تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

قال عزوجل : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) (٤) : يعني الملائكة. قال الحسن : إنّهم سبقوا إلى طاعة الله قبل بني آدم. قال عزوجل : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٥) : يعني الملائكة يدبّر الله بهم ما أراد.

قال عزوجل : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (٦) يعني النفخة الأولى (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧) يعني النفخة الآخرة (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) (٨) : أي خائفة (١). (أَبْصارُها) : أي أبصار تلك القلوب (خاشِعَةٌ) (٩) : أي ذليلة. (يَقُولُونَ) : أي يقول المشركون في الدنيا. (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) (١٠) : أي في أوّل خلقنا (٢) ، ينكرون البعث.

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) (١١) : أي بالية ، على الاستفهام. وهذا استفهام إنكاريّ ، أي : لا نبعث خلقا جديدا. (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) (١٢) : أي كاذبة ، أي : ليست بكائنة (٣).

قال الله عزوجل : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) : والزجرة والصيحة والنفخة واحد. قال الله عزوجل : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١٤) : أي بالأرض ، قد خرجوا من بطنها وصاروا على ظهرها.

قوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (١٥) : أي قد أتاك حديث موسى ، وفي تفسير الحسن : إنّه لم يأتك حتّى أعلمتك (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) : يعني المبارك (طُوىً) (١٦).

قال بعضهم : قدّس مرّتين (٤) قال الحسن : طوي بالبركة.

__________________

(١) كذا في ق وع. وفي ز : (واجِفَةٌ) مضطربة شديدة الاضطراب».

(٢) جاء في ز ورقة ٣٨٥ ما يلي : (الْحافِرَةِ) يقال : إلى أمرنا الأوّل ، والعرب تقول : أتيت فلانا ثمّ رجعت على حافرتي ، أي : رجعت إلى حيث جئت». وقال أبو عبيدة في المجاز : «من حيث جئنا ، كما قال : رجع فلان في حافرته من حيث جاء ، وعلى حافرته من حيث جاء». وانظر تحقيق معنى الحافرة وتعليل تسميتها في كشّاف الزمخشريّ ، ج ٤ ص ٦٩٣ ـ ٦٩٤.

(٣) وجاء في ز ، ورقة ٣٨٥ : «قال محمّد : وقيل : المعنى : تلك إذا رجعة يخسر فيها». وهي عبارة ابن قتيبة نفسها في تفسير غريب القرآن ، ص ٥١٣.

(٤) هذا على قراءة من قرأ : (طوى) بكسر الطاء والتنوين ، كما ذكره ابن أبي زمنين ، وانظر : أبي عبيدة ، المجاز ، ج ٢ ص ٢٨٥.

٤٢١

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (١٧) : أي كفر (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) (١٨) : أي إلى أن تؤمن (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) : أي وأبيّن لك دين ربّك (فَتَخْشى) (١٩) الله. قال الله عزوجل : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) (٢٠) : أي اليد (١) ، وهي أكبر الآيات التسع التي أتاه بها.

قال تعالى : (فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى) (٢٣) : أي فجمع قومه (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢٤).

قال الله : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ) : أي عقوبة (الْآخِرَةِ وَالْأُولى) (٢٥) : قال مجاهد : الآخرة قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) والأولى قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨]. ذكر غيره قال : مكث فرعون بعد قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ثلاثين سنة (٢). وتفسير الحسن : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي : عذّبه الله في الدنيا بالغرق ، ويعذّبه في الآخرة بالنار.

قال الله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢٦) : وتفسير الحسن : لمن يخشى ما صنعت بفرعون وقومه حين أغرقتهم ، فيخشى الله مخافة أن يفعل به ما فعل بفرعون وقومه فيؤمن.

قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) (٢٧) بغير عمد.

(رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) (٢٨) : بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام.

قال عزوجل : (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) : أي وأظلم ليلها (وَأَخْرَجَ ضُحاها) (٢٩) : أي شمسها ونورها. قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣٠) : أي بسطها [بعد خلق السماوات والأرض. قال بعضهم : وكان بدء الخلق ، فيما بلغنا أنّها كانت طينة في موضع بيت المقدس ثمّ خلق السماوات ، ثمّ دحا الأرض] (٣) فقال لها : اذهبي أنت كذا ، واذهبي أنت كذا. ومن مكّة بسطت الأرض ، ثمّ جعل فيها جبالها وأنهارها وأشجارها.

قال عزوجل : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها) (٣٢) : أي أثبتها ،

__________________

(١) كذا في ز ، وفي ق وع : «اليد والعصا ، وهي أكبر الآيات التسع التي قال الله : (فِي تِسْعِ آياتٍ).

(٢) في ع وق : «ثلاثمائة سنة» ، وهو خطأ. وفي تفسير ابن الجوزيّ : «ثلاثين سنة» ، وفي تفسير الطبريّ : «أربعين سنة».

(٣) سقط ما بين المعقوفين من ق وع ، فأثبتّه كما جاء في ز ليستقيم المعنى.

٤٢٢

وجعلها أوتادا للأرض. قال الحسن : لمّا خلق الله الأرض جعلت تميد ، وقد فسّرنا حديثه في غير هذا الموضع بأجمعه (١).

قال عزوجل : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣) : أي تستمتعون به إلى الموت. وهذا تبع للكلام الأوّل : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) [للإمتاع لكم] (٢).

قال عزوجل : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) (٣٤) : أي : النفخة الآخرة.

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) (٣٥) : أي ما عمل ، يوم يحاسب الله الناس بأعمالهم. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) (٣٦).

قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) (٣٧) : أي كفر (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٣٨) : أي لم يؤمن بالآخرة لقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٣٧) [المؤمنون : ٣٧]. قال عزوجل : (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (٣٩) : أي المنزل ، أي منزله.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) : أي موقفه بين يدي الله. ذكروا عن مجاهد في قوله عزوجل : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦) [الرحمن : ٤٦] قال : من أراد ذنبا فذكر الله أنّه قائم عليه فتركه (٣). فقال هاهنا : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (٤١) : أي منزله.

قوله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) (٤٢) : أي متى مجيئها. (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) (٤٣) : تفسير الحسن : إنّه ليس عليك من ذكرها شيء ، أي : ليس عليك في ذلك علم متى تكون ، وقد علمت أنّها كائنة.

وقال الكلبيّ : فيم أنت من ذكراها ، أي فيم أنت من أن تسأل عنها ولم أخبرك عنها متى تجيء. قال عزوجل : (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) (٤٤) : أي منتهى علم مجيئها.

__________________

(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٩ من سورة فصّلت.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٥.

(٣) كذا وردت هذه العبارة في ق وع ، ولعلّ صوابها : «فذكر أنّ الله قائم عليه ، أي يحصي عليه أعماله» ، كما جاء في بعض التفاسير.

٤٢٣

قال : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٤٥) : أي إنّما يقبل نذارتك من يخشى الساعة. وقال في آية أخرى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (٤٩) [الأنبياء : ٤٩].

قال عزوجل : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها) : يعني الساعة.

(لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦) : أي : عشيّة أو ضحوة (١). قال بعضهم : أوّل ساعة من النهار ، تصاغرت الدنيا عندهم فجاءهم الأمر كأنّهم لم يروها.

* * *

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٣٤ : «وهل للعشيّة ضحا؟ إنّما الضحا لصدر النهار ، فهذا بيّن ظاهر من كلام العرب أن يقولوا : آتيك العشيّة أو غداتها ، وآتيك الغداوة أو عشيّتها. تكون العشية في معنى : آخر ، والغداة في معنى : أوّل ...».

٤٢٤

تفسير سورة عبس ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٢) : أي : لأن جاءه الأعمى.

ذكروا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مع رجل من المشركين من وجوههم وأشرافهم ، وهو يدعوه إلى الإسلام ، والناس تبع لوجوههم وأشرافهم. فرجا النبيّ عليه‌السلام أن يؤمن فيتّبعه ناس من قومه. فهو يكلّمه ، وقد طمع في ذلك منه ، إذ جاء ابن أمّ مكتوم ، وكان أعمى ، فأعرض عنه النبيّ عليه‌السلام وأقبل على الرجل. وبلغنا أنّ الرجل أميّة بن خلف (١). وتفسير مجاهد أنّه عتبة بن ربيعة أو شيبة بن ربيعة. فجعل ابن أمّ مكتوم لا يتقارّ لمّا أعرض عنه النبيّ مخافة أن يكون حدث فيه شيء ، فأنزل الله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى).

قال : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (٣) : أي يؤمن. (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) (٤).

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) (٥) : أي عن الله (فَأَنْتَ لَهُ) بوجهك (تَصَدَّى) (٦) : أي تتعرّض (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) (٧) : أي ألّا يؤمن.

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) (٨) : أي يسارع في الخير (وَهُوَ يَخْشى) (٩) : أي يخشى الله ، يعني ابن أمّ مكتوم. (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (١٠) : أي فأنت عنه تعرض.

قال : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) (١١) : أي إنّ هذه السورة تذكرة. (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (١٢) : أي القرآن. وقال في آية أخرى : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [المدّثّر : ٥٦]. قال تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ) : أي عند الله في السماء (٢) (مُطَهَّرَةٍ) (١٤) : أي من الدنس. (بِأَيْدِي

__________________

(١) كذا في ق : «أميّة بن خلف» ، وفي ع : «أميّة بن أبي الصلت ، خلف (كذا)». وذكر القرطبيّ في تفسيره ، ج ١٩ ص ٢١٢ قولين لقتادة : أميّة بن خلف ، وأبيّ بن خلف. وذهب بعضهم إلى أنّ الرجل هو الوليد بن المغيرة المخزوميّ.

(٢) كذا في ق وع وفي ز ، وجاء في تفسير القرطبيّ ، ج ١٩ ص ٢١٦ : «وقيل : مرفوعة في السماء السابعة». قاله يحيى بن سلّام.

٤٢٥

سَفَرَةٍ) (١٥) : أي كتبة (١). يعني الملائكة (كِرامٍ بَرَرَةٍ) (١٦) : أي لا يعصون الله.

ذكروا عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأه ويتتعتع به وهو عليه شاقّ ، فله أجران (٢).

قوله عزوجل : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (١٧) : أي : لعن الإنسان ما أكفره ، وتفسير الكلبيّ : ما أشدّ كفره.

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (١٩) : أي نطفة ، ثمّ علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ عظاما ، ثمّ لحما ، ثمّ أنبت الشعر ونفخ فيه الروح.

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (٢٠) : أي سبيل الهدى وسبيل الضلالة. وقال مجاهد : هو مثل قوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي : بيّنّا له السبيل ، سبيل الهدى وسبيل الضلالة (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) [الإنسان : ٣] (٣).

قال تعالى : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) (٢١) : أي جعل له من يقبره ، أي : من يدفنه في القبر (٤). (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) (٢٢) : أي أحياه ، يعني البعث. وقد جعل الله له وقتا ، فكيف يكفره. وقال

__________________

(١) هذا أحد وجوه تأويل السفرة. وهنالك معنى آخر للكلمة أوردها بعض المفسّرين ، وهو معنى السفارة ، قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٣٦ : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) وهم الملائكة ، واحدهم سافر. والعرب تقول : سفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم ، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله تبارك وتعالى وتأديبه كالسفير الذي يصلح بين القوم ...».

(٢) حديث متّفق على صحّته. أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، سورة عبس ، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه (رقم ٧٩٨). وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب في ثواب قراءة القرآن (رقم ١٤٥٤) وأخرجه الترمذيّ في فضائل القرآن ، باب ما جاء في فضل قارئ القرآن ، كلّهم يرويه من حديث عائشة.

(٣) كذا في ق وع ، وفي ز ورقة ٣٨٦ : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) تفسير بعضهم : يعني خروجه من بطن أمّه».

(٤) كذا في ق وع ، وجاءت عبارة الفرّاء في هذا المعنى أوضح وأدلّ على المقصود. قال في المعاني ، ج ٣ ص ٢٣٧ : «جعله مقبورا ، ولم يجعله ممّن يلقى للسباع والطير ، ولا ممّن يلقى في النواويس ؛ كأنّ القبر ممّا أكرم المسلم به. ولم يقل : فقبره ؛ لأنّ القابر هو الدافن بيده ، والمقبر : الله تبارك وتعالى ؛ لأنّه صيّره ذا قبر. وليس فعله كفعل الآدميّ».

٤٢٦

في سورة البقرة : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨) [البقرة : ٢٨] ، أي : كنتم أمواتا في أصلبة آبائكم ، أي : نطفا ، (فَأَحْياكُمْ) : هذه الحياة ، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) : يعني البعث ، (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

قال تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢٣) : أي لمّا يصنع ما أمره ، يعني هذا الإنسان المشرك والمنافق لم يصنعا ما أمرهما الله به.

ثمّ ضرب مثلا آخر فقال : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) (٢٤) : أي من أيّ شيء خلقه. قال تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) (٢٥) : يعني المطر (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) (٢٦) : أي للنبات (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً) (٢٨) : وهي الفصافص (١).

(وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً) (٣٠) : قال الحسن : أي نخلا كراما ، وهي الطوال الكرام. وقال الكلبيّ : (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي : شجرا طوالا غلاظا.

قال تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) (٣١) : وهذا الذي ذكر من الفاكهة. قال الحسن : الفاكهة : ما تأكلون ، والأبّ : ما تأكل أنعامكم. وتفسير الكلبيّ : الأبّ : الكلأ. قال تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢) : أي تستمتعون به ، أي : تأكلونه رزقا لكم إلى الموت.

قال : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) (٣٣) : وهي اسم من أسماء القيامة ، أصاخ لها الخلق من الفرق. وقال في آية أخرى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (١٠٨) [طه : ١٠٨]. وقال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٣٨) [النبأ : ٣٨].

قال عزوجل : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧) : أي يشغله.

ذكروا أنّ عائشة قالت : يا رسول الله ، كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال : يحشرون عراة.

__________________

(١) في كتب التفسير واللغة : القضب : النبات الرطب ، وهو ما يقضب ، أي يقطع ويؤكل رطبا أخضر. والفصافص نوع منه ، ويسمّى القت عند أهل مكّة. ومنه القصيل أيضا ، وهو الزرع يقتصل أي يقتطع ليّنا رطبا أخضر. انظر : اللسان (قضب) و (قصل).

٤٢٧

قالت : أما يحتشم الرجال من النساء والنساء من الرجال يا رسول الله؟ قال : هم يومئذ أشغل من أن ينظر بعضهم إلى بعض ، أو إلى عورة بعض ، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (١).

قال عزوجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) (٣٨) : أي ناضرة ناعمة (٢) ، وهؤلاء أهل الجنّة (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) (٣٩) : أي بالجنّة وبرضاء الله. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) (٤١) : أي يغشاها سواد ، وهؤلاء أهل النار.

قال : (أُولئِكَ) : أي : هؤلاء الذين هذه صفتهم وهذا نعتهم.

(هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٤٢). فباين الله بين خلقه ، وأخبر بثوابهم وبأسمائهم عند بياض الوجوه وسوادها ، وتسمية من دخل النار بالكفر والفجور. ففي ذلك دليل لمن عقل عن الله وألقى السمع وهو شهيد (٣).

* * *

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، (رقم ٢٨٥٩) عن عائشة.

(٢) جاء في ز ما يلي : «قال محمّد : (مُسْفِرَةٌ) حقيقته مضيئة. يقال : أسفر الصبح إذا أضاء».

(٣) هذه الجمل الأخيرة هي ولا شكّ من الشيخ هود الهوّاريّ ، فهي بروحه وأسلوبه أشبه. وهي غير واردة في مخطوطة ز.

٤٢٨

تفسير سورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١) : تفسير الحسن : أي : ذهب ضوءها. (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (٢) : أي قد رمي بها. كقوله : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٢) [الانفطار : ٢].

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) (٣) : أي ذهبت ، تصير في حالات. أما أوّل ما تحول عن منزلة الحجارة فتكون كثيبا ، وتكون كالعهن المنفوش ، وتكون هباء منبثّا ، وتكون سرابا. قال تعالى : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٢٠) [النبأ : ٢٠]. مثل هذا السراب تراه وليس بشيء ، فسوّيت بالأرض. وقال في آية أخرى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) (١٠٥) أي : من أصولها (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) (١٠٦) أي مستوية (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (١٠٧) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٧] أي انخفاضا ولا ارتفاعا.

قال تعالى : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) (٤) : وهي النوق عطّلها أهلها فلم تحلب ولم تصرّ وشغل عنها أهلها (١).

قال : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٥) : أي جمعت لحشر يوم القيامة ، فهي أوّل من يدعى للحساب ، فيقتصّ لبعضها من بعض ، حتّى يقتصّ للجمّاء من القرناء ، ثمّ يقال لها : كوني ترابا. فعند ذلك (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠) [النبأ : ٤٠] (٢). ذكروا عن الحسن قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بعير معقول أوّل النهار ، ثمّ مرّ عليه آخر النهار وهو كما هو ، فقال : أين صاحب هذا البعير ، ليعدّ له خصومة (٣).

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز : «قلم تحلب من الشغل بأنفسهم».

(٢) وهنالك معنى آخر روي عن أبيّ بن كعب واختاره الشيخ الطاهر بن عاشور ، وأفصح عنه بأبلغ بيان وأحسن تعليل ، وهو يجعل من هذا الحشر جمع الوحوش «في مكان من الأرض عند اقتراب فناء العالم» ... و «ليس هذا الحشر الذي يحشر الناس به للحساب ، بل هذا حشر في الدنيا ، وهو المناسب لما عدّ معه من الأشراط». انظر : ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، ج ٣٠ ص ١٤٣.

(٣) لم أعثر على هذا الحديث فيما لديّ من المصادر. فهل هو ممّا انفرد بروايته ابن سلّام.

٤٢٩

قال تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٦) : أي فاضت ، فتصير أعماق البحار ورءوس الجبال سواء. وقال بعضهم : تسجر كما يسجر التنّور. وتفسير مجاهد : أوقدت ، وهو واحد (١).

قال : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (٧) : قال الحسن : يلحق كلّ شيعة بشيعتها : اليهود باليهود ، والنصارى بالنصارى ، والمجوس بالمجوس ، وكلّ من كان يعبد من دون الله شيئا بعضهم من بعض ، والمنافقون بالمنافقين ، والمؤمنون بالمؤمنين. وتفسير مجاهد : الأمثال من الناس جمع بينهم.

ذكروا عن النعمان بن بشير قال : سألت عمر بن الخطّاب عن قوله : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) فقال : يزوّج كلّ إنسان نظيره من الجنّة ، ويزوّج كلّ إنسان نظيره من أهل النار ، ثمّ تلا هذه الآية : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٢٣) [الصافّات : ٢٢ ـ ٢٣]. قال الكلبيّ : أمّا أهل الجنّة فيزوّجون بخيرات حسان ، وأمّا أهل النار فيقرن كلّ إنسان وشيطانه ، يكونان جميعا في سلسلة واحدة. وبعضهم يقول : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي : ردّت الأرواح إلى الأجساد (٢).

قال تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) (٨) : وهي بنات أهل الجاهليّة كانوا يدفنونهنّ أحياء لخصلتين : أمّا إحداهما فكانوا يقولون : إنّ الملائكة بنات الله ، فألحقوا به البنات ، فهو أحقّ بهنّ ، وأمّا الخصلة الأخرى فمخافة الحاجة. قال في آية أخرى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)

__________________

(١) وقال ابن أبي زمنين ، كما في مخطوطة ز ، ورقة ٣٨٧ : (سُجِّرَتْ) حقيقته ملئت ، فيفضي بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا ، وهو معنى قول الحسن». وقد نقل هذه العبارة القرطبيّ في تفسيره ، ج ١٩ ص ٢٣٠ إلّا أنّه قال : «فيفيض بعضها إلى بعض».

(٢) هذا المعنى الأخير لتزويج النفوس هو ما ذهب إليه المحقّقون من العلماء. وهو رأي أستأذنا المرحوم الإمام إبراهيم بيّوض كما حفظته عنه. وقد بدأ به أيضا الشيخ ابن عاشور واختاره مع المعنى الأوّل ، وهو جعل الناس أصنافا ، ونزع بقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ ، أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة : ٧] ثمّ قال : «ولعلّ قصد إفادة هذا التركيب لهذين المعنيين هو مقتضى العدول عن ذكر ما زوّجت النفوس به. وأوّل منازل البعث اقتران الأرواح بأجسادها ، ثمّ تقسيم الناس إلى مراتبهم للحشر. كما قال تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ). ثمّ قال : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) ثمّ قال : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ، إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) الآية». [الزمر : ٦٨ و ٧١ و ٧٣].

٤٣٠

[الإسراء : ٣١] أي : خشية الحاجة. كان أحدهم يقتل ابنته ويغذو كلبه.

قال تعالى : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٩) : قال الحسن : إنّ الله يوبّخ قاتلها لأنّها قتلت بغير ذنب وسيّئة فسئلت ، فلم يوجد لها ذنب.

وبعضهم يقرأها : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (١) أي : تتعلّق الجارية بأبيها فتقول : بأيّ ذنب قتلتني.

قال : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (١٠) للحساب. وهو ما كتبت الملائكة على العباد من أعمالهم ، مثل قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] ، وكقوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] أي : ما كتبت الملائكة على العباد من أعمالهم في بعض هذا التفسير.

قال : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) (١١) : أي طويت ، وهو قوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤]. وقال مجاهد : (كُشِطَتْ) أي : اجتبذت.

قال : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (١٢) : أي أوقدت ، وهي توقد منذ خلق الله السماوات والأرض في الستّة الأيّام. قال تعالى : (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) (١٣) : أي أدنيت ؛ كقوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٩٠) [الشعراء : ٩٠]. قال : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤) : أي من عملها.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ) : [المعنى : فأقسم ، و (لا) صلة] (٢) (بِالْخُنَّسِ) (١٥) : ذكروا عن عليّ قال : يعني النجوم تجري بالليل وتخنس ـ أي : تتوارى ـ بالنهار. وهو قول الحسن : هي في ذلك جارية ، ولكنّها لا ترى بالنهار. وقال بعضهم : بلغنا أنّها خمسة تجري في مجرى الشمس : وهي الزهرة والمشتري ، والمرّيخ ، وزحل ، وعطارد.

قال : (الْجَوارِ) : يعني جريها في السماء (الْكُنَّسِ) (١٦) : تفسير الحسن : أن ترجع إلى

__________________

(١) وهي قراءة الضحّاك وأبي الضّحا ، عن جابر بن زيد وأبي صالح ، وهي قراءة ابن عبّاس ، وكذلك هي في مصحف أبيّ كما ذكره القرطبيّ في تفسيره ، ج ١٩ ص ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٧. بمعنى زائدة.

٤٣١

مطلعها في القابلة. وقال الكلبيّ : (الْكُنَّسِ) يعني أنّها تكنس ، أي : تتغيّب وتتوارى بالنهار كما تتوارى الظباء في كناسها. وبعضهم يقول : (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) هي بقر الوحش.

قال : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) (١٧) : تفسير الحسن : إذا أظلم ، وتفسير الكلبيّ : إذا أدبر. وقال مجاهد : يقال : إقباله ، ويقال : إدباره.

ذكروا أنّ رجلا سأل عليّا : أيّ ساعة توتر؟ فسكت عنه. فلمّا أذّن من السحر للصبح قال عليّ : أين السائل عن الوتر؟ نعم ساعة الوتر [هذه] (١) ، ثمّ قرأ (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ).

قوله : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١٨) : أي إذا أسفر ، يعني إذا أضاء. أقسم بهذا كلّه ، من قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) إلى قوله : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ).

(إِنَّهُ) : يعني القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (١٩) : يعني جبريل يرسله الله إلى النبيّين (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (٢٠) : أي في المنزلة والقربة. (مُطاعٍ ثَمَّ) : أي : في السماء قال الحسن : جعل الله طاعة جبريل في السماء طاعة له ، فأمر الله الملائكة بذلك كما أمر الله أهل الأرض أن يطيعوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : (أَمِينٍ) (٢١) : أي عند الله وعند الملائكة.

قوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٢٢) : يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك لقول قريش وقول مشركي العرب : إنّه مجنون. قال : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣) : يعني بالمشرق الذي هو مطلع النجوم والشمس والقمر. يعني أنّ محمّدا رأى جبريل في صورته مع الأفق قد سدّ ما بين السماء والأرض. وتفسير مجاهد : إنّ ذلك كان من نحو أجياد. عن عمارة مولى بني هاشم قال : إنّ النبيّ عليه‌السلام رأى جبريل عليه‌السلام له ستّمائة جناح مثل الزبرجد الأخضر ، فأغمي عليه.

قال تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ) : أي على الوحي (بِضَنِينٍ) (٢٤) : أي بخيل ، أي لا يبخل عليكم به ، وهي تقرأ على وجه آخر : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي : بمتّهم ، وهو مقرأ عبد الرحمن الأعرج ومقرأ أهل الكوفة.

(وَما هُوَ) : يعني القرآن (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥) : أي رجمه الله باللعنة. قال :

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها ليستقيم المعنى.

٤٣٢

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) : يقول للمشركين : فأين تعدلون عنه يمينا وشمالا ، كقوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) (٣٧) [المعارج : ٣٦ ـ ٣٧].

قال تعالى : (إِنْ هُوَ) : يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) : إلّا تفكير (لِلْعالَمِينَ) (٢٧) : يعني من آمن به يذكرون به الآخرة. قال : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٢٨) : أي على ما أمر الله في تفسير الحسن. وقال مجاهد : (أَنْ يَسْتَقِيمَ) ، أي أن يتّبع الحقّ ، وهو واحد. (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : أي لا تقدرون على شيء لم يرده الله (رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) : أي الخلق أجمع.

* * *

٤٣٣

تفسير سورة (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١) : أي انشقّت ، وذلك يوم القيامة بعد النفخة الأخيرة. (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٢) : أي تساقطت وهو قوله : (انْكَدَرَتْ) (٢) [التكوير : ٢] (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) (٣) : أي : فجّر ملحها في عذبها ، وعذبها في ملحها (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (٤) : أي أخرج ما فيها من الأموات.

قال : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٥) : أي ما قدّمت من عمل ، خيرا كان أو شرّا ، وما أخّرت أي : من سنّة حسنة فعمل بها بعده فله مثل أجر من عمل بها ، ولا ينقص من أجورهم شيئا ، أو سنّة سيّئة فعمل بها بعده فعليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيئا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (٦) : ذكروا أنّ عمر بن الخطّاب قرأ هذه الآية : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) فقال غرّه حمقه وجهله (١).

قال : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) : أي سوّى خلقك باللحم والشعر (فَعَدَلَكَ) (٧) : يعني اعتدال الخلق ؛ فهذا مقرأ من قرأها بالتخفيف (فَعَدَلَكَ) ومن قرأها بالتثقيل (فَعَدَلَكَ) قال : جعل عينيك سواء. ورجليك سواء ، ويديك سواء ، وجنبيك سواء (٢). ثمّ قال : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) : أي خلق الله كلّ إنسان في صورته ، لا ترى اثنين على صورة واحدة ؛ فجعله إن شاء طويلا ، وإن شاء قصيرا ، وإن شاء جعله ذكرا ، وإن شاء جعله أنثى. وقال مجاهد : إن شاء جعله حسنا ، وإن شاء جعله قبيحا.

ذكروا عن الضحّاك بن مزاحم قال : يشبه الرجل وليس بينه قرابة إلّا من قبل الأب

__________________

(١) في ق وع : «أحمقت ، وجهلت» ، وأثبتّ ما جاء في ز ورقة ٣٨٧ ، فهو أفصح ، وفي الدرّ المنثور : «غرّه والله جهله» ، وفي الكشّاف : «غرّه حمقه وجهله».

(٢) قال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٥١٨ : (فَعَدَلَكَ) بالتخفيف ، أراد : صرفك إلى ما شاء من الصور في الحسن والقبح». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٤٤ : «ومن قرأ : (فَعَدَلَكَ) مشدّدة ، فإنّه أراد ـ والله أعلم ـ : جعلك معتدلا معدّل الخلق ، وهو أعجب الوجهين إليّ وأجودهما في العربيّة ...».

٤٣٤

الأكبر آدم عليه‌السلام. قال بعضهم : إنّه وإن أشبه الرجل الرجل فإنّه ليس على صورته كلّها.

(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) (٩) : أي بالحساب ، بأنّ الله يدين الناس يوم القيامة بأعمالهم.

قال : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) (١٠) : أي حفظة يحفظون أعمالكم ، أي : يكتبونها يعني بها الملائكة الذين يكتبون أعمال العباد.

قال تعالى : (كِراماً كاتِبِينَ) (١١) : أي كراما على الله ، كاتبين أعمال العباد. قال تعالى : (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢) : أي : من الظاهر ، فيكتبونه ولا يعلمون الباطن. قال تعالى في موضع آخر : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨) [سورة ق : ١٨].

ذكروا عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : الذكر الخفيّ الذي لا تسمعه الحفظة يضاعف على الذي تسمعه الحفظة سبعين ضعفا ؛ فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى للعبد : إنّ لك عندي كنزا لم يطّلع عليه أحد غيري ؛ وهو الذكر الخفيّ. ذكروا عن بعضهم قال : إذا عمل العبد في العلانية عملا وعمل في السرّ مثله قال الله للملائكة : هذا عبدي حقّا.

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) (١٣) : أي في الجنّة (وَإِنَّ الْفُجَّارَ) : يعني المشركين والمنافقين (لَفِي جَحِيمٍ) (١٤) : أي لفي النار (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) (١٥) : أي يوم الحساب ، يوم يدين الله فيه الناس بأعمالهم. (وَما هُمْ عَنْها) : أي عن النار (بِغائِبِينَ) (١٦). وقال في آية أخرى : (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (٣٨) [سبأ : ٣٨].

قال : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (١٨) : [ثنّي ذكره] (١) تعظيما له. قال الحسن : إنّك لم تدر يوم الدين حتّى أعلمتك به.

قال تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) : أي لا يغني أحد عن أحد شيئا ، أي : لا ينفعه. كقوله : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) [الدخان : ٤١] أي : وليّ عن وليّ شيئا. (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩) : وحده لا شريك له ، ولا ينازعه الأمر في ذلك اليوم أحد ، فالأمر له (٢).

__________________

(١) زيادة من ز.

(٢) وردت هذه الجملة الأخيرة مضطربة فاسدة في ق وع ، فأثبت صحّتها حسبما يقتضيه المعنى.

٤٣٥

تفسير سورة المطفّفين ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) في الآخرة يدعون بالويل والثبور في النار. وهم المشركون والمنافقون المطفّفون في المكيال والميزان. بلغنا أنّها نزلت في مشركي أهل مكّة ، عابهم الله بتطفيفهم. وقد عاب المشركين بأعمالهم الخبيثة في شركهم في مواضع من القرآن.

قال تعالى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣) : أي ينقصون. (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) : [قال بعضهم] (١) : بلغنا أنّهم يقومون ثلاثمائة سنة من قبل أن يفصل بينهم.

قوله : تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) : أي المشركين والمنافقين (لَفِي سِجِّينٍ) (٧) : قال الحسن : لفي سفال (٢). وقال كعب : حجر أسود تحت الأرض السابعة لا يصعد (٣).

[قال تعالى : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) (٨) : أي ليس ذلك ممّا كنت تعلمه أنت ولا قومك ، ثمّ فسّره فقال : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٩) : أي مكتوب] (٤).

قال تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) : يعني يوم القيامة (لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (١١) : أي : بيوم الحساب ، يوم يدين الله فيه الناس بأعمالهم.

قال تعالى : (وَما يُكَذِّبُ بِهِ) : أي بيوم القيامة الذي فيه الحساب (إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) : أي

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها ، لأنّ القول ليحيى بن سلّام. وجاءت العبارة في ز ورقة ٣٨٨ هكذا : «يحيى بلغني أنّهم ...».

(٢) كذا : «سفال» ، وهو السفل ، نقيض العلوّ والعلاء. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٨٩ : (لَفِي سِجِّينٍ) في حبس ، فعّيل من السجن ، كما يقال : فسّيق من الفسق». وانظر كيف رجّح ابن كثير في تفسيره ، ج ٧ ص ٢٣٩ أصل هذا المعنى الأخير ، وتلطّف فجمع بينه وبين قول كعب التالي.

(٣) كذا في ق وع ، وفي ز : «حجر أسود تحت الأرض السابعة تكتب فيه أرواح الكفّار». (كذا).

(٤) سقطت هاتان الآيتان وتفسيرهما من ق وع ، فأثبتّهما بين معقوفين من ز ، ورقة ٣٨٨.

٤٣٦

من العدوان ، وهو الشرك (أَثِيمٍ) (١٢) : أي آثم (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) : أي القرآن (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٣) : أي كذب الأوّلين وباطلهم. قال الكلبيّ : إنّه النضر بن الحارث.

قال تعالى. (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) : تفسير الحسن : إنّه الذنب على الذنب حتّى يموت القلب.

ذكروا عن حذيفة قال : القلب في مثل الكفّ ، فيذنب العبد الذنب فينقبض ، ثمّ يذنب الذنب فينقبض ، ثمّ يذنب الذنب فينقبض ، حتّى يسمع الخبر فلا يجد في قلبه سماعا ، فيحرم (١) منه ، فهو الران (٢).

وقال بعضهم : إنّ الطبع طبع على قلوبهم بفعلهم الكفر. وقال الكلبيّ : إنّ على قلوبهم الطبع ، ألا تراه يقول : (ما كانُوا يَكْسِبُونَ)؟.

قال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥) : أي عن ثواب ربّهم لمحرومون (٣). (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) (١٦) : أي النار (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧) : أي في الدنيا ، يقال ذلك للمشركين وهم في النار.

قال : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (١٨) : أي في صعود إلى الله. وتفسير مجاهد : علّيّون في السماء السابعة. وقال كعب : علّيّون قائمة العرش اليمنى.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ أهل الجنّة ليرون أهل علّيّين كما ترون الكوكب الدرّيّ في أفق السماء ، وإنّ أبا بكر وعمر منهم وأنعما (٤).

__________________

(١) في ق وع : «فيخرج منه» ، ويبدو في الكلمة تصحيف ، فأثبتّ ما رأيته صوابا إن شاء الله ، أي : فيحرم من الخير.

(٢) ران يرين رينا وريونا : غطّى وغشّى عليه ، والاسم منه الران كالرين ، ومثله العاب والعيب. وانظر لمزيد من الفائدة اللسان : (رين).

(٣) هذه عبارة الشيخ هود الهوّاريّ ، وهذا تأويله للآية ، وهو موافق لرأي الإباضيّة في استحالة رؤية الباري في الدنيا والآخرة معا. وجاء بدل هذا في ز ورقة ٣٨٨ ما يلي : «يحتجب الله من المشركين فلا يرونه ، وأمّا المؤمنون فيرونه في كلّ جمعة ، فيتجلّى لهم حتّى ينظروا إليه». تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(٤) حديث حسن ، رواه أبو داود في كتاب الحروف والقراءات (رقم ٣٩٨٧) ، وأخرجه ابن ماجه في المقدّمة ، ـ

٤٣٧

قال عزوجل : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) (١٩) : قال الحسن : إنّك لم تدر ما علّيّون حتّى أعلمتك. قال عزوجل : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٢٠) : أي مكتوب ، يكتب عليه في علّيّين. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من صلّى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلّم رفعتا له في عليّين (١).

قال : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢١) : أي مقرّبو أهل كلّ سماء ، يشهدون كتاب عمل المؤمن حيث يرقم فيه ، أي : يكتب فيه ، يشهدون نسخه إذا نسخ ، ويشهدون عليه يوم القيامة أنّها أعمالهم. وبلغنا عن ابن عبّاس أنّه قال : إنّ أعمال بني آدم تنسخ من اللوح المحفوظ.

قال عزوجل : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ) : أي على السرر في الحجال. (يَنْظُرُونَ) (٢٣). قال مجاهد : هي سرر من لؤلؤ وياقوت. (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤) : [يعني بريق النعيم ونداه. وقيل : حسنه وبريقه وتلألؤه] (٢) (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) [يعني الشراب] (٣) ، وهي الخمر ، قال عزوجل : (مَخْتُومٍ) (٢٥) : يعني الشراب (خِتامُهُ مِسْكٌ) : أي عاقبته مسك ، في تفسير بعضهم. وقال مجاهد : ختم به آخر جرعة ، وهو واحد (٤).

قال : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (٢٦) : أي في الدنيا بالأعمال الصالحة.

قال عزوجل : (وَمِزاجُهُ) : أي ومزاج ذلك الشراب (مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨) : قال بعضهم : يشرب بها المقرّبون صرفا ، وتمزج لسائر أهل الجنّة.

__________________

ـ باب فضائل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (رقم ٩٦) كلاهما يرويه من حديث أبي سعيد الخدريّ. وأمّا قوله : «وأنعما» فقيل معناه : «وزادا على ذلك». وقيل : معناه : «أهل ذاك هما». وقيل : معناه : «صارا إلى النعيم».

(١) رواه المنذريّ في الترغيب والترهيب ، ج ١ ص ٤٠٥ في كتاب النوافل ، باب الترغيب في الصلاة بين المغرب والعشاء عن مكحول يبلغ به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال المنذريّ : «ذكره رزين ولم أره في الأصول».

(٢) زيادة للإيضاح ؛ والعبارة الأولى للفرّاء ، والثانية للطبريّ.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٨. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٨٩ : «الرحيق : الذي ليس فيه غشّ ، رحيق معرق من مسك أو خمر». وقال الجوهريّ في الصحاح : «الرحيق صفوة الخمر». وفي اللسان : «الرحيق من أسماء الخمر ، وقال ابن سيده : وهو من أعتقها وأفضلها».

(٤) قال ابن أبي زمنين : «يعني أنّهم إذا شربوا هذا الرحيق ففني ما في الكأس وانقطع الشرب انختم ذلك بطعم المسك ورائحته».

٤٣٨

قوله تعالى : (عَيْناً) أي : تلك الخمر من عين. وإنّما صارت عينا كقوله : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) [الإسراء : ٦١] أي من طين.

قال تعالى : (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) وهي من تسنيم ، أي تسنم عليهم منازلهم ، أي : ما لهم من معال. وتسنيم أشرف شراب في الجنّة (١). ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : (تَسْنِيمٍ) هي ممّا قال الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧].

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) : أي أشركوا (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (٢٩) : أي في الدنيا ، يسخرون بهم. تفسير الحسن : كان المشركون إذا مرّ بهم النبيّ عليه‌السلام وأصحابه يقول بعضهم لبعض : انظروا إلى هؤلاء الذين تركوا شهواتهم في الدنيا يطلبون بذلك ـ زعموا ـ نعيما في الآخرة.

قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ) : أي بالنبيّ وأصحابه (يَتَغامَزُونَ) (٣٠) : أي يقولون هذا القول. قال : (وَإِذَا انْقَلَبُوا) : يعني المشركين (إِلى أَهْلِهِمُ) في الدنيا (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (٣١) : أي مسرورين. كقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (١٣) [الانشقاق : ١٣].

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله عزوجل : وعزّتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين. لا يخافني في الدنيا إلّا أمّنته في الآخرة ، ولا يأمنني في الدنيا إلّا خوّفته في الآخرة (٢). وقال في آية أخرى : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢٨) [الطور : ٢٦ ـ ٢٨] وقال عزوجل : (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (٩) [الانشقاق : ٩] أي : في الجنّة. وقال في الكافر : (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) أي : في الدنيا (مَسْرُوراً) (١٣) [الانشقاق : ١١ ـ ١٣].

قال عزوجل : (وَإِذا رَأَوْهُمْ) : أي إذا رأوا أصحاب النبيّ عليه‌السلام (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) (٣٢) : أي بتركهم شهواتهم في الدنيا لنعيم الآخرة زعموا.

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٤٩ : «مزاج الرحيق (مِنْ تَسْنِيمٍ) من ماء يتنزل عليهم من معال ...». وانظر ما حقّقه الفرّاء بكلمة (تَسْنِيمٍ) ووجوه إعراب (عَيْناً) في الآية.

(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٢٨ من سورة المعارج.

٤٣٩

قال الله تعالى : (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) (٣٣) : أي يحفظون أعمالهم ، يعني المشركين.

قال : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) (٣٥) قال الحسن : هذه والله الدّولة الكريمة التي أدال الله المؤمنين على المشركين في الآخرة ؛ فهم يضحكون منهم وهم متّكئون على فرشهم ينظرون كيف يعذّبون ، كما كان الكفّار يضحكون منهم في الدنيا. والجنّة في السماء ، والنار في الأرض.

ذكروا أنّ كعبا قال : بين الجنّة والنار كوى ؛ فإذا أراد الرجل من أهل الجنّة أن ينظر إلى عدوّ له من أهل النار نظر فرآه. وهو قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ..). إلى آخر الآية.

وتفسير الحسن : إنّهم يضحكون منهم حين يفتح لهم باب من الجنّة ، فيدعون ليدخلوها ، فإذا جاءوا أغلق دونهم فيرجعون ، ثمّ يدعون ، فإذا جاءوا أغلق دونهم فيرجعون ، فيدعون ليدخلوا فإذا جاءوا أغلق دونهم ، حتّى إنّهم يدعون فما يجيئون من اليأس.

وقال بعضهم : هؤلاء المنافقون ، وهم كانوا أشدّ استهزاء بالنبيّ والمؤمنين وأشدّ ضحكا من المشركين ، فأدال الله المؤمنين عليهم في الآخرة وخدعهم بفتح باب الجنّة لهم ليدخلوها كما كانوا يخدعون في الدنيا.

قال الله : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) : أي هل جوزي الكفّار (ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦) : أي جوزوا في الآخرة ما كانوا يفعلون في الدنيا ، أي : نعم ، قد جوزوا شرّ الجزاء في تفسير الكلبيّ. وقال الحسن : شرّ ثواب وشرّ دار.

* * *

٤٤٠