تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

يقاتلونكم إلّا جميعا من شدّة رعبهم الذي دخلهم منكم (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) : أي لا يقاتلونكم في الصحارى. قال تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) : أي في المدائن (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) : أي يقولون إذا اجتمعوا : لنفعلنّ بمحمّد كذا وكذا ولنفعلنّ بمحمّد كذا وكذا.

قال الله عزوجل : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) : أي : مختلفة مفترقة ، أي : في قتالكم (١). وقال مجاهد : (قُلُوبُهُمْ شَتَّى) وهم المنافقون ، مختلف دينهم ودين بني النضير (٢). قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (١٤).

ثمّ قال عزوجل : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : [من قبل قتل قريظة] (٣) (قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) : يعني بني النضير. كان إهلاك الله إيّاهم قريبا : كان بين إجلاء بني النضير وقتل قريظة سنتان. نزلت هذه الآية من قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ ، أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ..). إلى هذا الموضع في قتل قريظة (٤) ، من قبل أن ينزل قوله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها ..). إلى قوله عزوجل : (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وهي بعدها في التأليف. وتفسير مجاهد : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) أي : كفّار قريش يرم بدر. قال تعالى : (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي : ذاقوا عقوبة أمرهم. والوبال العقوبة. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٥).

قال : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (١٦) : بريء منه ومن عبادته إيّاه.

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ١٤٦ : (تَحْسَبُهُمْ) يعني بني النضير جميعا ، وقلوبهم مختلفة ، وهي في قراءة عبد الله : (وقلوبهم أشتّ) ، أي أشدّ اختلافا».

(٢) هذا القول الأخير هو الذي اختاره الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٨ ص ٤٧ قال : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) يعني المنافقين وأهل الكتاب ، يقول : تظنّهم مؤتلفين مجتمعة كلمتهم ، (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) يقول : وقلوبهم مختلفة لمعاداة بعضهم بعضا». ويعجبني ما رواه الطبريّ عن قتادة في تفسير الآية قال : «تجد أهل الباطل مختلفة شهادتهم ، مختلفة أهواؤهم ، مختلفة أعمالهم ، هم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ».

(٣) زيادة من ز ورقة ٣٥٨.

(٤) في ع وق : «من قبل» وفي الكلمة تصحيف صوابه ما أثبتّه : «قتل قريظة».

٣٠١

(فَكانَ عاقِبَتَهُما) : أي عاقبة الشيطان والذي عبده (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١٧) : أي المشركين. فضرب الله مثل المنافقين واليهود حين اغترّت اليهود بما وعدهم المنافقون من النصر فخذلوهم ولم ينصروهم (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ..). إلى قوله عزوجل : (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ). وبلغنا أنّ عابدا كان في بني إسرائيل قد خرج من الدنيا واتّخذ ديرا يتعبّد فيه. فطلبه الشيطان أن يزلّه فأعيى عليه. فلمّا رأى الشيطان ذلك جاء إلى ابنة الملك فدخل فيها فأخذها. فدعوا لها الأطبّاء فلم يغنوا عنها شيئا. فتكلّم على لسانها فقال : لا ينفعها شيء إلّا أن تأتوا بها إلى فلان الراهب فيدعو لها. فذهبوا إليه فجعلوها عنده. فأصابها يوما ما كان بها فانكشفت ، وكانت امرأة حسناء فأعجبه بياضها وحسنها ، فوقع عليها فأحبلها. فوسوس الشيطان إلى أبيها وإخوتها بأنّه قد وقع عليها فأحبلها. ثمّ وسوس إلى الراهب فقال له : اقتلها وادفنها لئلّا يعلموا أنّك أحبلتها. فقتلها الراهب ودفنها في أصل حائط. فجاء أبوها وإخوتها ، وجاء الشيطان بين أيديهم فسبقهم (١) إلى الراهب وقال : إنّ القوم قد علموا ما صنعت بالمرأة ، فإن سجدت لي سجدة رددتهم عنك ، فسجد له. فلمّا سجد له أخزاه الله وتبرّأ منه الشيطان. وجاء أبوها وإخوتها فاستخرجوها من حيث دفنها ، وعمدوا إلى الراهب فصلبوه. فضرب الله مثل المنافقين حين خذلوا اليهود فلم ينصروهم ، وقد كانوا وعدوهم النصر (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) في هذه الآية (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، وكذب. قال الله عزوجل : (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي عاقبة الشيطان وذلك الراهب (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (٢). وهو تفسير مجاهد.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) : أي : للآخرة (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨) : أي عالم بأعمالكم.

__________________

(١) في ق وع : «فتقدمهم» ، وأثبتّ ما جاء في ز وفي مخطوطة ابن سلّام : «فسبقهم» وهو أدقّ تعبيرا.

(٢) وردت هذه القصّة في بعض كتب التفسير والحديث موقوفة على ابن عبّاس ، وأحيانا على عليّ. ورفعها بعضهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ونسبت أحيانا إلى قصص وهب بن منبّه. ولم يشر إليها الفخر الرازي في التفسير الكبير مطلقا كأنه أنكر صحّتها. وانظر تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٣٧ ـ ٤٢ ، فقد رواها من طرق متعدّدة وألفاظ متقاربة.

٣٠٢

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) : أي تركوا العمل لله بفرائضه (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) : أي تركهم من الخير ولم يتركهم من الشرّ (١). (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١٩) : من فاسق مشرك ، أو فاسق منافق ؛ جمعهم كلّهم جميعا.

قوله عزوجل : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) : أي أهل النار وأهل الجنّة (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠) : أي فازوا من النار إلى الجنّة.

قوله عزوجل : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) : أي على حدّ ما أنزلناه على العباد من الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي.

(لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) : يوبّخ بذلك العباد. ونظيرها قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) [الأحزاب : ٧٢]. وقد فسّرناه في سورة الأحزاب(٢).

قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) : أي لكي يتفكّروا فيعلموا أنّهم أحقّ بخشية الله من هذا الجبل ، لأنّهم يخافون العقاب ، وليس على الجبال عقاب.

قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود سواه (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : الغيب ما أخفى العباد والشّهادة ما أعلنوا.

قال تعالى : (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (٢٢) : وقد فسّرناه في فاتحة الكتاب (٣).

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) : أي المبارك ، أي إنّ البركة من قبله. وتفسير الكلبيّ : القدّوس : الطاهر (السَّلامُ) : أي الذي سلمت الخلائق من ظلمه (الْمُؤْمِنُ) : تفسير الحسن : المؤمن بنفسه قبل إيمان خلقه ، كقوله عزوجل : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ ، لا إِلهَ

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز : (نَسُوا اللهَ) يعني تركوا ذكره بالإخلاص من قلوبهم فأنساهم أنفسهم بتركهم من أن يذكروا ما عنده بالإخلاص له. (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) وهو فسق الشرك».

(٢) انظر ما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية المذكورة.

(٣) انظر تفسير فاتحة الكتاب ، ج ١.

٣٠٣

إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ). يعني المؤمنين ... إلى آخر الآية. [آل عمران : ١٨].

وقال بعضهم : أمن الله الخلائق من ظلمه. وقال بعضهم : الموفي خلقه بما وعدهم ، هو المؤمن. (الْمُهَيْمِنُ) : أي الأمين على ما حدّث أنّه كائن وأنّه يكون ، وبعضهم يقول : الشاهد على خلقه. وتفسير مجاهد : الشهيد ، وهو نحوه. (الْعَزِيزُ) في نقمته. وقال الحسن : (الْعَزِيزُ) بعزّته ذلّ من دونه (الْجَبَّارُ) : أي الذي تجبّر على خلقه (١). وقال بعضهم : القاهر لخلقه بما أراد. (الْمُتَكَبِّرُ) : أي الذي تكبّر على خلقه (٢). (سُبْحانَ اللهِ) : نزّه نفسه (عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢٣).

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) : والبارئ هو الخالق (الْمُصَوِّرُ) : الذي يصوّر في الأرحام وفي غيرها ما يشاء (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لله تسعة وتسعون اسما ، مائة غير واحد ، من أحصاها (٣) دخل الجنّة (٤). وإنّما يتقبّل الله من المتّقين.

قال الله عزوجل : (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤) : أي العزيز في نقمته الحكيم في أمره.

* * *

__________________

(١) وقال الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٨ ص ٥٥ : «وقوله : (الْجَبَّارُ) يعني المصلح أمور خلقه ، المصرّفهم فيما فيه صلاحهم. وكان قتادة يقول : جبر خلقه على ما يشاء من أمره».

(٢) كذا في ق وع وز ، وفي تفسير الطبريّ : (الْمُتَكَبِّرُ) : تكبّر عن كلّ شرّ». والقول لقتادة.

(٣) جاء في ز ورقة ٣٥٨ ما يلي : «قال محمّد : معنى أحصاها ، حفظها ، ومنهم من قال : تعبّد لله بها».

(٤) أخرجه يحيى بن سلّام بالسند التالي : «يحيى عن خراش عن محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وانظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ١٨٠ من سورة الأعراف.

٣٠٤

تفسير سورة الممتحنة ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) : [يعني في الدين] (١) (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) : أي في الدنيا (٢) (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) : أي القرآن (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) : أي أخرجوا الرسول (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) : أي إنّهم أخرجوكم من مكّة لأنّكم آمنتم بربّكم.

ثمّ قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) : وبأخبار النبيّ عليه‌السلام والمؤمنين (٣). (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) : أي ومن ينافق منكم (٤). (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١) : أي قصد الطريق طريق الهدى.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) : أي إن يظفروا بكم (٥) (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) : أي يقاتلوكم (وَأَلْسِنَتَهُمْ) : أي ويبسطوا إليكم ألسنتهم (بِالسُّوءِ) : أي بالشتم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٢).

قال : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) : أي بين المؤمنين وبين المشركين ، فيدخل المؤمنين الجنّة ويدخل المشركين النار. قال تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣).

نزلت الآية في أمر حاطب بن أبي بلتعة (٦). تفسير الكلبيّ أنّ حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى

__________________

(١) زيادة من ز ورقة ٣٥٩ ومن مخطوطة تفسير ابن سلّام ، قطعة ١٨٠.

(٢) كذا في ق وع ، وفي مخطوطة ابن سلام : «يعني بالنصيحة».

(٣) كذا في ق وع. وفي مخطوطة ابن سلّام : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) يعني كما صنع المنافقون».

(٤) كذا في ز ، وفي مخطوطة ابن سلّام ، وهو أصحّ ، وفي ق وع : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) فإنّه منافق».

(٥) كذا في ق وع : «إن يظفروا بكم» ، وفي ز ومخطوطة ابن سلّام : «إن يلقوكم».

(٦) هو حاطب بن أبي بلتعة اللخميّ ، يكنّى أبا عبد الله ، وهو حليف قريش. شهد بدرا والحديبيّة ، وتوفّي سنة ثلاثين للهجرة بالمدينة. انظر ترجمته في كتب تراجم الصحابة مثل : الاستيعاب لابن عبد البرّ ، ج ١ ـ

٣٠٥

أهل مكّة أنّ محمّدا قد نفر (١) ، ولا أدري إليكم يريد أم غيركم ، فعليكم بالحذر. وكتب مع امرأة مولاة لبني هاشم وجعل لها جعلا ، وجعلت الكتاب في خمارها. فجاء جبريل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره. فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبها عليّا ورجلا آخر (٢) ففتّشاها فلم يجدا معها شيئا. فأراد صاحبه الرجوع فأبى عليّ. وسلّ عليها السيف ، وقال : ما كذبت ولا كذبت. فأخذت عليهما عهدا إن أعطته إيّاهما ألّا يرادّاها. فأخرجت الكتاب من خمارها.

قال الكلبيّ : فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إلى حاطب. فلمّا حضر] (٣) قال : هل تعرف هذا الكتاب يا حاطب؟ قال : نعم. قال : فما حملك على هذا؟ قال : أما والذي أنزل عليك الكتاب ، ما كفرت منذ آمنت ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولم يكن من أصحابك أحد إلّا وله بمكّة من يمنع الذي له غيري ، فأحببت أن أتّخذ عندهم مودّة ، وقد علمت أنّ الله منزل عليهم بأسه ونقمته ، وإنّ كتابي لن يغني عنهم شيئا ، فصدّقه رسول الله وعذره ، فأنزل الله فيه هذا (٤).

وقال : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) : أي بولايتكم في الدين ، وهذا تفسير الحسن. وقال بعضهم : تبرّأنا منكم ، وهو واحد. (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) : أي أن أدخلك في الإيمان ولا أن أغفر لك. يقول : قد كانت لكم في إبراهيم والذين معه أسوة حسنة إلّا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك [فليس] (٥) لكم فيه أسوة ، فلا تستغفروا

__________________

ـ ص ٣١٢ ـ ٣١٥.

(١) كذا في ق وع : «قد نفر» ، وفي ز ، وفي مخطوطة ابن سلّام : «يغزو».

(٢) هو الزبير بن العوّام حسبما ذكرته أغلب كتب التفسير والسيرة. وتضيف إليهما بعض الروايات المقداد بن عمرو ، أو أبا مرثد الغنوي.

(٣) زيادة لا بدّ منها ليتمّ سياق الكلام.

(٤) القصّة مشهورة تجدها في كتب التفسير والحديث والسيرة ، اقرأها مثلا في صحيح البخاريّ ، كتاب التفسير سورة الممتحنة ، من رواية عبيد الله بن أبي رافع ، كاتب عليّ ، عن الإمام عليّ يقول : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد ...

(٥) سقط لفظ «ليس» من ق وع ، والمعنى يقتضي إثباته.

٣٠٦

للمشركين. وقال في سورة براءة : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) [التوبة : ١١٣ ـ ١١٤].

قال عزوجل : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) : أي : أقبلنا مخلصين لك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٤) : أي يوم القيامة. (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) : أي بليّة (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : أي لا يظهرنّ علينا المشركون فيقولوا لو كان هؤلاء على دين ما ظهرنا عليهم فيعيبونا (١) (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٥).

قوله عزوجل : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) : أي لمن يؤمنون بالبعث. رجع إلى قوله : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ ، أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) ؛ أمر الله النبيّ عليه‌السلام والمؤمنين بالبراءة من قومهم ما داموا كفّارا ، كما تبرّأ إبراهيم والذين آمنوا معه من قومهم ؛ فقطع المؤمنون ولايتهم من أهل مكّة ، وأظهروا لهم العداوة.

قال عزوجل : (وَمَنْ يَتَوَلَّ) : أي : عن الإيمان (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ) : أي عن خلقه (الْحَمِيدُ) (٦) : استحمد إليهم ، أي : استوجب عليهم أن يحمدوه.

ثمّ قال عزوجل : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) : يعني المشركين. فلمّا أسلم أهل مكّة خالطهم المسلمون وناكحوهم ، وتزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وهي المودّة التي ذكر الله عزوجل. قال الله : (وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧).

قوله عزوجل : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) : يعني قرابة المؤمنين (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بالصلة (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) : أي وتعدلوا إليهم ، أي في أموالكم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٨) : أي العادلين. وكان هذا قبل أن يؤمر بقتالهم

__________________

(١) كذا في مخطوطة ابن سلام : «فيعيبونا» وهو أصحّ. وفي ق وع وز ورقة ٣٥٩ : «فيفتتنوا بنا». وجاء في تفسير مجاهد ص ٦٦٧ في تفسير الآية : «يقول : ربّنا لا تعذّبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا : لو كان هؤلاء على حقّ ما أصابهم هذا ، وما سلّطنا عليهم».

٣٠٧

ثمّ أمر بقتال المشركين كافّة.

وكان المسلمون قبل أن يؤمر النبيّ عليه‌السلام بقتال المشركين استشاروا النبيّ عليه‌السلام في قراباتهم من المشركين أن يصلوهم ويبرّوهم ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية ، في تفسير الحسن.

ذكروا عن الحسن قال : كان رجل من المشركين قد سمّاه (١) يهدي النبيّ عليه‌السلام لا يزال يهاديه ، وإنّه قدم على النبيّ عليه‌السلام بهديّة فقال له النبيّ عليه‌السلام : أو كنت أسلمت؟ قال : لا ، قال له : فإنّه لا يحلّ لنا رفد المشركين (٢). وتفسير مجاهد : هم الذين آمنوا بمكّة ولم يهاجروا.

قوله عزوجل : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) : يعني كفّار أهل مكّة (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) : أي من مكّة (وَظاهَرُوا) : أي وأعانوا (عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩).

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) : وهذه في نساء أهل العهد من المشركين ، وكانت محنتهنّ في تفسير بعضهم أن يستحلفن بالله ما أخرجكنّ النشوز ، وما أخرجكنّ إلّا حبّ الإسلام ، والحرص عليه. وفسّر الحسن أنّ المرأة من نساء من كان بينه وبين رسول الله عهد إذا جاءت إلى النبيّ عليه‌السلام لم يقبلها حتّى تحلف بالله الذي لا إله إلّا هو ما جاءت ناشزة عن زوجها ، ولا جاءت إلّا راغبة في الإسلام. فإذا حلفت قبلها. وهو قوله : (فَامْتَحِنُوهُنَّ).

قوله : (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ) : أي بصدقهنّ أو كذبهنّ (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) : أي إذا أقررن لكم بالإسلام وحلفن بالله ما أخرجهنّ النشوز وما أخرجهنّ إلّا الحرص على الإسلام وحبّه.

__________________

(١) هو عياض بن حمار بن أبي حمار المجاشعيّ التميميّ. وكان صديقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قديما ثمّ أسلم. انظر : ابن عبد البرّ ، الاستيعاب ، ج ٣ ص ١٢٣٢ ، وابن قتيبة ، المعارف ، ص ٣٣٧.

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء ، باب في الإمام يقبل هدايا المشركين (رقم ٣٠٥٧) عن عياض بلفظ : «إنّي نهيت عن زبد المشركين». أي رفدهم وعطائهم. وقد ورد اللفظ في مخطوطة ابن سلّام بلفظ : «زبد» ، وقال الراوي عبد الله بن عون : «فسألت الحسن عن الزبد فقال الرفد». انظر الزمخشري ، الفائق : (زبد). واللسان : (زبد).

٣٠٨

فأمّا إذا كانت من غير أهل العهد لم تمتحن ولم تردّ على زوجها شيئا إذا تزوّجت.

ذكروا عن عكرمة قال : كان العبد إذا جاء إلى النبيّ عليه‌السلام مسلما ومولاه مشرك كان حرّا. وقال بعضهم : أظنّ هذا إذا لم يكن سيّده من أهل العهد (١).

ذكروا عن جابر بن عبد الله أنّ مملوكا بايع النبيّ عليه‌السلام ، فلم يعلم النبيّ عليه‌السلام أنّه عبد. ثمّ علم النبيّ عليه‌السلام فاشتراه من سيّده بغلامين [ثمّ لم يبايع أحدا حتّى يعلم] (٢) قال بعضهم : أظنّ أنّ سيّده من أهل العهد.

قال عزوجل : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) : أي لا إثم عليكم (أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) : أي إذا أعطيتموهنّ مهورهنّ (٣) (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) : يعني كوافر العرب اللائي ليس لهنّ كتاب يفترينه (٤) إذا أبين أن يسلمن أن يخلّى سبيلهنّ.

(وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠) : [وهذا حكم حكمه الله بين أهل الهدى وأهل الضلالة] (٥) أي : من أسلم وعنده مشركة عرض عليها الإسلام ، فان أسلمت فهي امرأته ، وإلّا فهي منه بريئة. وقال بعضهم : كنّ إذا فررن إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأزواجهنّ من أهل العهد فتزوّجوهنّ بعثوا بمهورهنّ إلى

__________________

(١) في ق وع : «إذا كان سيّده من أهل العهد» ، وهو خطأ أثبتّ تصحيحه من مخطوطة ابن سلّام ، والقول ليحيى.

(٢) زيادة من مخطوطة ابن سلّام قطعة ١٨٠.

(٣) أورد الفرّاء في المعاني ج ٣ ص ١٥٠ ـ ١٥١ قصّة سبيعة بنت الحارث الأسلميّة التي جاءت مسلمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ختم كتاب صلح الحديبيّة. ولمّا جاء زوجها يطالب بردّها حسب شروط الصلح نزل قوله تعالى : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) «فاستحلفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أخرجك إلّا الحرص على الإسلام فيه ، ولا أخرجك حدث أحدثته ، ولا بعض لزوجك. فحلفت ، فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجها مهرها ...».

(٤) كذا في ق وع وفي مخطوطة ابن سلّام : «ليس لهنّ كتاب يفترينه» ، ولم أوفّق إلى فهم المقصود من العبارة التي لم ترد في ز.

(٥) زيادة من ز ورقة ٣٦٠ ، ومن مخطوطة ابن سلّام قطعة ١٨٠.

٣٠٩

أزواجهنّ [من المشركين. وإذا فررن من أصحاب رسول الله إلى الكفّار الذين بينهم وبين رسول الله عهد فتزوجوهنّ بعثوا بمهورهنّ إلى أزواجهنّ] (١) من المسلمين. فكان هذا بين أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أهل العهد من المشركين. ثمّ نسخ هذا الحكم وهذا العهد في براءة فنبذ إلى كلّ ذي عهد عهده ، فقال عزوجل في سورة براءة : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

قوله عزوجل : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) : أي إلى الذين ليس بينكم وبينهم عهد (فَعاقَبْتُمْ) : أي فغنمتم ، وقال مجاهد : فأصبتم (٢) (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) : يعني من أصحاب النبيّ عليه‌السلام (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (١١). فكانوا إذا غنموا غنيمة أعطوا زوجها صداقها الذي كان ساق إليها من جميع الغنيمة ، ثمّ تقسّم الغنيمة بعد. ثمّ نسخ ذلك مع العهد والحكم بقوله في هذه الآية : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الأنفال : ٤١] ، فجعل خمس الغنيمة لهؤلاء ، وما بقي من الغنيمة الأربعة الأخماس لأهل القتال.

وإذا أسلم الرجل وعنده امرأتان أو ثلاثة أو أربعة فأسلمن معه أقام عليهنّ ، فان كنّ أكثر من أربعة اختار منهنّ أربعا. ذكر سالم (٣) بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنّ رجلا من ثقيف يقال له : غيلان بن سلمة ، أسلم وعنده عشر نسوة ، فأسلمن معه ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يختار منهنّ أربعا. ذكر قرّة بن خالد عن سهيل بن عليّ النسري قال : لمّا كان يوم الفتح وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند عتبة بن عمر (٤) خمس نسوة فأمره أن يطلّق إحداهنّ ، فطلّق دجاجة بنت أسماء بن الصلت ، فخلف عليها عامر بن كريز ، فولدت له عبد الله بن عامر. قال بعضهم : فإذا أسلم الرجل وعنده

__________________

(١) سقط ما بين المعقوفين كلّه من ق وع ، فأثبتّه من مخطوطة ابن سلّام ومن ز.

(٢) قال ابن أبي زمنين في مخطوطة ز ورقة ٣٦٠ : «المعنى : كانت العقبى لكم فغنمتم». وفي تفسير مجاهد : ص ٦٦٩ : «يقول : أصبتم مغنما من قريش أو غيرهم». وفي قطعة ١٨٠ من المخطوطة : «فاقتصصتم».

(٣) في ق وع : «سعيد بن عبد الله بن عمر» وهو خطأ ، والتصحيح من مخطوطة ابن سلّام. على أنه لا يوجد من أبناء عبد الله بن عمر من سمّي بسعيد ، وسالم هذا يعدّ من الفقهاء وكان أبوه يحبّه حبّا جمّا.

(٤) كذا في ق وع ، وفي مخطوطة ابن سلّام : «عند عمير بن عمرو». ويلاحظ كثرة الأخطاء في أسماء الرواة ورجال السند في ق وع.

٣١٠

أختان فأسلمتا اختار أيّتهما شاء فأمسكها. ذكروا عن الضحّاك بن فيروز الديلميّ قال : أسلم أبي (١) وعنده أختان فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلّق إحداهما.

وإذا أسلم الزوجان معا جميعا ، أو الرجل ونساؤه إن كانت عنده امرأتان أو ثلاث أو أربع فأسلمن معه جميعا أقام عليهنّ جميعا. فإن كنّ أكثر من ذلك اختار منهنّ أربعا.

وبعضهم يقول في هذا كلّه : يحبس الأوائل الأربع من النسوة ، ويطلّق الأواخر من النسوة والآخرة من الأختين ، يقولون : كلّ ما لا يصلح نكاحه في الإسلام فهو الذي يفارق ، وكلّ ما كان يصلح نكاحه في الإسلام يحبس. والأثر عن النبيّ عليه‌السلام جاء من غير وجه كما ذكرناه أوّلا.

وإذا أسلمت امرأة قبل زوجها بانت منه بواحدة ، فإذا أسلم خطبها فتكون عنده على اثنتين. وبعضهم يقول : إذا أسلم في عدّتها فهو أحقّ بها. وفيه اختلاف. ذكروا عن الزهريّ أنّ سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل أسلمت امرأتاهما فأقاما على نكاحها.

ذكر غير واحد من العلماء أنّ زينب بنت النبيّ هاجرت ، ثمّ أسلم زوجها العاص بن ربيعة فردّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال بعضهم : ثمّ جاءت براءة ، فإذا أسلمت امرأة قبل زوجها فهي تطليقة بائنة فلا سبيل له عليها إلّا بخطبة. ذكروا عن ابن عبّاس أنّ المرأة إذا أسلمت قبل زوجها فرّق بينهما. ذكروا عن سعيد بن المسيّب عن عليّ قال : هو أحقّ بها ما كان في دار الهجرة.

وقال بعضهم : في دار هجرتها. ذكروا عن عبد الله بن يزيد الخطميّ أنّ امرأة أسلمت ثمّ أسلم زوجها فخيّرها عمر بن الخطاب. ذكر بعضهم قال : يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم فهما على نكاحهما ، وإلّا فرّق بينهما. وإن كان الزوجان يهوديّين أو نصرانيّين ، فأسلم الزوج قبل المرأة فهما على نكاحهما. ذكروا عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : الإسلام يظهر ولا يظهر عليه ؛ إذا أسلم الرجل قبل امرأته فهما على نكاحهما ، يعني اليهوديّين (٢). فإن أسلمت المرأة قبله فرّق بينهما. وفي

__________________

(١) هو أبو عبد الله فيروز الديلميّ ، من أصل فارسيّ ، أسلم وحسن إسلامه ووفد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمع منه. وهو الذي قتل الأسود العنسيّ الكذّاب الذي ادّعى النبوّة في صنعاء أيّام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قتله الرجل الصالح فيروز الديلميّ». انظر ترجمته في الاستيعاب ، ج ٣ ص ١٢٦٤. والمعارف لابن قتيبة ، ص ٣٣٥.

(٢) في مخطوطة ابن سلّام «أو النصرانيّين».

٣١١

هذا اختلاف مثل الاختلاف في نساء العرب إذا أسلمن قبل أزواجهنّ.

وقال الحسن في المجوسيّين إذا أسلما جميعا فهما على نكاحهما. وإذا أسلم أحدهما قبل الآخر فرّق بينهما.

وإذا ارتدّ الرجل عن الإسلام وله امرأة مسلمة فإنّ امرأته لا تتزوّج ولا تعتدّ حتّى يعرض عليه الإسلام. فإن طال ذلك ، فإن تاب فهي امرأته وهما على نكاحهما ، وإن أبى أن يتوب قتل ، واعتدّت امرأته عدّة المطلقة. وإن ارتدّ والتحق بالشرك فإنّها تعتدّ وتتزوّج.

وقال الحسن في النصرانيّة تسلم قبل أن يدخل زوجها الإسلام وهو نصرانيّ إنّه يفرّق بينهما ، ولا شيء له. ذكر بعضهم قال : إن أبى أن يسلم فلها نصف الصداق لأنّ الإباء جاء من قبله.

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) : وهنّ جميع المؤمنات (يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) : أي لا تلحق بزوجها ولدا ليس له. قال تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) : قال الحسن : نهاهنّ عن النياحة وأن يحادثن الرجال إلّا محرما. قال : (فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢).

ذكروا عن الزهريّ عن عروة بن الزبير عن عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصافح النساء حين بايعهنّ ، وقال : اذهبن قد بايعتكنّ (١). وقال بعضهم : بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء وعلى يده خرقة أو ثوب (٢).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي أقرّوا ، يعني المنافقين (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ

__________________

(١) حديث صحيح متّفق عليه ؛ أخرجه البخاريّ في الشروط ، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب كيفيّة بيعة النساء (رقم ١٨٦٦) كلاهما يرويه من حديث عروة بن الزبير عن عائشة بألفاظ متقاربة.

(٢) روى يحيى بالسند التالي هذا القول : «أيّوب بن عبد الملك عن حصين بن عبد الرحمن عن الشعبيّ قال : بايع رسول الله النساء وعلى يده ثوب» ، كما جاء في مخطوطة ابن سلّام ، قطعة ١٨٠. وانظر سنن الدارقطنيّ ، ج ٤ ص ١٤٧ وما قاله المحدّث أبو الطيّب محمّد شمس الحق العظيم آبادي تعليقا على رواية ابن سلّام هذه. وانظر : فتح الباري ، ج ٨ ص ٦٣٧.

٣١٢

اللهُ عَلَيْهِمْ) : يعني المشركين. كان المنافقون يوادّونهم ويسرّون إليهم بأخبار النبيّ عليه‌السلام والمؤمنين.

قال تعالى : (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) : أي فلا يرجونها ولا يؤمنون بها. (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣) : أي كما يئس هذا الكافر الذي من أصحاب القبور من الجنّة حين عاين ثوابه واطّلع عليه. وهذا تفسير مجاهد.

وتفسير الحسن : (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي اليهود (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) أي على حدّ ما وعد الله في الجنّة من الطعام والشراب والنساء ، (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) وهم المشركون (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي يئسوا من موتاهم أن يرجعوا أبدا وأن يحيوا أبدا.

قال الكلبيّ أيضا : هم اليهود يئسوا من نعيم الآخرة ، زعموا أنّه لا أكل فيها ولا شراب ولا نعيم ، أي : قد يئسوا من ذلك كما يئس من مات من الكفّار من الجنّة حين عاينوا النار ، فنعوذ بالله منها.

* * *

٣١٣

تفسير سورة الصفّ (١) ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ) : أي في نقمته (الْحَكِيمُ) (١) في أمره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٢) : قال الحسن : يعني المنافقين.

يقول : يا أيّها الذين أقرّوا بألسنتهم ، نسبهم إلى الإيمان الذي أقرّوا به وادّعوه ، وكانوا يقولون : نجاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا جاء الجهاد تخلّفوا عنه وقعدوا. فقال الله : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣).

ثمّ وصف المؤمنين فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) : أي يفعلون ما يقولون ويتمّون على ما يدّعون ، وأنتم أيّها المنافقون لا تفعلون ما تقولون وتقولون ما لا تفعلون. وهو كقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) أي : حيث رأوا الأحكام جرت لهم وعليهم. قال الله : (قُلْ) يا محمّد (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] أي : أقررنا. أي : فأنتم مقرّون غير مؤمنين ، لأنّ الإيمان والإسلام لا يكونان إلّا لمن استكمل فرائض الله وأوفى بها ولم ينقصها (٢).

وقال مجاهد : إنّها نزلت في نفر من الأنصار ، منهم عبد الله بن رواحة الأنصاريّ. قالوا : لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا بها حتّى نموت ، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وقال ابن رواحة : لا أبرح جيشا في سبيل الله حتّى أموت فقتل في سبيل الله.

قوله عزوجل : (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٤) : ذكر ثبوتهم في صفّهم كأنّه بنيان قد رصّ بعضه إلى بعض. ذكروا عن الأعمش عن أبي صالح عن كعب قال : في التوراة مكتوب : محمّد المختار ، لا فظّ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق ولا يجزي بالسيّئة السيّئة ، ولكن يغفر ويعفو.

__________________

(١) وتسمّى في بعض المصاحف القديمة سورة الحواريّين ، وبهذا جاءت في مخطوطة ابن سلّام ، والأولى تسميتها بسورة الصفّ ؛ لأنّها كانت معروفة بهذا الاسم في عصر الصحابة.

(٢) هذه الجمل الأخيرة من كلام الشيخ هود الهوّاريّ ، وهي غير موجودة في ز ولا في مخطوطة ابن سلّام.

٣١٤

أمّته الحامدون ، يحمدون الله في كلّ منزلة ، ويكبّرونه على كلّ نجد. مناديهم ينادي في جوّ السماء ، ويتوضّأون على أطرافهم ، ويتّزرون على أوسطهم (١) ، لهم بالليل دويّ كدويّ النحل ، صفوفهم في الصلاة والقتال سواء ، مولده بمكّة ، وهجرته بطيبة ، وملكه بالشام.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رصّوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق ، فو الذي نفسي بيده إنّي لأرى الشيطان يتخلّل بينكم كأنّه الحذف (٢).

وتفسير الكلبيّ في قوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) قال : بلغنا أنّ المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال : والله لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله وأرضاها عنده لعملنا بها. فدلّهم الله إلى أحبّ الأعمال إليه فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) فكره ذلك من كرهه. فأنزل الله هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

قوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) : يعني الخاصّة الذين يعلمون أنّه رسول الله ، الذين كذّبوه وآذوه ، فكان ممّا آذوه به أن زعموا أنّه آدر. وقد فسّرنا ذلك في سورة الأحزاب (٣).

قوله عزوجل : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) : والزيغ الشرك ، أي : فلمّا ضلّوا أضلّهم الله بضلالتهم. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥) : أي المشركين ، يعني الذين يلقون الله بشركهم.

قوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ). ذكروا

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي مخطوطة ابن سلّام رقم ١٨٠ : «من أوساطهم».

(٢) حديث صحيح ، أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، في تفريع أبواب الصفوف باب تسوية الصفوف ، عن أنس بن مالك (رقم ٦٦٧) ، وأخرجه النسائيّ وابن حبّان. والحذف : ضأن سود جرد صغار تكون باليمن. انظر الزمخشري ، الفائق ، واللسان : (حذف).

(٣) انظر ما مضى ج ٣ في تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) ،) الآية : ٦٩.

٣١٥

عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : أنا أحمد وأنا محمّد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي ، وأنا العاقب (١) ، يعني الآخر.

قال الله عزوجل : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : أي بالإنجيل (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٦).

قال الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) : أي لا أحد أظلم منه. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٧) : أي المشركين الذين يلقون الله بشركهم.

قال : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) : أي بتكذيبهم وبقتالهم. ونوره القرآن والإسلام ، أرادوا أن يطفئوه حتّى لا يكون إيمان ولا إسلام (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٨).

قوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) : أي الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٩) : تفسير الحسن : حتّى تدين له الأديان كلّها ويحكم على أهل الأديان كلّها. وتفسير ابن عبّاس حتّى يظهر النبيّ على الدين كلّه] (٢) أي على سائر شرائع الأديان كلّها. فلم يقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى أتمّ الله له ذلك كلّه.

ذكروا عن سليم بن عامر الكلاعي (٣) قال : سمعنا المقداد بن الأسود يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يبقى أهل مدر ولا وبر إلّا أدخله الله الإسلام بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل ، إمّا يعزّهم فيجعلهم من أهله ، وإمّا يذلّهم فيدينون له.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأنبياء إخوة لعلّات ، أمّهاتهم شتّى وأبوهم

__________________

(١) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، سورة الصفّ. وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل ، باب في أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (رقم ٢٣٥٤) وأوّله : أنا محمّد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي». وجاء في آخره : «والعاقب الذي ليس بعده نبيّ» ، كلاهما يرويه من طريق محمّد بن جبير بن مطعم عن أبيه.

(٢) سقط ما بين المعقوفين من ق وع فأثبتّه من مخطوطة ابن سلّام القطعة ١٨٠.

(٣) جاء في ق وع : «ذكروا عن سلمان عن عامر الكندي» ، وهذا خطأ صوابه ما أثبتّه من ز ، ورقة ٣٦١ ، ومن مخطوطة ابن سلّام.

٣١٦

واحد ، يعني : دينهم واحد وشرائعهم مختلفة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا أحقّ الناس بعيسى بن مريم ، لأنّه ليس بيني وبينه نبيّ ، وإنّه نازل لا محالة ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنّه رجل مربوع الخلق ، بين ممصّرتين ، سبط الرأس ، كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيدقّ الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويقاتل الناس على الإسلام ، ويهلك الله في زمانه الملل كلّها غير الإسلام ، حتّى تقع الأمانة في الأرض ، حتّى ترتع الأسد مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الغلمان بالحيّات ، لا يضرّ بعضهم بعضا (١).

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : تفسير الكلبيّ : إنّ هذا جواب لقولهم : لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله وأرضاها عنده لعملنا بها له. فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ..). إلى آخر الآية ، مع قوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تريدون من ربّكم إلّا أن يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الجنّة؟ قالوا : حسبنا يا رسول الله ، قال فاغزوا في سبيل الله (٢). ذكروا عن الحسن قال : من كثرت سيّئاته وقلّت حسناته فليجعل دروب الروم من وراء ظهره. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما جميع أعمال البرّ في الجهاد في سبيل الله إلّا كنفثة رجل ينفثها في بحر لجّيّ ، ألا وإنّ طالب العلم أعظم أجرا (٣).

قال تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢) : ذكروا عن

__________________

(١) انظر الإشارة إليه فيما سلف ج ٢ ، تفسير الآية ٣٣ من سورة التوبة.

(٢) أخرجه يحيى بن سلّام بهذا السند : «المعلى بن هلال عن يزيد بن يزيد بن جابر عن مكحول عن أبي هريرة» كما في مخطوطة ابن سلّام ، القطعة ١٨٠ ، وفي ز ، ورقة ٣٦١. وجاء بعده حديث بالسند التالي : «إبراهيم بن محمّد عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار قال : قال رسول الله : حرّم الله النار على عين دمعت من خشية الله وعلى عين سهرت في سبيل الله» كما في مخطوطة ابن سلّام ، القطعة ١٨٠.

(٣) أخرجه يحيى بن سلّام بالسند التالي : «المعلى عن رجل عن الوضين بن عطاء عن بكار بن سحيم» (كذا) ، وليس فيه الجملة الأخيرة ، ولم أجد الحديث فيما بين يديّ من المصادر والمراجع.

٣١٧

الحسن أنّ أدنى أهل الجنّة منزلة آخرهم دخولا ، فيعطى فيقال له : انظر ما أعطاك الله ، ويفسح لهم في أبصارهم فينظرون إلى مسيرة مائة عام ، كلّه له ، ليس فيه موضع شبر إلّا وهو عامر قصور الذهب والفضّة وخيام اللؤلؤ والياقوت ، فيها أزواجه وخدمه. ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة من له سبعة قصور من قصور الجنّة. قال بعضهم : أحسبها أنواع القصور. قال وليس أحد إلّا له سبعة قصور : قصر من ذهب ، وقصر من فضّة ، وقصر من درّ ، وقصر من ياقوت ، كلّ قصر منها فرسخ في فرسخ ، لكلّ قصر منها ألف مصراع ووصيف قائم لا يكبر على حاله ، له شرف الفضّة وشرف الذهب ، فيها أبوابها وأغلاقها.

قال تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٣) : أي (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) على أعدائه ، (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) يعني فتح مكّة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بأنّ لهم الجنّة ، أي جنّات عدن في الآخرة ، والنصر لهم على أعدائهم في الدنيا.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) ولمحمّد بالقتال على دينه (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) : وهم أنصاره (١) (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) : أي مع الله. قال مجاهد : من يتبعني إلى الله.

(قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ). ذكروا عن بعضهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ لكلّ نبيّ حواريّين وحواريّي أبو بكر وعمر وسعد وعثمان بن مظعون (٢).

قال تعالى : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) : أي قاتلت الطائفة المؤمنة الطائفة الكافرة (فَأَيَّدْنَا) : أي أعنّا.

(الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١٤) : أي عليهم قد ظفروا بهم. وهذا تفسيرا لحسن. ولم يكن الحسن يصف قتالهم بالليل كان أو بالنهار. وقال ابن عبّاس : قاتلوا ليلا فأصبحوا ظاهرين عليهم. وقال مجاهد : يعني من آمن مع عيسى من قومه.

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز ورقة ٣٦٢ : «وهم أصفياء الأنبياء».

(٢) كذا في ق وع ، وفي مخطوطة ابن سلّام عدّ تسعة من حواريّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بزيادة عثمان وعليّ وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف.

٣١٨

تفسير سورة الجمعة ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) : أي المبارك في تفسير الحسن. وقال الكلبيّ : القدّوس : الطاهر (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١) : في تفسير الحسن : لعزّته ذلّ من دونه ، وفي تفسير بعضهم : العزيز في نقمته ، الحكيم في أمره.

قوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) : العرب (رَسُولاً مِنْهُمْ) : أي كانوا أميّين ليس عندهم كتاب من عند الله كما كان لأهل الكتاب ، وقد كانوا يخطّون بأيديهم. قال عزوجل : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) : يعني القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) : قال بعضهم : الكتاب : القرآن ، والحكمة : السنة ، والزكاة : العمل الصالح.

قال عزوجل : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) : أي كانوا قبل أن يأتيهم محمّد بالكتاب والحكمة (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) : أي بيّن.

قال عزوجل : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) : أي بعث في الأمّيّين رسولا منهم وفي آخرين لمّا يلحقوا بهم بعد. في تفسير الحسن : إنّهم الذين اتّبعوا أصحاب النبيّ عليه‌السلام.

وقال مجاهد : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي : إخوانهم من العجم.

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بينما أنا في غنم لي سوداء إذ خالطها غنم عفراء. قال أنس قال : هم قوم يأتون بعدكم فيكون بهم مال وجمال وإخوان (١).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا سابق العرب ، وسلمان سابق الفرس ، وبلال

__________________

(١) كذا في ق وع ، والعبارة ناقصة مضطربة صوابها ما يلي : «... غنم عفراء ، وقال بعض : فإذا غنمي فيها كالكواكب. قال قيل : يا رسول الله ، فما يعني. قال إخوان لكم يجيئون من أرض العجم فيدخلون في دينكم يهديهم الله بكم فيكونون إخوانا ومالا وجمالا وأعوانا» كما جاءت في مخطوطة ابن سلّام بهذا السند : «عثمان عن أبي جعفر عن أبي هريرة».

٣١٩

سابق الحبشة وصهيب سابق الروم (١).

[قوله عزوجل : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) : يعني من رزق الإسلام من الناس كلّهم. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤)] (٢).

قوله عزوجل : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) : يعني اليهود (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) : أي كذّبوا ببعضها. ومن كفر بحرف من كتاب الله فقد كفر به أجمع. وهو جحودهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإسلام ، وما غيّروا من التوراة ، فأحلّوا ما أحبّوا ممّا حرّم الله فيها ، وحرّموا ما أحبّوا أن يحرّموا ممّا أحلّ الله لهم فيها.

قال عزوجل : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) : والأسفار : الكتب. شبّههم بالحمار الذي لو حملت عليه جميع كتب الله لم يدر ما حملت عليه.

قال تعالى : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) : أي لشبههم بالحمار الذي يحمل أسفارا ولا يدري ما حمل عليه.

قال الله عزوجل : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥) : أي من ظالم مشرك وظالم منافق.

قال الله عزوجل للنبيّ عليه‌السلام : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) : أي تهوّدوا (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦) : أي بأنّكم أولياء لله من دون الناس.

قال الله عزوجل : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) : يعني الموت (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٧) : أي المشركين.

قال عزوجل : (قُلْ) يا محمّد (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ) : أي يوم القيامة (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : الغيب : السرّ ، والشهادة : العلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨).

__________________

(١) أخرجه ابن سلّام بهذا السند : المبارك بن فضالة والحسن بن دينار عن الحسن مرسلا.

(٢) سقطت هذه الآية وتفسيرها من ق وع فأثبتّها كما جاء في ز ورقة ٣٦٢.

٣٢٠