تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

تفسير سورة (وَالشَّمْسِ) (١) وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) (١) : أي وضوئها ، وبعضهم يقول : وحرّها.

(وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (٢) : أي إذا تبعها. أي إذا تبع الشمس صبيحة الهلال (٢).

قال عزوجل : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) (٣) : أي جلّى ظلمة الليل فأذهبها. والليل والنهار يختلفان والنهار يذهب بظلمة تلك الليلة.

وقال مجاهد : (إِذا جَلَّاها) أي : إذا أضاء.

قال عزوجل : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) (٤) : أي إذا غشّى الشمس فأذهبها. (وَالسَّماءِ وَما بَناها) (٥) : أي والذي بناها ، أقسم بالسماء وبنفسه. قال : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٦) : أي بسطها ، أقسم بها وبنفسه.

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) (٧) : أي والذي سوّاها ، يعني نفسه ، أقسم بالنفس التي خلقها فسوّاها وبنفسه. قال عزوجل : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨) : أي بيّن الله لها الفجور والتقوى ، وهو سبيل الهدى وسبيل الضلالة.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (٩) : [أي من زكّى الله نفسه فهداها] (٣) (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠) : أي وقد خاب من دسّى الله نفسه ، أي أشقاها الله بفعلها (٤). وهذا كلّه قسم من أوّل السورة إلى هذا الموضع.

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز : «تفسير سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحاها).

(٢) كذا في ق وع : «صبيحة الهلال» ، وفي ز : «ليلة الهلال» ، وبكلا اللفظين رواه ابن جرير الطبريّ عن قتادة في تفسيره ، ج ٣٠ ص ٢٠٨.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٩٤ ، وهذا وجه من وجوه تأويل الآية ، وقيل معناه : «من زكّى نفسه بعمل البرّ واصطناع المعروف» ، كما جاء في بعض التفاسير.

(٤) وقيل معناه : من دسّى نفسه ، أي : أخفاها بالفجور والمعصية.

٤٦١

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (١١) : على هذا وقع القسم. وقوله بطغواها ، أي بطغيانها ، أي : بشركها ، وتكذيبها رسلها بما جاء به من عند الله. وتفسير مجاهد : بمعصيتها ، وهو واحد.

قال عزوجل : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) (١٢) : وهو أحمر ثمود الذي عقر الناقة ، وقد فسّرنا أمرها وعقرهم إيّاها في غير هذا الموضع (١). (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) : يعني صالحا (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) (١٣) : أي اتّقوا ناقة الله ولا تمسّوها بسوء واتّقوا سقياها ، أي شربها ، لا تمنعوها منه ؛ كانت تشربه يوما ويشربونه يوما.

قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُ) : يعني صالحا (فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) : أي حرّك بهم الأرض فأهلكهم بذنبهم (فَسَوَّاها) (١٤) : أي بالعقوبة (٢).

(وَلا يَخافُ عُقْباها) (١٥) : أي لا يخاف الله تباعة ، أي : لا يتبع بذلك كقوله تعالى : (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) (٦٩) [الإسراء : ٦٩] أي : يتبعنا بذلك لكم. وبعضهم يقول : (فلا يخاف) الذي عقر الناقة ، حين عقرها ، (عقباها) أي : لم يخف أن يصيبه العقاب. وفيها في هذا التفسير تقديم ؛ يقول : إذ انبعث أشقاها فلا يخاف عقباها. لا حول عن معاصي الله إلّا بعصمة من الله ولا قوّة على طاعة الله إلّا بعون الله.

* * *

__________________

(١) انظر ما سلف ج ٣ ، تفسير الآيات ١٥٥ ـ ١٥٨ من سورة الشعراء.

(٢) قال ابن خالويه في كتابه : إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم ، ص ١٠٦ ما يلي : «(فسوّاها) أي : انخسفت بهم الأرض فسوّيت عليهم ودمدمت ودكدكت وزلزلت عقوبة لعقرهم الناقة. وقال بعض أهل العلم : الهاء في (فسوّاها) تعود على الدمدمة ، لأنّ الفعل إذا ذكر دلّ على مصدره ، كقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) [البقرة : ٤٥] أي : وإنّ الاستعانة لكبيرة». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٦٩ : «ويقال : (فسوّاها) سوّى الأمّة ، أنزل العذاب بصغيرها وكبيرها بمعنى سوّى بينهم».

٤٦٢

تفسير سورة (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (١) : أي غشي النهار وأذهب ضوءه. (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) (٢) : أي إذا ظهر (١) فأذهب ظلمة الليل.

قال تعالى : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣) : أي والذي خلق الذكر والأنثى ، يعني نفسه ، وهذا كلّه قسم. (إِنَّ سَعْيَكُمْ) : يعني سعي المؤمن وسعي الكافر ، أي عملهما (لَشَتَّى) (٤) : أي لمختلف.

قال عزوجل : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) (٦) : أي بالثواب ، وهي الجنّة (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٧) : أي لعمل أهل الجنّة.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) : أي بما عنده أن يتقرّب به إلى ربّه (وَاسْتَغْنى) (٨) : أي عن ربّه (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) (٩) : أي بالثواب وهي الجنّة.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١٠) : أي لعمل النار ، أي ببخله وتكذيبه.

ذكروا عن جندب بن عبد الله قال : لا فقر بعد الجنّة ، ولا غنى بعد النار ؛ إنّ النار لا يفدى أسيرها ، ولا يستغني فقيرها.

قال عزوجل : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) (١١) : أي في القبر إذا مات. وقال بعضهم : إذا تردّى في النار ، إذا هوى فيها.

قال تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) (١٢) : أي : تبيين سبيل الهدى وسبيل الضلالة. قال تعالى : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) (١٣) : أي الدنيا.

قال : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) (١٤) : أي تتأجّج (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (١٦) : يعني بالذي كذّب المشرك ، وبالذي تولّى المنافق ، أي : تولّيا عن طاعة الله (٢).

__________________

(١) في ق وع : «إذا تجلّى الليل» ، وهو خطأ ، أثبتّ تصحيحه من ز.

(٢) كذا في ق وع ، وهذا من كلام الشيخ هود الهوّاريّ ولا شكّ. وجاء في ز ورقة ٣٩٤ : (الَّذِي كَذَّبَ ـ

٤٦٣

قال عزوجل : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (١٨) : أي : يتقرّب به إلى الله في تفسير الحسن. وهذا تطوّع. بلغنا أنّها نزلت في أبي بكر الصدّيق حين أعتق بلالا وخمسة معه (١).

قال عزوجل : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) (١٩) : أي ليس يفعل ذلك لنعمة يجزيها أحد فعلها به (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٢٠) : أي ليس يفعل ذلك إلّا ابتغاء وجه ربّه الأعلى (وَلَسَوْفَ يَرْضى) (٢١) : أي الثواب في الجنّة.

* * *

__________________

ـ وَتَوَلَّى) : كذّب بكتاب الله وتولّى عن طاعة الله. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ٢ ص ٣٠١ : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) والعرب تضع «أفعل» في موضع «فاعل». قال طرفة :

تمنّى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد».

(١) كذا في ق وع ، وفي تفسير الطبري ج ٣٠ ، ص ٢٢٨ : «عن قتادة قال : نزلت في أبي بكر ، أعتق أناسا لم يلتمس منهم جزاء ولا شكورا ، ستّة أو سبعة ، منهم بلال وعامر بن فهيرة».

٤٦٤

تفسير سورة (وَالضُّحى) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (وَالضُّحى) (١) : أي ضحى النهار ، يعني ضوءه ، وبعضهم يقول : أوّل ساعة من النهار.

(وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) (٢) : أي إذا أظلم ، وهذا قسم.

(ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) : وهي تقرأ على وجهين : (ما وَدَّعَكَ) مثقّلة ، و (وَدَّعَكَ) مخفّفة ، أي : ما تركك. وذلك أنّ جبريل أبطأ عن النبيّ عليه‌السلام بالوحي ، فقال المشركون : ودعه ربّه وأبغضه. فمن قرأها مثقّلة ، فهو يقول : لم يودّعك ربّك فيكون آخر الفراغ من الوحي. ومن قرأها بالتخفيف فهو يقول : ما تركك ربّك ، أي من أن ينزل عليك الوحي. قال : (وَما قَلى) (٣) : أي وما أبغضك.

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) (٤) : أي من الدنيا (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) : أي في الجنّة (فَتَرْضى) (٥).

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) (٦) : [قال ابن عبّاس يقول : وجدك يتيما عند أبي طالب فآواك إلى خديجة] (١).

قال تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) : وهو قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢].

وكقوله عزوجل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣) [يوسف : ٣].

قال عزوجل : (وَوَجَدَكَ عائِلاً) : أي فقيرا (فَأَغْنى) (٨).

قال عزوجل : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (٩) : أي لا تقهره فتمنعه حقّه الذي أمر الله به.

__________________

(١) زيادة من ز ، وهي من رواية ابن أبي زمنين. ولم أجد هذا التأويل فيما بين يديّ من المصادر ، ويبدو لي غريبا فإنّه لمّا تزوّجته خديجة لم يكن يتيما ، فإنّه لا يتم بعد احتلام. لعلّ الصواب ، «آواك وضمّك إلى أبي طالب».

٤٦٥

وقال بعضهم : فلا تشتدّ به.

قال عزوجل : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠) : [أي : فلا تنهره ؛ إمّا أعطيته وإمّا رددته ردّا ليّنا] (١).

ذكروا أنّ رجلا شكا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قساوة قلبه ، فقال له عليه‌السلام : إن أردت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم ، وأطعم المساكين (٢).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من عال يتيما من أبوين مسلمين حتّى يستغني وجبت له الجنّة (٣).

قال عزوجل : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١) : بينكم بنعم ربّك (٤).

* * *

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٩٥.

(٢) رواه أحمد بسند صحيح ، عن أبي هريرة ، ورواه الطبرانيّ بزيادة من حديث أبي الدرداء.

(٣) أخرجه أحمد والطبرانيّ عن عمرو بن مالك القشيريّ. ورواه الترمذيّ عن ابن عبّاس مرفوعا بلفظ : «من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنّة ألبتّة ، إلّا أن يعمل ذنبا لا يغفر». كما ذكره المنذريّ في الترغيب والترهيب ، ج ٣ ص ٣٤٧.

(٤) وردت هذه العبارة في ق وع : «بينكم نعم ربّه» ولست مطمئنّا إلى صحّتها. ففي ز : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي بالقرآن (فَحَدِّثْ). وجاء في بعض التفاسير رواية عن الحسن بن عليّ : «قال : هو الرجل يعمل عمل البرّ يخفيه عن المخلوقين ، ثمّ يطّلع عليه ثقاته من إخوانه».

٤٦٦

تفسير سورة (أَلَمْ نَشْرَحْ) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) : ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بينما أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذا سمعت قائلا يقول : أحد الثلاثة بين الرجلين ، فشقّ نحري إلى كذا وكذا. قال : إلى أسفل بطني ، واستخرج قلبي ، ثمّ أتيت بطست من ذهب فيه من ماء زمزم ، ثمّ كنز ، أو قال : حشي إيمانا وحكمة ثمّ أعيد مكانه (١). وتفسير الحسن : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ، أي : بالإيمان.

قال عزوجل : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) (٢) : والوزر الحمل ، وهو الذنوب التي كانت عليه في الجاهليّة (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (٣) : أي أثقل ظهرك.

قال عزوجل : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (٤) : أي بالنبوّة ، أي : إنّك تذكر معي إذا ذكرت في الأذان والإقامة والخطب. نزلت هذه الآية قبل الأذان والإقامة ، حتّى إذا جاء الوقت الذي فيه الوقت (٢).

قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) : ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لبعض أصحابه : لن يغلب عسر يسرين (٣).

قوله عزوجل : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) (٧) : تفسير الحسن : فإذا فرغت من قتال

__________________

(١) كذا في ق وع : «كنز» أو «حشي». وبهذا اللفظ الأخير جاء في حديث مسلم ، في كتاب الإيمان ، باب الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... (رقم ١٦٤). انظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء ، في أحاديث الإسراء. وانظر سنن الترمذيّ ، كتاب التفسير سورة (أَلَمْ نَشْرَحْ) من حديث مالك بن صعصعة.

(٢) كذا وردت هذه العبارة فاسدة في ق وع. ولا شكّ أنّ بعض الكلام ساقط حتّى يستقيم المعنى. وانظر معاني رفع الله ذكر نبيّه عليه‌السلام في تفسير القرطبيّ ، ج ٢٠ ص ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٣) أخرجه ابن جرير الطبريّ مرسلا ، عن الحسن وعن قتادة ، ولفظه : «أتاكم اليسر ، لن يغلب عسر يسرين». وأخرجه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله مرفوعا في قصّة بعث ، عليهم أبو عبيدة بن الجرّاح ، رواها السيوطيّ في الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ٣٦٤. وانظر ابن خالويه ، إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم ، ص ١٢٧.

٤٦٧

أعدائك فانصب إلى ربّك في العبادة. قال : أمره الله أن لا يؤثر شيئا من أمر الدنيا على شيء من أمر الآخرة ؛ والله أعلم كيف كان تفسير الحسن هذه الآية. وقال الكلبيّ : فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء.

قال عزوجل : (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨) : أي فتضرّع بالدعاء. ذكروا أنّ أبا الدرداء قال : من أكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ؛ يعني الدعاء.

وكان بعض الفقهاء يعجبهم أن يدعو في الصلاة المكتوبة بدعاء في كتاب الله.

وقال بعضهم : السنّة أنّ القرآن في الصلاة في القيام ، والتسبيح في الركوع والسجود ، والدعاء في الجلوس.

* * *

٤٦٨

تفسير سورة التين ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (١) : قال بعضهم : التين جبل دمشق ، والزيتون جبل بيت المقدس. وقال الكلبيّ : تينكم هذا وزيتونكم هذا.

قوله عزوجل : (وَطُورِ سِينِينَ) (٢) : الطور : الجبل ، و (سِينِينَ) : الحسن ، أي : الجبل الحسن. وقال مجاهد : (سِينِينَ) : المبارك. وقال الحسن : هو الجبل الذي نادى الله منه موسى.

قال عزوجل : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (٣) : أي الآمن ، أي : الحرام يعني مكّة. يقول : إنّكم تأمنون فيه من القتل والسباء ، والعرب يقتل بعضهم بعضا ، ويسبي بعضهم بعضا ، وأنتم آمنون من ذلك. وكان هذا قبل أن يؤمر النبيّ عليه‌السلام بقتل المشركين ، ثمّ أمر بقتالهم بالمدينة.

قال عزوجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤) : أي في أحسن صورة. وقال مجاهد : في أحسن الخلق. أقسم بهذا كلّه من أوّل السورة إلى هذا الموضع.

قال تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) (٥) : أي جهنّم ، ويعني بالإنسان هاهنا المشرك. وقال بعضهم : (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي : الشباب ، (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) يعني الهرم (١). وقال الكلبيّ : (أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي : الهرم ، يعني مثل قوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) [يس : ٦٨] ، فيصير مثل الصبيّ الذي لا يعقل شيئا.

قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : استثننى من آمن [وعمل صالحا] (٢).

(فَلَهُمْ أَجْرٌ) : أي ثواب (غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٦) : أي غير محسوب ، في تفسير مجاهد ، وهو الجنّة. وقال الحسن : غير ممنون عليهم منّ أذى (٣).

__________________

(١) وهذا ما اختاره الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٧٦. قال : «يقول : إنّا لنبلغ بالآدميّ أحسن تقويمه ، وهو اعتداله واستواء شبابه ، وهو أحسن ما يكون ، ثمّ نردّه بعد ذلك إلى أرذل العمر ...».

(٢) زيادة لا بدّ منها يقتضيها سياق الآية.

(٣) وقيل أيضا : «غير مقطوع ولا ممنوع».

٤٦٩

قال عزوجل : (فَما يُكَذِّبُكَ) : تفسير الكلبيّ : إنّه يقول للمشرك : فما يكذّبك أيّها الإنسان (بَعْدُ بِالدِّينِ) (٧) : أي بالحساب يوم القيامة.

قال عزوجل : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨) : ذكروا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا قرأ أحدكم فبلغ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ، فإذا أتى على آخرها فليقل : بلى(١).

* * *

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب مقدار الركوع والسجود (رقم ٨٨٧) ، من حديث أبي هريرة ، وفي إسناده ضعف لجهالة الأعرابيّ الذي روى عنه أبو هريرة. وفيه : «بلى وإنّا على ذلك من الشاهدين».

٤٧٠

تفسير سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (١) : هذا أوّل ما كلّم جبريل النبيّ عليه‌السلام حين تبدّى له. قال له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ..). إلى قوله : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (١). ذكروا أنّ هذه السورة أوّل سورة نزلت على محمّدعليه‌السلام.

قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (٤) : وهو الكتاب (٢) بالقلم. (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥).

قال تعالى : (كَلَّا) : [قال الحسن : معناها حقّا] (٣) (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٧) : قال بعضهم : هو أبو جهل بن هشام. وتفسير الكلبيّ : (لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) يعني : ليرتفع من منزلة إلى منزلة.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أنّ لابن آدم واديين ملئا مالا لابتغى إليهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، ثمّ يتوب الله على من تاب (٤).

قال تعالى : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (٨) : أي المرجع يوم القيامة.

قال الله عزوجل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى) (١٠) : نزلت في أبي جهل ؛ كان ينهى النبيّ عليه‌السلام عن الصلاة (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) (١١) : يعني النبيّ عليه

__________________

(١) كذا في ق وع وفي ز. «إلى قوله : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) والصحيح الذي عليه جمهور المحقّقين من المفسّرين وكتّاب السيرة أنّ أولى الآيات نزولا كانت خمسا ، وتنتهي بقوله : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ). انظر مثلا : حديث عائشة المتّفق عليه في صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (رقم ١٦٠).

(٢) أي : علّم الكتابة بالقلم. يقال : كتب كتبا وكتابا وكتابة.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٩٦.

(٤) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب الرقاق ، باب ما يتّقى من فتنة المال ، عن ابن عبّاس وأنس بن مالك. وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة ، باب لو أنّ لابن آدم واديين لابتغى ثالثا ، عن أنس بن مالك (رقم ١٠٤٨) ، وعن ابن عبّاس (رقم ١٠٤٩) وأخرجه ابن ماجه والترمذيّ وغيرهم.

٤٧١

السّلام ؛ أي : إنّ محمّدا على الهدى (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) (١٢) : وهو محمّد عليه‌السلام أمر العباد بطاعة الله. (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (١٣) : يعني أبا جهل ، كذّب بكتاب الله ، وتولّى عن طاعة الله ، أي : قد كذّب وتولّى. قال عزوجل : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (١٤) : أي يرى عمله.

(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) : يعني أبا جهل ، عن كفره وتكذيبه (لَنَسْفَعاً) : أي لنأخذن (بِالنَّاصِيَةِ) (١٥) : أي ليجرّن بالناصية ، أي : ناصية أبي جهل ، أي : تجرّه الملائكة بناصيته ، تجمع بين ناصيته وقدميه من خلفه فتلقيه في النار. وهو مثل قوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٤١) [الرحمن : ٤١]. قال عزوجل : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) (١٦) : وهي ناصية أبي جهل ، وهو الكاذب الخاطئ المشرك.

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (١٨) : أي فليدع أبو جهل إذا دعونا بالزبانية ، خزنة جهنّم فجرّوا بناصيته إلى النار ، فليدع حينئذ ناديه. قال بعضهم : عشيرته. وقال الحسن : جلساءه ، أي : فليمنعوه من ذلك.

قال تعالى : (كَلَّا لا تُطِعْهُ) : أي لا تطع أبا جهل فيما يأمرك به ، يقوله للنبيّ عليه‌السلام. (وَاسْجُدْ) : أي وصلّ لربّك (وَاقْتَرِبْ) (١٩) : وهو الدنوّ. أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا كان ساجدا (١). ذكروا عن كعب قال : إنّ أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا كان ساجدا ، واغتنموا الدعاء عند نزول المطر. وقال الحسن : أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا كان ساجدا ، ثمّ تلا هذه الآية : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ).

* * *

__________________

(١) هذا نصّ حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب ما يقال في الركوع والسجود ، من حديث أبي هريرة (رقم ٤٨١) ولفظه : «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء».

٤٧٢

تفسير سورة القدر ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) : ذكروا عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : نزل القرآن ليلة القدر إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، وجعل بعد ذلك ينزل نجوما : ثلاث آيات ، وأربع آيات ، وخمس آيات ، وأقلّ من ذلك وأكثر ؛ ثمّ تلا هذه الآية : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) [الواقعة : ٧٥].

قال تعالى : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٣) : [تفسير ابن عبّاس : العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر] (١) لا توافق فيها ليلة القدر.

[ذكروا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (٢). يحيى عن فطر عن عبد الرحمن بن سابط قال : كان رسول الله عليه‌السلام يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان ويشمّر فيهنّ للصلاة] (٣). قوله عزوجل : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) : أي بأمر ربّهم. والروح جبريل. ذكروا عن أبي عبيدة قال : الملائكة في الأرض ليلة القدر أكثر من عدد الحصى. قال عزوجل : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (٤) : [يعني بكلّ أمر].

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥) : [يعني خير كلّها إلى مطلع الفجر] (٤). وتفسير الكلبيّ : إنّ الملائكة تسلّم على المؤمنين ليلة القدر إلى مطلع الفجر.

__________________

(١) ما بين المعقوفين زيادة من ز ، ورقة ٣٩٦.

(٢) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب الصوم ، باب التماس ليلة القدر في العشر الأواخر عن ابن عمرو عن أبي سعيد وعن عائشة وعن ابن عبّاس وعن عبادة بن الصامت ، ولفظ عائشة : «تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان». وأخرج هذا الحديث أصحاب السنن. واختلف الصحابة والعلماء في تحديدها ، وكان أبيّ بن كعب حلف ولم يستثن إنّها ليلة سبع وعشرين. كما ذكره زر بن حبيش ، وكما رواه مسلم في كتب الصوم ، باب فضل ليلة القدر ... (رقم ٧٦٢). وانظر مختلف الأقوال فيها في كتاب التفسير والحديث. انظر مثلا ابن الجوزيّ ، زاد المسير ، ج ١ ص ١٨٢.

(٣) ما بين المعقوفين زيادة من ز ورقة ٣٩٦.

(٤) ما بين المعقوفين زيادة من ز ورقة ٣٩٦.

٤٧٣

تفسير سورة (لَمْ يَكُنِ) ، وهي مكّيّة كلّها(١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) أي ومن المشركين (مُنْفَكِّينَ) أي منتهين عن كفرهم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ) : يعني محمّدا عليه‌السلام (يَتْلُوا صُحُفاً) : يعني القرآن (مُطَهَّرَةً) (٢) : أي من الشرك والكفر ، كقوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ) (١٦) [عبس : ١٣ ـ ١٦] (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (٣) : [أي : مستقيمة لا عوج فيها] (٢) ، يعني التي جاءت بها الأنبياء ، وهي من الصحف المطهّرة التي عند الله. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : أيّ الخلائق أعجب إيمانا؟ قالوا : الملائكة. قال : الملائكة في السماء فما لهم لا يؤمنون. قال : أيّ الخلائق أعجب إيمانا؟ قالوا : النبيّون. قال : النبيّون ينزل عليهم الوحي فما لهم لا يؤمنون. قال : أيّ الخلائق أعجب إيمانا؟ قالوا : أصحابك. قال : أصحابي يرونني ويسمعون كلامي فما لهم لا يؤمنون. قال : أعجب الخلائق إيمانا قوم يأتون من بعدكم فيجدون كتابا في رقّ فيؤمنون به (٣).

ذكروا عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير القرون قرني ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم (٤).

قال عزوجل : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٤) : أي إلّا من بعد ما جاءهم البيان من الله.

__________________

(١) كذا في ق وع : «وهي مكّيّة كلّها». وهو موافق لما ذكره القرطبيّ وابن الجوزيّ في تفسيريهما من أنّ يحيى بن سلّام ذهب إلى أنّها مكّيّة. وفي ز : «تفسير سورة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وهي مدنيّة كلّها». وهذا ما ذهب إليه جمهور المفسّرين.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٩٦.

(٣) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ١ ، مقدّمة المؤلّف.

(٤) حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب الفضائل ، باب فضائل أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل الصحابة ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم ، (رقم ٢٥٣٥) عن عمران بن حصين بلفظ أطول.

٤٧٤

قال عزوجل : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) : والحنيف في تفسير الحسن : المخلص. وتفسير الكلبيّ : الحنيف : المسلم. قال عزوجل : (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥) : أي دين الملّة المستقيمة بأمر الله (١). رجع إلى قوله : (لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ).

قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) : يعني من كفر بما جاء به محمّد عليه‌السلام من أهل الكتاب والمشركين (فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (٦) : أي شرّ الخلق.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٧) أي خير الخلق. [يحيى عن حمّاد عن أبي الزبير عن أبي هريرة قال : المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده] (٢).

(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) : أي : لا يموتون ولا يخرجون منها (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) : أي : بأعمالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) : أي ورضوا ثوابه (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨).

* * *

__________________

(١) في ق وع : «دين الملائكة القيمة» ، وهو خطأ صوابه ما أثبتّه من ز.

(٢) زيادة من ز. كذا رواه ابن سلّام بهذا السند ولم يرفعه ، وذكره الفخر الرازي في تفسيره ، ج ٣٢ ص ٥١ ـ ٥٢ بلفظ أطول ، عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كما ذكره الألوسيّ في تفسيره ، ج ١٠ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، فقال : «أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا : أتعجبون لمنزلة الملائكة من الله تعالى؟ والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من منزلة الملك ، واقرأوا إن شئتم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). وفي المسألة خلاف قديم ؛ فابن كثير ويحيى بن سلّام يرويان الحديث موقوفا ، والفخر الرازي والألوسيّ يرويانه مرفوعا. ولكنّ الفخر الرازي يضعّف الاستدلال بهذا الحديث على أفضليّة المؤمن على الملك ، والألوسيّ لا يرى ذلك.

٤٧٥

تفسير سورة (إِذا زُلْزِلَتِ) ، وهي مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (١) : أي تحرّكت من نواحيها كلّها ، وذلك يوم القيامة. قال تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٢) أي ألقت ما فيها من الأموات (١). كقوله عزوجل : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (٤) [الانشقاق : ٤] أي : تخلّت منهم إلى الله. قال عزوجل : (وَقالَ الْإِنْسانُ) : والإنسان هاهنا المشرك (٢). (ما لَها) (٣) : أي ما لها تحرّكت؟.

قال الله : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤) : أي بما ألقت ممّا كان في بطنها من الأموات. قال عزوجل : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٥) : أي أمرها في تفسير مجاهد. أي أوحى لها أن تلقي ما في بطنها. وقال بعضهم : سألها.

قال عزوجل : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) : أي من بين يدي الله مختلفين ، بعضهم إلى الجنّة وبعضهم إلى النار. (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) : أي وزن ذرّة (خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) : أي وزن ذرّة (شَرًّا يَرَهُ) (٨) : أي يراه في ميزانه فيسوءه ذلك.

* * *

__________________

(١) هذا وجه من وجوه تأويل الآية ، ولفظ الأثقال أعمّ من ذلك ، فكلّ ما في جوف الأرض من معادن حجريّة كالذهب والفضّة والحديد مثلا ، أو سائلة كالنفط والماء ، أو غازية ، أو غير ذلك يعدّ من أثقالها.

(٢) لا وجه لتخصيص الإنسان هنا بالمشرك ، بل تعريف الإنسان هنا يفيد استغراق الجنس البشريّ.

٤٧٦

تفسير سورة (وَالْعادِياتِ) ، وهي مكّيّة كلّها ، وقيل : إنّها مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (وَالْعادِياتِ) : وهي الخيل في تفسير ابن عبّاس. وقال عليّ : هي الإبل (١). قال عزوجل : (ضَبْحاً) (١) : وضبحها أنفاسها إذا جرت. قال : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) (٢) : أي تصيب الحجارة بحوافرها فتخرج منها النار. قال تعالى : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) (٣) : قال الحسن : هي الخيل تغير على العدوّ إذا أصبحت.

[قال أنس بن مالك : إنّ قوما كان بينهم وبين النبيّ عليه‌السلام عهد فنقضوه ، وهم أهل فدك. فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيله فصبّحوهم ، وهم الذين أنزل الله فيهم (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً)] (٢).

قال عزوجل : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) (٤) : أي تثير الغبار بحوافرها.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (٥) : قال الحسن : تغير صبحا فتتوسّط العدوّ. وقال بعضهم : غداة جمعها (٣). وقال عكرمة (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قال : الأسنّة في الحروب. وهذا كلّه قسم.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (٦) : تفسير العامّة : الكنود : الكفور ، وهي بلسان ربيعة ، الكفور للنعمة ، الذي يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويجيع عبده ، ولا يعطي النائبة في قومه.

وقال الحسن : هو الذي يلوم ربّه ، ويستبطئ الإجابة. وتفسير عمرو عن الحسن : إنّه المشرك ؛ وهو مثل قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا

__________________

(١) اقرأ في تفسير الطبريّ ، ج ٣٠ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣ حوارا بين عليّ وابن عبّاس في المقصود بالعاديات في الآية ، ونزوع ابن عبّاس عن قوله : إنّها الخيل ، ورجوعه إلى قول عليّ : إنّها الإبل. وكيف رجّح الطبريّ القول بأنّها الخيل ، معتمدا على الدليل اللغويّ. فإنّ الضبح يكون من الخيل لا من الإبل ، وإنّ القدح بسنابك الخيل أقوى منه بأخفاف الإبل.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٩٧.

(٣) في ق وع : «عداه جمعها» ، والصحيح ما أثبتّه : «غداة جمعها» ، كما في بعض التفاسير ، وجمع هي مزدلفة. وهذا على قول من فسّر العاديات بالإبل.

٤٧٧

إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) (١٦) [الفجر : ١٥ ـ ١٦].

قال عزوجل : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) (٧) : أي على كفره يوم القيامة. وقال الحسن : يشهد على نفسه أنّه يلوم ربّه. (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) : أي المال (لَشَدِيدٌ) (٨) [أي : لبخيل] (١).

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) (٩) : أي أخرج ما فيها من الأموات (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) (١٠) : أي ميّز ، وهو مثل قوله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٩) [الطارق : ٩] و (حُصِّلَ) أي : شقّ عمّا في الصدور (٢) (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١) : أي لعالم.

* * *

__________________

(١) زيادة من ز ، وهو أحد وجوه تأويل الآية ، ذهب إليه الحسن ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، والكلبيّ ، والزجّاج ، وابن قتيبة. قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٣٠٧ : «وإنّه من أجل حبّ الخير لشديد ، لبخيل ، يقال للبخيل : شديد ومتشدّد ...». وقال الفرّاء : «نرى ـ والله أعلم ـ أنّ المعنى : وإنّه للخير لشديد الحبّ ، والخير : المال ...». انظر توضيح ما ذهب إليه الفرّاء وتعليله في معاني القرآن ، ج ٣ ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٢) وقال بعض المفسّرين : (وَحُصِّلَ) أي : جمع وأحصي» ، وهو الصواب إن شاء الله.

٤٧٨

تفسير سورة القارعة ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ) (٢) : يعظّمها بذلك ، وهي اسم من أسماء القيامة. قال تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) (٤) : أي كالفراش المبسوط في تفسير الحسن. وقال الكلبيّ : الذي يجول بعضه في بعض. وذكروا أقوالا في الفراش : قال جماعة من العلماء : الفراش : الدّبى (١) ؛ شبّه الناس به يوم القيامة. وقال بعضهم : الفراش هو ما تساقط في النار من البعوض ، وهو قول الشاعر :

مثل الفراشة والمصباح لاح لها

لم تستطع دونه خوفا ولا خرقا (٢)

قال تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥) : أي : كالصوف المنفوش ، وهو أضعف الصوف [قال يحيى : وهي في قراءة ابن مسعود : كالصوف الأحمر المنفوش] (٣).

قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) (٦) : وهو المؤمن ، فإنّما تثقل بالعمل الصالح (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٧) : أي معيشة راضية ، أي : قد رضيها ، وهي الجنّة (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) (٨) : وهو المشرك والمنافق. وإنّما تخفّ الموازين بالعمل السيّء.

(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٩) : أي فمسكنه هاوية. قال تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ) (١١) : أي حارّة.

* * *

__________________

(١) وردت هذه الكلمات هكذا في ق وع : «الدباشم الناس» ، وهو مسخ غريب! والصحيح ما أثبته. والدّبى : الجراد قبل أن يطير ، وهو ما فسّره به الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٨٦ : قال : «يريد كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضا ، كذلك الناس يومئذ يجول بعضهم في بعض».

(٢) لم أعثر على البيت ولا على قائله ، ولست مطمئنّا على صحّة الكلمتين الأخيرتين كما وردتا في ق وع.

(٣) زيادة من ز ورقة ٣٩٧.

٤٧٩

تفسير سورة (أَلْهاكُمُ) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١) : أي في الدنيا عن الآخرة ، وهو التكاثر في المال والولد. ذكروا عن مطرف بن عبد الله عن أبيه أنّه دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمعه يقرأ هذه الآية : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) فقال : يقول ابن آدم مالي مالي. وما لك من مالك يا ابن آدم إلّا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت ، وهو أنفع لو دريت (١). ذكروا عن أبي الدرداء قال إذا مات ابن آدم قالت الملائكة ما قدّم ، وقال بنو آدم ما ترك.

قوله عزوجل : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (٢) : أي حتّى متّم. (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٤) : وهذا وعيد بعد وعيد.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (٥) : أي إنّ علمكم ليس بعلم اليقين ، يعني المشركين ، وإنّ علم المؤمنين هو علم اليقين.

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (٦) : أي لتصيرنّ في علم المؤمنين إلى الجحيم ، وهو علم اليقين بأنّكم سترون الجحيم ، أي النار (٢). (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) (٧) : أي بالمعاينة (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨). قال الحسن : قال الله تعالى : يا ابن آدم ، طعام يقوتك ، وثوب يواريك ، وبيت يكنّك. وما سوى ذلك حاسبتك به (٣).

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه مسلم في أوّل كتاب الزهد والرقائق عن مطرف بن عبد الله بن الشخير (رقم ٢٩٥٨) ، وعن أبي هريرة (رقم ٢٩٥٩) ، كما أخرجه الترمذيّ عن مطرف عن أبيه في باب الزهادة في الدنيا ، وقال : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) جاءت العبارة في ق وع مضطربة ، وفيها تكرار ، فصحّحتها قدر الإمكان.

(٣) كذا في ق وع. وجاء في ز ورقة ٣٩٨ بدلا من قول الحسن ما يلي : «يحيى عن خالد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثلاث ليس لك منهنّ بدّ ، وليس عليك فيهنّ تبعة : بيت يكنّك ، وثوب تواري به عورتك ، وطعام تقيم به صلبك». وقد أورد هذا الحديث الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٨٨ بدون سند ، وذكره القرطبيّ في تفسيره ، ج ٢٠ ص ١٧٦ من رواية أبي نعيم عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باختلاف في ألفاظه ، ونسبه الطبريّ في تفسيره ، ج ٣٠ ص ٢٨٩ للحسن وقتادة.

٤٨٠