهم الميزان ، وهو العدل. كقوله : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٧) [الرحمن : ٧] أي : وضع الميزان في الأرض (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) : أي بالعدل. (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) : أي وجعلنا الحديد ، أخرجه الله من الأرض (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) : يعني السلاح من السيوف والدروع وغيرها. وقال في الدروع ، (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) [الأنبياء : ٨٠] والبأس : القتال ، وجعل فيه أيضا جنّة من القتل والدروع وما حرمته (٢). (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) : يعني ما ينتفعون به من الحديد في معايشهم.

قال : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) : أي بالإيمان بالغيب. والغيب : البعث والحساب والجنّة والنار. فإنّما ينصر الله ورسله من يؤمن بهذا ، وهذا علم الفعال. قال : وليعلمنّكم الله ناصرين دينه ورسله أو تاركين نصرتهما.

قال : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ) : أي في سلطانه (عَزِيزٌ) (٢٥) : أي في نقمته.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فكان أوّل كتاب نزل فيه الحلال والحرام كتاب موسى. قال : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) :

__________________

(١) وردت الكلمة في ق هكذا : «كمن» ، وفي ع هكذا : «كمسر» ، ولم أهتد لتحقيقها ، ولم أجد اسم امرأة مسروق بن الأجدع فيما بين يديّ من كتب التراجم. وقد توفّي مسروق سنة ثلاث وستّين للهجرة.

(٢) كذا وردت هذه الجملة في ق وع ، ولم أوفّق إلى تصحيح ما فيها من التصحيف أو الخطأ في بعض كلماتها.

٢٧٤

أي من ذرّيّتهما (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) : أي من ذرّيّتهما (فاسِقُونَ) (٢٦) : أي مشركون ومنافقون.

قال تعالى : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) : أي جعلنا الرسل تبعا يقفو بعضها بعضا ، أي : بعضها على أثر بعض كالذي يقفو صاحبه (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) : من بعدهم (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) : أي يرأف بعضهم ببعض ، ويرحم بعضهم بعضا ، كقوله عزوجل : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩]. ثمّ استأنف الكلام فقال : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) : أي ما فرضناها عليهم ، أي : إنّما ابتدعوها (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ) : ليتقرّبوا بها إلى الله. قال الحسن : ففرضها الله عليهم حين ابتدعوها. قال : (اللهِ فَما رَعَوْها) : يعني الرهبانيّة (حَقَّ رِعايَتِها) : ولا ما فرضنا عليهم ، أي : ما أدّوا ذلك إلى الله. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ). قال : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٧) : أي مشركون ومنافقون. وهو فسق دون فسق ، وفسق فوق فسق.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لكلّ أمّة رهبانيّة ورهبانيّة أمّتي الجهاد (١).

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) : أي أجرين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) : أي ويجعل لكم إيمانا [تهتدون به] (٢) كقوله عزوجل : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢](وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٨) : أي لمن تاب.

قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) : أي ليعلم أهل الكتاب. وهذه كلمة عربيّة (لئلا يعلم) و (ليعلم) بمعنى واحد. وهو كقول الرجل : أجل ، وأجل لا ، ويقول الله : (فَلا أُقْسِمُ) وأقسم ، وهذا قسم ، وهو واحد. (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) : أي إنّهم لا يقدرون على شيء. (مِنْ فَضْلِ اللهِ).

قال تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) : ذكروا عن نافع عن [ابن عمر

__________________

(١) أخرجه أحمد من حديث إياس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرجه الحكيم الترمذيّ في نوادر الأصول ، وأبو يعلى والبيهقيّ في الشعب ، عن أنس ، كما في الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٧٨.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٤.

٢٧٥

عن] (١) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّما مثلكم ومثل اليهود والنصارى قبلكم كرجل استأجر عمّالا فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، فعملت اليهود إلى نصف النهار. ثمّ قال : من يعمل من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط ، فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط. ثمّ قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين قيراطين. ألا وأنتم أصحاب القيراطين ، ألا فلكم الأجر مرّتين. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا : نحن أكثر عملا وأقلّ أجرا. قال : فهل ظلمتكم من حقّكم شيئا. قالوا : لا. قال : فهو فضلي أوتيه من أشاء (٢).

قالت العلماء : فالنهار في هذا اثنتا عشرة ساعة. وكانت لليهود ستّ ساعات إلى نصف النهار. ثمّ كانت للنصارى من بعدها أربع ساعات من نصف النهار إلى صلاة العصر. ولأمّة محمّد عليه‌السلام ساعتان من صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس.

ذكروا عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّما آجالكم في آجال من مضى قبلكم كما بين صلاة العسر إلى أن تغيب الشمس (٣).

ذكروا عن الحسن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما من آخر النهار حين صارت الشمس على سعف النخيل وعلى شرف المسجد : إنّما بقي من زمانكم هذا فيما مضى منه كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه. ذكروا عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال : وقفت مع النبيّ عليه‌السلام عشيّة عرفة حتّى إذا تدلّت الشمس إلى الغروب واصفرّت وعادت كالورس قال : إنّما بقي من الدنيا فيما مضى كما بقي من شمس يومنا هذا.

قال : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩) : فلا أعظم منه ولا أجلّ سبحانه.

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها.

(٢) حديث صحيح ، أخرجه البخاريّ في أبواب كثيرة من صحيحه ، منها في كتاب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل ، وفي كتاب الإجارة ، باب الإجارة إلى نصف النهار. وأخرجه الترمذيّ في سننه ، في أبواب الأمثال. باب ما جاء في مثل ابن آدم وأجله وأمله ، كلاهما يرويه من حديث ابن عمر. وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) هذا أوّل حديث ابن عمر السابق.

٢٧٦

تفسير سورة المجادلة ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها). كان طلاق أهل الجاهليّة ظهارا ؛ يقول الرجل : أنت عليّ كظهر أمّي.

وكانت خويلة (١) بنت ثعلبة تحت أوس بن الصامت فظاهر منها. فأتت النبيّ عليه‌السلام فقالت : يا رسول الله ، إنّه حين كبرت سنّي ظاهر منّي زوجي ، فلم يجر عليها (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، فأنزل الله آية الظهار.

وفي تفسير الكلبيّ : إنّ من قولها لرسول الله عليه‌السلام : فهل من شيء يجمعني وإيّاه يا رسول الله؟ فقال لها : ما أمرت فيك بشيء ، ارجعي إلى بيتك فإن يأتني شيء أعلمتك به (٣). فلمّا خرجت من عنده رفعت يديها إلى السماء تدعو الله فأنزل الله : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها).

قال : (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) : أي كذبا حيث يقول : أنت عليّ كظهر أمّي ، يحرّم ما أحلّ الله. قال : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٢).

قوله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) : أي يعودون إلى ما حرّموا ، أي : يريدون الوطء (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ

__________________

(١) كذا ورد اسم هذه الصحابيّة في ق وع وز : «خويلة» بالتصغير. وكذلك ذكرها الطبريّ في تفسيره مرّات ، وأثبتها القرطبيّ كذلك. وأغلب كتب التفسير تذكرها باسم خولة ، وذكرها الفرّاء في المعاني ص ١٢٨ باسم خولة. وقال ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، ج ٤ ص ١٨٣٠ : «خولة بنت ثعلبة ، ويقال : خويلة ، وخولة أكثر». وانظر الواحدي ، أسباب النزول ، ص ٤٣٣ ـ ٤٣٥.

(٢) كذا في ع : «فلم يجر عليها» وهو الصحيح ، وفي ق : «فلم يجز اليها».

(٣) أخرجه الطبريّ بأسانيد في تفسيره ، ج ٢٨ ص ٣ عن ابن عبّاس. والقصّة مشهورة في كتب التفسير ، انظر مثلا : تفسير القرطبيّ ، ج ١٧ ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢.

٢٧٧

وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً).

ذكروا عن الحسن قال : الظهار من كلّ ذات محرم. ويقول : إذا جعل امرأته عليه كظهر فلانة ، لمحرم منه ، أو سمّى أمّه ، فهو ظهار.

قوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) قال بعضهم : يجزي الصبيّ في كفّارة الظهار وكلّ نسمة ، صغيرة أو كبيرة ، فهي تجزي في عتق الظهار. ويجزي أيضا عتق يهوديّ أو نصرانيّ. ولا تجزى أمّ الولد ولا المدبّر (١). وكان إبراهيم يقول في الذي لا يجد رقبة فيصوم شهرين متتابعين ، إن مرض قبل الفراغ من الشهرين وأفطر فإنّه يستأنف الصوم شهرين متتابعين. وإنّ أيسر العتق قبل أن يفرغ من الشهرين أعتق.

وقال أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة : إذا صام فمرض قبل أن يفرغ من الشهرين ، فإذا صحّ فليبن على ما صام قبل أن يمرض ، فذلك يجزيه ؛ وليس بأشدّ من رمضان. وبهذا نأخذ ، وعليه نعتمد وهو قول العامّة من فقهائنا (٢).

قوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً). ذكروا عن عطاء قال : سمعت أبا هريرة يقول : ثلاثة أشياء منهنّ مدّ مدّ : كفّارة الظهار ، وكفّارة اليمين ، وفدية الصيام.

ذكروا عن أبي زيد المدنيّ أنّ رجلا ظاهر من امرأته فلم يكن عنده ما يعتق ولم يستطع الصيام فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تصدّق بثلاثين صاعا من شعير على ستّين مسكينا ، ولكلّ مسكين مدّان حتّى يكون مكان كلّ مدّ مدّان (٣).

__________________

(١) في ق وع : «وتجزي». والصواب ما أثبتّه : «لا تجزي». والتصحيح من مخطوطة ابن سلام : القطعة ١٨٠ ، جاء فيها : «ولا تجزي أمّ الولد ، ولا المدبّرة ولا المكاتبة ، كلّ شيء لا يباع».

(٢) هذا قول الشيخ هود الهوّاريّ ، وهو واضح. فأبو عبيدة من الذين أرسوا أصول المذهب الإباضيّ.

(٣) الجملة الأخيرة من هذا الحديث غير واضحة المعنى. والصاع ـ كما نعلم ـ أربعة امداد. وتذكر أغلب الروايات أنّ الرسول عليه‌السلام أعان أوس بن الصامت بخمسة عشر صاعا لّما عجز عن الصوم والإطعام فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تستطيع أن تطعم ستّين مسكينا ، فقال له أوس : لا والله يا رسول ـ

٢٧٨

ذكروا أنّ أوس بن الصامت ظاهر من امرأته ، فلم يقدر على رقبة ، فلم يستطع الصوم فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة عشر صاعا من تمر فقال له : تصدّق به على ستّين مسكينا ، ولكلّ مسكين مدّ.

قال الحسن : إذا ظاهر الرجل من امرأته ، فإن كان لم يمسّها قطّ فلا ظهار عليه ، وإن كان قد مسّها مرّة واحدة فعليه الكفّارة.

قال إبراهيم : ليس في الأمة ظهار.

ذكروا عن نصر بن طريف عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عبّاس قال : من شاء باهلته عند الحجرات أنّ الله لم يجعل في الأمة ظهارا. والكوفيّون يقولون : لا ظهار عليه من أمته إلّا أن تكون زوجته أمة فيجب عليه منها الظهار ؛ لأنّها زوجة. وقال أبو عبيدة : الظهار عليه من أمته زوجة كانت أو غير زوجة (١).

ذكر الحسن عن عمر بن الخطّاب في رجل ظاهر من أربع نسوة بكلام واحد ، قال : عليه أربع كفّارات. وقال بعضهم : إذا أجمل فكفّارة واحدة ، وإذا فرّق فأربع كفّارات ، وهو قول أبي عبيدة والعامّة من فقهائنا.

ذكروا عن عليّ قال : إذا ظاهر الرجل من امرأته مرارا في مقعد واحد في شيء واحد ، فكفّارة واحدة ، وإذا ظاهر في مقاعد شتّى في شيء واحد ، فعليه كفّارات شتّى.

قوله عزوجل : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) : أي : أحكام الله التي حدّ في الظهار من العتق والصيام والإطعام.

__________________

ـ الله إلّا أن تعينني منك بعون وصلة. وتذكر الروايات أيضا أنّ أوسا أخرج من عنده خمسة عشر صاعا مثلها حتّى يستطيع أن يطعم ستّين مسكينا ، مدّين لكلّ منهما.

(١) هذا القول الذي رواه الشيخ هود منسوبا إلى أبي عبيدة في وقوع الظهار على الزوج في أمته مخالف لقول ابن عبّاس. وهي مسألة خلافيّة عند الإباضيّة وغيرهم ؛ فقد روي عن بعضهم أنّه لا ظهار في سريّة الرجل لقوله تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) فأفهم التخصيص بالإضافة هنا أن المعنيّات بالظهار إنّما هنّ الحرائر دون الإماء. انظر السالمي ، جوهر النظام ، ج ١ ص ٢٢٩ ، وانظر الفخر الرازي ، التفسير الكبير ، ج ٢٩ ص ٢٥٣. وقول مالك : إنّه يلزم الظهار في كلّ أمة يجوز له وطؤها.

٢٧٩

قال تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤) : أي موجع.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي يعادون الله ورسوله (كُبِتُوا) : أي أخزوا (كَما كُبِتَ) : أي أخزي (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) : أي القرآن (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥) : وقد فسّرنا مهينا.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) : أي أحصى عليهم ما عملوا في الدنيا ونسوه.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٦) : أي شاهد على أعمالهم.

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) : أي يتناجون ، أي : يتسارّون (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) : أي حاضرهم ولأعمالهم (١).

(وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) في سرّهم وعلانيتهم. قال (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) : وهم اليهود ، نهوا أن يتناجوا بمعصية الله ومعصية الرسول وعن الطعن في دين الله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) : [الإثم : المعصية ، والعدوان : الظلم] (٢) (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ).

قال تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) : كانوا يسلّمون على النبيّ عليه‌السلام وأصحابه فيقولون : السام عليكم. والسام : الموت ، في قول بعضهم ، وتأويله في قول بعضهم : إنّكم ستسأمون ، أي : تملّون هذا فتدعوه. فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يردّ عليهم على حدّ السّلام. فأتاه جبريل فقال : إنّهم ليسوا يقولون ذلك على وجه التحيّة ، فقال النبيّعليه‌السلام

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز ، ورقة ٣٥٤ في قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) : «ما يكون من خلوة ثلاثة يسرّون شيئا ويتناجون به إلّا هو رابعهم أي : عالم به».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٥.

٢٨٠