تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

١
٢

الجزء الثّاني

ويبدأ بتفسير سورة الأعراف

٣
٤

تفسير سورة الأعراف

وهي مكّيّة كلّها إلّا آية واحدة (١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله : (المص) (١) : كان الحسن يقول : لا أدري ما تفسير (ألمص) و (ألم) و (ألر) غير أنّ قوما من السلف كانوا يقولون : أسماء السور ومفاتيحها. وقد فسّرنا ما بلغنا في هذا في غير هذا الموضع (٢).

قوله : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : أي القرآن ، (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) : أي : شكّ منه بأنّه من عند الله ، في تفسير الحسن ومجاهد وغيرهما. (لِتُنْذِرَ بِهِ) : أي من النار (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) : يذكرون به الآخرة.

قوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي القرآن (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) : يعني الأوثان. (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣) : أى أقلّكم المتذكّر ، كقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٣) [يوسف : ١٠٣].

قوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) : يعني ما أهلك من الأمم السالفة حين كذّبوا رسلهم. (فَجاءَها بَأْسُنا) : أي عذابنا (بَياتاً) : أي ليلا (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤) : أي عند القائلة بالنهار. وهو كقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) [يونس : ٥٠].

قال : (فَما كانَ دَعْواهُمْ) : أي [قولهم] (٣) (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) : أي عذابنا (إِلَّا

__________________

(١) جاء في نسخة ج ، مخطوطة الشيخ سالم بن يعقوب في أوّل ورقة منها ما يلي : «بسم الله الرّحمن الرّحيم صلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وسلّم. الربع الثاني من تفسير كتاب الله العزيز لهود بن محكم الهوّاريّ رحمه‌الله ، تفسير سورة الأعراف ، وهي مكّيّة كلّها إلّا آية واحدة».

(٢) انظر ذلك فيما مضى ، ج ١ ، تفسير الآية الأولى من سورة البقرة.

(٣) زيادة من ز ، ورقة : ١٠٤.

٥

أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٥) : قال بعضهم : لم يكن لهم هجّيرى (١) حين جاءهم العذاب (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٥). كقوله في سورة الأنبياء : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) ، أي مشركة ، يعني أهلها ، إلى قوله : (... يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) [سورة الأنبياء : ١١ ـ ١٥] أي لم يكن لهم هجّيرى إلّا أن (قالوا يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين). قال : الهجّيرى : الذي يلزمه الرجل يردّده.

ذكروا عن الحسن أنّه كانت هجيراه : سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده. وكانت هجّيرى بعضهم : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣) [الشورى : ٥٣]. يعني بهجّيراهم أنّه لم يكن لهم قول حين جاءهم العذاب (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٥).

قال الحسن : (فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي ما دعوا به حين جاءهم العذاب إلّا أن (قالوا يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين). فاقرّوا بالظلم على أنفسهم ، ونادوا بالتوبة حين لم تنفعهم التوبة. قال : فهي مثل قوله : (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣) [سورة ص : ٣] أي ليس حين نزو (٢) ولا فرار. وكقوله : (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) [سورة سبأ : ٥٢ ـ ٥٣] ، (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) : أي وأنّى لهم الرّدّ إلى الدنيا ، أي فيؤمنوا ، فهذا تفسير ابن عبّاس. وقال الحسن : التناوش : الإيمان ، أي : وكيف لهم بالإيمان وقد جاءهم العذاب.

قوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٦) : كقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩] أي ماذا أجابكم قومكم. (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) : أي أعمالهم (بِعِلْمٍ) : بها (وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧) : أي عن أعمالهم.

__________________

(١) كذا في ج وفي وع : «هجّيرى» ، وهو الصواب ، وفي د : «لم يكن لهم مخبر» ، وهو تصحيف. وفي اللسان : هجّيراه وإهجيراه ، أي دأبه وديدنه وشأنه وعادته. انظر : اللسان (هجر).

(٢) وردت هذه الكلمة في ق وع هكذا : «برد» ، وفي ج ود : «فروا» ، وهي في كلّها مصحّفة صوابها ما أثبتّه : «نزو» ، وهو ضرب من العدو. وهكذا وردت الكلمة في تفسير ابن كثير ، ج ٦ ص ٤٥. وفي تفسير القرطبي ، ج ١٥ ص ١٤٥. ونسب القول فيهما إلى ابن عبّاس.

٦

قوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) (١) (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨) : أي السعداء ، وهم أهل الجنّة. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ، فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : فصاروا إلى النار. (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩) : أي يظلمون أنفسهم. وهو ظلم فوق ظلم وظلم دون ظلم.

وبلغنا أنّ المؤمن توزن حسناته وسيّئاته ، فمنهم من تفضل حسناته على سيّئاته ، وإن لم تفضل إلّا حسنة واحدة يضاعفها الله له فيدخله الجنّة : وهو قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٤٠) [النساء : ٤٠] ، ومنهم من تستوي حسناته وسيّئاته ، وهم أصحاب الأعراف ، ومنهم من تفضل سيّئاته على حسناته. قال الله : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ، فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٠٥) [المؤمنون : ١٠٣ ـ ١٠٥].

وقوله : (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩) أي : أنفسهم ، وهو ظلم فوق ظلم ، وظلم دون ظلم ؛ فالآية محتملة لظلم الشرك وظلم النفاق (٢).

قوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) : قال الحسن : يعني المشركين بعد الماضين ، فجعلناكم خلائف بعدهم. (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠) : أي :

__________________

(١) لم تذكر المخطوطات الأربع تفسيرا لقوله تعالى : (والوزن يومئذ الحقّ). وجاء في ز ، ورقة : ١٠٤ بعد قوله : (والوزن يومئذ الحقّ) ما يلي : «يحيى عن حمّاد عن ثابت البناني عن أبي عثمان النهديّ عن سلمان الفارسيّ قال : يوضع الميزان يوم القيامة ، ولو وضع في كفّته السماوات والأرض لوسعتهما ، فتقول الملائكة : ربّنا ما هذا؟ فيقول : أزن به لمن شئت من خلقي ، فتقول الملائكة : ربّنا ما عبدناك حقّ عبادتك» وفي تفسير مجاهد ، ص ٢٣١ : «عن عبيد بن عمير الليثي في قوله تعالى : (والوزن يومئذ الحقّ) قال : يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة». ومثله نصّ حديث أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير من آخر سورة الكهف عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة».

(٢) هذه الجملة من زيادات الشيخ هود الهوّاريّ ولا شكّ.

٧

أقلّكم الشاكرون ، يعنى أقلّكم المؤمنون ، أي أقلّكم من يؤمن.

قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) : أي الخلق الأوّل : آدم من طين ، ونسله بعده من نطفة (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) : أي : بعد خلق آدم ، قبل خلقكم من النطف (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١).

قال بعضهم : [(خَلَقْناكُمْ)] خلق الله آدم من طين (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) في بطون أمّهاتكم. وقال مجاهد : (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) في ظهر آدم.

وقال الكلبيّ : (خَلَقْناكُمْ) من نطفة ، ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظما ثمّ لحما ، (ثمّ صوّرناكم) أي العينين والأنف والأذنين واليدين والرجلين صورا نحوا من هذا. ثمّ جعل حسنا وقبيحا ، وجسيما وقصيرا وأشباه ذلك. ثمّ رجع إلى قصّة آدم عليه‌السلام فقال : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١). قال بعضهم : كانت الطاعة لله والسجود لآدم.

قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١) ، وقال في آية أخرى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠]. ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود. وقال بعضهم : كان من الجنّ وهم جنس من الملائكة يقال لهم الجنّ. وقال بعضهم : جنّ عن طاعة ربّه.

وقال الحسن : إنّ إبليس ليس من الملائكة وإنّه من نار السموم ، وإنّ الملائكة خلقوا من نور الله ، وإنّ الله أمر الملائكة بالسجود لآدم وأمر إبليس أيضا بالسجود له ، فجمع المأمورين جميعا.

قوله : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ (١) إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ

__________________

(١) جاء في ز ، ورقة ١٠٤ ما يلي : «قال محمّد : (ألّا تسجد) معناه : أن تسجد ، ولا مؤكّدة». وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٢١١ : «مجازه : ما منعك أن تسجد ، والعرب تضع «لا» في موضع الإيجاب ، وهي من حروف الزوائد ...».

٨

وَخَلَقْتَهُ ، مِنْ طِينٍ (١٣) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) : يعني في السماء (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي) : أي أخّرني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (١٥) : وقال في آية أخرى : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٨١) [سورة ص : ٨١] أي إلى النفخة الأولى. وأمّا قوله هاهنا : (إنّك من المنظرين) ففيها إضمار : إلى يوم الوقت المعلوم. (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) : أي : فبما أضللتني. وقال الحسن : فبما لعنتني (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦) : أي : فأصدّهم عنه.

ذكروا عن الحسن قال : ليس من هذا الخلق شيء إلّا وقد توجه حيث وجه. ولو لا أنّ ابن آدم قعد له على الطريق ، أي الشيطان ، فيخبل له (١) حتّى عدله ، مضى كما مضى سائر الخلق. يعني أنّ بني آدم ابتلوا بما لم يبتل به غيرهم من الخلق.

قوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) : من حيث لا يشعرون (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧) : أي مؤمنين.

أمّا قوله : (من بين أيديهم) فمن قبل الآخرة فأخبرهم أنّه لا بعث بعد الموت ، ولا جنّة ولا نار. وأمّا قوله : (ومن خلفهم) فمن أمر دنياهم [فأزيّنها في أعينهم وأخبرهم] (٢) أنّه لا حساب عليهم في الآخرة فيما صنعوا في الدنيا ، لأنّهم إذا كانوا في الآخرة كانت الدنيا خلفهم. كقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) [البقرة : ٢٥٥] من أمر الدنيا إذا كانت الآخرة. وقوله : (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) فأثبّطهم عن الخير ، كقوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) (٢٨) [الصافّات : ٢٨] أي من قبل الخير فتثبّطوننا عنه. وأمّا (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) فيعني من قبل المعاصي. يأمرهم بمعصية الله. (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧) أي مؤمنين. وكان ذلك ظنّا منه ، فكان الأمر على ما ظنّ. كقوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ

__________________

(١) في ج ود : «فيحمل له» ، وفي ق وع : «فيخبل له» ولست مطمئنّا للعبارتين معا ، وأثبتّ الأخيرة إذا كانت تعني أنّ الشيطان يصيب ابن آدم بخبال ، أي بمسّ ، يقال : خبله وخبّله واختبله ، إذا أفسد عقله. وانظر : اللسان (خبل).

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٠٤.

٩

ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٠) [سبأ : ٢٠] أي إلّا الفريق الذين آمنوا.

قوله : (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) : قال الحسن : مذموما. وقال مجاهد : منفيّا. قوله : (مَدْحُوراً) : قال مجاهد : مطرودا منفيّا. وقال بعضهم : مباعدا. وقال بعضهم : مقصيّا. وقال بعضهم : (اخرج منها مذءوما مّدحورا) أي : مقيتا منفيّا. وتفسير مجاهد فيها على التقديم : اخرج منها مطرودا منفيّا. قال : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨).

قوله : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٩) : أي لأنفسكما بخطيئتكما.

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : الشجرة التي نهى عنها آدم وحوّاء هي السنبلة التي فيها رزق ابن آدم. وقال بعضهم : هي التين.

قوله : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) : وكانا كسيا الظفر ، فلمّا أكلا الشجرة بدت لهما سوءاتهما.

ذكروا عن الحسن عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان آدم طوالا كأنّه نخلة سحوق ، كثير شعر الرأس ، فلمّا وقع فيما وقع فيه بدت له عورته ، وكان لا يراها قبل ذلك ، فانطلق هاربا في الجنّة ، فأخذت شجرة من شجر الجنّة برأسه ، فقال لها : أرسليني. فقالت : لست بمرسلتك. فناداه ربّه : أمنّي تفرّ؟ قال : يا ربّ إنّي استحييتك (١).

قوله : (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) : أي من الملائكة (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢٠) : أي من الذين لا يموتون. أي إنّكما إذا أكلتما من الشجرة كنتما ملكين من ملائكة الله.

__________________

(١) أخرجه يحيى بن سلّام عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن أبيّ بن كعب مرفوعا. وأخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٢ ص ٣٥٢ ، ٣٥٤ موقوفا ومرفوعا. وأخرجه ابن كثير كذلك وقال : الموقوف أصحّ إسنادا.

١٠

(وَقاسَمَهُما) : بالله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١). قال [بعضهم] (١) : حلف لهما بالله وقال لهما : خلقت قبلكما ، وأنا أعلم منكما ، فاتّبعاني أرشدكما. قال : إنّما يخدع (٢) المؤمن بالله. قال الله : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) : وقد فسّرناه قبل هذا الموضع.

قوله : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) : ذكروا أنّ مجاهدا قال : يرقّعان كهيئة الثوب. (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢) : أي بيّن العداوة.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) : آدم معه حوّاء وإبليس والحيّة التي دخل فيها إبليس فكلّمهما فيها ، فهي لا تقدر على ابن آدم في موضع إلّا لدغته ، ولا يقدر عليها في موضع إلّا شدخها.

ذكر بعضهم قال : من قتل حيّة أو عقربا فقد قتل كافرا. وذكر بعضهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الحيّات : ما سالمنا هنّ منذ حاربناهنّ (٣).

ذكر عن عبد الله بن عمر قال : الحيّات ممّا مسخ من ذرّيّة إبليس ، وما سالمناهنّ منذ حاربنا هنّ ، فمن تركهنّ تقيّة منهنّ قال في ذلك قولا عظيما.

ذكروا عن عائشة أنّها قالت : من ترك حيّة خشية ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق ، والقول لقتادة.

(٢) في المخطوطات الأربع : «يروع» وهو خطأ صوابه ما أثبتّه : «يخدع». والتصحيح من تفسير الطبري ، ج ١٢ ص ٣٥١.

(٣) أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده ، ج ٣ ص ٢ ، (رقم ٧٤٤) عن جابر بن زيد مرسلا ، ولفظه : «اقتلوا الحيّات صغارها وكبارها ، فإنّا ما سالمنا هنّ منذ حاربنا هنّ ، فمن تركهنّ خشية الثّأر فقد كفر» ، وأخرجه الحميديّ مرفوعا عن أبي هريرة ، وفي آخره : «من ترك منهنّ شيئا خيفة فليس منّي».

١١

ذكر بعضهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من رأى في بيته من هذه الحيّات شيئا فليحرّج عليه ثلاثا ، فإن ظهر بعد ذلك فليقتله فإنّه كافر (١).

قوله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) : أي تكونون فيها (وَمَتاعٌ) : يعني متاع الدنيا تستمتعون به (إِلى حِينٍ) (٢٤) : أي إلى الموت.

(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ) : أي في الأرض تولدون (وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٢٥) : أي يوم القيامة.

قوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) : يعني الثياب (وَرِيشاً) : يعني المال والمتاع في تفسير الحسن. وقال مجاهد : المال (٢). قال : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) : (ذلك خير) كلام مستقلّ ، ومن قرأها بالنصب يقول : أنزلنا عليكم لباس التقوى ، أي العفاف. إنّ العفيف لا تبدو له فيه عورة وإن كان عاريا ، وإن الفاجر بادي العورة وإن كان كاسيا. قال : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦).

قوله : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) : أي : لا يضلّنّكم الشيطان. (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) : إنّه لمّا أمرهما بالأكل من الشجرة فأكلا بدت لهما سوءاتهما.

قال : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب السّلام ، باب قتل الحيّات وغيرها ، (رقم ٢٢٣٦) ، وفيه قصّة رواها أبو السايب عن أبي سعيد الخدريّ. وأخرجه الترمذيّ في أبواب الصيد ، باب في قتل الحيّات ، ولفظه في مسلم : «إنّ لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرّجوا عليها ثلاثا. فإن ذهب وإلّا فاقتلوه فإنّه كافر». والتحريج كما في شرح الترمذيّ أن يقال لها : «أنت في حرج أي ضيق إن عدت إلينا فلا تلومينا أن نضيّق عليك بالتتبّع والطرد والقتل. كذا في النهاية وفي شرح مسلم للنوويّ».

(٢) قال أبو عبيدة في معاني القرآن ، ج ١ ص ٢١٢ : «[الرياش والريش واحد] ، وهو ما ظهر من اللباس والشارة ... والرياش أيضا الخصب والمعاش».

١٢

لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧) : ذكروا أنّ مجاهدا قال : قبيله الجنّ والشياطين. وقال بعضهم : إنّ عدوّا يراك من حيث لا تراه لشديد المؤونة إلّا من عصمه الله. وقال الحسن : (قبيله) : الجنّ ، وهم ولده. وقال الكلبيّ : (قبيله) : جنوده.

قوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) أي من الكفر والشرك (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨) : وهذا على الاستفهام ، يقول : نعم ، قد قلتم على الله ما لا تعلمون.

قوله : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) : أي بالعدل (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) كقوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨) [الجن : ١٨] أي : إنّ كلّ قوم سوى المسلمين إذا صلّوا في مساجدهم أشركوا بالله. وقال مجاهد : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي إلى الكعبة حيث صلّيتم في كنيسة أو غيرها (١).

قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩) : ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (كما بدأكم تعودون) أي : عراة كما خلقوا (٢).

ذكروا عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يبعث الله الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا (٣).

__________________

(١) هذا المعنى الذي ذهب إليه المؤلّف هنا حين استشهد بآية سورة الجنّ من إخلاص السجود لله دون ما سواه من الآلهة والأنداد هو قول الربيع بن أنس ، وهو ما رجّحه الطبريّ في تفسيره ، ج ١٢ ص ٣٨١ ، وهو فيما يبدولي أولى وأقرب إلى الصواب ممّا ذهب إليه مجاهد.

(٢) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاريّ في أبواب ؛ منها في كتاب التفسير في آخر سورة المائدة. وأخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (رقم ٢٨٦٠) كلاهما يرويه مرفوعا من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ؛ وأوّله : «إنّكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ...». والأغرل هو الأقلف الذي لم يختن.

(٣) ورد هذا الحديث في ز هكذا : «يحيى عن همام عن القاسم بن عبد الواحد عن عبد الله بن محمّد عن ـ

١٣

قال : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) : ذكروا أنّ مجاهدا قال : يعني شقيّا وسعيدا.

قال : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) : قال مجاهد : يعني قريشا لتركهم الثياب في الطواف (١).

قوله : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) : قال الحسن : كان أهل الجاهليّة يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء ، فأمر الله المسلمين فقال : (خذوا زينتكم عند كلّ مسجد) ، أمرهم أن يلبسوا الثياب. قال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) : أي الحلال في الإضمار (وَلا تُسْرِفُوا) : أي فتحرّموا ما أحلّ الله لكم كما حرّم أهل الجاهليّة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وما حرّموا من زروعهم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) : أي المشركين. وقال مجاهد : هم السافكون الدماء بغير حلّها.

قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) : يعني الثياب ، لأنّهم كانوا يطوفون بالبيت عراة (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) : أي ما حرّموا من أنعامهم وحروثهم (٢). (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : وقد خالطهم المشركون والمنافقون فيها في الدنيا ، وهي للذين آمنوا (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) : دون المشركين والمنافقين. قال بعضهم : من عمل بالإيمان في الدنيا خلصت له كرامة الله يوم القيامة.

__________________

ـ جابر بن عبد الله عن عبد الله بن إياس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يحشر الله العباد ـ أو قال : الناس ـ يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما ، قال : قلت : ما بهما؟ قال : ليس معهم شيء».

(١) في النسخ اضطراب وتقديم وتأخير في تفسير بعض الآية فأثبتّ صحّتها ممّا جاء في تفسير مجاهد ، ص ٢٣٥.

(٢) يبدو أنّ تأويل الآية أعمّ من أن يحصر في أسباب نزولها وفيما كان يقوم به المشركون في الجاهليّة ، فمظاهر الإسراف في كلّ زمان ومكان متنوّعة متجدّدة ، والطيّبات من الرزق كذلك. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأوامر الله ونواهيه باقية موجّهة إلى الناس على مرّ الأيّام والدهور ، وحكم تشريع الله وأحكامه صالحة لكلّ زمان ومكان.

١٤

قال : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) : أي نبيّن الآيات بالحلال والحرام والأمر والنهي (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢) : وهم المؤمنون الذين قبلوا ذلك عن الله. فأمّا المشركون فصدّوا عنه وجحدوه ، والمنافقون فرّطوا وضيّعوا ، ولم يوفّوا بما أقرّوا به من العمل الذي انتقصوه.

ذكر بعضهم قال : كان هذا الحيّ من كندة يطوفون بالبيت وهم عراة ، إلّا أن يستعير أحدهم مئزرا من أهل مكّة فيطوف فيه. فأنزل الله ما تسمعون حتّى انتهى إلى قوله : (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق) ، وهو ما حرّم أهل الجاهليّة من أموالهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام (١).

قوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) : (ما ظهر منها) : العلانية ، وما بطن منها : السّرّ. وقال بعضهم : الزنا ، سرّه وعلانيته. (وَالْإِثْمَ) : المعاصي كلّها (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) : [يعني الظلم] (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) : أي حجّة ، يعني أوثانهم التي عبدوا من دون الله (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣) : زعموا أنّ الله أمرهم بعبادتها بغير علم جاءهم من الله.

قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤) : يعني أنّ القوم إذا كذّبوا رسلهم فجاء الوقت الذي يأتيهم فيه العذاب ، فإنّهم لا يستأخرون ساعة عن العذاب ولا يستقدمون.

قوله : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٥) : هي مثل قوله : (اهبطوا منها جميعا فإمّا ياتينّكم مّنّي هدى) ، والهدى ههنا الرسول (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٨) [البقرة : ٣٨] أي في الآخرة (٢).

ذكر بعضهم أنّه ذكر هذه الآية فقال : ما كان الله ليخلي الأرض لإبليس حتّى لا يجعل

__________________

(١) هذا نوع من التكرار الذي أشار إليه ابن أبي زمنين في مقدّمته لمختصر تفسير ابن سلّام.

(٢) انظر ما سلف من هذا التفسير ، ج ١ ، تفسير الآية ٣٨ من سورة البقرة.

١٥

له فيها من يعمل بطاعته.

قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٦) : أي لا يموتون ولا يخرجون منها.

قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) : أي لا أحد أظلم منه (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) : قال بعضهم : ما كتب لهم من أعمالهم التي عملوا. وقال بعضهم : ما كتب في أمّ الكتاب من أعمالهم التي هم لها عاملون. قال مجاهد : هذا شقيّ وهذا سعيد ينالهم ما كتب عليهم. وقال الكلبيّ : نصيبهم من الكتاب أي أنّ الله قضى أنّه من افترى عليه سوّد وجهه. قال : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠].

قوله : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) : أي الملائكة (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) : قال الحسن : هذه وفاة إلى النار. (قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : يعني أوثانهم (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا) : في الدنيا (كافِرِينَ) (٣٧). (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) : أي مع أمم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) : كقوله : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥]. قوله (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أي بولاية بعض.

(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) : أي إذا صاروا فيها جميعا (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) : كلّ أمّة تقوله أخراها لأولاها. (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٨) : ذكروا أنّ مجاهدا قال : لكلّ ضعف مضاعف لأولاهم ولأخراهم. [وقوله : (ولكن لّا تعلمون) أي أيّها المخاطبون ما لكلّ فريق منكم] (١).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٠٦.

١٦

قوله : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) : أي في تخفيف العذاب. قال الله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) : أي : جميعا (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩) : أي تعملون.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) : أي لأعمالهم ولأرواحهم إذا ماتوا.

[ذكر بعضهم قال] (١) إنّ المؤمن إذا مات صعد بروحه ملائكة ، فإذا بلغوا السماء الدنيا شيّعتهم منها ملائكة إلى السماء الثانية ، وكذلك كلّ سماء حتّى ينتهى به [إلى الله ، فيؤمر بالسجود ، فتسجد الملائكة قبله ، ثمّ يسجد] (٢) ، ويقوم الملائكة المقرّبون فيصلّون عليه كما تصلّون أنتم على موتاكم وأنتم هاهنا. ثمّ يقول : ردّوه فإنّي قضيت أنّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. وأمّا الكافر فينتهي بروحه إلى السماء الدنيا فيقال : ردّوه إلى برهوت أسفل الثرى من الأرض السفلى (٣).

قوله : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) : وهي تقرأ على وجه آخر : (حتّى يلج الجمّل في سمّ الخياط). ذكروا عن الحسن قال : هو الذي يقوم في المربد على أربع. ذكروا عن ابن مسعود أنّه قال : هو الجمل زوج الناقة. وقال مجاهد : هو حبل السفينة (٤).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٠٦.

(٢) زيادة من ز. وقد أورد ابن سلّام هذا الخبر بسند عن أبي موسى الأشعريّ بألفاظ مختلفة. وفي آخره : «قال ابن عبّاس : فيردّ إلى واد يقال له برهوت أسفل الثرى من الأرضين السبع ، من حديث يحيى بن محمّد» هكذا. فهل يفهم من هذا أنّ في تفسير يحيى بن سلّام زيادات من حفيده يحيى بن محمّد؟. انظر : تفسير ابن أبي زمنين ، ورقة ١٠٦.

(٣) برهوت : اسم لواد به بئر عميقة بحضر موت ، وهي من الأعاجيب. انظر تفاصيل أخبارها في معجم ياقوت ، ج ١ ص ٤٠٥. وقد ذكر الداوديّ في طبقات المفسّرين ، ج ٢ ص ٨٠٣ أنّ مجاهدا ذهب إلى حضرموت ليرى بئر برهوت.

(٤) قراءة الجمهور في لفظ الجمل هي التي بفتح الجيم والميم المخفّفة ، أمّا قراءتها بضمّ الجيم وتشديد الميم فهي ـ

١٧

وقوله : (في سمّ الخياط) أي : حتّى يلج الجمل ـ في القراءتين جميعا ـ (في سمّ الخياط) أي : في ثقب الإبرة ، ولا يدخل في ثقب الإبرة أبدا.

قال : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠) : أي المشركين والمنافقين جميعا ، وهو جرم فوق جرم ، وجرم دون جرم.

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) : يعني بالمهاد الفراش ، (ومن فوقهم غواش) : ما يغشاهم من النار. وهو كقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦]. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١) : أي المشركين والمنافقين جميعا. وهو ظلم فوق ظلم ، وظلم دون ظلم.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) : أي إلّا طاقتها (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤٢) : أي لا يموتون ولا يخرجون منها.

قوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) : [يعني العداوة والحسد] (١).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يحبس أهل الجنّة على باب الجنّة ـ أو قال : على قنطرة باب الجنّة ـ حتّى تذهب عنهم ضغائن كانت في الدنيا (٢).

وقال بعضهم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يحبس أهل الجنّة كلّهم دون الجنّة حتّى يقضي لبعضهم من بعض ، ويفاضل بينهم كمثل كوكب بالمشرق وكوكب بالمغرب (٣).

__________________

ـ قراءة ابن عبّاس وسعيد بن جبير ، وهي بمعنى الحبال المجموعة التي تكوّن الحبل الغليظ من حبال السفينة ، ويسمّى القلس. انظر تفصيل هذا في المحتسب لابن جنّي ، ج ١ ص ٢٤٩. وفي تفسير الطبري ، ج ١٢ ص ٤٢٨ فما بعدها. وفي اللسان : (جمل).

(١) زيادة من ز ، ورقة : ١٠٦.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن مرسلا بألفاظ قريبة ممّا هي هنا.

(٣) أخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٢ ص ٤٣٩ بزيادة ونقصان عن أبي نضرة مرسلا.

١٨

ذكروا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال : إذا توجّه أهل الجنّة عرضت لهم عينان ، فاغتسلوا في إحداهما ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، ثمّ يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من أذى وقذى وغلّ. فإذا جاءوا إلى منازلهم تلقّتهم الملائكة وقالت لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣) [الزمر : ٧٣]. وبعضهم يقول : فيخرج ما في بطونهم من أذى وقذى أو غلّ وغشّ.

ذكر بعضهم عن عليّ في قوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قال : منهم عثمان بن مظعون (١) وطلحة والزبير.

قال : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) : وقد فسّرنا الأنهار من قبل هذا الموضع. (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا :) أي للإيمان (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) : أي لم نكن لنهتدي له لو لا أن هدانا الله. (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ :) أي في الدنيا. (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) : أي على قدر أعمالكم.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الدرجة في الجنّة فوق الدرجة كما بين السماء والأرض. وإنّ العبد من أهل الجنّة ليرفع بصره فيلمع له برق يكاد يخطف بصره فيقول : ما هذا؟ فيقال : هذا نور أخيك فلان. فيقول أخي فلان! كنّا نعمل في الدنيا وقد فضّل عليّ هكذا! فيقال له : إنّه كان أحسن منك عملا (٢).

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع : ق ، ع ، د ، وج : «عثمان بن مظعون». وهو خطأ ولا شكّ ، صوابه عثمان بن عفّان ؛ فإنّ عثمان بن مظعون الصحابيّ الجليل توفّي بعد غزوة بدر بإجماع الرواة ، وقبّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين عينيه بعد أن غسل وكفن ، فلمّا دفن قال : «نعم السلف هو لنا عثمان بن مظعون» ؛ فلم يشترك إذن عثمان بن مظعون في الفتنة وإنّما المقصود من قول عليّ هنا بعض جلّة الصحابة الذين أدركتهم الفتن. واستظهرت هذا ممّا أخرجه الطبريّ في تفسيره ج ١٢ ص ٤٣٨ عن قتادة قال : «قال عليّ رضي الله عنه : إنّي لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى ذكره فيهم : (ونزعنا ما في صدورهم مّن غلّ) ، رضي الله عنهم».

(٢) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ١٦٣ من سورة آل عمران.

١٩

قوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ :) هذا من قول الله ، وانقطع كلام الفريقين. (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤٤) : أي المشركين والمنافقين ، وهو ظلم فوق ظلم ، وظلم دون ظلم.

قوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ :) هذا الآن في الدنيا ، وانقطعت القصّة الأولى من قول أهل الجنّة وقول أهل النار. قال : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً :) أي ويبغون سبيل الله ، أي طريق الهدى ، عوجا. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) (٤٥).

قوله : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ :) أي بين الجنّة والنار حجاب. (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ :) والحجاب هو الأعراف. والأعراف هو المكان المشرف المرتفع فيما ذكروا عن ابن عبّاس. وذكروا أنّ مجاهدا قال : الأعراف حجاب بين الجنّة والنار. وقال بعضهم : الحجاب حائط بين الجنّة والنار. قوله : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) قال بعضهم : السيما الأعلام ، فهم يعرفون أهل الجنّة ببياض الوجوه ، ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه. وقال مجاهد : بسواد وجوههم وزرقة عيونهم (١).

ذكروا عن ابن عبّاس قال : أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فلم تفضل حسناتهم على سيّئاتهم ولا سيّئاتهم على حسناتهم ، فحبسوا هنالك. وقال بعضهم : وقد نبّأكم الله بمكانهم من الطمع إذ قال : (لم يدخلوها وهم يطمعون). قوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) [الحديد : ١٣].

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ أحدا جبل يحبّنا ونحبّه. وإنّه يمثل يوم القيامة بين الجنّة والنار ، يحشر عليه أقوام يعرفون كلّا بسيماهم ، هم إن شاء الله من أهل الجنّة (٢).

__________________

(١) وقع اضطراب في ذكر هذه الأقوال ، وقد أثبتّ صحّتها تبعا لما يناسبها معتمدا على بعض ما جاء منها في تفسير ابن أبي زمنين ، ورقة ١٠٦.

(٢) رواه يحيى بن سلّام عن أبي أميّة عن المتلمس السدوسيّ عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال : قال ـ

٢٠