تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

وتفسير الكلبيّ أنّ النبيّ عليه‌السلام إذا نزل عليه جبريل وعلّمه شيئا من القرآن لم يكد يفرغ جبريل من آخر الآية حتّى يتكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوّلها مخافة أن ينساها فأنزل الله عليه (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦ ـ ٧] ، وهو قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) [البقرة : ١٠٦] أي : ننسها النبيّ عليه‌السلام فيما ذكر بعضهم.

قال : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) : قال الحسن : نجزي به يوم القيامة ، أي : على ما قلنا في القرآن من الوعد والوعيد. وقال بعضهم : نحن نبيّنه لك.

قال عزوجل : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) (٢٠) : أي الدنيا (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) (٢١) : يعني المشركين ، أي : لا يؤمنون أنّها كائنة.

قال عزوجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (٢٢) : أي ناعمة.

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) : أي تنتظر الثواب ، وهي وجوه المؤمنين. وحدّثني مسلم الواسطيّ قال : سمعت أبا صالح يقول في قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنتظر الثواب من ربّها.

قال أبو صالح : ما رآه أحد ولا يراه أحد (١).

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (٢٤) : أي كالحة ، وهذه وجوه أهل النار (تَظُنُّ) : أي تعلم (أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٢٥) : قال : تظنّ أن يفعل بها شرّ.

وقال مجاهد : تظنّ أن يفعل بها داهية. وتفسير الكلبيّ : (أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي : منكرة (٢).

قال تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) (٢٦) : أي حتّى إذا بلغت النفس التراقي ، أي : سلّت

__________________

وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١١٢ : «إذا قرأه عليك جبريل عليه‌السلام فاتّبع قرآنه ، والقراءة والقرآن مصدران ، كما تقول : راجح بيّن الرجحان والرجوح ، والمعرفة والعرفان ، والطواف والطوفان».

(١) ليس هذا القول للشيخ هود الهوّاريّ كما قد يتبادر إلى الذهن ، ولكنّه لابن سلّام ، وإن لم أتبيّن بالضبط من هو مسلم الواسطيّ هذا. وكانت عادة الشيخ هود أن يروي أقوال ابن سلّام بقوله : «قال بعضهم».

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٧٨ : «الفاقرة : الداهية ، وهو الوسم الذي يفقر على الأنف». وقال ابن أبي زمنين : «يقال : إنّها من فقار الظهر كأنّها تكسره ، تقول : فقرت الرجل : إذا كسرت فقاره».

٤٠١

من الرجلين حتّى بلغت الترقوتين. (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) (٢٧) : أي من يرقى بعمله. وقال بعضهم : (مَنْ راقٍ) أي : من يرقيه (١).

قال عزوجل : (وَظَنَّ) : أي وعلم (أَنَّهُ الْفِراقُ) (٢٨) : أي فراق الدنيا. قال تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) (٢٩) : قال الحسن : مالت الرجلان وانكسرت العينان. قال تعالى : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) : أي يوم القيامة. (الْمَساقُ) (٣٠) : قال الحسن : يساقون إلى الحساب.

قال تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (٣١) : [أي : لم يصدّق ولم يصلّ] (٢) ، يعني أبا جهل بن هشام (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٣٢) : أي كذّب بكتاب الله وتولّى عن طاعة الله. (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) (٣٣) : أي يتبختر.

وقال أبو جهل للنبيّ عليه‌السلام : ما بين هذين الجبلين أحد أعزّ منّي ، فاجتهد أنت وربّك يا محمّد جهدكما. فأنزل الله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٥) : [وعيد بعد وعيد] (٣). فقتله الله يوم بدر ، ثمّ صيّره إلى النار.

قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) : أي المشرك. (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٣٦) : أي هملا ، في تفسير الحسن وقال مجاهد : أن يترك باطلا فلا يبعث ولا يحاسب بعد موته. (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) (٣٧) : وهي تقرأ على وجهين : (يُمْنى) و (تمنى) فمن قرأها (يُمْنى) ، ذلك المنيّ ، أي : منيّ الرجل ، كقوله عزوجل : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) (٥٨) [الواقعة : ٥٨] ومن قرأها : (تمنى) فهو يعني النطفة يمنيها الرجل.

قال تعالى : (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) (٣٨) : يعني خلق الإنسان. يعني بقوله : (فَخَلَقَ) يعني نفسه. أي : خلقه الله فسوّاه مثل قوله : (خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) [الانفطار : ٧].

__________________

(١) فصّل الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢١٢ هذا الفرق بين المعنيين بعبارة أوضح فقال : «يقول : إذا بلغت نفس الرجل عند الموت تراقيه ، وقال من حوله : (مَنْ راقٍ)؟ هل من مداو؟ هل من راق؟ (وَظَنَّ) الرجل (أَنَّهُ الْفِراقُ) : علم أنّه الفراق ، ويقال : هل من راق إنّ ملك الموت يكون معه ملائكة ، فإذا أفاظ الميّت نفسه ، قال بعضهم لبعض : أيّكم يرقى بها؟ من رقيت إذا صعدت».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٠.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٠.

٤٠٢

قال : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩) : الذكر زوج والأنثى زوج.

قال : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠) : يقوله على الاستفهام.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أتى على هذه الآية قال : سبحانك وبلى (١).

* * *

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب الدعاء في الصلاة عن موسى بن أبي عائشة عن صحابيّ بسند رجاله ثقات. (رقم ٨٨٤). وجاء الحديث في ز بالسند التالي : «يحيى عن إبراهيم عن إسماعيل بن أمية عن أبي اليسع عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا ختم أحدكم آخر (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فليقل : بلى».

٤٠٣

تفسير سورة الإنسان ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (هَلْ أَتى) : أي قد أتى (عَلَى الْإِنْسانِ) : يعني آدم (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١) : أي في الخلق ، وهو عند الله مذكور أنّه خالقه ؛ لأنّه خلق الأشياء كلّها ؛ صغارها وكبارها ، ما يرى منها وما لا يرى من دوابّ الأرض والبحر والبرّ والهوامّ والسباع ، يعني أصول الخلق في الأيّام الستّة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، غير آدم خلقه الله يوم الجمعة ، آخر الأيّام السبعة (١).

ذكروا أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أخذ تبنة من الأرض فقال : يا ليتني كنت هذه التبنة ، ويا ليت أمّي لم تلدني ، يا ليتني كنت نسيا منسيّا ، يا ليتني لم أكن شيئا مذكورا.

وذكروا أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) فرفع صوته وقال : يا ليتها تمّت (٢).

قال : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) : يعني نسل آدم (أَمْشاجٍ) : تفسير الحسن : يعني مشج (٣) ماء الرجل بماء المرأة.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فمن أيّهما سبق ، أو قال : علا ، فمنه يكون الشبه (٤).

قال تعالى : (نَبْتَلِيهِ) : أي نختبره. قال : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) : أي : بصّرناه سبيل الهدى وسبيل الضلالة كقوله عزوجل : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠)

__________________

(١) كذا في ق وع : «آخر الأيّام السبعة» ، وفي ز : «آخر الأيّام الستّة».

(٢) في ق وع : «يا ليتي متّ قبل هذا» ، والصواب ما أثبتّه من ز ، ورقة ٣٨٠. وقال أبو عبيدة : «ويحقّق قول أبي بكر : ليتها كانت تمّت فلم نبتل».

(٣) أي : خلط. وقال ابن عبّاس : ماء الرجل والمرأة حين يختلطان.

(٤) حديث صحيح أخرجه أحمد وأخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب بيان صفة منيّ الرجل والمرأة ، وأنّ الولد مخلوق من مائهما ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من حديث طويل (رقم ٣١٥). وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها ، باب في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل ، عن أنس ، (رقم ٦٠١).

٤٠٤

[البلد : ١٠] أي سبيل الهدى وسبيل الضلالة.

قال تعالى : (إِمَّا شاكِراً) : أي مؤمنا (وَإِمَّا كَفُوراً) (٣).

قوله تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) : وقال في سورة الحاقة : (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) [الحاقّة : ٣٢] ، لو أنّ حلقة منها وضعت على جبل لذاب. قال : (وَأَغْلالاً) : كقوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) [غافر : ٧١] قال : (وَسَعِيراً) (٤) : والسعير اسم من أسماء جهنّم ، وجهنّم كلّها سعير تسعر بهم ، وطعامهم من نار ، وشرابهم من نار ، ولباسهم من نار.

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) : يعني الخمر (كانَ مِزاجُها) : أي طعمها (كافُوراً) (٥) : وهو الكافور ، إلّا أنّه أفضل من هذا الكافور وأطيب. وقال الحسن : يشربونها على برد الكافور وطعم الزنجبيل. وتفسير مجاهد : (مِزاجُها) أي : الذي يمزج به. وقال الكلبيّ (كافُوراً) عين في الجنّة تسمّى كافورا.

قال تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) : يعني المؤمنين (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) (٦) : قال الحسن : تفجير الله لهم. وقال مجاهد : يقودونها حيث شاءوا. وقال بعضهم : يقول أحدهم بأصبعه حيث أراد فينبعه من الماء وغيره (١).

قال تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) : أي ما كان من نذر في طاعة الله.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا نذر في معصية الله ، ولا في قطيعة رحم ، ولا فيما لا يملك ابن آدم (٢).

قال تعالى : (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (٧) : أي : فاشيا ، وشرّه على الكفّار (٣).

__________________

(١) وقال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ٢١٥ : «أيّها أحبّ الرجل من أهل الجنّة فجّرها لنفسه».

(٢) حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث طويل عن عمران بن حصين في كتاب النذر ، باب : لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد (رقم ١٦٤١). وأخرجه ابن ماجه في كتاب الكفّارات عن عمران بن الحصين أيضا (رقم ٢١٢٤) وأخرجه النسائيّ.

(٣) جاء في ق وع : «فاشيا في السماوات والأرض» ، ولم أر لهذه الزيادة هنا وجها ، ولعلّها سهو من ناسخ ، ـ

٤٠٥

قال : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) : أي على حاجتهم إليه. (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (٨) : يعني الأسير من المشركين.

كان رسول الله يدفع الأسير إلى الرجل من المسلمين فيقول : احبس هذا عندك. فيكون عنده الليلة والليلتين. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشغول بحربه ، فإذا فرغ قبلهم ؛ فكانوا يؤثرون على أنفسهم أولئك الأسارى ، فأثنى الله عليهم بذلك.

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) : أي ينوون هذا في أنفسهم. [تفسير مجاهد : قالوا هذا في أنفسهم ولم ينطقوا به ، فعلم الله ذلك منهم فأثنى به عليهم] (١) (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) : أي أن تجزونا به (وَلا شُكُوراً) (٩) : أي ولا أن تشكرونا. (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (١٠) : أي يخافون شرّ ذلك اليوم الذي لا انبساط فيه. والقمطرير : الشديد. والعبوس : أي تعبس فيه الوجوه. والقمطرير : الذي يقبّض ما بين الأعين. وتفسير مجاهد : العبوس بالشفتين. القمطرير : قبض الجبهة (٢).

قال : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) : أي في وجوههم (وَسُرُوراً) (١١) : أي في قلوبهم. قال : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) : أي على السرر في الحجال (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (١٣) : الزمهرير : البرد الشديد. وقال مجاهد : البرد الذي يقطع.

ذكروا عن سعيد بن المسيّب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس في الجنّة ليلة تظلم ولا حرّ ولا برد يؤذيهم (٣).

__________________

ـ فأثبتّ ما جاء في ز ورقة ٣٨١ ، وهو الصواب.

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٨١.

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٧٩ : «العبوس ، والقمطرير ، والقماطر ، والعصيب ، والعصبصب أشدّ ما يكون من الأيّام وأطوله في البلاء».

(٣) جاء الحديث في ز ورقة ٣٨١ بدون سند بلفظ : «ليس في الجنّة شمس ولا ليل مظلم ولا حرّ ولا برد». ولم أجد هذا الحديث فيما بين يديّ من المصادر. وأورد السيوطيّ في الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ٣٠٠ ما يلي : «أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : الجنّة سجسج لا قرّ فيها ولا حرّ».

٤٠٦

قوله عزوجل : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) : أي ظلال الشجر.

(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) (١٤) : أي ذلّلت لهم ثمارها يتناولون منها قعودا ومضطجعين وكيف شاءوا. وتفسير مجاهد : إن قام ارتفعت بقدره ، وإن قعد نزلت حتّى ينالها ، وإن اضطجع تدلّت إليه حتّى ينالها.

قال عزوجل : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) : والأكواب : الأكواز ؛ تسمّي العرب الواحد منها كوزا ، وهو الكوب المدوّر القصير العنق ، القصير العروة. والإبريق : الطويل العنق الطويل العروة. ومعنى : (كانت قواريرا مّن فضّة) أي : اجتمع صفاء القوارير في بياض الفضّة. وذلك أنّ لكلّ قوم قوارير من تراب أرضهم ، وأنّ تراب الجنّة فضّة ، فهي قوارير من فضّة يشربون فيها ؛ يرى الشراب من وراء جدر القوارير ، وهذا لا يكون في فضّة الدنيا (١). قال : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) (١٦) : أي في أنفسهم ، فأتتهم على ما قدّروا واشتهوا من صغار وكبار وأوساط ، هذا تفسير بعضهم.

وتفسير مجاهد : متشابهة لا تنقص ولا تفيض. وبعضهم يقرأها : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي : على قدر ريّهم فلا يفضل عنهم شيء ، ولا يشتهون بعدها شيئا ، وهو مقرأ ابن عبّاس(٢).

قال تعالى : (وَيُسْقَوْنَ فِيها) : أي في الجنّة (كَأْساً) : وهي الخمر (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) (١٧) : أي طعم ذلك المزاج طعم الزنجبيل على برد الكافور فيهضم ما أكلوا.

قال تعالى : (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) (١٨). ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر في حديث ليلة أسري به قال : ثمّ انتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا هي أحسن ما خلق الله ، وإذا الورقة منها لو غطّيت بها هذه الأمّة لغطّتها. ثمّ انفجر من السلسبيل نهران نهر الرحمة ونهر الكوثر (٣). [والسلسبيل اسم العين] (٤) وقال مجاهد : إنّه ماء يجري لو يمرّ بالجبال لسقاها.

__________________

(١) وقع بعض التقديم والتأخير في تفسير هذه الآية في ق وع فأثبتّ الترتيب والتصحيح حسبما جاء في ز.

(٢) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢١٧ : «قدّروا الكأس على ريّ أحدهم لا فضل فيه ولا عجز عن ريّه ، وهو ألذّ الشراب».

(٣) انظر ما سلف ج ٢ ، تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء.

(٤) زيادة من ز ، ورقة ٣٨١. وقال ابن أبي زمنين : «والسلسبيل في اللغة صفة لما كان غاية في السلاسة ، ـ

٤٠٧

قال تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) : على هيئة الوصفاء (١) لا يشيبون عنها ولا يموتون ابدأ. (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ) : أي شبّهتهم (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) (١٩) : أي في صفاء ألوانهم ، والمنثور : أحسن ما يكون. وقال بعضهم : (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) من كثرتهم. ذكروا عن جابر بن عبد الله قال : حسن الخادم عند حسن المخدوم كالكوكب المظلم إلى جنب القمر ليلة البدر.

قال تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ) : أي في الجنّة (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) (٢٠). ذكر بعضهم قال : [يأتي الملك من عند الله إلى الرجل من أهل الجنّة بالتحفة والهديّة وبأنّ الله عنه راض ، فلا يدخل إليه حتّى يستأذن فيقول البوّاب : سأذكره للبوّاب الذي يليني ، فيذكره للبوّاب الذي يليه حتّى يبلغ البوّاب الذي يلي وليّ الله فيقول له : ملك يستأذن. فيقول : ائذنوا له. فيؤذن له ، فيدخل فيقول : إنّ ربّك يقرئك السّلام ، ويخبره أنّه عنه راض ، ومعه التحفة فتوضع بين يديه] (٢). وقد فسّرنا ما بلغ ذلك النعيم وذلك الملك في غير هذا الموضع.

قال تعالى : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ) : وبعضهم يقرؤها : (عالِيَهُمْ) (٣).

(وَإِسْتَبْرَقٌ) : وهو الديباج الغليظ. وهو بالفارسيّة : استبره. وتفسير الحسن : إنّه الحرير.

ذكروا عن عكرمة قال : أمّا السندس فقد رأيتموه : الحرير الرقيم الذي يحمل بالسوس (٤).

__________________

ـ وصرّف لأنّه رأس آية». وفي كتاب المعرّب للجواليقي ، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، حيث يذهب المؤلّف إلى أنّ الكلمة «اسم أعجميّ نكرة ، فلذلك انصرف ، وقيل : هو اسم معرفة إلّا أنّه أجري لأنّه رأس الآية». يقدّم المحقّق الشارح الشيخ أحمد محمّد شاكر تحقيقا قيّما لخّض فيه أقوال المفسّرين واللغويّين ، وأثبت ما كان ذهب إليه الزجّاج والطبريّ من أنّ الكلمة صفة للعين وليست اسما. وانظر : الزمخشريّ : الكشّاف ، ج ٤ ص ٦٧٢.

(١) في ق وع : «على هيئة الوصف» ، وفي الكلمة تصحيف صوابه ما أثبتّه : «الوصفاء» ، جمع وصيف ، «وهو الخادم ، غلاما كان أو جارية. يقال : وصف الغلام إذا بلغ حدّ الخدمة ، فهو وصيف بيّن الوصافة». كما جاء في صحاح الجوهريّ.

(٢) زيادة من ز ورقة ٣٨١ ـ ٣٨٢.

(٣) من قرأ (عالِيَهُمْ) بإسكان الياء وكسر الهاء جعله اسما ، ومن قرأ (عالِيَهُمْ) بفتح الياء وضمّ الهاء جعله ظرف مكان. انظر : ابن خالويه ، الحجّة في القراءات السبع ، ص ٣٣١.

(٤) كذا في ق وع : «يحمل بالسوس» ، ولعله : «يعمل بالسوس» والسوس بلدة بخوزستان ، غير السوس ـ

٤٠٨

قال : والإستبرق : الديباج الغليظ (١).

قال تعالى : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) : فليس أحد من أهل الجنّة إلّا وفي يده ثلاثة أسورة : سوار من فضّة ، وسوار من لؤلؤ ، وسوار من ذهب.

قال تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٢١) : ذكروا عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال : إذا توجّه أهل الجنّة إلى الجنّة مرّوا بشجرة يخرج من تحتها عينان فيشربون من إحداهما. فتجري عليهم بنضرة النعيم ، فلا تغيّر أبشارهم ولا تشعث أشعارهم بعدها أبدا ؛ ثمّ يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من أذى وقذى ، ثمّ تستقبلهم الملائكة خزنة الجنّة فيقولون : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣) [الزمر : ٧٣].

ذكر بعضهم أنّه يقال لأهل الجنّة : ادخلوا الجنّة برحمتي واقتسموها بأعمالكم.

قال تعالى : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) : أي بأعمالكم (وَكانَ سَعْيُكُمْ) : أي الذي سعيتم ، أي الذي عملتم في الدنيا (مَشْكُوراً) (٢٢) : شكره الله لكم فجزاكم به الجنّة.

قوله عزوجل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (٢٣) : أي نزل به جبريل (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) : أي لما حكم عليك فيه وفرض (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً) : وهو المنافق [في تفسير الحسن ؛ أظهر الإسلام وقلبه على الشرك] (٢) (أَوْ كَفُوراً) (٢٤) : أي مشركا جاحدا (٣).

__________________

ـ الأقصى الذي بالمغرب ، كما ذكر ذلك ياقوت في معجم البلدان.

(١) انظر : الجواليقي ، المعرّب ، ص ٦٣ ، وتعليق الشارح : ٧ و ١٠.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٢.

(٣) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٨٠ : «ليس هاهنا تخيير ، أراد إثما وكفورا». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢١٩ : «(أو) هاهنا بمنزلة لا. و (أو) في الجحد والاستفهام والجزاء تكون في معنى (لا) فهذا من ذلك.

وقال الشاعر :

لا وجد ثكلى كما وجدت ولا

وجد عجول أضلّها ربع

أو وجد شيخ أضلّ ناقته

يوم توافى الحجيج فاندفعوا

أراد : ولا وجد شيخ».

٤٠٩

قال : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً) : أي صلاة الصبح (وَأَصِيلاً) (٢٥) : أي صلاة الظهر والعصر. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) : أي صلاة المغرب والعشاء قال : (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (٢٦) : هذا تطوّع.

قوله عزوجل : (إِنَّ هؤُلاءِ) : يعني المشركين (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) : أي الدنيا (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) : أي أمامهم ، أي : بعد موتهم (يَوْماً ثَقِيلاً) (٢٧) : أي لا يؤمنون به ، يعني يوم القيامة. (ثَقِيلاً) أي : عسيرا عليهم.

قال : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) : أي قوّتهم ، يعني شدّة الخلق. وقال مجاهد : (أَسْرَهُمْ) أي : خلقهم ، وبعضهم يقول : قوّتهم ، وبعضهم يقول : مفاصلهم ، وهذا كلّه قريب بعضه من بعض. قال : (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) (٢٨) : [أي : أهلكناهم بالعذاب وبدّلنا أمثالهم] (١) آدميّين خيرا منهم.

قال تعالى : (إِنَّ هذِهِ) : أي إنّ هذه السورة (تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢٩) : أي بطاعته.

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٣٠) : أي عليما بخلقه ، حكيما في أمره.

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) : أي في دينه الإسلام (وَالظَّالِمِينَ) : أي المشركين والمنافقين (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١) : أي موجعا شديدا ، يعني بذلك النار.

* * *

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٢.

٤١٠

تفسير سورة المرسلات ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) (١) : يعني الملائكة ترسل بالمعروف إلى الرسل ، فتبلّغ الرسل العباد (١). وتفسير الحسن : إنّها الرياح. قال : عرفها : جريها.

قال تعالى : (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) (٢) : أي الرياح إذا عصفت ، أي : اشتدّت (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) (٣) : يعني الرياح. كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧] أي : بين يدي المطر.

قال : (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) (٤) : يعني الملائكة التي تنزل بالوحي ، أي : بكتب الله التي فرّق فيها بين الكفر والإيمان وبين الحلال والحرام. قال : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) (٥) : يعني الملائكة تلقى الذكر ، وهو كتب الله على الأنبياء ، فيوحيه جبريل إلى النبيّين. وقد قال في آية أخرى : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) [القصص : ٨٦] أي : أن ينزل عليك. قال : (عُذْراً) : أي تنزل به الملائكة يعذر به الله إلى خلقه (٢) (أَوْ نُذْراً) (٦) : أي : ينذرهم بعذابه.

وهذا قسم كلّه من أوّل هذه السورة إلى هذا الموضع أقسم به (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) (٧) يعني المشركين ، ما يوعدون به من عذاب الله لواقع بهم.

قال تعالى : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٨) : يقول : عذاب الله واقع يوم تطمس فيه النجوم فيذهب ضوءها. (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٩) : أي فتحت وانشقّت ، كقوله : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (١٩) [النبأ : ١٩].

قال : (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) (١٠) : أي قد ذهبت من أصولها فكانت هباء منبثّا في تفسير الحسن. وتفسير الكلبيّ : (نُسِفَتْ) أي : سوّيت بالأرض.

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٢١ : «يقال هي الملائكة. وأمّا قوله : (عُرْفاً) فيقال : أرسلت بالمعروف. ويقال : تتابعت كعرف الفرس. والعرب تقول : تركت الناس إلى فلان عرفا واحدا ، إذا توجّهوا إليه فأكثروا». وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٨١ : (عُرْفاً) يتبع بعضه بعضا يقال : جاءوني عرفا».

(٢) في ق وع : «تنزل به الملائكة تعذر به الله إلى خلقه» ، وأثبتّ ما جاء في ز فهو أصحّ.

٤١١

قال : (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) (١١) : أي وعدت ، يعني الميعاد ، وميعادها يوم القيامة في تفسير الحسن. وتفسير الكلبيّ : (أُقِّتَتْ) أي : جمعت. وتفسير مجاهد : (أُقِّتَتْ) أي : أجّلت أجلا يعيشون فيه. (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) (١٢).

قال : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) (١٣) : أي يوم القضاء.

قال تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) (١٤) : أي يوم القضاء. قال الحسن : أي : إنّك لم تكن تدري ما يوم الفصل حتّى أعلمتكه. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥) : أي ينادون في النار بالويل والثبور.

قال : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) (١٦) : على الاستفهام ، أي بلى ، قد أهلكنا الأوّلين ، يعني الأمم السالفة التي أهلك حين كذّبوا رسلهم. قال : (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) (١٧) : والآخرون هذه الأمّة ، أي : نهلكهم كما أهلكنا من قبلهم ، يعني آخر كفّار هذه الأمّة الذين تقوم عليهم الساعة. قال : (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (١٨) : أي المشركين.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٩) : وهي مثل الأولى.

قوله : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٢٠) : يعني النطفة الضعيفة (فَجَعَلْناهُ) : يعني الماء ، وهو النطفة (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (٢١) : يعني الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢٢) : أي إلى يوم يولد المخلوق. قال تعالى : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (٢٣) : وهي تقرأ على وجهين : (فَقَدَرْنا) خفيفة و (فقدّرنا) مثقّلة. فمن قرأها بالتخفيف فهو يقول : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) من باب القدرة ، أي : فملكنا فنعم المالكون. ومن قرأها بالتثقيل (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) فمن قبل التقدير. قال تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٤) : وهي مثل الأولى.

قال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) (٢٥) : أي تكفتهم ، أي تضمّهم ، [والكفت الضمّ والجمع] (١) (أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٢٦) : أي يكونون على ظهرها ، وعليها أرزاقهم أحياء ، وتضمّهم أمواتا فيكونون في بطنها ، في تفسير الحسن. وقال بعضهم : الأحياء في البيوت ، والأموات في القبور. قال : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) : والرواسي : الجبال ، والشامخات : المرتفعة. قال :

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٣.

٤١٢

(وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٢٧) : أي عذبا. وكلّ ماء عذب فهو فرات. قال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٨) : وهي مثل الأولى.

ثمّ قال : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٩) : أي يقال لهم يوم القيامة : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون في الدنيا من العذاب ، أي : يقولون إنّه ليس بكائن. (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) (٣٠) : أي يخرج من النار لسانان قبل أن يدخلوا النار ، فيحيط بالمشركين مثل السرادق ، ثمّ يسطع من النار دخان أسود فيظلّ ذلك السرادق ، ثمّ يصير ثلاث فرق ، فيلجئون إليه (١) ، يرجون أن يظلّهم [ويجدون منه من الحرّ مثل ما وجدوا قبل أن يلجئوا إليه] (٢) قوله : (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (٣١) : وقال في الواقعة : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (٤٣) وهو الدخان ، وهو هذا الذي قال : في ظلّ ذي ثلاث شعب (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (٤٤) [الواقعة : ٤٣ ـ ٤٤] أي لا بارد في الظلّ ولا كريم في المنزل.

قال : (إِنَّها تَرْمِي) : يعني النار (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) (٣٢) : وهي تقرأ على وجهين : كالقصر ، خفيفة ، وكالقصر مثقّلة. فمن قرأها (كَالْقَصْرِ) خفيفة فهو يعني قصرا من القصور ، ومن قرأها مثقّلة فهو يعني أصول الشجر ، وهي قصرها كقصر الرجال والدوابّ ، وهي أعناقها (٣).

قال تعالى : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) (٣٣) : وهي تقرأ على وجهين : (جمالة) و (جمالات) فمن قرأها (جمالة) فهو يعني النوق السود. ومن قرأها (جمالات) فهو يعني جمالات السفينة ، أي حبالها (٤) فيما ذكروا عن مجاهد. قال تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٤) : وهي مثل الأولى.

__________________

(١) كذا وردت هذه العبارة في ق وع ، وهي في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٢٢٤ أوضح : «يقال : إنه يخرج لسان من النار فيحيط بهم كالسرادق ، ثمّ يتشعّب منه ثلاث شعب من دخان فيظلّهم حتّى يفرغ من حسابهم إلى النار».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٣.

(٣) انظر تحقيق مختلف هذه القراءات ومعانيها في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٢٢٤ ـ ٢٢٥. وقال الراغب الأصبهانيّ في المفردات : «وقيل : القصر أصول الشجر ، الواحدة قصرة مثل جمرة وجمر». وانظر ابن خالويه : الحجّة ، ص ٣٣٣.

(٤) في تفسير مجاهد ص ٧١٧ : حبال الجسور ، وفي تفسير الطبريّ ، ج ٢٩ ص ٢٤١ ـ ٢٤٢ : «قلوس السفينة ، أي حبالها الغليظة».

٤١٣

قال تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥) أي بحجّة (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦) وقد يؤذن لهم في الكلام في بعض المواطن ولا يؤذن لهم في بعض. فإذا أذن لهم في الكلام لم يعتذروا بعذر. قال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٧) : وهي مثل الأولى.

قال تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) : أي هذا يوم القضاء (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) (٣٨) : أي يقال لهم هذا يوم القيامة.

قال تعالى : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) : تنجون به من عذاب الله (فَكِيدُونِ) (٣٩) : تفسيره : فكيدون إن قدرتم ، أي : إنّكم لا تقدرون على ذلك. قال تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٠) : وهي مثل الأولى.

قال تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) (٤١) : يعني الأنهار.

(وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٤٢) قال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) : وذلك على قدر أعمالكم. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٤٤). قال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٥) : وهي مثل الأولى.

قال تعالى : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً) : يقوله للمشركين وعيدا لهم. وانقضت القصّة الأولى من أمر أهل النار. (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) (٤٦) : يعني شركهم.

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المؤمن يأكل في معاء واحد ، والمنافق يأكل في سبعة أمعاء (١). قال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٧) : وهي مثل الأولى.

قال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) (٤٨) : أي وإذا قيل لهم صلّوا لا يصلّون

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٩) : وهي مثل الأولى. قال : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) : أي بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) (٥٠) : أي : يصدّقون. لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

* * *

__________________

(١) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٣ من سورة الحجر.

٤١٤

تفسير سورة عمّ يتساءلون ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) (١) : يعني المشركين ، أي : ما الذي يتساءلون عنه. ثمّ قال عزوجل : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (٢) : أي البعث (١) ، وذلك منهم تكذيب واستهزاء. قال عزوجل : (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (٣) : يعني البعث اختلف فيه المشركون والمؤمنون ، فآمن به المؤمنون وكفر به المشركون.

قال عزوجل : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) (٥) : وهذا وعيد من الله للمشركين ، ووعيد بعد وعيد.

ثمّ قال : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) (٦) : مثل قوله عزوجل : (فِراشاً) و (بِساطاً). قال : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧) : أي أوتادا للأرض.

قال : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) (٨) : أي ذكرا وأنثى. قال : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) (٩) : أي نعاسا (٢). (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) (١٠) : أي سترا يغطّي الخلق فيسكنون فيه (٣). (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (١١) : أي يطلبون فيه أرزاقهم ومعايشهم.

قال : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (١٢) : وهي السماوات ، وهي أشدّ من خلق الناس. قال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) (٢٧) إلى قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣٠) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٠]. قال عزوجل : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) (١٣) : يعني الشمس. وتفسير الكلبيّ : (وَهَّاجاً) : أي مضيئا. وتفسير الحسن : حرّ الشمس وهجها.

__________________

(١) وذكر بعض المفسّرين أنّ الذي اختلفوا فيه إنّما هو القرآن ؛ ووجه اختلافهم فيه أنّهم قالوا : هو سحر ، وقالوا : هو شعر ، وقالوا : أساطير الأوّلين. وفي تفسير مجاهد ، ص ٧١٩ : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) ، يعني القرآن».

(٢) كذا في ق ، وع ، وز : «نعاسا» ، وأصحّ منه تأويلا ما ورد في بعض التفاسير : «راحة وقطعا للأعمال» ، لأنّ أصل معنى السبت الراحة والدعة والسكون.

(٣) في ق وع : «أي سكنا لبعض الخلق ، أي يسكنون فيه» ، وما أثبتّه من ز ورقة ٣٨٣ أدقّ تعبيرا وأوضح معنى.

٤١٥

قال : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) : أي من السماوات (١) وبعضهم يقول : من السحاب (٢). (ماءً ثَجَّاجاً) (١٤) : أي ماء منصبّا ؛ ينصبّ بعضه على بعض. (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا) : أي البرّ والشعير (وَنَباتاً) (١٥) : أي من كلّ شيء. قال عزوجل : (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (١٦) : أي ملتفّة. وقال الكلبيّ : (أَلْفافاً) ، أي : ألوانا.

قال : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) : أي يوم القضاء ، وهو يوم القيامة (كانَ مِيقاتاً) (١٧) : أي يوافونه كلّهم. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) : وهي النفخة الأخيرة (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (١٨) : أي أمّة أمّة. (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (١٩) : أي منشقّة.

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٢٠) : أي مثل السراب ، تراه وليس بشيء.

قال عزوجل : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) (٢١) : أي هي رصد دون الجنّة [أي : ترصد من حقّ عليه العذاب] (٣). والصراط عليها ، فمن كان من أهلها هوى فيها ، ومن لم يكن من أهلها حاد عنها إلى الجنّة. قال الحسن : كان الرجل يلقى أخاه فيقول : أما علمت أنّ جهنّم على الرصد؟ يعني أنّ جهنّم كانت مرصادا. قال الحسن : والله لقد أدركت أقواما ما جعل أحدهم بينه وبين الأرض فراشا حتّى لحق بالله إلّا كساءه ، بعضه تحته وبعضه فوقه. ولقد أدركت أقواما إن كان أحدهم ليعرض له المال الحلال فلا يأخذه ولا يعرض له ، خشية أن يكون هلاكه فيه. وإنّ كان الرجل ليلقاه أخوه فيحسب أنّه مريض ، وما به من مرض إلّا أنّ القرآن قد أرقّه. وكان الرجل يلقى الرجل فيقول : أخي ، أتاك أنّك وارد جهنّم؟ فيقول : نعم. فيقول : أتاك أنّك صادر عنها؟ فيقول : لا. فيقول : ففيم البطاء إذا (٤).

__________________

(١) كذا ورد اللفظ في ق وع «السماوات» ، وهو قول نسب إلى أبيّ بن كعب والحسن وابن جبير ، وفي ز : «ن الرياح» ، وهو قول نسب إلى ابن عبّاس ، وقاله مجاهد وعكرمة وقتادة. وهو أنسب.

(٢) رجّح الطبريّ هذا القول. وروي أيضا عن ابن عبّاس والربيع والضحّاك. وذكره ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٥٠٨ فقال : «يقال شبّهت بمعاصير الجواري. والمعصر : الجارية التي دنت من الحيض». وانظر ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، ج ٣٠ ص ٢٥.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٤.

(٤) ما أحسن ما قاله الحسن البصريّ ، وما أصدقه! إنّه ممّا يليّن القلوب ، ويزهّد في الدنيا ، ويرغّب فيما عند الله ، فيا ليتنا نتّعظ ونعتبر!.

٤١٦

قال الله عزوجل : (لِلطَّاغِينَ مَآباً) (٢٢) : أي للمشركين والمنافقين مرجعا (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) (٢٣) : أي تأتي عليهم الأحقاب لا تنقطع أبدا. والحقب ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستّون يوما ، كلّ يوم ألف سنة من سني الدنيا. كلّما خلا حقب دخل حقب ، وذلك ما لا انقطاع له ولا أمد ولا غاية ولا منتهى.

قال : (لا يَذُوقُونَ فِيها) : أي في جهنّم (بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلَّا حَمِيماً) : والحميم الحارّ الذي لا يستطاع من حرّه ، قد أوقد على تلك العين التي قال عنها عزوجل : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) (٥) [الغاشية : ٥] أي : قد أنى حرّها فاجتمع ، قد أوقد عليها منذ خلق الله السماوات والأرض. قال : (وَغَسَّاقاً) (٢٥) : قال بعضهم : هو القيح الغليظ المنتن. وقال بعضهم : هي بالفارسيّة ، الغساق بلسانهم ، أي : المنتن. وبعضهم يقول : الغساق : الذي لا يستطاع من شدّة برده ، وهو الزمهرير.

قال تعالى : (جَزاءً وِفاقاً) (٢٦) : أي يوافق أعمالهم الخبيثة. (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) (٢٧) : أي لا يخافون حسابا ، [لأنّهم] لا يقرون بالبعث. (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) (٢٨) : [أي : تكذيبا] (١).

قال : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) (٢٩) : أي أحصت الملائكة على العباد أعمالهم ، وهي عند الله محصاة في أمّ الكتاب. ذكروا عن ابن عبّاس قال : أوّل ما خلق الله القلم ، فقال اكتب. قال : ربّ وما أكتب؟ قال : ما هو كائن إلى يوم القيامة. قال : فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. فأعمال العباد تعرض كلّ يوم اثنين وخميس ، فيجدونه على ما في الكتاب. وزاد فيه بعضهم : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). [الجاثية : ٢٩]. ثمّ قال : ألستم قوما عربا؟ هل تكون النسخة إلّا من كتاب؟.

__________________

(١) زيادة من ز ، وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٢٩ : «خفّفها عليّ بن أبي طالب رحمه‌الله : (كِذَّاباً) وثقّلها عاصم والأعمش وأهل المدينة والحسن البصريّ. وهي لغة يمانيّة فصيحة يقولون : كذّبت به كذّابا ، وخرّقت القميص خرّاقا ، وكلّ فعّلت فمصدره فعّال في لغتهم مشدّد. قال لي أعرابيّ منهم على المروة : ألحلق أحبّ إليك أم القصّار؟ يستفتيني». وقال الجوهريّ في الصحاح : «هو أحد مصادر المشدّد لأنّ مصدره قد يجيء على تفعيل ، مثل : التكليم ، وعلى فعّال ، مثل : كذّاب ، وعلى تفعلة ، مثل : توصية ، وعلى مفعّل ، مثل : (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ : ١٩].

٤١٧

قال : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٣٠) : ذكروا عن عبد الله بن عمرو قال : ما نزل على أهل النار آية هي أشدّ منها. قال : فهم في زيادة من العذاب أبدا. وهو قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦] أي : زيدوا عذابا.

قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) (٣١) : أي نجاة ممّا أعد الله للكافرين. قال بعضهم : (مَفازاً) أي : من النار إلى الجنّة. (حَدائِقَ) : أي جنّات (وَأَعْناباً) (٣٢) : أي فيها أعناب. قال : (وَكَواعِبَ أَتْراباً) (٣٣) : أي أبكارا على سنّ واحدة ، بنات ثلاث وثلاثين سنة. قال تعالى : (وَكَأْساً) : وهي الخمر (دِهاقاً) (٣٤) : وهي المترعة الممتلئة. وهو قول الشاعر (١).

أتانا عامر يرجو قرانا

فأترعنا له كأسا دهاقا

وهي المترعة.

قال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) : قال الحسن : معصية ، كما كانوا يسمعون في الدنيا. وقال بعضهم : (لَغْواً) : حلفا. تفسير الكلبيّ : اللغو : الباطل. (وَلا كِذَّاباً) (٣٥) : تفسير الحسن : لا يكذّب بعضهم بعضا. وقال بعضهم : ولا كذبا.

قال : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) (٣٦) : أي على قدر أعمالهم. وقال تعالى في آية أخرى : (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) (٤٠) [غافر : ٤٠]. وذلك أنّهم يعطون فيها المنازل على قدر أعمالهم ، ثمّ يرزقون فيها أهل كلّ درجة بغير حساب.

قال عزوجل : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) : وهي تقرأ على وجهين : (رب السماوات والارض) بالجرّ وبالرفع. فمن قرأها بالرفع فهو كلام مستقبل ؛ يقول ربّ السماوات والأرض وما بينهما (الرحمن) برفع (الرحمن). (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً). ومقرأ الحسن : (رب السماوات والارض وما بينهما الرحمن) (٢).

__________________

(١) هو خداش بن زهير بن ربيعة العامريّ ، شاعر جاهليّ ، قيل : إنّه شارك في صفوف المشركين في غزوة حنين ، ثمّ أسلم. انظر : ابن حجر ، الإصابة ، ج ٢ ص ٣٥٨. (رقم ٢٣٢٩).

(٢) انظر ابن خالويه ، الحجّة في القراءات السبع ، ص ٣٣٤ ، وانظر معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٢٢٩ ، في مختلف وجوه هذه القراءات.

٤١٨

يبتدئ فيقول : (الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) (٣٧). وقوله عزوجل : (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) أي : مخاطبة في تفسير الحسن. وبعضهم يقول : (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) ، أي : كلاما. كقوله عزوجل : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود : ١٠٥].

وقال في هذه الآية : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) : [أي : لا يشفعون] (١) (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٣٨) : أي قال صوابا في الدنيا. وهو قول لا إله إلّا الله. وقوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال الحسن : يوم يقوم روح كلّ شيء في جسده (٢).

قال عزوجل : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (٣٩) : أي مرجعا ، أي : بعمل صالح. وقال في آية أخرى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠].

قوله عزوجل : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) : ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّما مثلي ومثل الساعة كهاتين ، فما فضل إحداهما على الأخرى ؛ فجمع بين أصبعيه الوسطى والتي يقال لها السبّابة (٣).

قال : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) : أي المؤمن (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) : أي ينظر إلى ما قدّمت يداه من عمل صالح (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠). ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أوّل ما يدعى إلى الحساب يوم القيامة البهائم ، فتجعل الجمّاء قرناء ، والقرناء جمّاء ، فيقتصّ لبعضهم من بعض حتّى تقتصّ الجمّاء من القرناء ، ثمّ يقال لها : كوني ترابا. فعند ذلك يقول الكافر : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤).

* * *

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٨٤.

(٢) هذا وجه من وجوه تأويل الروح في هذه الآية ، وقيل : الروح هنا هو جبريل عليه‌السلام ، وقيل غير ذلك.

انظر اختلاف المفسّرين في الروح في تفسير القرطبيّ ، ج ١٦ ص ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٣) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية الأولى من سورة الأنبياء.

(٤) أخرجه الطبريّ بسند من حديث أبي هريرة ، كما جاء في تفسيره ، ج ٣٠ ص ٢٦.

٤١٩

تفسير سورة النازعات ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (١) : عن عليّ بن أبي طالب قال : هي النجوم تنزع من المشرق وتغرق في المغرب. وهو تفسير الحسن.

ذكروا عن محمّد بن عليّ (١) قال : هي الملائكة تنزع أنفس بني آدم. قال سفيان : وبعضهم يقول : هي النجوم. وقال بعضهم : هي بقر الوحش.

قوله عزوجل : (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) (٢) : تفسير الحسن : إنّها النجوم تنشط من مطالعها إلى مغاربها. عن عثمان قال : حدّثني من سمع محمّد بن عليّ يقول : هي الملائكة تنشط أنفس بني آدم (٢).

ذكروا عن الأرمز (٣) بن عبد الله الأزديّ قال : إنّ ملك الموت ينشط نفس الكافر نشطا مثل السفود ذي السعة من حمل العصعه (٤) لا يبقى عرق ولا عصب إلّا اتّبعها.

قال : (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) (٣) : يعني النجوم ، كقوله : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣) [الأنبياء : ٣٣] أي : يدورون كما يدور فلك المغزل.

__________________

(١) لم أجد من المفسّرين الأوائل من اسمه محمّد بن عليّ غير أبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ الباقر. وأغلب ظنّي أنّه المقصود هنا ، فقد كان من فقهاء المدينة ومن ذوي الحسب والعقل الراجح فيهم ، وتوفّي سنة ١١٤ هجريّة. انظر الداودي ، طبقات المفسّرين ، ج ٢ ص ١٩٨.

(٢) كذا ورد هذا القول في ق وع ، دون ز ، وأورده القرطبيّ في تفسيره ، ج ١٩ ص ١٩١ هكذا : «وقيل : هي الوحش ، تنزع من الكلأ وتنفر ، حكاه يحيى بن سلّام ، ومعنى (غَرْقاً) أي : إبعادا في النزع». وأورده ابن الجوزيّ في زاد المسير قولا سادسا للنازعات ، فقال : «إنّها الوحوش تنزع وتنفر ، حكاه الماوردي». وأورده الطبريّ قولا في (النَّاشِطاتِ نَشْطاً) فقال : «وبقر الوحش أيضا تنشط ... لأنّها تنشط من بلدة إلى بلدة». ولم ينسب من روى هذا القول إلى قائله الأوّل ، ولكنّهم اكتفوا بذكر من حكاه.

(٣) كذا وردت هذه الكلمة في ق «الأرمز» ، وفي ع : «الأمر» ، ولم أوفّق لتحقيق هذا الاسم.

(٤) وردت هذه العبارة هكذا مضطربة غامضة في بعض كلماتها فلم أتمكّن من تصحيحها. وجاءت العبارة في الدرّ المنثور هكذا : «تنشط نشطا عنيفا مثل سفود في صوف». وفي بعض التفاسير : «في صوف مبتلّ».

٤٢٠