تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٢

١
٢

٣
٤

الجزء الأوّل

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الدكتور صالح خرفي

مدير إدارة الثقافة

المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم

ص. ب. : ١١٢٠ تونس

تونس ، الثلاثاء ٢٧ ربيع الأوّل ١٤١١ ه

١٦ أكتوبر ١٩٩٠ م

[كلمة طيّبة]

الأخ الكريم : محقّق تفسير كتاب الله العزيز

بالحاج بن سعيد شريفي

السّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، وبعد :

فالتهنئة القلبيّة الصادقة على إنجاز تحقيق تفسير (هود بن محكّم الهوّاريّ) وإخراجه إلى النور بعد القرون المتوالية في طيّ الكتمان ، وإنّ المرء ليعجب أن تظلّ هذه الكنوز الثمينة ، وهذه النفحات القدسيّة دفينة النسيان ، وتوالي الأزمان ، حتّى يقيّض الله لها من يخرجها مخرج صدق ، ويبعث فيها الروح ، فإذا هي ملء العين والسمع والقلب ، تهدي إلى صراط مستقيم.

وأيّ رسالة للمرء في حياته أقدس من أن يكون صلة خير وبركة بين كلام الله وقلوب عباده.

إنّها لأمانة لا تقاس بالسنوات ، ولا بمراحل من العمر ، ولكنّها العمر كلّه. وما بقي من العمر بعدها ـ أطاله الله ـ إنّما هو امتداد لنور الله في أرضه ، ونور كلماته في قلوب المؤمنين به.

الأخ العزيز بالحاج ،

٧

لقد طويت الألف سنة وتزيد ، قضتها المخطوطة في علم الغيب ، وعلم العارفين بأسراره سبحانه وتعالى ، يأخذ بأيديهم إليها ، ويفتح قلوبهم عليها ، خلفاء في أرضه ، وأمناء على أسراره ، ورواة آياته البيّنات ، يتوارثها الخلف عن السلف.

جزى الله خير الجزاء مفسّر كتابه الحكيم (هود بن محكّم الهوّاريّ) وجزى الله خير الجزاء محقّق هذا التفسير ومخرجه من الظلمات إلى النور.

إنّ تحقيق هذا التفسير لصفحة بيضاء في سفر الحركة الإصلاحيّة في الجزائر ، وغرّة نجلاء في جبين معهد الحياة ، في ظلّ رعاية الوالد ، أمدّ الله في أنفاسه الزكيّة.

وإنّه الوفاء ما بعده وفاء ، وأيّ وفاء لذكرى رائد الحركة الإصلاحيّة ، وباعث اليقظة الإسلاميّة ، وناشر اللغة العربيّة ، الزعيم الراحل الشيخ إبراهيم بيّوض.

وإنّه الوفاء ما بعده وفاء ، وأيّ وفاء بعد كتاب الله ، للوالد الرائد سعيد شريفي ، راعي هذه الدوحة العلميّة ، والأب الروحي لأبناء الضاد ، والأب الشرعي لكلّ جملة مفيدة تخرّجت من (معهد الحياة) فترعرعت هذه الجملة حتّى غدت تخطيطا للمصحف الشريف ، وتحقيقا لتفاسيره ، وتأليفا للكتب ، وإنجازا للرسائل العلميّة.

اللهمّ أطل في عمره ، فإنّه ظلّ من ظلالك في الأرض ، ومتّعنا برضاه ، فإنّه نفحة من رضاك ، فقد أعطى ووفّى العطاء ، وبنى وأعلى البناء ، وامتدّ عمره في التربية بين الطريف والتالد ، فتخرّج ملء يديه الحفيد والولد والوالد.

اللهمّ أطل في عمر المخلصين من عباد الله العاملين في صمت المؤمنين بك ، المحتسبين أجرهم عند كرمك. فمنك الجزاء الأوفى ، وإليك الملاذ الأبقى ، ياذا الجلال والإكرام ، إنّك سميع مجيب.

د. صالح الخرفي

٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تقديم الطبعة الثانية

هذه هي النشرة الثانية لتفسير كتاب الله العزيز ، للعلّامة الشيخ هود بن محكّم الهوّاريّ ، وقد لقيت النشرة الأولى ترحيبا يليق بقيمة هذا الكنز الثمين الذي لا يزال ـ فيما أعلم ـ أقدم تفسير جزائريّ وصل إلينا كاملا. وقد نفدت الطبعة الأولى منه ، فرغب إخوان لي كرام في أن يعاد طبعه ، ليتمّ نفعه ، ويستفيد منه المسلمون عامّة ، ومن يتصدّون للدراسات الإسلاميّة وعلوم القرآن خاصّة.

لقد مضت اثنتا عشرة سنة منذ أن أنجزت بتوفيق الله وعونه تحقيق هذا التفسير ، معتمدا على خمس مخطوطات ، جمعتها من خزائن خاصّة موجودة في وادي ميزاب بالجزائر وفي جربة بتونس. وبعد بحوث ودراسات مقارنة في مكتبات تونس والقاهرة اطّلعت على مخطوطة سادسة كنت علمت بوجودها ، ولكن تعذّر الحصول عليها ؛ تلك هي المخطوطة الموجودة الآن بمكتبة الشيخ الحاج صالح بن عمر لعلي ببني يسجن ، هي في مجلّد واحد ، بها بعض المقدّمة وتفسير الربع الأوّل كاملا ، وتنتهي بالآية ١٠٤ من سورة الأعراف. وبالمخطوطة سقط كثير وأخطاء ، وليس في آخرها تاريخ النسخ. أكّدت هذه المخطوطة ما كنت وصلت إليه في تحقيقي للكتاب ، وهو أنّ أصل هذا التفسير ليحيى بن سلّام البصري ، من علماء القرن الثاني الهجري ، وأفادتني معلومة جديدة قيّمة ، وهي أنّ الشيخ الهواريّ قد تلقّى هذا الكتاب عن حفيد المؤلّف : يحيى بن محمّد بن يحيى بن سلّام ، وزاد عليه ، وبهذا تتّضح رواية هذا التفسير عن مؤلّفه ، ويتّصل سنده بالمفسّرين الأوائل من القرنين الأوّل والثاني للهجرة.

أمّا مخطوطة القرارة التي قلت عنها : إنّ الربع الثالث غير موجود بها فقد قدّم لي صديقي

٩

الدكتور محمّد ناصر ستّا وعشرين ورقة حوت تفسير سور مختلفة من الربع الثالث ، وجدها ضمن الآثار المخطوطة للشيخ أبي اليقظان رحمه‌الله ، وعند مقارنة أوراقها وخطّ ناسخها بالأجزاء الأخرى علمت أنّ مخطوطة القرارة كانت في الأصل كاملة.

لقد قدّم لي بعض الزملاء الكرام ، وخاصّة الدكتورة هند شلبي عند صدور الكتاب ملاحظات تتعلّق بأوهام علميّة جانبت الصواب فيها ، وأخطاء مطبعيّة وردت في الطبعة الأولى ، فعملت على تصويبها وتصحيحها ؛ لتكون هذه الطبعة الثانية إن شاء الله أقرب إلى الكمال ، وأعمّ فائدة ، وأحسن قبولا.

هذا وأجدّد شكري لكلّ من قدّم لي نصحا خالصا ، أو أبدى ملاحظة مفيدة ، فعمل معي على إعلاء كلمة الله ، بتعلّم قرآنه وتعليمه ، ونشر لسان كتابه ونصره ، وتحكيم شرع الله وسنّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعا لي عن ظهر الغيب بالتوفيق والسداد والفوز والفلاح في الدارين.

كتبه العبد الفقير إلى رحمة ربّه ورضاه : بالحاج بن سعيد شريفي

باب الزوار ـ الجزائر

١٠ ربيع الأوّل ١٤٢٢ ه‍

٠٥ جوان ٢٠٠١ م

١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة الطبعة الأولى

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (٣) ، والصلاة والسّلام على سيّدنا محمّد بن عبد الله ، الرسول النبيّ الأمّيّ ، أرسله الله شاهدا ومبشّرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وعلى آله وأصحابه الطّيّبين الطاهرين ، وعلى من اهتدى بهديه ، وسار على نهجه إلى يوم الدين.

أمّا بعد ، فهذا تفسير العلّامة الشيخ هود الهوّاريّ ، وإنّي أحمد الله تعالى على أن وفّقني ، بمنّه وكرمه ، إلى جمعه وتحقيقه والاستفادة منه. وأتشرّف اليوم بتقديمه إلى المكتبة الإسلاميّة ، إعلاء لكلمة الله ، وخدمة لثقافتنا الدّينيّة ، بإحياء تراثنا النفيس ، ونشر كنوزه بين أبناء الأمّة الإسلاميّة عامّة ، وبين طلّابنا في الدراسات الإسلاميّة خاصّة.

لقد ظلّ هذا التفسير أكثر من أحد عشر قرنا منسيّا مغمورا ، إلى أن ظهرت مخطوطاته المتفرّقة في بعض الخزائن الخاصّة ، وهي خزائن لعلماء من القرون الأربعة الأخيرة ، يحتفظ بها أبناؤهم وحفدتهم ، وهي موجودة في وادي ميزاب ، جنوب الجزائر ، بمدن العطف ، وبني يسجن ، والقرارة ، وفي جزيرة جربة ، بالبلاد التونسيّة.

إنّ المصادر الإباضيّة القديمة هي وحدها التي أشارت إلى وجود هذا التفسير ، وذكرته بصفة موجزة جدّا. وهي تتّفق بشأنه على أمور ثلاثة :

أوّلها : صاحب هذا التفسير هو الشيخ هود بن محكّم الهواريّ.

ثانيها : أثبتت كتب السير والتاريخ اسم المؤلّف في الطبقة السادسة من طبقات العلماء ، وهم الذين عاشوا في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي.

١١

ثالثها : ينتسب هذا العالم إلى قبيلة هوّارة البربرية التي كانت تسكن بطون منها ، ولا تزال ، جبال أوراس ونواحيها ، بغرب إفريقية الإسلامية ، بلاد الجزائر الآن (١).

وهكذا يعتبر الكتاب من التفاسير الأولى التي ظهرت في أوائل عهد التدوين عندنا ، وهو ـ فيما أعلم ـ أقدم تفسير جزائريّ وصل إلينا كاملا.

لعلّ أوّل مصدر مطبوع ورد فيه ذكر لهذا التفسير إنّما هو كتاب السير للبدر الشمّاخي المتوفّى سنة ٩٢٨ / ١٥٢٢ ؛ فقد طبع هذا الكتاب بالقاهرة طبعة حجرية سنة (١٣٠١ / ١٨٨٤). وبعد ذلك بقليل كتب موتلانسكي (٢) بحثا في نشرة المراسلة الإفريقية سنة ١٣٠٢ / ١٨٨٥ (٣) أورد فيه قائمة بأسماء كتب للإباضية ذكر فيها أنّها لمؤلّف مجهول (٤) من القرن التاسع الهجري ، كان نسخها أبو بكر بن يوسف بن أبي بكر الميزابيّ سنة ١١٨٨ / ١٧٧٤.

وقد قسّمت إلى ثلاثة أقسام على النحو التالي : كتب لأصحابنا في المشرق ، كتب لأصحابنا في جبل نفوسة ، وكتب للمغاربة (كذا) ، وفي هذا القسم الأخير جاء ذكر كتاب التفسير لهود بن محكّم الهواريّ تحت رقم ٤٩.

وفيما يلي دراسة موجزة عن هذا التفسير. ولنبدأ أوّلا بالتعرّف على حياة المؤلّف وعلى أسرته وقبيلته.

__________________

(١) انظر ابن خلدون ، العبر ، ج ٦ ، ص ٢٨٢ ـ ٢٩١ ، أخبار البرانس من البربر ، وانظر أبو عبيد البكري ، المغرب ، ص ٥٠ ، ٧٢ ، و ١٤٤.

(٢) كان موتلانسكي إذ ذاك ترجمانا عسكريّا فيما كان يدعى سابقا ملحقة غردابة بعد إلحاق وادي ميزاب سنة ١٨٨٢ ، وإخضاعه للنظام العسكري الفرنسي. وقد سطا موتلانسكي على كثير من المخطوطات الإباضية النفيسة ، منها تاريخ ابن الصغير الذي نشره لأول مرة في مؤتمر المستشرقين الرابع عشر الذي انعقد بعاصمة الجزائر سنة ١٩٠٥.

(٣) BUIIETIN DE CORREPONDANCE AFRICAINE ,T.III ـ PP١٥ ـ ٧٢ وكانت تصدرها المدرسة العليا للآداب بالجزائر.

(٤) الصحيح أنها لأبي القاسم البرادي المتوفّى في أوائل القرن التاسع الهجري. وقد بدأها بقوله : «ذكر ما وقفت عليه وسمعت به من تآليف أصحابنا ...» انظر البرادي ، الجواهر المنتقاة ، ص ٢١٩ ، وانظر : عمار طالبي ، آراء الخوارج الكلامية ، الموجز لأبي عمّار عبد الكافي ، ج ٢ ص ٢٨١ ـ ٢٩٤.

١٢

إن كتّاب السير والمؤرخين من الإباضية لا يمدّوننا بترجمة للشيخ هود تشفي الغليل ، فلا حياته مبسوطة في كتبهم ، ولا آثاره معروفة لديهم. وكل ما أوردوه عنه إنّما هو عبارة عن أخبار يسيرة في أسطر قليلة وردت عرضا في مصدرين أو ثلاثة (١) يمررها خلف عن سلف. وينقلها كاتب عن آخر من دون أن تسند إلى رواية مفصّلة مضبوطة ، أو إلى شاهد عيان عاش في عصر المؤلف.

لذلك لا مناص للباحث ، وقد أعوزته المصادر الوافية ، من أن يجتهد اجتهادا ، أحيانا ، للتعرف على شخصية المؤلف أولا ، من خلال هذه الأخبار المتناثرة ، مستنطقا نصوصها للحصول على تصوّر تقريبي لحياة المؤلف.

ثانيا ، من خلال الكتاب نفسه ، الذي نجد فيه ، ولا شك ، بعض ما يعيننا على كشف حقيقة صاحبه ، ومعرفة قيمته العلمية. وهذا ما أحاول إبرازه في الصفحات التالية.

فمن هو الشيخ هود الهوّاريّ؟

إنّه العالم الجليل هود بن محكّم بن هود (٢) الهوّاريّ. وأرى أن أبدأ أولا بتقديم قبيلته ، ثمّ نتعرّف على أبيه ، فإنّ معرفتهما تمهّدان لنا السبيل لمعرفة جوانب من حياة المؤلّف.

أما قبيلة هوّارة فهي من قبائل البرانس البربريّة. وقد سكنت بطونها عدّة مواطن في إفريقيّة والمغرب. فقد جاورت هوّارة قبيلة نفوسة بالجبل الذي ينسب إليها ، جنوب طرابلس الغرب ، وسكنت بطون منها بلاد الجريد ، جنوب الحدود الجزائرية التونسية الآن ، وكانت قاعدتها توزر. وسكنت بطون منها جبل أوراس ونواحيه ، وهذا الموطن الأخير هو الذي يعنينا في موضوعنا.

__________________

(١) هم : ابن الصغير ، في تاريخ الأئمة الرستميين ، وأبو زكرياء يحيى بن أبي بكر في كتاب السيرة وأخبار الأئمة ، والدرجيني في كتاب طبقات المشائخ بالمغرب. ولم أجد ـ فيما بحثت ـ من بين مؤلّفي كتب الطبقات القدامى غير الإباضية ، وخاصّة الذين صنّفوا منهم طبقات العلماء بإفريقيّة والأندلس ، من ذكر الشيخ هود الهوّاريّ أو أشار إلى تفسيره.

(٢) لم أجد فيما بين يدي من المصادر اسم هود جدّا للمؤلّف. ولكن هكذا كتب به إليّ أستاذنا المرحوم الشيخ علي يحيى معمّر في رسالة خاصّة من دون أن يذكر لي مصدره. وعهدي به يستقي معلوماته من مصادر موثوق بها. فإذا ثبت هذا فإنّ محكّما الهواري يكون قد سمّى ابنه هودا باسم أبيه هو ؛ وهذا ما نجده كثيرا في الأنساب.

١٣

وقد أشار ابن خلدون في مواضع كثيرة من تاريخه إلى أغلب هذه المواطن ، ولكنّ أبا عبيد البكري هو الذي يفيدنا أكثر في معرفة هذه المواطن وطبيعة الحياة فيها.

لقد ذكر البكري قبيلة هوّارة في مواضع كثيرة من كتابه المسالك والممالك ، منها ما جاء في حديثه عن الطريق من مدينة القيروان إلى قلعة أبي طويل. قال : «ومن هنا [من مدينة تبسّة] إلى قرية مسكيانة ، ومنها إلى مدينة باغاية ، وعلى مقربة منها جبل أوراس». وذكرها أيضا عند وصفه لمدينة تهوذا فقال : «وبها جامع جليل ومساجد كثيرة وأسواق وفنادق ونهر ينصبّ في جوفيها من جبل أوراس». وذكر أن بجوارها «هوّارة ومكناسة إباضية ، وهم بجوفيها ، وأهل تهوذا على مذاهب أهل العراق ...» (١).

ولعل أنسب وصف لموضوعنا هو ما ذكره البكري في الطريق من مدينة فاس إلى القيروان. قال : «ومن أدنة إلى مدينة طبنة مرحلتان ... ثم تمشي ثلاث مراحل في مساكن العرب وهوّارة ومكناسة وكبينة وورقلة ، يطلّ عليها وعلى ما والاها جبل أوراس ، وهو مسيرة سبعة أيّام ، وفيه قلاع كثيرة يسكنها قبائل هوّارة ومكناسة ، وهم على رأي الخوارج الإباضية ... وفي هذا الجبل كان مستقرّ الكاهنة إلى مدينة باغاية ، وهي حصن صخر قديم حوله ربض (٢) كبير من ثلاث نواح ، وليس فيما يلي الناحية الغربية ربض ، إنّما يتّصل بها بساتين ونهر. وفي أرباضها فنادقها وحمّاماتها وأسواقها. وجامعها داخل الحصن. وهي في بساط من الأرض عريض ، كثير المياه ، وجبل أوراس مطلّ عليه. ويسكن فحص هذه المدينة قبائل مزاتة وضريسة ، وهم يظعنون في زمن الشتاء إلى الرمال حيث لا مطر ولا ثلج خوفا على نتاج إبلهم ، وإلى مدينة باغاية لجأ البربر والروم ، وبها تحصّنوا من عقبة بن نافع القرشي ...» إلى أن يقول : «وأهلها كلهم اليوم على رأي الإباضية» (٣). هذا هو جبل أوراس ، وتلك هي قبيلة هوّارة التي كانت ، بجانب قبائل أخرى ، تعمره ، وتتنقل حواليه ، وإلى الجنوب منه خاصّة ، كما يصوّره لنا البكري.

هنالك قضت أسرة عالمنا حياتها عقودا من القرن الثالث الهجري ، في ظل الدين الإسلاميّ الذي اعتنقه أسلافها منذ الفتح الإسلامي في القرن الأوّل الهجري. ولا تزال أسر كثيرة في هذه

__________________

(١) البكري ، المغرب ، ص ٥٠ ، و ٧٢ ، و ٧٣.

(٢) الربض : ما حول المدينة من النواحي.

(٣) البكري ، المغرب ، ص ١٤٥.

١٤

النواحي تحتفظ بنسبتها إلى قبيلة هوّارة إلى يومنا هذا.

أمّا ما يتعلق بوالد المؤلّف محكّم الهوّاريّ فأودّ أن أستوقف القارئ قليلا لتحرّي وجه الصواب في ضبط هذا الاسم ، وقد بحثت طويلا في تحقيق أصله ومعناه ، فسألت بعض مشايخنا فوجدتهم يروونه بإسكان الحاء وتخفيف الكاف المكسورة أو المفتوحة ، على اختلاف بينهم. ثمّ عمدت إلى معاجم اللغة وكتب الرجال والأنساب ، فلم أجد من اشتهر بهذا الاسم في القديم غير محكّم بن الطفيل الحنفي ، صاحب اليمامة.

وكان المنتظر من ابن دريد أن يبيّن لنا اشتقاق هذا الاسم ويضبطه ويفصّل وجه تسميته ، كما فعل بكثير من الأسماء ، لأن هذا هو موضوع كتابه : الاشتقاق. ولكنه اكتفى بذكر الاسم ولم يعلّق عليه شيئا (١). وفي النصوص المطبوعة لدينا ورد هذا الاسم في كلّ من تاريخ الطبري (٢) ، وكامل ابن الأثير (٣) ، ومقاييس الثعالبي ، ولسان ابن منظور ، وقاموس الفيروز آبادي (٤) مضبوطا بفتح الحاء المهملة ، وتشديد الكاف المفتوحة ، هكذا بدون بيان شاف لأصل الاشتقاق.

وقال الجوهريّ في الصحاح : «ويقال أيضا : حكّمته في مالي إذا جعلت الحكم إليه فيه ... وقال : ومحكّم اليمامة [بفتح الكاف المشدّدة] رجل قتله خالد بن الوليد ...».

وقال : «وأمّا الذي في الحديث أنّ الجنة للمحكّمين فهم قوم من أصحاب الأخدود حكّموا وخيّروا بين القتل والكفر فاختاروا الثبات على الإسلام مع القتل» (٥).

وقال أبو عبيد القاسم بن سلّام حين ذكر محكّم اليمامة : «بعضهم يقول : محكّم ، وبعضهم يقول : محكّم ، بكسر الكاف المشدّدة وفتحها» (٦).

وهكذا نخلص إلى أنّ الكاف في محكّم وردت في أغلب المصادر بتشديد الكاف المفتوحة أو

__________________

(١) ابن دريد ، الاشتقاق ، ص ٣٤٠.

(٢) الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، ج ٣ ص ٢٧٨ ، ٢٩٤ ، ٢٩٥.

(٣) ابن الأثير ، الكامل ، ج ٢ ص ٣٦٤ ، ٣٦٥.

(٤) انظر لسان العرب ، والقاموس المحيط ، ومقاييس اللغة : (حكم).

(٥) الجوهري ، الصحاح ، ج ٥ ، ص ١٩٠٢ ، (حكم).

(٦) أبو عبيد القاسم بن سلام ، كتاب الأموال ، ص ٣٥٧.

١٥

المكسورة ، لا بالتخفيف. وهنا يمدّنا أبو عبيد البكري (١) برواية لها وزنها في الترجيح ، وكأنه فعلا يأتي بالقول الفصل في كتابه : «فصل المقال» حين قال ـ وهو يشرح كلمة لمحكّم اليمامة : «وفي كتاب النسب للكلبي (٢) : قيل له محكّم لأنّهم جعلوه حكما وحكّموه بينهم». فإذا ثبتت هذه الرواية ، ولا أحسبها إلّا صحيحة ثابتة ، انتهى بنا المطاف إلى ترجيح تشديد الكاف المفتوحة في اسم محكّم الهوّاريّ. وهذا ما أميل إليه وأرجّحه. وأرى أنّه إمّا من قولهم : رجل محكّم ، أى : مجرّب ، منسوب إلى الحكمة ، كما قال الجوهريّ ، وأثبته الزمخشري (٣) ، وإمّا لكون المسمّى بهذا الاسم سيّدا في قومه ، محكّما بينهم ، حقيقة أو تفاؤلا. والمعنيان يتعاضدان ويتكاملان ، فلكونه مجرّبا ذا حكمة حكّمه قومه ، فهو محكّم في الحالين (٤).

إنّ محكّما الهواريّ معروف لدينا أكثر من ابنه هود. ذلك أنّ ابن الصغير ـ وهو قريب عهد بعصره ـ قد حفظ لنا نبذة عن حياته ومواقفه الجريئة في القضاء. فهو يصفه لنا قاضيا عدلا ، تقيّا ورعا ، قويّا في دينه ، متينا في أخلاقه ، يجهر بالحقّ ولا يخاف في الله لومة لائم ، يتبيّن ذلك من خلال محاورة الإمام أفلح بن عبد الوهّاب (٥) مع الذين رغبوا منه «أن يولّي القضاء من يستحقّ». والذين «أجمعوا أمرهم على محكّم الهوّاريّ ، الساكن بجبل أوراس».

قالوا لأفلح : «قد تدافعنا هذا الأمر فيما بيننا ، فلم نرتض أحدا منّا. وقد ارتضينا جميعا بمحكّم (كذا) الهوّاريّ ، الساكن بجبل أوراس لخاصّتنا وعامّتنا ، وديننا ودنيانا. فقال أفلح : ويحكم دعوتم إلى رجل كما وصفتم في ورعه ودينه ، ولكن هو رجل نشأ في بادية ، ولا يعرف لذي القدر

__________________

(١) أبو عبيد البكري ، فصل المقال ، ص ٤٢٧. وأبو عبيد البكري أديب ولغويّ ضليع. فمن مؤلّفاته : سمط اللآلئ ، وهو شرح لكتاب الأمالي لأبي عليّ القالي ، والتنبيه على أوهام أبي عليّ في أماليه ، وكتابه هذا : فصل المقال ، هو شرح لأمثال أبي عبيد القاسم بن سلّام.

(٢) لعله يشير إلى كتاب «النسب» لابن الكلبي الذي طبع أخيرا بالكويت طبعة جيّدة محقّقة. ولكنّني لم أجد هذه العبارة في هذا الكتاب ، ولعلّها في كتاب آخر أو لمؤلّف آخر.

(٣) الزمخشري ، أساس البلاغة ، ج ١ ص ١٩٠ ، والزمخشري ، الفائق في غريب الحديث ، ج ١ ص ٣٠٣.

(٤) ذكر لي بعض المشايخ أنّ الاسم قد يكون بتشديد الكاف المكسورة نسبة إلى المحكّمة الذين يقولون : «لا حكم إلا لله». وقد ورد هذا المعنى فعلا في بعض المعاجم ، وقد يكون له وجه من التأويل ، ولكنّي لا أراه وجها راجحا لأنّ الاسم كان موجودا قبل قضيّة التحكيم.

(٥) ابن عبد الرحمن بن رستم ، ثالث الأئمّة الرستميّين ، بويع إماما بعد وفاة أبيه سنة ٢٠٨ / ٨٢٣.

١٦

قدره ، ولا لذي الشرف شرفه ، وإن كان ليس أحد منكم يحبّ أن يظلم ولا يظلم ، ولكن تحبّون أن يجري فيكم الحقوق على وجهها بلا نقص لأغراضكم ولا امتهان لأنفسكم. قالوا فإنّا لا نرضى لقضائنا أحدا غيره ...» (١).

هذا هو محكّم الهوّاريّ ، عالم قضى معظم حياته في جبل أوراس ، وفي البادية من حواليها ، فأكسبته من قسوة طبيعتها قوّة في النفس ، وشدّة في الحقّ ، وصلابة في الدين. فلم تؤثّر فيه حياة المدن وما يتبعها أحيانا من لين في العيش ، وترف في الحياة وفساد في الطباع.

أمّا مدّة قضائه ، وكيف كانت أواخر أيّام حياته ، ومتى وأين كانت وفاته ، فقد أغفلت المصادر كلّ ذلك ولم تذكر عنه شيئا. والذي ثبت لدى المؤرّخين وكتّاب الطبقات هو أنّه عاش في النصف الأوّل من القرن الثالث ، وفي عهد الإمام أفلح بن عبد الوهّاب (٢٠٨ ـ ٢٥٨ / ٨٢٣ ـ ٨٧١). ولعله يكون قد توفّي قبل الإمام أفلح ، أو بعده بقليل. لأنّ عهد أبي اليقظان بن أفلح بعده عرف قاضيا آخر هو أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن أبي الشيخ. ولم يكن يقلّ عن محكّم الهوّاريّ تقى وورعا ، وجرأة على أن يصدع بالحقّ ، وأن يقيم العدل بين الناس ، حتى إذا رأى أنّ الظلم قد استشرى ، وأن لا حيلة له في إرجاع الحقّ إلى نصابه ، غدا بخاتمه وقمطره إلى الإمام ، واعتزل القضاء بكل إباء ، لأنّه لم يصبح قادرا على معاقبة المعتدين الظالمين كما فصّل ذلك ابن الصغير الذي أدرك عهد أبي اليقظان ورآه مرّتين ، وحضر مجلسه.

هذه لمحة عابرة عن شخصية محكّم الهوّاريّ ، والد الشيخ هود ، وهذا الشبل من ذلك الأسد.

فكيف كانت حياة الشيخ هود الهوّاريّ؟

في تلك المواطن من جبل أوراس وما يحيط به ، وفي كنف هذا الوالد الورع التقيّ ، القاضي الحازم ، وتحت رعايته ، نشأ عالمنا الشيخ هود بن محكّم الهوّاريّ. إنّنا لا نعرف بالتحديد عام مولده ، ولكنّنا نقدّر أن يكون في العقد الأوّل أو الثاني من القرن الثالث الهجريّ. والذي يبدو لنا أنّه يكون قد أخذ العلم أوّلا في مراتع طفولته ومرابع صباه عن والده ، بعد حفظه لكتاب الله ، وأنّه قد تفقّه في مجالس العلم وحلقات الدروس التي كانت تعقد بالمساجد في القرى الجبليّة أو في

__________________

(١) ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ص ٤٩ ، ٥٠.

١٧

البوادي ، أو حتّى في المغارات إذا اختلّ الأمن ، واضطربت الأمور ، وخيفت الفتن.

إنّ المصادر لا تفصّل لنا شيئا من هذا عند ما تحدّثت عن الشيخ هود ، ولكنّنا نتصوّره اعتمادا على طريقة التعلّم التي نقرأ أوصافها في كتب سير الإباضيّة. فكثيرا ما كان الشيخ يتنقّل بطلبته في بعض فصول السنة إلى البوادي والأرياف ، وتتواصل الدراسة هناك في أوقات من ليل أو نهار ، تحت ظلال الأشجار ، أو تحت الخيام ، أو تحت أديم السماء ، في حياة كلّها جدّ ونشاط وعمل دائب من دروس علميّة للخاصّة ، أو مواعظ للعامّة. وكتب تؤلّف وتستنسخ ، ومجالس تنتظم للمناظرة في مختلف العلوم والفنون (١).

وقد دلّت كلمة الإمام أفلح التي أوردها ابن الصغير أن محكّما عاش في البادية ، كما أسلفنا. وأفادت كلمة أخرى أوردها الشمّاخيّ في ترجمة الشيخ هود الهوّاريّ أنّ هذا الأخير بعث رجلا من ملازميه إلى «حيّ هنالك من أحياء مزاتة ...» (٢) كما أن عبارة البكري التي سلفت تبيّن أنّ حياتهم كانت «بين ظعن وإقامة» : ظعن في الشتاء إلى البادية «خوفا على نتاج إبلهم» ، وإقامة بقراهم في جبل أوراس أثناء الربيع والصيف وأوائل الخريف (٣).

في ظلّ هذه الحياة يكون الشيخ هود قضى فترة صباه ، وشيئا غير قليل من شبابه في بلده ، وفي موطنه بأوراس يكون قد أخذ جلّ علومه. فهل خرج الفتى هود من بلده في رحلة لطلب العلم؟. أنا لا أستبعد ذلك ، بل إنني أميل إليه وأكاد أجزم به.

ذلك أنّ مركزين عظيمين كانا في ذلك العهد بإفريقية يشعّان بأنواع المعرفة عامّة ، وبالعلوم

__________________

(١) انظر الإشارة إلى ذلك في المقدّمة التي كتبها المرحوم الشيخ عبد الرحمن بكلّي لكتاب الدرجيني : طبقات المشايخ بالمغرب ، ص : د ـ ه. وشبيه بهذه الحياة ما يروى عن حياة أهل جبل نفوسة ؛ فقد كان علماؤهم يتنقّلون في أيّام الصيف والخريف مع تلاميذهم إلى الأرياف يجنون التين والزيتون دون أن تتوقّف الحياة العلميّة ، بل إنّها تستمرّ وتزدهر في مجالس المناظرة وحلقات الدروس وتأليف الدواوين. ويشبه هذا أيضا ما كان قصّه علينا أستاذنا المرحوم الإمام إبراهيم بيّوض من أنّ شيخه الحاج عمر بن يحيى كان ينتقل ببعض طلبته من القرارة إلى وارجلان في فصل الخريف ، وأنّ حلقات الدروس كانت تستمرّ بانتظام أثناء رحلتهم وطوال مدّة إقامتهم.

(٢) الشمّاخي ، السير ، ط. حجريّة ، ص ٣٨١.

(٣) البكري ، المغرب ، ص ١٤٥.

١٨

الدينيّة خاصّة ؛ وأعني بهما : القيروان وتاهرت. كان وجود هذين المركزين جديرا بأن يشدّ انتباه العالم الناشئ الطموح ، وأن يستحثّ همّته فيولي وجهه شطريهما ، لينهل منهما ما يشبع نهمه العلميّ ، ويروي ظمأه للمعرفة.

لقد كانت هاتان العاصمتان تزخران بالعلماء والأدباء من مختلف الطوائف الإسلاميّة والمذاهب الدينيّة. وكانت مجالس العلم والمناظرة في أوج نشاطها. وكان الجدل يشتدّ أحيانا ويحتدّ ، حتّى يتّخذ أشكالا من الصراع المذهبيّ ، وكان التسامح يسودها أحيانا ، فتنتظم اللقاءات ، وتعقد الندوات بين العلماء ، وتتلاقح الأفكار ، فلا يستنكف هذا أن يأخذ من هذا ، وأن يستفيد هذا من ذاك ، وإن لم يكن على مذهبه أو من طائفته (١).

على أنّ القيروان مثلا لم تخل في عهد الأغالبة من علماء إباضيّة عاشوا بجنب علماء مالكيّة ، وإن كان هؤلاء هم الأغلبيّة ، وبجانب علماء من الحنفيّة أو غيرهم من المذاهب الإسلاميّة الأخرى.

ونجد لوّاب بن سلّام بن عمر اللواتي الإباضي يعقد فصلا خاصّا في كتابه : «بدء الإسلام وشرائع الدين» (٢) جعل عنوانه هكذا : «تسمية فقهاء أصحابنا وعلمائهم ومشايخهم وذراريهم بمدينة القيروان وحواليها». لقد عدّ منهم أحد عشر عالما مبرّزا وحدّد مجلس كلّ واحد منهم وسكناه بمدينة القيروان وما حولها. وكان من بين هؤلاء عالمان ينتسبان إلى قبيلة هوّارة نفسها.

كان ذلك طوال القرن الثالث الهجري. فقد كتب لوّاب بن سلّام كتابه بعد سنة ٢٧٣ / ٨٨٦ بقليل (٣). ويعدّ هذا الكتاب من أقدم كتب التاريخ التي وصلت إلينا من شاهد عيان لأحداث القرن الثالث الهجري فقصّها علينا ؛ وقد عاش بين جبل نفوسة وبلاد الجريد أى في شرق إفريقية ، بينما عاش ابن الصغير في مدينة تاهرت.

__________________

(١) ابن الصغير ، أخبار الأئمّة الرستميين ، ص ٨١ ـ ٨٥. وانظر عبد العزيز المجدوب ، الصراع المذهبي بإفريقية ، ص ٦١ ـ ٨٤ ، و ١٠٤ ـ ١١٩.

(٢) ابن سلّام بن عمر اللواتي ، بدء الإسلام وشرائع الدين ، ص ١٥٨ ـ ١٥٩. هذا هو عنوان الكتاب الحقيقيّ ، وقد اطّلعت عليه مخطوطا سنة ١٩٧٦. ثمّ طبع تحت عنوان مزيّف سخيف سنة ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م ، ونشرته دار اقرأ البيروتيّة. وانظر : صالح باجية ، الإباضية بالجريد ، ص ٢٠٦.

(٣) يقول عنه الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب في كتابه ورقات : إنّه «أقدم المؤرّخين الإفريقيّين».

١٩

وكانت تاهرت هي المركز الثاني الذي ازدهرت فيه الحياة العلميّة في عهد الدولة الرستميّة ، وخاصّة في عهد الأئمّة : عبد الوهّاب وابنه أفلح وحفيده أبي اليقظان. وقد ترك لنا ابن الصغير صورا حيّة وأخبارا مفصّلة عن هذه الحياة العلميّة وعن مدى التسامح الذي كان سائدا بين مختلف المذاهب الفقهيّة والفكريّة في تاهرت (١).

إلى هذين المركزين الواقعين في شرق أوراس وغربه ، يكون عالمنا قد شدّ الرحال طلبا لمزيد من المعرفة ، وحضور مجالس الدرس والمناظرة والاتّصال بالعلماء. وسواء أطالت رحلته العلميّة إلى هذين المركزين أو إلى أحدهما أم قصرت ، فإنّ الشيخ هودا يكون قد عاد إلى موطنه الأوّل ، وقد ملأ وطابه من العلم النافع واتسعت آفاق معارفه ، وكثرت تجاربه. وها هو ذا ـ بعد أن ورث علم أبيه وأخلاقه ، ولمع اسمه بين العلماء ـ يستقرّ في أوراس ، فيصبح بها محطّ أنظار ، وقبلة آمال لطلبة العلم خاصّة ، وللناس عامّة. يقصده الطلبة ليقتبسوا من علمه وأخلاقه وتجاربه ، ويقصده سائر الناس ليتلقّوا منه التوجيهات الرشيدة ، والرأي السديد ، والحلّ المرضي لمشاكلهم ، فيقضي كلّ من قصده مأربه ، وينال بغيته. وقد قدّم لنا البدر الشمّاخيّ الشيخ هودا الهوّاريّ وكتابه بالعبارة الموجزة التالية : «ومنهم هود بن محكّم الهواريّ ، وتقدّم الكلام على أبيه. وهو عالم متفنّن غائص. وهو صاحب التفسير المعروف ، وهو كتاب جليل في تفسير كلام الله لم يتعرّض فيه للنحو والإعراب ، بل على طريقة المتقدمين» (٢).

ولنقرأ هذه القصّة الطريفة التي كان أبو زكرياء يحيى بن أبي بكر أوّل راو لها ، وهي تتعلّق بالشيخ هود الهوّاريّ. قال :

«وذكر الشيخ ميمون بن حمودي (٣) أنّ هود بن محكّم الهوّاريّ جاءه رجل من العزّابة يستعين به على ما يفكّ كتبا له مرهونة عند رجل من النّكّار في خمسة دنانير ، فدعا هود بن محكّم

__________________

(١) ابن الصغير ، المصدر المذكور أعلاه ، وانظر : إبراهيم بحاز ، الدولة الرستميّة. الباب الثالث ، الحياة الفكريّة ، ص ٢٥٩ ـ ٣٩٨.

(٢) الشمّاخي ، السير ، ص ٣٨١.

(٣) هو ميمون بن حمودي بن زوزدتن (أو زورستن) الوسياني. وقد صنّفه الدرجينيّ في الطبقة التاسعة (٤٥٠ ـ ٥٠٠ ه‍) ، وذكر بعض أخباره. ولم تذكر المصادر سنة وفاته. انظر : الدرجيني ، طبقات المشايخ بالمغرب ، ج ٢ ، ص ٣٩٥ ـ ٣٩٩. وانظر : الشمّاخي ، السير ، ص ٣٨١.

٢٠