تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

وتفسير الحسن : حاجز من الخلق لا يبغيان عليهم فيغرقانهم ، وهو محبوس. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما) : أي نعماء ربّكما (تُكَذِّبانِ) (٢١).

قوله عزوجل : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢) : قال بعضهم : اللؤلؤ : الكبار ، والمرجان الصغار. ذكر ذلك عن سعيد بن جبير وغيره.

وقال مجاهد : المرجان ما عظم من اللؤلؤ. وقال الكلبيّ : اللؤلؤ هو اللؤلؤ البسّذ (١). يعني العزل (٢).

فمن فسّر بتفسير الكلبيّ فهو يقول : يخرج منهما ، أي : من البحرين المالحين بحر فارس وبحر الروم ، أي يخرج من بحر فارس اللؤلؤ ، ويخرج من بحر الروم العزل. ومن جعلهما من صغار اللؤلؤ فهو يقول : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) أي : من أحدهما ، أي : لا يعدوهما. كقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) [الأنعام : ١٣٠] يعني من الإنس. وقال في آية أخرى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) [الفرقان : ٥٣]. وقال : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) (٥٨) [الرحمن : ٥٨]. أي : صفاء الياقوت في بياض المرجان. قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ) : أي نعماء (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٣).

قال تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٢٤) : يعني السفن التي عليها شرعها ، وهي القلوع (٣). والأعلام : الجبال. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٥).

قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها) : أي على الأرض (فانٍ) (٢٦) : كقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] أي : تموت. أي : يموت أهل الأرض وأهل السماء. (وَيَبْقى وَجْهُ

__________________

(١) في ق وع : «السند» ، وفي الكلمة تصحيف صوابه ما أثبتّه : «البسّذ». واللفظة غير عربيّة. انظر : الجواليقي ، المعرّب ، ص ٣٧٧ ، تعليق : ٣. واللسان : (بسذ) ، ويرى محقّق المعرّب أنّ الكلمة ، كلمة المرجان ، عربيّة.

(٢) كذا في ق وع : «يعني العزل» ، ولم أهتد لوجه الصواب في الكلمة إن كان بها تصحيف.

(٣) في تفسير مجاهد : (الْمُنْشَآتُ) : ما قد رفع قلعه من السفن ، فأمّا ما لم يرفع قلعه فليس بمنشإ ، يعني شراعه». وقد وردت في ع كلمة : «القلوع» هكذا بالواو ، جمعا لقلع ، ولم أجد هذا الجمع فيما بين يديّ من كتب اللغة ، والصحيح أنّ جمعها قلاع ، وقلع. وقد سقطت الآية وتفسيرها من ق ، وهو سهو من ناسخ المخطوطة ولا شكّ.

٢٤١

رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ) : أي العظمة (وَالْإِكْرامِ) (٢٧) : أي لأهل طاعته. قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٨).

قوله : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي يسأله أهل السماء الرحمة ، ويسأله أهل الأرض الرحمة والمغفرة والرزق وحوائجهم ، ويدعوه المشركون عند الشدّة ، ولا يسأله المغفرة إلّا المؤمنون.

قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩) (١) : فمن شأنه أن يميت ويحيي ، أي : ما يولد ، ويجيب داعيا ، ويعطي سائلا ، ويشفي مريضا ، ويفكّ عانيا ، أي : أسيرا. وشأنه كثير لا يحصى ، لا إله إلّا هو. قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٠).

قوله عزوجل : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٣١) : أي الجنّ والإنس ، أي : سنحاسبكم ونعذّبكم. وهي كلمة وعيد ، يعني المشركين منهم. قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٢).

قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) : يعني المشركين منهم (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي من نواحيها.

(فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) (٣٣) [أي : سلطان] الله عليكم في تفسير الحسن. وقال مجاهد : إلّا بحجّة.

ذكروا عن عطاء بن يزيد قال : يبعث الله خوفا على أهل الأرض قبل أن ينفخ في الصور ، فترجف بهم الأرض ، مساكنهم وأفئدتهم ، فيخرجون حتّى يأتوا أنشف (٢) البحر ، فيجتمع فيه الإنس والجنّ والشياطين. فيلبثون ما شاء الله أن يلبثوا ، ثمّ يقول الشياطين بعضهم لبعض : ما يحبسنا؟ هلمّوا لنلتمس المخرج ، فيخرجون حتّى يأتوا الأفق من قبل مغرب الشمس فيجدونه قد سدّ عليه الحفظة ، فيرجعون إلى الناس ، فيلبثون لبثا. ثمّ يقول بعضهم لبعض ما حبسنا؟ هلموا

__________________

(١) جاء في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ١١٦ : «وقوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) غير مهموز. قال : وسألت الفرّاء عن (شَأْنٍ) فقال : أهمز في كلّ القرآن إلّا في سورة الرحمن ، لأنّه مع آيات غير مهموزات. وشأنه في كلّ يوم أن يميت ميّتا ، ويولد مولودا ، ويغني ذا ، ويفقر ذا ، فيما لا يحصى من الفعل».

(٢) كذا في ق وع : «أنشف البحر» ، وهو صحيح فصيح ، أي : أكثر موضع في البحر يبسا. انظر : اللسان : (نشف).

٢٤٢

فلنلتمس المخرج. فيخرجون حتّى يأتوا الخافق من قبل مطلع الشمس ، فيجدونه قد سدّ عليه الحفظة ، فيرجعون إلى الناس. فبينماهم كذلك إذ أشرفت عليهم الساعة ، فنادى مناد : أيّها الناس ، أتى أمر الله ، فما المرأة بأشدّ استماعا لها من الوليد في حجرها ، فينفخ في الصور. قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ) : أي نعماء (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٤).

قال تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما) : يعني الكفّار من الجنّ والإنس (شُواظٌ مِنْ نارٍ) : وهو اللهب الذي لا دخان فيه (وَنُحاسٌ) : وهو الدخان الذي لا لهب فيه ، وهو تفسير ابن عبّاس. وهي تقرأ على وجه آخر : (مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) ، وهي قراءة عبد الرحمن الأعرج ، يقول : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) يقول : من لهب ودخان. قال الله : (فَلا تَنْتَصِرانِ) (٣٥) : أي لا تمتنعان. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٦).

قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً) : أي محمرّة (كَالدِّهانِ) (٣٧) : أي كعكر الزيت ، في تفسير بعضهم. وقال الحسن : أي مثل الدهان إذا صبّ بعضه على بعض رأيت لها حمرة. وقال مجاهد : كألوان الدهان. وبعضهم يقول : أدم تكون في اليمن يقال لها الدّهان (١). (فَبِأَيِّ آلاءِ) : أي نعماء (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٨).

قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٣٩) : أي لا يطلب علم ذلك من قبلهم. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٠).

قال تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) : [بعلاماتهم] (٢) ، أي : بسواد وجوههم وزرقة عيونهم. (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٤١) : أي يجمع بين ناصيته وقدميه من خلفه ثمّ يلقى

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٤٥ : (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) من لونها ، جمع دهن ، تمور كالدهن صافية ، وردة لونها كلون الورد ، وهو الجلّ». وقد أورد الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١١٧ معنى آخر فقال : «أراد بالوردة الفرس الوردة. تكون في الربيع وردة إلى الصفرة ، فإذا اشتدّ البرد كانت وردة حمراء. فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة. فشبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة من الخيل. وشبّهت الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه. ويقال : إنّ الدهان : الأديم الأحمر». وقد ذكر الطبريّ في تفسيره ، ج ١٧ ص ١٤٢ اختلاف المفسّرين في تأويل الآية فقال : «وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عني به الدهن في إشراق لونه ، لأنّ ذلك هو المعروف في كلام العرب». فنرجّح ما ذهب إليه أبو عبيدة.

(٢) زيادة من مجاز أبي عبيدة ، ج ٢ ص ٢٤٥.

٢٤٣

في النار. وتفسير الحسن : يجمع بين ناصيته وقدميه من الغلّ لكي لا يضطرب. قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٢).

قوله عزوجل : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) (٤٣) : أي المشركون (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (٤٤).

بلغنا (١) ـ والله أعلم ـ أنّ شجرة الزقّوم نابتة في الباب السادس من جهنّم على صخرة من نار ، وتحتها عين من الحميم أسود غليظ ، فيسلّط على أحدهم الجوع ، فينطلق به ، فيأكل منها حتّى يملأ بطنه ، فتغلي في بطنه كغلي الحميم ، فيطلب الشراب ليبرد به جوفه ، فينزل من الشجرة إلى تلك العين التي تخرج من تحت الصخرة ، من فوقها الزقّوم ومن تحتها الحميم ، فتزلّ قدماه على تلك الصفا ، فيقع لظهره ولجنبه ، فيشتوى عليها كما يشتوى الحوت على المقلى. فتسحبه الخزّان على وجهه ، فينحدر على تلك العين ، ولا ينتهي إليها إلّا وقد ذهب لحم وجهه ، فينتهي إلى تلك العين ، فيسقيه الخزّان في إناء من حديد من نار. فإذا أدناه من فيه [اشتوى وجهه ، وإذا وضعه على شفتيه] (٢) تقطّعت شفتاه وتساقطت أضراسه وأنيابه من حرّه. فإذا استقرّ في بطنه أخرج ما كان في بطنه من دبره.

وبلغنا أنّ ابن عبّاس قال : إنّ في جهنّم شجرة نابتة في أصل جهنّم ، لا بدّ للكافر من أكلها ، فتملأ بطنه. فيهوي حتّى إذا انتهى إليها أكل منها. فإذا ملأ بطنه صعد إلى أعلاها. فإذا بلغ إلى أعلاها انحدر إليها أيضا. فإذا أكل منها صعد إلى أعلاها أيضا ، فإذا بلغ إلى أعلاها انحدر إليها.

وقال في آية أخرى : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٣) [الغاشية : ٣] أي : كفرت بالله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار ، فهم في عناء وترداد.

قوله تعالى : (حَمِيمٍ آنٍ) فالحميم : الحارّ ، والآني : الذي قد انتهى حرّه. وقال مجاهد : قد بلغ أناه وحان شرابه. ذكروا عن الحسن في قوله : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) (٥) [الغاشية : ٥] أنى حرّها فاجتمع. قال : قد وقد عليها منذ خلق الله السماوات والأرض.

__________________

(١) هذا قول ليحيى بن سلّام ، كما في ز ورقة ٣٤٨.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٤٩.

٢٤٤

قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٥).

قال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) : يعني الذي يقوم بين يدي ربّه للحساب ، في تفسير الحسن ، (جَنَّتانِ) (٤٦). وتفسير مجاهد : هو من أراد ذنبا فذكر الله وذكر أنّه قائم عليه فتركه (١).

تفسير الحسن : إنّها أربع جنّات : جنّتان للسابقين ، وجنّتان للتابعين. ويعني بالسابقين أصحاب النبيّ (٢) عليه‌السلام ، وبالتابعين من بعدهم. وبعضهم يقول : السابقون الذين يدخلون الجنّة بغير حساب ، والذين دونهم أصحاب اليمين غير السابقين. فالمنزل الأوّل للسابقين ، والآخر لأصحاب اليمين ، وهم الذين يحاسبون حسابا يسيرا. قال عزوجل : (فَبِأَيِّ آلاءِ) : أي نعماء (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٧).

قال : (ذَواتا أَفْنانٍ) (٤٨) : تفسير الحسن : ذواتا أغصان ، يعني ظلال الأشجار وبعضهم يقول : ذواتا ألوان. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٩).

قوله عزوجل (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) (٥٠). قال (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥١).

قال : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) (٥٢) : أي لونان (٣). (فَبِأَيِّ آلاءِ) : أي نعماء (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٣).

قوله : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) : تفسير الحسن : [(بَطائِنُها) : يعني ما يلي جلودهم] (٤) والإستبرق الديباج الغليظ. وهي بالفارسيّة : إستبره. قال تعالى : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) : أي ثمارها (دانٍ) (٥٤) : أي قريب.

ذكروا عن البراء بن عازب قال : أدنيت منهم وذلّلت ، يتناولون منها أنهاشا. وذكروا عن البراء بن عازب قال : يتناولون منها قعودا ومضطجعين وكيف شاءوا.

__________________

(١) كذا في ق وع ، وروى الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٧ ص ١٤٥ بعض عبارات مجاهد هكذا : «الرجل يهمّ بالذنب فيذكر مقامه بين يدي الله فيتركه ، فله جنّتان». وفي أخرى : «فيذكر مقام ربّه فينزع».

(٢) كذا في ق وع ، وفي ز : «أصحاب الأنبياء».

(٣) كذا في ق وع : «لونان» ، وفي ز ، ورقة ٣٤٩ : «نوعان». وهو واحد.

(٤) زيادة من ز ، ورقة ٣٤٩.

٢٤٥

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إنّ أهل الجنّة يتناولون من قطوفها وهم متّكئون ، فما تصل إلى في أحدهم حتّى يبدّل الله مكانها أخرى(١).

قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٥).

قال : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) : أي قصر طرفهنّ على أزواجهنّ لا يردن غيرهم (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) : أي لم يمسسهنّ قبل أزواجهنّ في الجنّة بعد خلق الله إيّاهنّ وفي الخلق الثاني (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٥٦) : يعني من كان من المؤمنات من نساء الدنيا.

ذكروا عن الحسن أنّ امرأة من عمّات النبيّ عليه‌السلام قالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني معك في الجنّة فقال : يا عمّه : إنّ الجنّة لا يدخلها عجوز ، ففزعت من ذلك ، فقال : إنّ الله جعلهنّ شوابّ أبكارا (٢).

ذكروا عن الحسن أنّ منهنّ من كان في الدنيا عجوزا رمصاء (٣) فجعلهن الله شواب أبكارا. قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٧).

قال : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) (٥٨) : يريد صفاء الياقوت في بياض المرجان.

ذكر بعضهم قال : إنّ المرأة لتكون من أهل الجنّة يكون عليها تسعون حلّة وإنّه ليرى مخّ ساقها من وراء ذلك كما يبدو الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. قال بعضهم : ذلك مثل الخيط في النظام لا يغيبه النظام. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أوّل زمرة تدخل الجنّة على صورة القمر ليلة البدر ، ثمّ الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء ، أضاءت قلوبهم على قلب واحد ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض. لكلّ امرئ منهم زوجتان ، يرى مخّ ساقها من وراء لحمها ، يسبّحون الله بكرة وعشيّا ، آنيتهم الذهب والفضّة ، وزاد فيه بعضهم : وقود مجامرهم الألوّة (٤). والألوّة : العود

__________________

(١) انظر الإشارة إليه فيما مضى قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٢٢ من سورة الطور.

(٢) أخرجه مجاهد في تفسيره ، ص ٦٤٨. عن الحسن مرسلا. وأخرجه الترمذيّ في الشمائل ، من حديث الحسن كذلك ، وفي سنده المبارك بن فضالة ، وهر مدلّس.

(٣) الرمصاء : التي في عينها رمص ، وهو القذى الذي يجتمع في العين ، وقيل : الذي يسيل منها. انظر اللسان (رمص) و (غمص).

(٤) في ق وع : «اللؤلؤة» ، وفي الكلمة تصحيف صوابه : اللّوّة ، والألؤة. انظر اللسان : (لوى).

٢٤٦

القماريّ ، ورشحهم مسك أذفر ، وبساطهم ذهب (١).

قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٩).

قال تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠) : أي : هل جزاء الإيمان إلّا الجنّة.

ذكروا عن الحسن قال : لا إله إلّا الله بعمل صالح ثمن الجنّة. قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦١).

قال تعالى : (وَمِنْ دُونِهِما) : أي ومن دون الجنّتين اللتين وصف ما فيهما (جَنَّتانِ) (٦٢) ، وهاتان الجنّتان الأخيرتان لأصحاب اليمين ، وهم المقتصدون ، وهم الذين يحاسبون حسابا يسيرا. والجنّتان الأوليان منزل المقرّبين ، وهم السابقون. والمنزل الثاني ، منزل أصحاب اليمين ، وهم المقتصدون. قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٣).

قال تعالى : (مُدْهامَّتانِ) (٦٤) : قال : خضراوان ناعمتان من الريّ ، وادهمّتا من الخضرة. وقال مجاهد : مسوّدتان من الريّ (٢). قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ) : أي نعماء (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٥).

قال : (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) (٦٦) : أي تنبعان من أصولهما ثمّ تجريان بعد. وأمّا عينا جنّتي السابقين فتجريان من أصولهما.

قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ) : أي نعماء (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٧).

قال تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) (٦٨).

ذكروا عن الحسن قال : نخل الجنّة جذوعها ذهب ، وسعفها حلل ، ورطبها مثل قلل هجر ، أشدّ بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، وألين من الزبد.

__________________

(١) حديث حسن صحيح ، أخرجه الترمذيّ في أبواب صفة الجنّة عن أبي سعيد ، ويتقوّى الحديث بحديث متّفق عليه أخرجه البخاريّ في كتاب بدء الخلق ، باب خلق آدم وذرّيّته. وأخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها ، باب أوّل زمرة تدخل الجنّة على صورة القمر ، (رقم ٢٨٣٤) كلاهما يرويه من حديث أبي هريرة.

(٢) في ق وع : «مستويتان من الري إلى النعمة» ، وفي العبارة تصحيف وفساد ، أثبتّ صحّتها ممّا جاء في تفسير مجاهد ، ص ٦٤٣.

٢٤٧

ذكروا عن سعيد بن جبير قال : جذع نخل الجنّة ذهب أحمر ، وكربها زبرجد أخضر ، وشماريخها درّ أبيض ، وسعفها الحلل ، ورطبها أشدّ بياضا من الفضّة ، وأحلى من العسل وألين من الزبد ، ليس في شيء منه عجم (١). طول العذق اثنا عشر ذراعا ، منضود من أعلاه إلى أسفله ، أمثال القلل ، لا يؤخذ منه شيء إلّا أعاده الله كما كان.

ذكروا عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : نخل الجنّة لميك (٢) ما بين أصلها إلى فرعها ، وتمرها كالقلال. كلّما نزعت تمرة عادت تمرة أخرى ، وأنهارها تجري في غير خدود ، والعنقود منها اثنا عشر ذراعا.

ذكروا عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر في حديث ليلة أسري به قال : ثمّ أعطيت الكوثر ، فسلكته حتّى انفجر بي في الجنّة ، فإذا الرمّانة من رمّانها مثل جلد البعير المقتب (٣).

ذكروا عن الحسن عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : في كلّ رمّانة من رمّان الدنيا حبّة من رمّان الجنّة ، أحسبه قال : لا يأكلها المنافق (٤). قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٩).

قال : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) (٧٠) : يعني النساء ، الواحدة منهنّ خيرة. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧١). قال : (حُورٌ) : يعني بيض ، في تفسير العامّة. وتفسير مجاهد : (حُورٌ) أي يحار فيهنّ النظر ، وينظر الناظر إلى وجهه في جيدهنّ. قوله عزوجل : (مَقْصُوراتٌ) : أي محبوسات (فِي الْخِيامِ) (٧٢).

ذكروا عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : الخيمة درّة مجوّفة ، فرسخ في فرسخ ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب ، على كلّ مصراع وصيف قائم.

ذكروا عن أبي موسى الأشعريّ قال : إنّ رجلا من أهل الجنّة لتكون له الخيمة طولها في

__________________

(١) عجم ، هو النوى ، نوى التمر والنبق والرمّان.

(٢) كذا جاءت الكلمة في ع «لميك» ، وفي ق : «تصيك» ، ولم أهتد لما فيها من تصحيف.

(٣) انظر الإشارة إليه في ج ٢ ، تفسير الآية ٣٥ من سورة الرعد ، وتفسير الآية الأولى من سورة الإسراء ، في أحاديث الإسراء والمعراج. وأخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدريّ ، كما في الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٥٠.

(٤) رواه ابن عبّاس مرفوعا ، وليس فيه الجملة الأخيرة ، كما في الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٥٠.

٢٤٨

السماء ستّون ميلا ، وإنّ له في ناحيتها الجواري يطفن عليه لا يشعر بهنّ الآخرون. قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧٣).

قال : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٧٤) : أي لم يمسسهنّ قبل أزواجهنّ ، أي في الجنّة ، قبل خلق الله إيّاهنّ في الخلق الثاني (إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) ، يعني من كان منهنّ من نساء الدنيا المؤمنات. قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ) : أي نعماء (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧٥).

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) (٧٦) : فالرفرف المحابس (١) ، والعبقريّ : الوسائد. ذكروا عن مجاهد عن ابن عبّاس قال : العبقريّ : الوسائد ، والحسان : العتاق. وقال بعضهم : الواحد منهم عبقرة. وتفسير الحسن : الرفرف : المحابس ، والعبقريّ المرافق. وتفسير الكلبيّ : العبقري : الزرابي ، ذكروا عن سعيد بن جبير قال : (عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) على رياض الجنّة (٢). قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧٧).

قوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨) : أي ذي العظمة والإكرام ، أي : لأهل طاعته ، أكرمهم إذ صيّرهم إلى داره ، دار السّلام. عونك يا معين.

* * *

__________________

(١) المحابس : جمع محبس ، وهو «المقرمة التي تبسط على وجه الفراش للنوم». والمقرمة : ستر قد يكون فيه نقوش ورقم. انظر اللسان : (حبس) و (قرم).

(٢) وردت معان كثيرة للرفرف الخضر ، وللعبقريّ الحسان ، منها المخادّ والطنافس الثخان وغيرهما. انظر ذلك في مجاز أبي عبيدة ، ج ٢ ص ٦٤٢ ، وفي تفسير الطبريّ ، ج ٢٧ ص ١٦٣ ـ ١٦٤.

٢٤٩

تفسير سورة الواقعة ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١) : أي إذا قامت القيامة. (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (٢) : أي هي كائنة لا شكّ فيها ، ليس في مجيئها تكذيب (١). (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) (٣) : أي خفضت أقواما إلى النار فلا يرتفعون أبدا ، ورفعت أقواما إلى الجنّة فلا ينزلون أبدا.

قال تعالى : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) (٤) : كقوله : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (١) [الزلزلة : ١] أي : يوم القيامة. وقال مجاهد : (رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) زلزلت الأرض زلزالا وحرّكت تحريكا.

قال تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) (٥) : أي كما يبسّ السويق (٢).

وقال مجاهد : فتّتت فتّا. قال تعالى : (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) (٦) : الهباء الغبار الذي يدخل من الكوّة من شعاع الشمس (مُنْبَثًّا) أي : منثورا متفرّقا. وتفسير الحسن : فكانت غبارا ذاهبا.

قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) (٧) : أي أصنافا ثلاثة ، أي : مؤمنا ومنافقا ومشركا (٣). وهي كقوله : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٧٣]. وكقوله في الآية التي في سورة فاطر : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) ، سقط هذا ، وهو المنافق ، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٢١ : «يقول : ليس لها مردودة ولا ردّ. فالكاذبة هاهنا مصدر ، مثل : العاقبة والعافية».

(٢) بسّ السويق يبسّه بسّا : إذا خلطه بسمن أو زيت ، والبسّ يكون للسويق وللدقيق أو الإقط الطحون ، والبسّ أشدّ من اللتّ بللا. والاسم منه : البسيسة.

(٣) هذا التفسير مخالف لما جاء في سورة فاطر ، الآية : ٣٢ حسبما تأوّله المؤلّف هناك في حديث أبي الدرداء ، وكأنّي بهذا التأويل هنا من زيادات الشيخ هود الهوّاريّ. وهو غير وارد في ز. انظر ما مضى من هذا التفسير ، ج ٣ ، تفسير آية فاطر. والمحقّقون من المفسّرين يرون أنّ الذين أورثهم الله الكتاب ممّن اصطفاهم هم من أصحاب الجنّة.

٢٥٠

وهم أصحاب اليمين ، وهم أهل الجنّة ، أهل المنزلة الآخرة في سورة الرحمن ، وفي هذه ، (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر : ٣٢] وهم المقرّبون السابقون ، وهم أهل المنزلة الأولى في سورة الرحمن وفي هذه السورة.

قال تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (٨) : وهم الميامين على أنفسهم (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) (٩) : وهم المشائيم على أنفسهم. قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١١) : يعني السابقين من أهل الميمنة ، وأصحاب الميمنة هم أصحاب الجنّة ، وهم أصحاب اليمين. وأهل الجنّة صنفان : السابقون وأصحاب اليمين الذين ليسوا سابقين ، وهم أهل الاقتصاد ، وهم الذين يحاسبون حسابا يسيرا.

وتفسير الحسن : السابقون أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحاب الأنبياء عليهم‌السلام.

قال تعالى : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) (١٣) : والثلّة الطائفة. وتفسير مجاهد : الثلّة : الأمّة ، قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١٤) : تفسير الحسن : يعني أنّ سابقي جميع الأمم أكثر من سابقي أمّة محمّد عليه‌السلام. والثلّة أكثر من القليل.

قال : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) (١٥) : قال مجاهد : عن ابن عبّاس : يعني مرمولة بالذهب. قال الحسن : ورملها نسجها بالياقوت واللؤلؤ (١).

وقال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : مرمولة بقضبان اللؤلؤ الرطب.

قال تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) (١٦) : قال : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وتفسير الكلبي : يقابل بعضهم بعضا. قال بعضهم : بلغنا أنّ ذلك في الزيارة إذا تزاوروا.

قوله عزوجل : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) (١٧) : أي : لا يموتون ولا يشيبون عن منازل الوصفاء (٢) ، خلّدوا على تلك الحال لا يتحوّلون عنها.

__________________

(١) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٢٢ : (مَوْضُونَةٍ) : منسوجة ، وإنّما سمّت العرب وضين الناقة ـ أي :حزامها ـ وضينا لأنّه منسوج».

(٢) الوصفاء : جمع وصيف ، وهو الغلام إذا بلغ الخدمة ، وربّما قالوا للجارية وصيفة بيّنة الوصافة ، وجمعها وصائف.

٢٥١

قال تعالى : (بِأَكْوابٍ) : يسمّى كوبا ، والعرب تسمّيه كوزا ، وهو المدوّر القصير العنق القصير العروة (١). قال تعالى : (وَأَبارِيقَ) : وهو المستطيل الطويل العنق الطويل العروة ، وهو بالفارسيّة أبواه.

قال تعالى : (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (١٨) : أي ظاهرة (٢). (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) : أي عن الخمر ، أي : لا يصيبهم عليها صداع (وَلا يُنْزِفُونَ) (١٩) : ولا تذهب عقولهم ، أي : لا يسكرون ، ولا يبولون ولا يتغوّطون ولا يمتخطون.

قال تعالى : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (٢٠) : أي إذا اشتهوا الشعب (٣) من الشجرة انقضّ إليهم ، فأكلوا منه أيّ الثمار شاءوا ، إن شاءوا قياما أو قعودا أو مستلقين ، وهو قوله : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) (٥٤) [الرحمن : ٥٤].

قال : (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢١) : ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إنّ في الجنّة طيرا مثل البخت ، فقال أبو بكر : إنّ ذلك لطير ناعم. قال : والذي يأكل منها أنعم ، وإنّي لأرجو أن تأكل منها يا أبا بكر (٤).

ذكروا أنّ الطير تصفّ بين يدي الرجل ، فإذا اشتهى أحدها اضطرب ثمّ صار بين يديه نضيجا.

ذكروا عن عليّ بن أبي طالب قال : إذا اشتهوا الطعام جاءتهم طيور خضر فترفع أجنحتها ، فيأكلون من جنوبها أيّ الألوان شاءوا ، وفيها من كلّ لون ، يأكلونها ثمّ تطير فتذهب. وبلغنا أنّ الطير تصفّ بين يديه فرسخا ، فالطير أمثال الإبل ، فيقول الطير : يا وليّ الله أمّا أنا فقد رعيت في وادي كذا وكذا وأكلت من ثمار كذا وكذا ، فكل منّي. فإذا اشتهى حسن الطير واشتهى صفته

__________________

(١) كذا في ق وع : وقال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ١٢٣ : «الكوب ما لا أذن له ولا عروة له ، والأباريق ذوات الآذان والعرى». وهذا هو الصحيح كما ذكره المحقّقون من اللغويّين.

(٢) وقال أبو عبيدة في المجاز ؛ ج ٢ ص ٢٤٩ : (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) : شراب من معين ، والمعين الماء الظاهر».

(٣) الشّعبة من الشجر ما تفرّق من أغصانها ، وشعب الغصن أطرافه المتفرّقة ، ويقال أيضا : شعب للمفرد منه بدون تاء. انظر اللسان : (شعب).

(٤) انظر الإشارة إليه فيما سلف قريبا ، ج ٤ ، تفسير الآية ٢٢ من سورة الطور.

٢٥٢

فوقع ذلك في نفسه قبل أن يتكلّم وقع ذلك الطير على مائدته نصفه قدير (١) ونصفه شواء ، فيأكل منها مقدار أربعين سنة ، كلّما شبع ألقي عليه ألف باب من الشهوة. قالها ثلاث مرّات.

قال تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ) (٢٢) : والحور البيض في تفسير بعضهم. وقال مجاهد : الحور : أي : يحار فيهنّ النظر ، وينظر الناظر وجهه في جيدها. وقال تعالى : (عِينٌ) أي : عظام العيون ، والواحدة منها عيناء. وقال بعضهم : أشفار عينيها أطول من جناح نسر.

قال تعالى : (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (٢٣) : يعني صفاء ألوانهنّ ، والمكنون أي : الذي في أصدافه. وقال بعضهم المكنون الذي لم يثقب ولم تمسّه الأيدي.

قال (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤) أي يجازون على قدر أعمالهم.

قوله عزوجل : (لا يَسْمَعُونَ فِيها) : أي في الجنّة (لَغْواً) : واللغو : الباطل. (وَلا تَأْثِيماً) (٢٥) : أي لا يؤثم بعضهم بعضا. (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦) : أي يسلّم بعضهم على بعض ، وقال بعضهم : إلّا خيرا خيرا.

قال تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (٢٧) : هؤلاء غير المقرّبين ، وهم أهل المنزل الآخر في سورة الرحمن. [يعني أهل الجنّة من غير السابقين. وأهل الجنّة كلّهم أصحاب اليمين] (٢).

قال تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) (٢٨) : المخضود الذي لا شوك له. وقيل : الموقر ، وهو تفسير مجاهد. قال تعالى : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) (٢٩) : قال الحسن : هو الموز (٣). وهو قول مجاهد.

__________________

(١) القدير من اللحم ما طبخ في القدر بتوابل.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٠.

(٣) كذا في ق وع. وجاء في ز ما يلي : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) أي بعضه على بعض. يعني بالطلح الشجر الذي بطريق مكّة. قال مجاهد : كانوا يعجبون من وجّ وظلاله من طلح وسدر ، فخوطبوا ووعدوا بما يحبّون مثله». سقط هذا التفسير من ق وع وهو أحقّ بالإثبات ، وأولى بالصواب عندي ؛ ففي مجاز أبي عبيدة ، ج ٢ ص ٢٥٠ ما يلي : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) زعم المفسّرون أنّه الموز ، وأمّا العرب فالطلح عندهم شجر عظيم كثير الشوك ...». ووجّ الذي ذكره مجاهد هو الطائف ، بلاد ثقيف. انظر : معجم البلدان لياقوت ، ومعجم ما استعجم للبكري. (وجّ).

٢٥٣

ذكروا عن عطاء بن السايب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : هو الموز.

قوله عزوجل : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٣٠) : أي متّصل دائم في تفسير الحسن. وقال الكلبيّ : ليس معه شمس. ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : إنّ في الجنّة لشجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام ما يقطعها ؛ اقرأوا إن شئتم : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (١).

قال تعالى : (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) (٣١) : أي ينسكب بعضه على أثر بعض وليس بالمطر.

قوله عزوجل : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٣٣) : ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إنّ أهل الجنّة ليتناولون من قطوفها وهم متّكئون على فرشهم ، فما تصل إلى في أحدهم حتّى يبدّل الله مكانها أخرى (٢). قال الحسن : (لا مَقْطُوعَةٍ) أي ليس ثمارها مثل ثمار الدنيا لها زمن تكون فيه ثمّ تنقطع ، (وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي : إنّ لثمار الدنيا من يمنعها وثمار الجنّة لا تمنع.

قال : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) (٣٤) : أي بعضها فوق بعض. ذكر بعض أصحاب النبيّ عليه‌السلام أنّ ارتفاعها من الأرض قدر مائة خريف ، يعني مائة سنة.

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ) : أي ابتدأنا خلقهنّ ، يعني نساء أهل الجنّة (إِنْشاءً) (٣٥) : أي خلقا. (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) (٣٦) : أي عذارى. (عُرُباً) : قال الحسن : العرب : العاشقات لأزواجهنّ. وبعضهم يقول : المحبّبات لأزواجهنّ ، أي : هم عاشقون لهنّ. وبعضهم يقول : الغنجات (٣).

__________________

(١) حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه الشيخان وأصحاب السنن. أخرجه البخاريّ في كتاب بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنّة وأنّها مخلوقة ، من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك. وأخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب إنّ في الجنّة لشجرة ... من حديث أبي هريرة (رقم ٢٨٢٦) ، ومن حديث سهل بن سعد (رقم ٢٨٢٧) ، ومن حديث أبي سعيد الخدريّ (رقم ٢٨٢٨).

(٢) انظر الإشارة إليه في تفسير الآية ٢٢ من سورة الطور فيما سلف من هذا الجزء. وقد أخرج الحديث ابن سلّام بسند كما في ز ورقة ٣٤٠.

(٣) جمع الفرّاء هذه الأوصاف فقال وأوجز : (عُرُباً) واحدها عروب ، وهي المتحبّبة إلى زوجها ، الغنجة». وقال أبو عبيدة : «هي الحسنة التبعّل».

٢٥٤

قال : (أَتْراباً) (٣٧) : أي على سنّ واحدة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ أهل الجنّة لا يدخلونها كلّهم رجالهم ونساؤهم إلّا على نحو ثلاث وثلاثين سنة ، على طول آدم ، وطوله ستّون ذراعا. والله أعلم بأيّ ذراع ، لا يتغوّطون ولا يبولون ، ولا يمتخطون. والنساء عرب أتراب لا يلدن ولا يحضن ولا يمتخطن ولا يقضين حاجة ، أي : ليس فيهنّ قذر.

ذكر الحسن أنّ امرأة من عمّات النبيّ عليه‌السلام قالت : يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني معك في الجنّة. قال : يا عمّة ، إنّ الجنّة لا يدخلها عجوز. ففزعت من ذلك ، فقال : إن الله جعلهنّ شوابّ أبكارا (١).

قال الحسن : يجعل العجوز شابّة ، والمولودة الصغيرة يشبّها حتّى تكون بنت ثلاث وثلاثين سنة. يعني قوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً) (٣٧). قال : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) (٣٨) : وأصحاب اليمين هاهنا ، في تفسير الحسن ، جماعة أهل الجنّة. قال في الآية الأولى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١٤) [الواقعة : ١٣ ـ ١٤] يعني بالثلّة سابقي من مضى من أصحاب الأنبياء مع الأنبياء (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) يعني أصحاب محمّد مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال في هذه الآية : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٤٠) : يعني التابعين ممّن مضى والتابعين من هذه الأمّة ، فسوّى بين تابعينا وتابعيهم ، وسابقهم أكثر من سابقنا. فيدخل الله أطفالنا الجنّة وأطفالهم ، فنكون شطر أهل الجنّة بأطفالنا ، لأنّ أطفالنا أكثر من أطفالهم.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه يوما : إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة ، فكبّروا وحمدوا الله واستبشروا. ثمّ قال : إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة. فكبّروا وحمدوا الله واستبشروا. ثمّ قال : إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة. فكبّروا وحمدوا الله واستبشروا (٢). قال الحسن : إنّ ذلك لفي كتاب الله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

ذكروا عن جابر بن عبد الله عن النبيّ عليه‌السلام مثل ذلك غير أنّه لم يذكر الأخيرة.

__________________

(١) انظر الإشارة إليه فيما مضى قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٥٦ من سورة الرحمن.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب كون هذه الأمّة نصف أهل الجنّة ، عن عبد الله (رقم ٢٢١). وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد ، باب صفة أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن عبد الله (رقم ٤٢٨٣) ، وأوّله : «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة ...».

٢٥٥

ذكروا عن بعضهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه ذات يوم : أيسرّكم أن تكونوا ثلث أهل الجنّة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : أيسرّكم أن تكونوا شطر أهل الجنّة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : الناس يوم القيامة عشرون ومائة صفّ ، وأنتم منهم ثمانون صفّا (١). ذكروا عن أبي بكر قال : إن الثّلّتين كلتاهما من هذه الأمّة : ثلّة من الأوّلين وثلّة من الآخرين.

قوله : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) (٤١) : وهم أهل النار (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) (٤٢) : في نار وحميم ، أي الشراب الذي لا يستطاع من حرّه.

قال : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (٤٣) : أي من دخان ، [واليحموم الدخان الشديد السواد] (٢) وهو قوله : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (٣١) [المرسلات : ٣٠ ـ ٣١] ينطلق بهم عند الفراغ من حسابهم ، ويساقون إلى النار. ثمّ يبعث الله إليهم ملكا فيقول للخزنة : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢٤) [الصافّات : ٢٤] أي : عن أعمالهم الخبيثة ، فيحبسون قبل أن يصلوا إلى النار ، فيخرج عنق من النار فيحيط بهم جميعا فيغشاهم الحرّ والغشيان (٣). وذلك قوله عزوجل : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) [الكهف : ٢٩] ثمّ يخرج من النار دخان أسود مظلم غليظ شديد حتّى يكون فوق رءوسهم. ثمّ يتفرّق ذلك الظلّ ثلاث فرق فوقهم على السرادقات ، فينطلق كلّ قوم من شدّة الحرّ الذي أصابهم من حرّ السرادق ، فذلك قوله : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ).

قال تعالى : (لا بارِدٍ) : أي لا بارد في الظلّ (وَلا كَرِيمٍ) (٤٤) : أي في المنزل. والكريم : الحسن.

قال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) (٤٥) : هو كقوله عزوجل : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (١٣) [الانشقاق : ١٣]. والمترفون أهل السعة والنعمة في الدنيا ، يعني المشركين. ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر (٤).

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٤٨ من سورة الكهف.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٥٠.

(٣) كذا في ق وع : «الغشيان» ، وله وجه ، ولعلّه : «الغثيان».

(٤) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق عن أبي هريرة (رقم ٢٩٥٦) وهو أوّل أحاديث الكتاب.

٢٥٦

قوله تعالى : (وَكانُوا يُصِرُّونَ) : قال مجاهد : كانوا يقيمون (عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) (٤٦) : أي الذنب الكبير ، وهو الشرك.

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (٤٨) : أي لا نبعث نحن ولا آباؤنا.

قال الله : (قُلْ) يا محمّد (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٥٠) : أي يوم القيامة.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) (٥٥).

ذكروا عن الأعمش قال : الهيم : إبل بها داء [الهيام] (١) فإذا وجدت الماء كرعت فيه ولم ترفع رؤوسها حتّى تموت. وتفسير الحسن : (الْهِيمِ) الإبل المراض (٢) التي تشرب حتّى تنقطع أعناقها. وقال الكلبيّ : (الْهِيمِ) : الظمأى ، أي : العطاش.

قال : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (٥٦) : أي يوم الحساب ، يوم يدين الله الناس بأعمالهم.

وحدّث عن عليّ بن أبي طالب أنّه دخل عليه رجل بعد ما صلّى صلاة الصبح فقال : يا أمير المؤمنين ، ما بلغ عطش أهل النار؟ قال : فغطّى وجهه بثوب ، ثمّ بكى. حتّى تعالى النهار ، ثمّ كشف الثوب عن وجهه فقال : أين السائل عن عطش أهل النار ، تعال أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : إنّ أهل النار ليبكون الدموع في النار زمانا حتّى تنفد الدموع ، ثمّ يبكون الدم زمانا حتّى ينفد الدم ، ثمّ تقرح العيون فيصير عليها قرح فتستبين فيها القيح ما لو قذفت فيه السفن لجرت. قال : فيجتمعون فيقولون : يا معشر الأشقياء ، نعم الزرع تزرعون لو كنتم في الدنيا المحروم أهلها. أما من أحد نستغيث به اليوم؟ فيقولون : ما نعلمه إلّا أهل الجنّة. يا معشر الآباء

__________________

(١) زيادة من تفسير الطبريّ ، ج ٢٧ ص ١٩٦ ، ويسمّى الداء أيضا العطاش.

(٢) في ع وق : «الإبل الصوال» (كذا) ، ولم أهتد لما في الكلمة من تصحيف فأثبتّ مكانها لفظ المراض كما فسّره عكرمة حسب رواية الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٧ ص ١٩٥ : «قال : هي الإبل المراض التي تمصّ الماء مصّا ولا تروي. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٥١ : «و (الْهِيمِ) واحدها أهيم ، وهو الذي لا يروى من رمل كان أو بعير». وانظر اللسان (هيم).

٢٥٧

والأمّهات ، ويا معشر القرابة والأنسبة ، ألم نكن في الدنيا نتراحم ، ألم نسأل فنعطي ، ألم نظلم فنعفو. إنّا خرجنا من الدنيا عطاشا ، وسكنّا القبور عطاشا ، وخرجنا من القبور عطاشا ، ووقفنا طول الموقف عطاشا ، ثمّ سحبنا إلى النار على وجوهنا عطاشا ؛ فقد أحرقت القلوب ، ونضجت الجلود ، وعميت الأبصار. وصمّت الآذان ، (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ). [الأعراف : ٥٠]. قال : ثمّ يؤذن لهم بالجواب ، فيقولون : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) قال : فعند ذلك انقطع رجاؤهم ، وينادون بالويل والثّبور والشهيق.

قال تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا) : أي فهلّا (تُصَدِّقُونَ) (٥٧) : أي بالبعث ، يقوله للمشركين.

قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) (٥٨) : يعني النطفة ، كقوله عزوجل : (نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) [القيامة : ٣٧] وكقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) (٤٦) [النجم : ٤٦] قال تعالى : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (٥٩) : على الاستفهام ، أي : لستم بالذي تخلقونه ، ولكن نحن الخالقون.

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) : أي لكلّ عبد وقت لا يعدو وقته ، وقال : مجاهد : المتأخّر منهم والمستعجل. قال : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٦٠) : أي بمغلوبين (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) : أي آدميّين خيرا منكم. يقوله للمشركين. (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٦١) : أي في صورة القردة والخنازير ، في تفسير الحسن. وقال مجاهد : في أيّ خلق شاء.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) : أي خلق آدم وذرّيّته بعده ، وقال مجاهد : يعني إذ لم تكونوا شيئا. قال تعالى : (فَلَوْ لا) : أي فهلّا (تَذَكَّرُونَ) (٦٢) : أي فتؤمنوا بالبعث.

قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) : أي : تنبتونه ، يقوله على الاستفهام (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٦٤) : أي لستم الذين تزرعونه ولكن نحن الزارعون المنبتون.

قال : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ) : يعني الزرع (حُطاماً) : وهو كقوله عزوجل : (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) [الكهف : ٤٥].

(فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (٦٥) : تفسير الحسن : تندّمون ، أي : على ما أنفقتم في الزرع.

٢٥٨

وقال مجاهد : أي : فظللتم تعجبون [المعنى : تعجبون لهلاكه بعد خضرته] (١). (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) (٦٦) : أي غرمنا في الزرع (٢) (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٦٧) : أي حرمنا الزرع.

قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) : تفسير ابن عبّاس : المزن السحاب. وهو قول مجاهد. وتفسير الحسن : السماء. قال تعالى : (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (٦٩) : على الاستفهام ، أي : لستم أنتم أنزلتموه من المزن ، ولكن نحن المنزلون.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) : أي مرّا (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) (٧٠) : أي فهلّا تؤمنون. يقوله للمشركين.

قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (٧١) : أي توقدون (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) : أي التي تخرج منها (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) (٧٢) : أي الخالقون ، يعني أم نحن المنبتون.

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) : أي للنار الكبرى. قال الحسن : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ناركم هذه التي توقدون إنّها جزء من سبعين جزءا من نار الآخرة. قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية. قال : فإنّها فضلتها تسعة وستّين جزءا. ولقد ضرب بها في الماء مرّتين (٣).

ذكروا عن سلمان الفارسيّ قال : النار سوداء مظلمة ما يضيء لهبها ، ثمّ قرأ هذه الآية : (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠) [الأنبياء : ١٠٠]. ذكر الحسن قال : كان عمر بن الخطّاب إذا همّ أن يوقد النار [أوقد] ثمّ يدني أصبعه منها فيقول : يا ابن الخطّاب ، ألك على هذا صبر؟.

ذكر بعضهم قال : فما ظنّكم عباد الله بعبد قد جعلت في عنقه سلسلة محماة تحرق ما ظهر من جسده وما بطن؟ فلو أنّ حلقة من تلك السلسلة وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص ، فكيف بابن آدم ، وهي عليه وحده. ثمّ يطمس وجهه على دبره ، ويجمع ما بين ناصيته وقدمه ، وقرن معه شيطانه ، تنازعهم الأغلال في حميم ، فبئس القرناء قرنوا معه. فويل لابن آدم

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٥١.

(٢) كذا في ق وع : «أي : غرمنا في الزرع» ، وفي ز : «إنّا لمهلكون». وفي تفسير مجاهد ص ٦٥٠ : «يقول : إنّا لملقون للشرّ». وقال أبو عبيدة والفرّاء وابن قتيبة : «إنّا لمعذّبون». وزاد ابن قتيبة : «من قوله عزوجل : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٥] أي : هلكة».

(٣) انظر : الإشارة إلى هذا الحديث فيما سلف ، ج ٢ تفسير الآية ٨١ من سورة التوبة.

٢٥٩

حين هو مسودّ الوجه ، بادي العورة ، ذليل الجسد ، كاسف البال ، آيس من كلّ خير ، مستيقن من كلّ شرّ ، تسحبه الملائكة بالسلاسل في نار تغلي على القطران ، والقطران يغلي على جسده.

قال تعالى : (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (٧٣) : أي يستمتعون بها. والمقوون المسافرون في تفسير الحسن (١). وقال بعضهم : المقوي المسافر المرمل. والمرمل الذي قد ذهب زاده (٢). وقال مجاهد : المقوون المستمتعون.

قال تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) : قال بعضهم : بلغنا أنّها لمّا نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم. قال : ولمّا نزلت : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] قال : اجعلوها في سجودكم (٣).

قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ) : وهذا قسم. وأقسم ولا أقسم واحد. قال تعالى : (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) : أي نجوم القرآن ، وهي تقرأ : (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) ، أي بنزول الوحي ، فيما ذكر عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس (٤).

وتفسير الحسن : يعني الكواكب إذا انتثرت يوم القيامة. وبعضهم يقول : النجوم إذا غابت. وقال مجاهد : موقع نجوم السماء.

قال : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧) : أقسم بمواقع النجوم إنّ هذا القرآن كريم ، أي : على الله. (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (٧٨) : أي عند الله ، بأيدي

__________________

(١) وهذا ما ذهب إليه ابن قتيبة أيضا. قال في تفسير غريب القرآن ، ص ٤٥١ : (لِلْمُقْوِينَ) يعنى المسافرين ، سمّوا بذلك لنزولهم القواء ، وهو القفر».

(٢) وهذا ما ذهب إليه أبو عبيدة. قال في المجاز ، ج ٢ ص ٢٥٢ : «المقوي الذي لا زاد له ولا مال ، وكذلك الدار التي قد أقوت من أهلها».

(٣) أخرجه ابن ماجه في باب إقامة الصلاة والسنّة فيها ، باب التسبيح في الركوع والسجود ، (رقم ٨٨٧). وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ما يقوله الرجل في ركوعه وسجوده ، (رقم ٨٦٩) كلاهما يرويه من حديث عقبة بن عامر الجهني.

(٤) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٢٩ : «قال : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) قال : بمحكم القرآن ، وكان ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما». وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٥٢ : «فأقسم بمواقع النجوم ، ومواقعها مساقطها ومغايبها».

٢٦٠