تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً) : أي فجأة (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٥٥).

قال : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) : [معناه خوف أن تقول نفس] (١) (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) : تفسير مجاهد وغيره : في أمر الله. وتفسير الحسن : في ذات الله ، أي : في الله (٢). (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (٥٦) : أي كنت أسخر في الدنيا بالنبيّ والمؤمنين. (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٥٧).

قال : (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ) : أي حين تدخل العذاب (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) : أي إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٨) : أي من المؤمنين.

قال الله : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩).

قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (٦٠) : أي بلى ، لهم فيها مثوى يثوون فيها أبدا. والمثوى : المنزل.

قوله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) : أي بمنجاتهم (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) : أي العذاب. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦١). وتفسير الحسن : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) أي : النار.

قوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) : أي لا خالق سواه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦٢) : أي حفيظ.

قوله : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي مفاتيح السماوات والأرض ، في تفسير مجاهد ، وهي لغة بالفارسيّة ، وتفسير الحسن : المقاليد : المفاتيح والخزائن. وذكروا عن أبي المتوكّل الناجي قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسير له فنزل منزلا (٣) ....

__________________

ـ في معنى كامل الحسن ، وليس في معنى تفضيل بعضه على بعض لأنّ جميع ما في القرآن حسن ...».

(١) زيادة من ز ، والقول لابن أبي زمنين. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٤٢١ : «ألّا يقول أحدكم غدا ...».

(٢) وقال الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٤ ص ١٣٧ : «... قالوا : فرّط في جنبه وفي جانبه ، يريدون : في حقّه».

(٣) كذا ورد هذا الخبر مبتورا في ع وق ، وفي كلّ منهما بياض قدر ثلاث كلمات. انظر ما سلف في هذا التفسير ، ج ١ ، تفسير الآيتين ٢٢ و ١١٥ من سورة البقرة.

٤١

قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٣) : أي خسروا أنفسهم فصاروا إلى النار.

قوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٦٤) : يعني المشركين دعوه إلى عبادة الأوثان.

قوله : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) : من الأنبياء كما أوحينا إليك (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٥).

قال الله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٦٦) والله يعلم أنّه لا يشرك ولا يحبط عمله.

قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : أي ما عظّموا الله حقّ عظمته [إذ عبدوا الأوثان من دونه] (١) (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي بقدرته (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) : أي بملكه وسلطانه (سُبْحانَهُ) : ينزّه نفسه (وَتَعالى) : أي ارتفع (عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧). فإن زعم زاعم أنّ الله يقبض كما يقبض الخلق ، أو له يمين أو شمال كما للخلق فقد كفر بالله (٢).

حدّث أبو عبد الرحمن عن أبي الفضل عن مروان عن جريج عن عطاء عن ابن عبّاس عن عائشة أنّها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة قوما يضاهون الربّ. قلت : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، كيف يضاهون الرّبّ؟ قال : يشبّهون الله بأنفسهم يضاهون بذلك قول اليهود حيث زعموا أنّ الله على صورة آدم (٣).

قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) : والصور قرن ينفخ فيه صاحب الصور. (فَصَعِقَ مَنْ فِي

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٠١.

(٢) هذه الجملة الأخيرة وتفسير اليمين بالملك والسلطان من زيادات الشيخ هود ولا شكّ. وجاء بدلا عنها في ز ما يلي : «يحيى عن عثمان البري قال : حدّثني نافع قال حدّثني عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله يقول : إنّ الرحمن يطوي السماوات يوم القيامة بيمينه والأرضين بالأخرى ثمّ يقول : أنا الملك أنا الملك أنا الملك».

(٣) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ١٤ من سورة المؤمنون.

٤٢

السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) : قال الحسن : استثنى الله طوائف من أهل السماء ، ولم يكن يسمّيهم ، يموتون بين النفختين.

قال بعضهم : بلغنا آخر من يبقى (١) منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، حتّى يموت جبريل وميكائيل وإسرافيل ، ثمّ يقول الله لملك الموت : مت ، فيموت.

ذكروا عن أبي هريرة أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا أوّل من تنشقّ عليه الأرض فأجد موسى متعلّقا بالعرش ، فلا أدري أحوسب بالصعقة الأولى أم خرج قبلي (٢).

ذكروا عن عمارة بن عرات (٣) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إلّا من شآء الله) : الشهداء. قالوا : ما أحسن هذا الصوت ، كأنّه الأذان في الدنيا ، فلم يفزعوا ولم يموتوا (٤).

قال : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٦٨). قال الحسن : بين النفختين أربعون ؛ الأولى يميت الله بها كلّ حيّ ، والأخيرة يحيي الله بها كلّ ميّت. ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بين النفختين أربعون (٥). هكذا جاء في الحديث ، وكان من أصحاب النبيّ من قال : إنّها أربعون سنة.

قوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ) الذي كتبته الملائكة عليهم في دار الدنيا. (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) : أي الذين بعثوا إليهم والذين أقاموا الحجّة عليهم (وَالشُّهَداءِ) : وهم الملائكة عليهم‌السلام (٦) الحفظة الذين كتبوا عليهم. وهو قوله : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢١)

__________________

(١) كذا في ق ، وفي ع : «آخر من يشاء منهم».

(٢) حديث صحيح ، أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، سورة الزمر ، عن أبي هريرة ، وأخرجه مسلم والترمذيّ وابن ماجه. وفي بعض ألفاظ الحديث : «فلا ادري أرفع رأسه قبلي أم كان ممّن استثنى الله عزوجل».

(٣) كذا ورد هذا الاسم في ع وفي ق : «عمارة بن عرات» ، وفي اسم الوالد تصحيف ولا شكّ ، ولم أجد فيما بين يديّ من كتب التراجم من يحمل هذا الاسم من الصحابة ، ولعلّه عمارة بن حزم الأنصاريّ الخزرجيّ ، أو عمارة بن زياد بن السكن الأنصاريّ الأشهليّ.

(٤) أخرجه الدارقطنيّ وابن المنذر والحاكم وصحّحه ، عن أبي هريرة.

(٥) حديث صحيح أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، سورة الزمر ، عن أبي هريرة.

(٦) تنقطع هنا مخطوطة القرارة ، وسوف لا يستأنف التفسير بها إلّا في سورة فصّلت.

٤٣

[المطفّفين : ٢١] يشهدون نسخه في الدنيا ويشهدون على العبد يوم القيامة أنّه عمله. وقال في سورة ق : (وَقالَ قَرِينُهُ) أي الملك الذي يكتب عمله (هذا ما لَدَيَ) أي عندي ، أي : ما كتبت عليه (عَتِيدٌ) (٢٣) [سورة ق : ٢٣] أي حاضر. قال : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) : أي بالعدل. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦٩). ذكروا عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيهتمّون لذلك ، فيقولون : لو استشفعنا إلى ربّنا عسى أن يريحنا من مكاننا هذا ، فينطلقون حتّى يأتوا آدم عليه‌السلام ، فيقولون : أنت أبونا ، قد خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلّمك أسماء كلّ شيء ، فاشفع لنا عند ربّنا حتّى يريحنا من مكاننا هذا ، فيقول : لست هناك ، ويذكر خطيئاته التي أصابها بدعواته ربّه بغير علم ، ولكن إيتوا إبراهيم ، خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم فيقول : لست هناك ، ويذكر خطيئته التي أصابها بثلاث كذبات : قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] ، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣] ، وقوله لامرأته : إن سألوك فقولي : إنّي أخته ، ولكن إيتوا موسى ، عبدا كلّمه الله تكليما ، واصطفاه وأعطاه التوراة. فيأتون موسى فيقول : لست هناك ، فيذكر خطيئته التي قتل فيها الرجل ، ولكن إيتوا عيسى ، عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ، فيأتون عيسى فيقول : لست هناك ولكن إيتوا محمّداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عبدا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. فيأتوني ، فأقوم بين يدي ربّي ، وأقع ساجدا له. فيدعني ما شاء أن يدعني فيقول : ارفع رأسك ، فأحمد ربّي ثلاثا ، ثمّ أشفع للمؤمنين والمؤمنات ، فيحمدني أهل السماوات وأهل الأرض ، فذلك قوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩) [الإسراء : ٧٩]. فطوبى لمن كان له في شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ نصيب ، وويل لمن لم يكن له يومئذ في شفاعته حظ ولا نصيب. ذكروا عن عطاء بن يزيد قال : يجتمع الأنبياء بعضهم إلى بعض فيقولون : طال علينا الحشر ، فهلمّ فلندع ربّنا ليريحنا من مكاننا هذا ، فيأتون آدم عليه‌السلام ، فيذكر من يأتون نبيّا نبيّا ، حتّى يأتوا عيسى بن مريم فيقول : ما أنا بصاحبها ، إنّ صاحبها لمحمّد ، فيأتونه فيقولون : أنت عبد الله ورسوله ، ختم بك النبيّين ، وغفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ، طال بنا الحشر ، فادع لنا ربّك ليريحنا من مكاننا هذا. فيقوم ، فيأتي باب الجنّة فيستفتح فيقال : من هذا؟ فيقول : محمّد ، فيفتح له ، فيخرّ ساجدا ما شاء الله ، فيقال له : ارفع رأسك ، قد قضيت حاجتك. فيقول : ربّ ، عبادك ، وأنت أعلم بهم ، فتوضع موازين القسط ، فيؤتى بالنبيّين والشهداء ، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

٤٤

ذكروا عن نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنّ الناس ليقومون لربّ العالمين حتّى إنّ أحدهم ليغيب في رشحه إلى أنصاف أذنيه (١). وقال بعضهم : بلغنا أنّهم يقومون مقدار ثلاثمائة سنة قبل أن يقضى بينهم.

ذكروا أنّ سلمان الفارسيّ قال : إنّ الشمس تدنو من الناس يوم القيامة حتّى تكون قاب قوسين ، وتعطى حرّ عشر سنين ، وما على أحد منهم يومئذ مخرجه (٢) ، أي : ما يستره ، وما يضرّ مؤمن ولا مؤمنة ، وأمّا الكافر فتطحنهم حتّى إنّ أجوافهم لتقول : عق (٣).

وذكر بعضهم قال : ويرشح أحدهم إلى الأرض سبع قيم (٤).

ذكروا عن أبي وائل أو ابن حسس (٥) عن حذيفة بن اليمان قال : المؤمنون جلوس على كراسي.

وذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما طول يوم القيامة على المؤمن إلّا كرجل دخل في صلاة مكتوبة فأتمّها وأحسنها وأجملها (٦).

قوله : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) : أمّا المشركون فليس يعطون بأعمالهم الحسنة في

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب في صفة يوم القيامة ... عن ابن عمر (رقم ٢٨٦٢) وأخرجه الترمذيّ في كتاب الزهد ، باب ذكر البعث ، عن ابن عمر أيضا.

(٢) كذا وردت هذه الكلمة «مخرجه» في ع ، ولم أهتد لما بها من تصحيف ، وإن فسّرت بعد.

(٣) كذا وردت الكلمة «عق» في ع ، ولعلها «عيق» من أصوات الزجر ، والراجح أنّها «غاق» ، وهي حكاية صوت الغراب ، ويقال : غاق غاق ، أي : بعدا بعدا.

(٤) وردت العبارة في ع غير واضحة ، وخاصّة الكلمة الأخيرة ، فأثبتّها «قيم» جمع قامة.

(٥) كذا ورد هذا الاسم في ع : «ابن حسس» غير واضح ، ولم أجده.

(٦) لم أجده بهذا اللفظ. وقد جاء معناه في حديث مرفوع رواه الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٩ ص ٧٢ ، عن أبي سعيد الخدريّ لّما تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى من سورة المعارج : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فقيل له : ما أطول هذا! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إنّه ليخفّف على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من الصلاة المكتوبة يصلّيها في الدنيا. وانظر الدر المنثور ، ج ٦ ص ٢٦٥. وأخرجه يحيى بن سلّام بالسند التالي : «يحيى عن خداش عن عوف الكوفي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...» ، كما في ز ، ورقة ٣٨٨.

٤٥

الآخرة شيئا ، لأنّهم قد جوزوا بها في الدنيا. وأمّا المؤمنون فيوفّون حسناتهم في الآخرة ، وأمّا سيّئات المؤمن ، فإنّه يحاسب بالحسنات والسيّئات ؛ فإن فضلت حسناته سيّئاته بحسنة واحدة ضاعفها الله ، وهو قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٤٠) [النساء : ٤٠] ، وإن استوت حسناته وسيّئاته فهو من أصحاب الأعراف يصير إلى الجنّة ، وإن فضلت سيّئاته حسناته فقد فسّرنا ذلك في غير هذه السورة (١) ، قال : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (٧٠).

قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) : أي زمرة زمرة ، أي : فوجا فوجا في تفسير الحسن. وفي تفسير الكلبيّ : (زمرا) : أمما ، وكذلك أهل الجنّة. (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧١).

(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) : أي لا يخرجون منها أبدا (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٢) : أي عن عبادة الله.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣).

ذكروا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إذا توجّهوا إلى الجنّة مرّوا بشجرة تجري من ساقها عينان ، فيشربون من إحداهما فتجري عليهم بنضرة النعيم ، فلا تتغيّر أبشارهم ، ولا تشعث أشعارهم بعدها أبدا ، ثمّ يشربون من الأخرى ، فيخرج ما في بطونهم من أذى وقذى ، ثمّ تستقبلهم الملائكة خزنة الجنّة ، فيقولون لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ، ثمّ تتلقّاهم الولدان ، فيعرف الولدان من قد جعلهم الله له (٢) ، يبشّون لهم ويفرحون بهم كما يفرح الحبيب بالحبيب ، أو كما يفعل الولدان بالحميم إذا جاءه من غيبة. لم يذهب أحدهم حتّى يأتي أزواجه ، أزواج الرجل ، فيبشّرهن ويقول : قد جاء فلان فيسمّيه باسمه ، فيقلن : أنت رأيته؟ فيقول : نعم ،

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٤٠ من سورة النساء.

(٢) الصواب أن يكون «لهم» ولكنّ المؤلّف يذكر أحيانا الولدان بالمفرد وأحيانا بالجمع ويقصد كلّ واحد من الولدان كما يذكر أزواج الرجل ويردّ الضمير إلى كلّ واحدة منهنّ.

٤٦

فيسبقها الفرح حتّى تقوم على أسكفة بابها تنتظره. فيجيء فيدخل بيتا أسفله على جندل اللؤلؤ وجندل الحصا وحيطانه من كلّ لون ، فينظر إلى سقفه ، فلو لا أنّ الله قدّر له ألّا يذهب بصره لذهب ؛ فإذا (سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦) [الغاشية : ١٣ ـ ١٦] فيقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ..). [الأعراف : ٤٣] إلى آخر الآية.

وتفسير الحسن في قوله : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) : ويفاضل ما بينهم كمثل كوكب بالمشرق وكوكب بالمغرب. وقال بعضهم : يحبس أهل الجنّة حتّى يؤخذ بعضهم من بعض ضغائن كانت بينهم ، ثمّ يدخلون الجنّة.

وقال مجاهد : (طبتم) أي : طبتم بطاعة الله.

قوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) : أي : إنّ الله وعد المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار وأشباهها. (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) : يعني أرض الجنّة (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) : أي ننزل حيث نشاء (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٧٤) : أي في الدنيا ، أي : إنعام أتاهم به الله إذ أثابهم بالجنّة.

ذكروا عن الحسن قال : إنّ أدنى أهل الجنّة منزلا آخرهم دخولا ، فيعطى فيقال له : انظر ما أعطاك الله. ويفسح له في بصره فينظر إلى مسيرة مائة سنة ليس فيه شبر إلّا وهو عامر بالقصور من الذهب والفضّة وخيام اللؤلؤ والياقوت ، فيها أزواجه وخدمه ، يغدى عليه كلّ يوم بسبعين صحفة من ذهب ، ويراح عليه بمثلها ؛ في كلّ واحدة لون ليس في الأخرى ، يأكل من آخرها كما يأكل من أوّلها ، لو نزل به الجنّ والإنس في غداء واحد لوسعهم ، ولا ينقص ذلك ممّا عنده.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ أسفل أهل الجنّة منزلة لمن يسعى عليه سبعون ألف غلام ، وإنّ أرفع أهل الجنّة درجة الذي يسعى عليه سبعمائة ألف غلام (١). وذكر في القصص نحو من حديث الحسن.

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في صفة أهل الجنّة ، باب ما لأدنى أهل الجنّة من الكرامة عن أبي سعيد الخدريّ ، وإسناده ضعيف.

٤٧

قوله : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) : [أي محدقين] (١) (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ذكر بعضهم قال : قال الله لآدم عليه‌السلام : يا آدم أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي ، فطاف به آدم ومن بعده ، حتّى إذا كان الطوفان ، زمان أغرق الله فيه قوم نوح ، رفعه من أن يصيبه عقوبة ، فبناه [إبراهيم] (٢) على أساس قديم كان قبله.

قوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) : أي فصل بينهم (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥) : قاله المؤمنون ؛ حمدوا الله على ما أعطاهم وعلى ما صيّرهم إليه من النعيم والسرور الذي لا انقطاع له. و (الحمد لله ربّ العالمين).

* * *

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٠١.

(٢) زيادة لا بدّ منها ، ولعلّها سهو من الناسخ.

٤٨

تفسير سورة المؤمن (١) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (حم) (١) : ذكروا أنّ عليّا رضي الله عنه قال : (الم) ، (حم) و (ن) : الرحمن. وكان الحسن يقول : لا أدري ما تفسير (حم) و (طسم) وأشباه ذلك ، غير أنّ قوما من السلف كانوا يقولون : أسماء السور وفواتحها.

قال : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : أي القرآن ، (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) في ملكه ، الذي ذلّ من دونه لعزّته. (الْعَلِيمِ) (٢) : بخلقه.

(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) : أي التوبة (شَدِيدِ الْعِقابِ) : أي إذا عاقب (٢). (ذِي الطَّوْلِ) : أي ذي الغنى (٣) ، أي : إنّه الغنيّ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود سواه ، ولا ربّ إلّا هو (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) : أي البعث.

قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) : فيجحدها (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ) : أي إقبالهم وإدبارهم (فِي الْبِلادِ) (٤) : يعني في الدنيا بغير عذاب ، فإنّ الله معذّبهم.

قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) : أي قبل قومك يا محمّد (قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) : يعني عادا وثمودا ومن بعدهم ، الذين أخبر بهلاكهم لتكذيبهم رسلهم. (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) : فيقتلوه. (وَجادَلُوا) : أي وخاصموا (بِالْباطِلِ) : أي بالشرك ، جادلوا به الأنبياء والمؤمنين. (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) : أي ليدفعوا به الحقّ ؛ أي : الإيمان (فَأَخَذْتُهُمْ) : أي بالعذاب (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٥) : أي كان شديدا.

__________________

(١) في ع : «سورة المؤمنين» ، وهو خطأ. صوابه : «المؤمن» كما جاءت في كتب التفسير الأولى مثل مجاز أبي عبيدة ومعاني الفرّاء ، ومعاني الأخفش ، وتفسير ابن قتيبة. وهي سورة غافر. وفي بعض المصاحف : «حم المؤمن».

(٢) كذا في ع : «(شديد العقاب) أي : إذا عاقب» ، وفي ز ، ورقة ٣٠١ : «(شديد العقاب) لمن لم يؤمن».

(٣) وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٩٤ : (ذِي الطَّوْلِ) ذي التفضّل ، تقول العرب للرجل : إنّه لذو طول على قومه ، أي : ذو فضل عليهم». وقال ابن قتيبة : «الطّول التفضّل ؛ يقال : طل عليّ برحمتك ، أي : تفضّل».

٤٩

قوله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) : أي سبقت كلمات ربّك (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦) : أي بكفرهم.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) : أي ومن حول العرش (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ). ذكر بعضهم قال : قال الله لآدم : يا آدم أهبط بيتي معك يطاف حوله كما يطاف على العرش.

قال : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يقولون (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) : أي ملأت كلّ شيء رحمة وعلما (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) من الشرك والنفاق وأعمال السيّئات (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) : أي الهدى ، يعني الإسلام ، وهو السبيل ، أي الطريق إلى الجنّة. (وَقِهِمْ) : أي واصرف عنهم (عَذابَ الْجَحِيمِ) (٧).

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) : وعدن أرفع الجنّة وبطنانها ، إليها تنسب الجنان. (الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) : أي إنّ الله وعد المؤمنين في كتابه الجنّة فقال : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ..). [التوبة : ٧٢] إلى آخر الآية ، وغير ذلك ممّا وعدهم فيها ، أي : في الجنّة.

قال : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) : أي ومن آمن وعمل صالحا منهم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٨). وقال في سورة الطور : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور : ٢١] أي : وما انتقصناهم من عملهم من شيء. إنّ الله يرفع إلى المؤمن ولده في الجنّة وإن كان دونه في العمل ليقرّ به عينه ، وكذلك الآباء يرفعون إلى الأبناء في درجاتهم في الجنّة إذا كانت الآباء دونهم في العمل. وولدان المسلمين الذين لم يبلغوا العمل أيضا مع آبائهم من أهل الجنّة.

ذكروا عن سعيد بن المسيّب قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المرأة يكون لها الزوجان في الدنيا ، امرأة من تكون في الجنّة؟ قال : امرأة الآخر.

قال : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) : أي جهنّم ، وهذا جزاء الشرك والنفاق (١) (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ

__________________

(١) كذا في ع ، وفي ز ورقة ٣٠٢ : «يعني جهنّم ، هي جزاء الشرك». وكلمة النفاق زيادة من الشيخ هود ، ولا ـ

٥٠

يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ). قال : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) : أي هي النجاة العظيمة من النار إلى الجنّة.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) وهم في النار (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : أي لمقت الله إيّاكم في معصيته أكبر من مقتكم أنفسكم في النار ، وذلك أنّ أحدهم يمقت نفسه ويقول : مقتّك يا نفسي. قال : (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) : أي في الدنيا (فَتَكْفُرُونَ) (١٠).

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) : وهو قوله في سورة البقرة : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨] يقول : (وَكُنْتُمْ ، أَمْواتاً) في أصلبة آبائكم نطفا ، (فَأَحْياكُمْ) ، يعني هذه الحياة في الدنيا ، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) يعني بهذا موتكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يعني البعث (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (١١).

تفسير الحسن : إنّ فيها إضمارا : قال الله : [لا ، ثمّ قال] (١) : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) : أي تصدّقوا بعبادة الأوثان.

وقال بعضهم : ليس فيها إضمار ، ولكن قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ ، أَنْفُسَكُمْ) لأنكم كنتم تدعون في الدنيا (إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ). قال : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ) : أي لا أعلى منه (الْكَبِيرِ) (١٢) : أي لا أكبر منه.

قوله : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) أي حكمه على العباد بأن أدخل المؤمنين الجنّة وأدخل المشركين النار.

قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) : أي ما يرى العباد من قدرته (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) : أي مطرا ؛ أي في المطر أرزاق العباد. (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (١٣) : أي إلّا من يرجع إلى الله فيخلص العبادة له ، يعبده لا يشرك به شيئا.

__________________

ـ شكّ ، وهي غير واردة في ز.

(١) زيادة سقطت من ع ، وهي موجودة في ز ، وإثباتها لا بدّ منه وإلّا لما ظهر الإضمار الذي رآه الحسن ، والذي أشار إليه الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٤ ص ٤٨ ، وهو وجه من وجوه تأويل الآية ؛ ويذكر المؤلّف الوجه الآخر بعد هذا مباشرة.

٥١

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١٤). كان المشركون يكرهون أن يظهر دين الله ، كقوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣) [التوبة : ٣٣].

قوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) : أي هو رفيع الدرجات ، أي : درجات المؤمنين في الجنّة (ذُو الْعَرْشِ) : ربّ العرش (يُلْقِي الرُّوحَ) : أي ينزل الوحي (١) (مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) : أي الأنبياء مع جبريل (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥) : أي يوم القيامة ، يوم يلتقي فيه الخلائق من أهل السماء وأهل الأرض عند الله يوم القيامة.

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) : أي : لا يتوارى عنه شيء في الدنيا والآخرة. (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) يسأل الخلائق فلا يجيبه أحد ، فيردّ على نفسه فيقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٦) : قهر العباد بالموت وبما شاء من أمره. قال بعضهم : هذا ما بين النفختين ، حين لا يبقى أحد غيره ، حيث تكون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويّات بيمينه. وقال بعضهم : هذا بعد البعث حين يجمع الخلائق ، ولا أدري لعلّه في الموطنين جميعا ، والله أعلم.

قوله : (الْيَوْمَ) : يعني في الآخرة (تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧). قال بعضهم : يفرغ من حساب الخلائق في مقدار أقلّ من نصف يوم من أيّام الدنيا.

قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) : أي يوم القيامة (٢) (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) : قال بعضهم : انتزعت القلوب فغصّت بها الحناجر ، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج.

قال : (ما لِلظَّالِمِينَ) : أي المشركين (مِنْ حَمِيمٍ) : من قرابة. وقال مجاهد : الحميم :

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٦ : «الروح في هذا الموضع النبوّة ؛ لينذر من يلقي عليه الروح يوم القيامة». والقول الأوّل قول قتادة. وقال بعضهم : الروح هنا هو جبريل.

(٢) قال ابن أبي زمنين في ز ، ورقة ٣٠٣ : «إنّما قيل للقيامة آزفة لأنّها قريبة وإن استبعد الناس مداها. يقال : أزفت تأزف أزفا ، وقد أزف الأمر ، إذا قرب».

٥٢

الشفيق. وقال الحسن : ما له من حميم ، أي : يحمل عليهم من ذنوبهم شيئا.

(وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١٨) : أي لا يشفع لهم أحد ، ليس يعني يشفع لهم فلا يطاع ، وإنّما الشفاعة للمؤمنين.

قال الله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) : أي لحظ الأعين في تفسير الحسن. وقال بعضهم : هي الهمزة بعينه وإغماضه فيما لا يحبّ الله تعالى (١). وقال مجاهد : هي مسارقة نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه (٢). قال : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١٩) : أي ويعلم ما تخفي صدوركم.

قال : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) : يعني أوثانهم (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٢٠) : أي لا أسمع منه ولا أبصر.

قوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ) : أي من مشركي العرب (قُوَّةً) : أي بطشا (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) : يعني آثار من مضى ممّا عملوا من المدائن وغيرها من آثارهم (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) : أي بشركهم وتكذيبهم رسلهم فأهلكهم بالعذاب (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (٢١) : يقيهم من عذاب الله.

قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا) بالله (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) بالعذاب (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٢) : إذا عاقب (٣).

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢٣) : أي وبحجّة بيّنة (إِلى

__________________

(١) في ع : «إغماض العين بعينه». وفي العبارة فساد ونقص ، فأثبتّ التصحيح من تفسير القرطبيّ ، ج ١٥ ص ٣٠٣ ، من تفسير الطبريّ ، ج ٢٤ ص ٥٤. والقول فيهما لقتادة.

(٢) في ع : «وقال مجاهد : نظره إلى ما يجمل له» كذا ، لعلّ صوابه : إلى ما يحلّ له. وأثبتّ التصحيح من عبارة القرطبيّ في تفسيره ، ومن تفسير مجاهد ص ٥٦٤ : «نظر الأعين إلى ما نهى عنه» ، وهي العبارة التي وردت في ز ، ورقة ٣٠٣. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٧ : «... يقال : إنّ للرجل نظرتين ، فالأولى مباحة له ، والثانية محرّمة عليه. فقوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) في النظرة الثانية ، (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) في النظرة الأولى. فإن كانت النظرة الأولى تعمّدا كان فيها الإثم أيضا ، وإن لم يكن تعمّدها فهي مغفورة».

(٣) كذا في ع : «إذا عاقب» ، وفي ز : (شَدِيدُ الْعِقابِ) للمشركين».

٥٣

فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) (٢٤) : يعنون موسى.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ) : أي موسى (بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) : أي الذين صدّقوه (وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) فلا تقتلوهنّ. قال الله : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ) : يعني المشركين (إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٢٥) : أي يذهب فلا يكون شيئا ، أي : في العاقبة.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) : يقوله لأصحابه ؛ أي : [خلّوا بيني وبينه فأقتله ، ولم يخف أن يمنع منه] (١) (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) : أي وليستعن به ، إنّ ربّه لا يغني عنه شيئا. فقالوا له : لا تقتله ، فإنّما هو ساحر ، فإنّك إن قتلته أدخلت على الناس الشبهة ، ولكن أرجه ، احبسه وأخاه.

قال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) قال الحسن : كانوا عبدة أوثان. (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ) : [يعني أرض مصر] (٢) (الْفَسادَ) (٢٦) فيظهر خلاف دينكم. وقال بعضهم : يقتل أبناءكم كما قتلتم أبناءهم.

(وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) : أي بالله أتعوّذ (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) : أي عن عبادة الله (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) (٢٧).

قوله : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) : أي من قوم فرعون (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) قال الحسن : قد كان مؤمنا قبل أن يأتيهم موسى (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) : والبيّنات الآيات التي جاءهم بها موسى : يده وعصاه والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) [الأعراف : ١٣٠]. قال : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ). كان موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعدهم عذاب الله في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا ، وقد كان مؤمن آل فرعون علم أنّ موسى على الحقّ. قال : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) : أي مشرك (كَذَّابٌ) (٢٨).

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) : يعني غالبين على أرض مصر.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٣.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٣.

٥٤

(فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ) : أي من عذاب الله (إِنْ جاءَنا) : يقوله لقومه ، على الاستفهام ، أي : لا يمنعنا منه أحد.

(قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) (٢٩) : أي ما أريكم إلّا ما أرى لنفسي ، والرأي الذي أريكم هو سبيل الرشاد ، يعني جحود ما جاء به موسى ، والتمسّك بما هم عليه.

ذكروا أنّ فرعون قال : يا هامان ، إنّ موسى يعرض عليّ أنّ لي ملكي حيّا ما بقيت ، ولي الجنّة إذا متّ. فقال له هامان : فما كنت إلها تعبد إذا صرت عبدا ، أو قال : عبدا لعبد ؛ فردّه عن رأيه.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) (٣٠) : أي مثل عذاب الأمم الخالية. [ثمّ أخبر عن يوم الأحزاب] (١) فقال : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) : فالدأب الفعل ، أي : إنّي أخاف عليكم مثل عقوبة فعلهم ، وهو ما أهلكهم الله به ؛ يحذّر قومه. قال : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٣١).

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) (٣٢) : قال بعضهم : يوم ينادي أهل الجنّة أهل النار : (قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف : ٤٤] ، وينادي أهل النار أهل الجنّة : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [الأعراف : ٥٠].

وتفسير الكلبيّ : (يَوْمَ التَّنادِ) ، مشدّدة ، أي : يوم الفرار يوم يندّون كما يندّ البعير. قال ألا تراه يقول : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) : أي يوم الفرار. وتفسير مجاهد : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) ، أي : فارّين غير معجزين. وقال بعضهم : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) أي : يوم ينطلق بهم إلى النار.

(ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) : أي يعصمكم ، أي : من مانع يمنعكم من عذابه. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣) : أي يهديه.

قوله : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ) : [أي : من قبل موسى] (٢) (بِالْبَيِّناتِ) :

__________________

(١) زيادة للإيضاح ، وقد وردت في ز ، ورقة ٣٠٣.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٣.

٥٥

أي بالهدى ، والبيّنات : الحقّ. (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) : أي إنّه لم يكن برسول ، فلن يبعث الله من بعده رسولا ، كقول مشركي العرب للنبيّ عليه‌السلام : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦) [الحجر : ٦] ، وكقول فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧) [الشعراء : ٢٧] أي : فيما يدّعي.

قال : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) : أي مشرك (مُرْتابٌ) (٣٤) : أي في شكّ من البعث ، أي : يضلّه الله بشركه وتكذيبه وشكّه.

قوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) : أي بغير حجّة أتتهم من الله بعبادة الأوثان (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) : أي عن عبادة الله (جَبَّارٍ) (٣٥) : أي : قتّال في غير حقّ. وبعضهم يقرؤها : (على قلب كلّ متكبّر جبّار) (١).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله (٢).

قوله : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) : أي مجلسا في تفسير الحسن. وقال الكلبيّ : قصرا. وقد فسّرنا أمر الصرح في سورة القصص (٣).

قال : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ) : أي طرق السماوات ، وقال بعضهم : أبواب السماوات. (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) : الذي يزعم موسى إلها ، (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) : أي ما في السماء أحد ، أي إنّه تعمّد الكذب.

قال الله : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) : أي عن طريق

__________________

(١) هي قراءة نسبت إلى عبد الله بن مسعود ، وهي قراءة تفسيريّة. وانظر في تنوين (قلب) وإضافته ما ذكره الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٨ ـ ٩ ، وانظر : ابن خالويه ، الحجّة ، ص ٢٨٨ ، والزمخشريّ ، الكشّاف ، ج ٤ ص ١٦٧.

(٢) كذا ورد هذا الحديث هنا ولم أتبيّن وجه المناسبة لذكره في هذا الموضع. ولعلّ النساخ أسقطوا كلاما مناسبا لإيراده بعد هذه الآية. انظر تخريجه فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ١٠٥ من سورة التوبة.

(٣) انظر ما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ٣٨ من سورة القصص.

٥٦

الهدى (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) (٣٧) : أي إلّا في خسار.

قوله : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) : من آل فرعون (يا قَوْمِ) يقوله لقومه (اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) : أي يستمتع به ثمّ يذهب ، فيصير الأمر إلى الآخرة. (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٣٩) : أي لا تزول ، والدنيا زائلة. (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً) : والسيّئة هاهنا الشرك (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) : أي النار.

(وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) : أي لا يقبل الله العمل الصالح إلّا من المؤمن (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) (٤٠) : [قال السدّيّ : بغير متابعة ولا منّ عليهم فيما يعطون] (١).

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) : أي إلى الإيمان بالله (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) (٤١) : أي الكفر الذي يدخل به صاحبه النار. (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) : أي ليس عندي علم بأنّ مع الله شريكا ، ولكنّه وحده لا شريك له. (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) (٤٢) لمن تاب وآمن.

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أن أعبده ، يعني ما تعبدون من دونه (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) : أي ليس له دعوة يجيب العابدين به في الدنيا ، ولا دعوة في الآخرة يجيبهم بها ، أي : لا ينفعهم (٢). قال : (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) : أي المشركين (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٤٣). وقال مجاهد : هم السافكون الدماء بغير حلّها.

قال : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) : أي إذا صرنا إلى الله (٣). (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) : أي وأتوكّل عليه. (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٤٤) : أي بأعمال العباد ومصيرهم.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٤.

(٢) كذا جاءت هذه الجملة مضطربة في ع ، وإن كان المعنى العامّ واضحا. وقد جاءت في ز مختصرة واضحة هكذا : «أي : لا يجيب من دعاه في الدنيا ولا ينفعه في الآخرة». وروى ابن كثير في تفسيره ج ٦ ص ١٤١ قول السدّيّ هكذا : «لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الآخرة» وهذا كقوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ ، إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) [الأحقاف : ٥].

(٣) كذا في ع : «إذا صرنا إلى الله» ، وفي ز : «إذا صرتم إلى النار».

٥٧

قال : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) : أي ما عملوا ، أي : الكفر ، فعصمه من ذلك الكفر الذي دعوه إليه ، وعصمه من القتل والهلاك الذي أهلكوا به. (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ) : أي وجب عليهم (سُوءُ الْعَذابِ) (٤٥) : أي أشدّ العذاب (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) : قال مجاهد : أي : ما كانت الدنيا.

ذكروا عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر في حديث ليلة أسري به أنّه أتى على سابلة آل فرعون حين ينطلق بهم إلى النار يعرضون عليها غدوّا وعشيّا ، فإذا رأوها قالوا : ربّنا لا تقوم الساعة لما يرون من عذاب الله (١).

ذكروا عن نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ ، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة ، وإن كان من أهل النار فمن النار ، يقال : هذا مقعدك حتّى يبعثك الله إليه يوم القيامة (٢). [قال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) : يعني أهل ملّته وفرعون معهم (أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦)] (٣). وقال بعض أهل التأويل في قول الله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) : هذا من مقاديم الكلام ، مجازه : أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب النار يعرضون عليها غدوّا وعشيّا (٤).

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء ، وقد أخرج الحديث ابن سلّام ، والبيهقيّ وغيرهما.

(٢) حديث متّفق عليه : أخرجه البخاريّ في كتاب الجنائز ، باب الميّت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ. وأخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب عرض مقعد الميّت من الجنّة أو النار عليه ... (رقم ٢٨٦٦).

(٣) سقط ما بين المعقوفين من ع ، فأثبتّه كما جاء في ز ، ورقة ٣٠٤.

(٤) جاء في ع ما يلي : «هذا من مقاديم الكلام ، فإنّما عنى فيه (كذا) وحاق بآل فرعون سوء العذاب». وهذا خطأ من الناسخ فيما يبدو ونقص في الكلام وفيه غموض ؛ فأثبتّ شرح هذا التقديم كما أورده القرطبيّ بوضوح. وقد نسب القرطبيّ هذا القول بالتقديم والتأخير إلى الفرّاء ، ولكنّي لم أجده في كتابه معاني القرآن حيث تعرّض لكلمة (النَّارُ) من قوله تعالى (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ، فذكر وجوه إعرابها ، وكلمة (أَدْخِلُوا) من قوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ ، فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) فذكر وجهي قراءتها ، ولكنّه لم يشر هنا لأيّ تقديم أو تأخير ، ولعلّ الفرّاء ذكر هذا في مكان آخر من تفسيره أو في بعض مؤلّفاته الأخرى ، فخفي عنّي ذلك. وقد علّق القرطبيّ على قول الفرّاء هذا فقال : «فجعل (أي : الفرّاء) العرض في الآخرة ، ـ

٥٨

قال : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) : أي السفلة (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) : يعني الرؤساء والقادة في الضلالة. وقال بعضهم : الضعفاء بنو آدم ، يعني المشركين ، والذين استكبروا الشياطين ، وكلّهم مستكبرون عن عبادة الله : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) : أي دعوتمونا إلى الضلالة فأطعناكم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً) : أي جزءا (مِنَ النَّارِ) (٤٧).

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) : أي في النار (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) (٤٨).

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ) : أي سلوه (يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا) : أي خزنة جهنّم ، وهم التسعة عشر الذين قال الله فيهم :

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠) [المدّثّر : ٣٠] : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٥٠).

ذكر بعضهم قال : إنّ أهل النار يدعون خزنة جهنّم فلا تجيبهم مقدار عشرين عاما ، ثمّ تجيبهم : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ). ثمّ ينادون مالكا ، فلا يجيبهم مقدار أربعين عاما ، ثمّ يجيبهم : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧) [الزخرف : ٧٧]. ثمّ يدعون ربّهم فلا يجيبهم مقدار عمر الدنيا مرّتين ، ثمّ يكون جوابه إيّاهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٨].

ذكروا عن غير واحد من العلماء أنّ كلّ كلام في القرآن من كلامهم كلّه فهو قبل أن يقول لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ). قال : فإذا قال ذلك انقطع كلامهم وصار الزفير والشهيق كأصوات الحمير ، أوّلها زفير وآخرها شهيق.

قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : يعني بالنصر والظفر على عدوّهم (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٥١) : يعني يوم القيامة. وأمّا في الآخرة فبالحجّة عليهم.

__________________

ـ وهو خلاف ما ذهب إليه الجمهور من انتظام الكلام على سياقه على ما تقدّم». انظر تفصيل هذا في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ٩ ـ ١٠ ، وفي تفسير القرطبيّ ، ج ١٥ ص ٣٢٠.

٥٩

والأشهاد في تفسير بعضهم : الملائكة الحفظة يشهدون للأنبياء بالبلاغ وعليهم (١) بالتكذيب.

قال : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ) : أي المشركين (مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٥٢) : أي الدار الآخرة ، وسوءها النار.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) (٥٣) بعد القرون الأولى (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥٤) : أي لأولي العقول ، وهم المؤمنون.

قوله عزوجل : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) : يعني وعد الله الذي وعدك أن يعطيكه في الآخرة ويعطيه من آمن به.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٥٥) : وهي صلاة مكّة قبل أن تفترض الصلوات الخمس حين كانت الصلاة ركعتين غدوة وركعتين عشيّة.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) : أي بغير حجّة أتتهم [(إِنْ فِي صُدُورِهِمْ) : أي ليس في صدورهم (إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) : يعني أملهم] (٢) في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل دينه أن يهلك ويهلكوا ، في تفسير الحسن. وتفسير مجاهد :

يعني عظمة قريش المشركين. قال : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٥٦) : أي لا أسمع ولا أبصر منه (٣).

قوله عزوجل : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) : أي أشدّ من خلق الناس ، يعني شدّة خلقها وكثافتها وعرضها وطولها ، أي : فأنتم أيّها المشركون تقرّون بأنّ الله هو الذي خلقها وتجحدون البعث.

__________________

(١) كذا في ع وز ورقة ٣٠٤ : «وعليهم» ، وفي تفسير القرطبيّ ، ج ١٥ ص ٣٢٢ : «وعلى الأمم». والقول لمجاهد والسدّيّ. أمّا الأشهاد فهم كلّ شهيد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين كما ذكره الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٤ ص ٧٥ ، وهو قول قتادة أيضا. وقال مجاهد : هم الملائكة ، وقال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٣٨٧ : هم «الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم».

(٢) سقط ما بين المعقوفين كلّه من ع ، فأثبتّه من ز ، فاستقام المعنى.

(٣) من هنا تستأنف مخطوطة ق ، وسأقابل بينها وبين ع ، وز ، إلى آخر التفسير إن شاء الله.

٦٠