تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

قال عزّ من قائل : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) أنّهم مبعوثون.

قوله عزوجل : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) : الأعمى : الكافر ، عمي عن الهدى ، والبصير : المؤمن ، أبصر الهدى. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) : أي المشرك (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) (٥٨) : أي أقلّهم المتذكّر ، يعني : أقلّهم من يؤمن. ومن قرأها بالتاء فهو يقول : أقلّكم المتذكّر ، أي : من يؤمن.

قوله عزوجل : (إِنَّ السَّاعَةَ) : أي القيامة (لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) : أي لا شكّ فيها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (٥٩) : أي بالساعة.

قوله : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ١٤](إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠) : [أي : صاغرين] (١).

ذكروا عن عائشة رضي الله عنها قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أفضل العبادات ، فقال : دعاء المرء لنفسه (٢).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المسلم من دعائه على إحدى ثلاث : إمّا أن يعطى مسألته ، وإمّا أن يعطى مثلها من الخير ، وإمّا أن يصرف عنه مثلها من الشرّ ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل. [قالوا : يا رسول الله ، إذا نكثر ، قال : الله أكثر.

الحسن بن دينار عن الحسن عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو ذلك قال] (٣) قالوا : يا رسول الله كيف يستعجل؟ قال : يقول : قد دعوت الله فما أجابني ، ودعوته فما أعطاني (٤).

ذكروا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ أبخل الناس من بخل

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٥.

(٢) أخرجه البخاريّ في الأدب ، عن عائشة.

(٣) ما بين المعقوفين زيادة من ز ، ورقة ٣٠٥.

(٤) حديث صحيح رواه أحمد عن أبي سعيد مرفوعا. وأخرجه البزّار وأخرجه الترمذيّ عن أبي سعيد وعن عبادة بن الصامت ، ولفظه : «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم أو قطيعة رحم إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إمّا أن يعجّل له دعوته ، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة ، وإمّا أن يصرف عنه من السوء مثلها».

٦١

بالسلام ، وإنّ أعجز الناس من عجز في الدعاء ، وقد قال الله عزوجل : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١).

قوله عزوجل : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) : يعني لتستقرّوا فيه من النصب. (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) : أي مضيئا. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٦١) : أي لا يؤمنون.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٦٢) : أي فكيف تصرفون عن الهدى. قال : (كَذلِكَ يُؤْفَكُ) : أي يصدّ (٢) ، (الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦٣).

قوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) : مثل قوله : (بساطا) ، و (فراشا) و (مهادا) (وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ) : أي جعل صوركم أحسن من صور البهائم والطيور. (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : [قال السدّيّ : يقول : جعل رزقكم أطيب من رزق الدوابّ والطير والجنّ] (٣).

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٦٤) : (تبارك) من البركة ، كقوله : (تعالى) من العلوّ ، أي : ارتفع.

قال : (هُوَ الْحَيُّ) : أي الذي لا يموت (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٥).

قوله عزوجل : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : يعني أوثانهم (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٦).

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) : يعني خلق آدم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) : يعني نسل آدم

__________________

(١) أخرجه أبو يعلى في مسنده ، عن أبي هريرة. وأخرجه الطبرانيّ في الأوسط ، والبيهقيّ في الشعب عن أبي هريرة بلفظ : «أعجز الناس من عجز في الدعاء ، وأبخل الناس من بخل بالسلام».

(٢) كذا في ع : «يصدّ» ، وفي ز : «يصرف».

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٥.

٦٢

(ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) : أي الاحتلام (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) : يعني من يبلغ حتّى يكون شيخا (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل أن يكون شيخا (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) : أي الموت (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦٧) : أي لكي تعقلوا.

قال : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦٨).

قال (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي يجحدون بها (أَنَّى يُصْرَفُونَ) (٦٩) أي كيف يصرفون عنها.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) (٧١) : أي تسحبهم الملائكة على وجوههم. (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٧٢) : أي كسجر التنّور بالحطب. [أي : توقد بهم النار] (١).

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ) : كقوله : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ ، أَوْ يَنْتَصِرُونَ) [الشعراء : ٩٢ ـ ٩٣].

(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) : ينفعنا ولا يضرّنا. قال الله : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٧٤) أي بكفرهم. ثمّ رجع إلى قصّتهم فقال : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (٧٥) : والمرح والفرح واحد (٢). وهو الأشر والبطر. أي بما كنتم أشرين بطرين ، وهؤلاء المشركون. وقال في آية أخرى : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [الرعد : ٢٦].

قال : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) : أي لا تخرجون منها أبدا.

(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٦) : أي منزل المتكبّرين ، يثوون فيها أبدا.

قوله عزوجل : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) : أي من العذاب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) فيكون بعد وفاتك (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٧٧) : أي يوم القيامة.

__________________

(١) زيادة من ز ورقة ٣٠٥.

(٢) كذا في ع وز ، وهو أصحّ ، وفي ق : «والمرح والبطر واحد».

٦٣

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ). ذكر إبراهيم بن محمّد بإسناد قال : قيل : يا رسول الله ، كم كان المرسلون؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، جمّ غفير. قيل : يا رسول الله ، أكان آدم نبيّا مكلّما؟ قال : كان نبيّا مكلّما (١).

قال : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : أي حتّى يأذن الله له فيها ، وذلك أنّهم كانوا يسألون النبيّ عليه‌السلام أن يأتيهم بآية ، وأنّ الآية إذا جاءت فلم يؤمن القوم أهلكهم الله. وقد أخّر الله عذاب كفّار هذه الأمّة بالاستئصال إلى النفخة الأولى ، بها يكون هلاكهم. (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) : أي العذاب (قُضِيَ بِالْحَقِّ) : وقضاء الله بالحقّ أن يهلكهم بتكذيبهم ، يعني من نزل بهم العذاب ممّن سألوا الآية فجاءتهم فلم يؤمنوا. قال : (وَخَسِرَ هُنالِكَ) : أي حين جاءهم العذاب (الْمُبْطِلُونَ) (٧٨) : أي المشركون. قوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) : أي ألبانها وما ينتفع به منها. (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) : يعني الإبل ، ويعني بالحاجة السفر ، أي تسافرون عليها. قال : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٨٠).

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) : [يعني من السماء والأرض والخلائق وما في أنفسكم من الآيات وما سخّر لكم من شيء] (٢) (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) (٨١) : أي فأيّ ذلك تنكرون أنّه ليس من خلقه.

قوله عزوجل : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : كان عاقبتهم أن دمّر الله عليهم ثمّ صيّرهم إلى النار (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) : أي ما عملوا من المدائن وغيرها من آثارهم. كقوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ) تراه (وَ) منها (حَصِيدٌ) (١٠٠) [هود : ١٠٠] لا تراه (٣). قال : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢) : أي من الدنيا حين جاءهم العذاب ،

__________________

(١) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٢٥٣ من سورة البقرة.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٥.

(٣) في ق وع : «ألا تراه» ، والصواب ما أثبتّه.

٦٤

أي : لم يغن عنهم كسبهم شيئا. (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) : يعني علمهم عند أنفسهم هو قولهم : لن نبعث ولن نعذّب (وَحاقَ بِهِمْ) : أي وجب عليهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨٣) : أي بالنبيّ عليه‌السلام والمؤمنين ، أي : وجب عليهم عقاب ما كانوا به يستهزئون ، أي : فأهلكهم الله.

قال : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) : أي عذابنا (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (٨٤) : أي بما كنّا به مصدّقين من الشرك.

قال الله عزوجل : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) : أي عذابنا (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) المشركين ، أي أنّهم إذا كذّبوا رسلهم أهلكهم الله بالعذاب ، ولا يقبل إيمانهم عند نزول العذاب. قال : (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥) ولا خسارة هي أعظم منها إذا صاروا إلى النار.

* * *

٦٥

تفسير سورة حم السّجدة (١) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (حم) (١) : قد فسّرناه في حم المؤمن. (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٢) : يعني القرآن. (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) : أي فسّرت آياته بالحلال والحرام والأمر والنهي. (قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣) : أي يؤمنون.

(بَشِيراً وَنَذِيراً) : أي بشيرا بالجنّة ونذيرا من النار (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) : أي عنه (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٤) : أي لا يسمعون الهدى سمع قبول.

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) : أي في غلف. وقال مجاهد : على قلوبنا أكنّة كالجعبة للنّبل (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) : يا محمّد ، فلا نفعله (٢) (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) : أي صمم عنه فلا نسمعه. (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) : فلا نفقه ما تقوله. (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) (٥) : أي فاعمل على دينك ، إنّنا عاملون على ديننا (٣).

قال الله تعالى للنبيّ عليه‌السلام : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) : أي إنّما أنا بشر مثلكم ، غير أنّه يوحى إليّ (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) بالتوحيد والعمل الصالح (وَاسْتَغْفِرُوهُ) : أي من الشرك والنفاق والعمل السوء.

(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) (٦) : أي في النار (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) : أي لا يوحّدون الله ولا يعملون الصالحات (٤). (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٧). وهي مثل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) جاء اسم السورة في ق هكذا : «سورة فصّلت» ، وفي ع : «سورة السجدة» ، كما في معاني الفرّاء ، وفي ز وتفسير الطبريّ ومجاز أبي عبيدة ومخطوطة تفسير ابن قتيبة : «سورة حم السجدة».

(٢) كذا في ق وفي ع : «فلا نفعله» ، وجاءت الكلمة مطموسة في ز ، ويبدو أنّ صوابها : «فلا نعقله».

(٣) كذا في ق وع : «اعمل على دينك» ، وفي ز : «اعمل بدينك إنّا عاملون على ديننا». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٢ : «يقول : بيننا وبينك فرقة في ديننا ، فاعمل في هلاكنا إنّا عاملون في ذلك منك ، ويقال : فاعمل بما تعلم من دينك فإنّنا عاملون بديننا».

(٤) كذا جاء تأويل هذه الآية في ق وع ، وفي ز : «لا يوحّدون الله». وقال الفرّاء في المعاني : «والزكاة في هذا الموضع : أنّ قريشا كانت تطعم الحاجّ وتسقيهم ، فحرموا ذلك من آمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فنزل هذا فيهم ، ثمّ ـ

٦٦

قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصّلت : ٣٠] أي : على التوحيد والفرائض ولم يشركوا.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ) : أي ثواب ، يعني الجنّة (غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨) : أي غير محسوب في تفسير مجاهد ؛ كقوله : (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) (٤٠) [غافر : ٤٠]. وتفسير الحسن : غير ممنون عليهم منّ أذى.

قوله عزوجل : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) : يقوله على الاستفهام ، أي : قد فعلتم ، يقوله للمشركين (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) : أي أعدالا تعدلونهم بالله فتعبدونهم دونه. (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٩) : أي الذي خلق الأرض في يومين.

قال : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) : يعني فوق الأرض. والرواسي : الجبال أرساها حتّى لا تتحرّك بكم ، وجعل فيها أنهارها وأشجارها.

ذكروا عن الحسن قال : لّما خلق الله الأرض جعلت تميد [فأرساها بالجبال] (١).

قال : (وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) فأمّا قوله : (وَبارَكَ فِيها) فهو من باب البركة ، يعني ما جعل فيها من الأرزاق والأقوات ، أرزاق من فيها. والقوت : الرزق. وقال مجاهد : الأقوات من المطر. وقال بعضهم : أقواتها : ما يحمل من هذا البلد إلى هذا البلد ، ومن هذا إلى هذا. (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) : أي في تتمّة أربعة أيّام. (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١٠) : أي لمن كان سائلا عن ذلك. وقال بعضهم : لمن يسأل الرزق.

وهي تقرأ على وجه آخر : (في أربعة أيّام سواء لّلسّائلين) أي : مستويات ، يعني الأيّام (٢). واليوم منها ألف سنة ، كقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤٧) [الحج : ٤٧]. أي : خلق الأرض في يومين ، وقدّر الأقوات في يومين ، ثمّ جمع الأربعة الأيّام فقال :

__________________

ـ قال : وفيهم أعظم من هذا كفرهم بالآخرة».

(١) زيادة لا بدّ منها ليتمّ المعنى.

(٢) قال ابن أبي زمنين في مخطوطة ز ، ورقة ٣٠٦ : «من نصب (سواء) فعلى المصدر : استوت سواء ، ومن جرّ (سَواءً) فعلى أنّها نعت ل (أَرْبَعَةِ) أو ل (أَيَّامٍ). وانظر مختلف وجوه الإعراب في تفسير القرطبيّ ، ج ١٥ ص ٣٤٣.

٦٧

(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١).

قال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) : بدء (٢) خلق الأرض إنّما كانت طينة في موضع بيت المقدس قبل أن يبسطها الله ، ثمّ استوى إلى السماء [يعني عمد لها وقصد] (٣) وهي ملتزقة بالأرض في تفسير الحسن ؛ وهو قوله : (كانَتا رَتْقاً) أي ملتزقة (فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠] ، أي : فتق إحداهما عن الأخرى ، فكان خلق الأرض قبل خلق السماء ، أي : بسطها ، فقال لهما : اذهبي أنت كذا واذهبي أنت كذا. ويقال : دحيت الأرض : أي بسطت من مكّة ، وقدّر فيها أقواتها.

قال مجاهد : كان البيت قبل الأرض بألفي عام ، ومدّت الأرض من تحته ، وقدّر فيها أقواتها. وهو قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٢] يعني أرزاقكم ، فخلق الأرض في يومين ، وأقواتها في يومين.

قال : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) : على وجه السخرة والقدرة.

قال هذا لهما قبل خلقه إيّاهما ، وهو كلام فيه تقديم وتأخير. (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) : يعني بما فيهما.

قال : (فَقَضاهُنَّ) : يعني خلقهنّ (سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) : [قال مجاهد : يعني أمره] (٤) الذي جعل فيها ممّا أراد (٥).

قال : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) : يعني النجوم (وَحِفْظاً) : أي وجعلنا

__________________

(١) في ع وق اضطراب في الجمل وتكرار أثبتّ التصحيح من ز ، ورقة ٣٠٦.

(٢) كذا جاءت الكلمة في ع : «بذي» ، وفي العبارة فساد ، وأنا غير مطمئنّ لما جاء فيها ، وفي ق بياض قدر كلمة ، ولعلّ في الجملة خرما ، والله أعلم.

(٣) زيادة من ز ، والقول لابن أبي زمنين.

(٤) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٦.

(٥) كذا في ع وق ، وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٣ : «يقول : جعل في كلّ سماء ملائكة ، فذلك أمرها».

٦٨

النجوم حفظا للسماء من الشياطين ، أي : لا يسمعون الوحي. وذلك منذ بعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢).

ذكروا عن أبي رجاء العطارديّ قال : كنّا قبل أن يبعث محمّد ما نرى نجما يرمى به. فبينما نحن ذات ليلة إذا النجوم قد رمي بها. فقلنا : ما هذا؟ إن هذا إلّا أمر حدث. فجاءنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعث. وأنزل الله هذه الآية في سورة الجنّ : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٩) [الجن : ٩].

قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) : أي المشركون (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١٣) : والصاعقة العذاب ؛ جاءتهم بفزع فماتوا. ذكروا عن عطاء بن السايب أنّه قال : سمعت أبا عبد الرحمن السلميّ وإبراهيم يقرآن هذا الحرف : (أنذرتكم صاعقة عاد وثمود) يعني فزعة مثل فزعة عاد وثمود. (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) : يحذّرونهم وقائع الله في الكفّار حين كذّبوا رسلهم. ويعني ب (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) قوم نوح ومن أهلك بعدهم ، وب (مِنْ خَلْفِهِمْ) عذاب الآخرة ، أي أنذروهم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة (١).

(قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) : كقولهم للنبيّ عليه‌السلام : (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (٥٣) [الزخرف : ٥٣] أي : فيخبرون أنّه رسول الله. ومثل قولهم : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧) [الحجر : ٧] أي : فتخبرنا أنّك رسول الله ؛ أي : يقوله كلّ قوم لرسولهم. (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١٤).

قال الله : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) : يعني كفرهم وتكذيبهم رسلهم. (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) : عجبوا من شدّتهم وقوّتهم.

قال الله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (١٥).

__________________

(١) هذا وجه من وجوه تأويل الآية. وقال الفرّاء : «أتت الرسل آباءهم ، ومن كان قبلهم ، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) يقول : وجاءتهم أنفسهم رسل من بعد أولئك الرسل ، فتكون الهاء والميم في (خَلْفِهِمْ) للرسل ، وتكون لهم ، تجعل من خلفهم لما معهم».

٦٩

قال : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) : قال الحسن : الصرصر : شديدة البرد ، [وهي الدبور] (١). ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور(٢).

قال : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) : أي مشئومات ، وهي الثمانية الأيّام التي في الحاقّة. قال الله : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقّة : ٧] أي : تباعا ، ليس فيهنّ تفتّر ؛ كان أوّلها يوم الأربعاء إلى الأربعاء الأخرى.

قال : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) من عذاب الدنيا. (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) (١٦).

قال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) : أي : فبصّرناهم ، وهو في تفسير العامة بيّنّا لهم سبيل الهدى وسبيل الضلالة (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى) : أي الضلالة (عَلَى الْهُدى) : أي اختاروا الضلالة على الهدى (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) : أي من الهوان (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٧) : أي بما كانوا يعملون.

قال : (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (١٨) : وكذلك قضى الله أنّه إذا أهلك قوما أنجى رسولهم والمؤمنين معه ؛ كقوله : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي : عذابنا (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) [هود : ٥٨] ، وقوله : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) [هود : ٦٦] ، وقوله : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) [هود : ٩٤].

قوله : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٩) : قال بعضهم : وزعه إيّاهم أن يردّ أوّلهم على آخرهم (٣).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٧. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٣ : «باردة تحرق كما تحرق النار». وقال أبو عبيدة : «الشديدة الصوت العاصف».

(٢) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ٩ من سورة الأحزاب.

(٣) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٥ : «هي من وزعت ، ومعنى وزعته : حبسته وكففته ، وجاء في التفسير : يحبس أوّلهم على آخرهم حتّى يدخلوا النار. قال : وسمعت بعض العرب يقول : لأبعثنّ عليكم من يزعكم ويحكمكم ، من الحكمة التي للدابّة ...».

٧٠

قال : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) : أي جوارحهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٠) : كقوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦٥) [يس : ٦٥]. لمّا قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) [الأنعام : ٢٣] ختم الله على أفواههم وقال للجوارح : انطقن. فأوّل ما يتكلّم من أحدهم فخذه. كقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦] ، تأكل النار منهم كلّ شيء حتّى تنتهي إلى الفؤاد ، ثمّ يجدّد خلقهم ، فثمّ هكذا أبدا.

قال : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) : [انقطع] (١) ذكر كلامهم هاهنا في هذا الموضع. قال الله عزوجل : (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) : [يقوله للأحياء] (٢) (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢١) : أي يوم القيامة.

قال : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) : أي لم تكونوا تستترون من الله (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ) : أي حتّى لا يشهد عليكم سمعكم (وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ). وقال مجاهد : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) أي : تخفون (٣).

(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٢).

ذكروا عن الأعمش عمّن حدّثه (٤) عن عبد الله بن مسعود قال : بينما أنا عند الكعبة إذ جاء

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها لتستقيم العبارة.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٠٧.

(٣) كذا في ع وق : «تخفون». وفي ز : «أي : تتّقون». وكذلك جاء في تفسير الطبريّ ، ج ٢٤ ص ١٠٨ : «قال بعضهم : معناه : وما كنتم تستخفون ... وقال آخرون : معناه : وما كنتم تتّقون». ثمّ زاد الطبريّ «... حدّثنا سعيد عن قتادة (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) يقول : وما كنتم تظنّون (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ) حتّى بلغ (كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ). والله إنّ عليك يا ابن آدم لشهودا غير متّهمة من بدنك ، فراقبهم ، واتّق الله في سرّ أمرك وعلانيتك ، فإنّه لا يخفى عليه خافية ، الظلمة عنده ضوء والسرّ عنده علانية ، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظنّ فليفعل ، ولا قوّة إلّا بالله». وهذا كلام نفيس وفيه عظة وعبرة لمن اعتبر.

(٤) روى الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٤ ص ١٠٩ هذا الخبر بسند من طريقين : ... عن مجاهد عن أبي معمر الأزديّ عن عبد الله بن مسعود. ورواه من طريق الأعمش عن عمارة بن عمير ، عن وهب بن ربيعة ، عن عبد الله بن مسعود.

٧١

ثلاثة نفر : قرشيّان وثقفيّ ، أو ثقفيّان وقرشيّ ، كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم ، فدخلوا في أستار الكعبة. فتحدّثوا حديثا لم أفقهه ؛ فقال بعضهم لبعض : أترون أنّ الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم : لا يسمع شيئا. فقال الآخر : أراكم إذا رفعتم أصواتكم يسمع ، وإذا لم ترفعوا أصواتكم لم يسمع ، وقال الثالث : لئن كان يسمع منه شيئا إنّه يسمعه كلّه. قال فأقبلت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فأنزل الله : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ ، أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ). وقوله : (ظَنَنْتُمْ) أي : حسبتم (١).

قال : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) : أي باعدكم من الله ، في قول بعضهم.

وقال بعضهم : أهلككم. (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣).

قال : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) : أي يطلبوا إلى الله أن يخرجهم من النار إلى الدنيا ليؤمنوا (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) (٢٤) : كقوله : (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣٥) (٢) [الجاثية : ٣٥].

قال : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) : أي نسبنا لهم قرناء (٣) ، يعني الشياطين. كقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (٨٣) [مريم : ٨٣] أي : تزعجهم إزعاجا في معاصي الله.

قال : (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) : قال الحسن : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : حبّ ما كان عليه آباؤهم من الشرك وتكذيبهم الرسل. (وَما خَلْفَهُمْ) تكذيبهم بالبعث.

وقال الكلبيّ : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : من أمر الآخرة ، فأخبروهم أنّه لا بعث ولا جنّة ولا نار ،

__________________

(١) وقع اضطراب وحذف لبعض الآية عند تفسير هاتين الآيتين في ق وع ، فاستعنت بمخطوطة ز لجعل كلّ شيء في مكانه وإتمام ما نقص حتّى يستقيم المعنى ويتّضح.

(٢) (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) أي : إن يطلبوا العتبى ، وهي الرضا ، فإنّهم لا يجابون إلى ما يطلبون. تقول : استعتبته فأعتبني : إذا طلبت منه أن يرضيك فأرضاك.

(٣) كذا في ق : «نسبنا» ، وفي ع : «سمّينا» ، وفي تفسير الطبري : «سببنا». وكلّها متقاربة المعنى. يقال : قيّض الله فلانا لفلان : إذا جاء به وأتاحه له.

٧٢

(وَما خَلْفَهُمْ) : زيّنوا لهم أمر الدنيا فلم يريدوا غيرها (١).

(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : أي : وجب عليهم القول. وتفسير القول : الغضب ، في قول بعضهم. وقال الحسن : القول من الله أنّهم من أهل النار ؛ كقوله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦) [غافر : ٦] أي : بكفرهم. قال : (فِي أُمَمٍ) : أي مع أمم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٢٥) : والخاسرون : أهل النار ، خسروا أنفسهم فصاروا في النار.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦) : [قال السدّيّ : نزلت في أبي جهل بن هشام ، كان يقول لأصحابه : إذا سمعتم قراءة محمّد فارفعوا أصواتكم بالأشعار حتّى تلتبس على محمّد قراءته] (٢) وهو مثل قوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥] ؛ المكاء : التصفير ، والتصدية : التصفيق ؛ يميلون خدودهم إلى الأرض يخلطون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك صلاته. وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أي : لعلّ دينكم أن يغلب دين محمّد.

قال الله تعالى : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٧) : أي لا يجازيهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون في الدنيا. ولكن : يبطله ، وقد استوفوه في الدنيا. وهو مثل قوله : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ ، أَعْمالَهُمْ فِيها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها) [هود : ١٥] أي : في الدنيا ، ونجزيهم في الآخرة بأسوأ أعمالهم.

قال : (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٢٨).

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) في النار (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) : وهي تقرأ على

__________________

(١) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٧ : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الآخرة فقالوا : لا جنّة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب ، (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الدنيا ، فزيّنوا لهم اللذّات ، وجمع الأموال ، وترك النفقات في وجوه البرّ ، فهذا ما خلفهم. وبذلك جاء التفسير. وقد يكون (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما هم فيه من أمر الدنيا ، (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الآخرة».

(٢) زيادة من ز ورقة ٣٠٧.

٧٣

وجهين ؛ فمن قرأها (أرنا) بكسر الراء ، فهي من الرؤية ، ومن قرأها (أرنا) ، بتسكين الراء ، فهو يقول : أعطنا اللذين أضلّانا. (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٢٩) : يعنون إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه. يقولون ذلك من شدّة الغيظ عليهما ، وهما في الدرك الأسفل من النار. وذكر بعضهم قال : لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم كفل من دمها لأنّه سنّ القتل. وبلغنا أن ثلاثة لا تقبل منهم توبة : إبليس ، وابن آدم الذي قتل أخاه ، ومن قتل نبيّا.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) مخلصين له (ثُمَّ اسْتَقامُوا) عليها وعلى العمل بالفرائض (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٣٠) : أي إذ كنتم في الدنيا.

ذكروا أنّ أبا بكر الصدّيق قرأ هذه الآية فقالوا له : يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما الاستقامة؟ قال : ألّا تشركوا به شيئا (١).

ذكروا أنّ عمر بن الخطّاب قال : ثمّ استقاموا على الفرائض ولم يروغوا روغان الثعالب ، أي : لم ينتقصوا دين الله حتّى أكملوا فرائضهم ووفّوا بها.

قال : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) أي : عند الموت في تفسير بعضهم.

وتفسير الحسن أنّ قول الملائكة لهم : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) وأنتم آمنون ، تستقبلهم بهذا إذا خرجوا من قبورهم إلى الموقف.

وفي تفسير بعضهم (أَلَّا تَخافُوا) أي أمامكم ، (وَلا تَحْزَنُوا) أي : على ما خلّفتم ، نحن نخلفكم فيه.

ذكروا عن الحسن أنّ عمر بن الخطّاب قال : احضروا موتاكم وألزموهم قول لا إله إلّا الله ، فإنّهم يسمعون أو يرون ما يقال لهم.

ذكروا عن الحسن أنّه دخل على أبي الشعثاء جابر بن زيد وهو مدنف (٢) فقال له :

__________________

(١) وقد نسب إلى أبي بكر قول آخر أيضا في تفسير الاستقامة هو قوله : «استقاموا فعلا كما استقاموا قولا».

(٢) أي : براه المرض ولازمه حتّى أشفى على الموت.

٧٤

يا أبا الشعثاء ، فرفع رأسه فقال له : قل لا إله إلّا الله. فسكت أبو الشعثاء. فأعاد له القول فقال له : قل لا إله إلّا الله ، فسكت أبو الشعثاء ، ثمّ أعاد الحسن فقال أبو الشعثاء في الثالثة : يا أبا سعيد ، أنا من أهلها ، ولكنّي أعوذ بالله من النار ومن سوء الحساب. فخرج الحسن من عنده وهو يقول : تالله ما رأيت كاليوم قطّ رجلا أفقه حتّى عند الموت (١).

ذكر بعضهم حديثا عن عيسى ابن مريم بإسناده أنّه قال : عجبت للمؤمن كيف يحفظ ولده من بعده ، أي إنّه يحفظ بعده (٢).

قال : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) : أي : نحن كنّا أولياءكم في الحياة الدنيا إذ كنتم في الدنيا ، ونحن أولياؤكم في الآخرة. وبعضهم يقول : تقوله لهم الملائكة الذين كانوا يكتبون أعمالهم (٣).

(وَلَكُمْ فِيها) : أي في الجنّة (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) (٣١) : أي تشتهون (٤). (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢) : أي الجنّة ، نزلا لكم أنزلكموها غفور رحيم (٥).

قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣) : وهذا على الاستفهام ، أي : لا أحد أحسن قولا منه.

قوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) : الحسنة في هذا الموضع العفو والصفح ، والسيّئة ما يكون بين الناس من الشتم والبغضاء والعداوة.

قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : يقول : ادفع بالعفو والصفح القول القبيح والأذى.

__________________

(١) ليتني أعثر على أصل تفسير ابن سلّام كاملا حتّى أحقّق سند هذا الخبر ، وهو خبر صحيح رواه كثير ممّن ترجموا لجابر بن زيد. وأنا أميل إلى أنّه من زيادات الشيخ هود الهوّاريّ.

(٢) كذا ورد هذا الخبر في ع. وفي ق : «أي : لم يحفظ بعده». والصحيح ما أثبتّه كما ورد في ع. أي : إنّ الله بعث إليه على لسان ملائكته ألّا يحزن على أولاده من بعده ، فالله حافظهم ورازقهم ، والله أعلم.

(٣) في ق وع بعض التقديم والتأخير في تفسير الآية وبعض التكرار ، فأثبتّ التصحيح من ز.

(٤) كذا في ق وع وز : (تَدَّعُونَ) أي : ما تشتهون» ، وفيه تكرار لفظيّ. وفي تفسير القرطبيّ وغيره (تَدَّعُونَ) أي : تسألون وتتمنّون.

(٥) وفي تفسير الكشّاف ، ج ٤ ص ١٩٩ : «والنّزل : رزق النّزيل ، وهو الضيف».

٧٥

كان ذلك فيما بينهم وبين المشركين قبل أن يؤمر بقتالهم. كقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] يعني المشركين ، ثمّ نسخت ، فأمر بقتالهم ، فصارت بين المسلمين.

ذكر عن أبي الأحوص عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، إنّ لي جارا ، وإنّه يسيء مجاورتي ، أفأفعل به كما يفعل بي؟ قال : لا ، إنّ اليد العليا خير من اليد السفلى (١). ذكروا عن مجاهد في قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، يعني السّلام ، يسلّم عليه إذا لقيه.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا لا تهاجروا ، فإن كنتم ولا بدّ فاعلين فلا تهاجروا فوق ثلاثة أيّام ؛ ألا وإن ماتا وهما متهاجران لم يجتمعا في الجنّة. الأوّل أفضلهم الذي يبدأ بصاحبه (٢). ذكروا عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الأعمال ترفع كلّ يوم اثنين ، وخميس ، فإذا مرّ بأعمال المتصارمين عزلت أعمالهما (٣). ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : إذا كان كلّ ليلة اثنين وخميس تاب الله على التائبين ، وترحّم على المتراحمين ، وترك أصحاب الغلّ.

قوله : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٣٤) : أي كأنّه وليّ قريب.

قوله : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥) : أي لا يعفو العفو الذي يقبله الله إلّا أهل الجنّة ، وهو الحظّ العظيم (٤).

__________________

(١) أخرجه ابن سلّام بالسند التالي : «يحيى عن فطر عن أبي إسحاق الهمدانيّ عن أبي الأحوص عن أبيه قال ...». وانظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٢٢ من سورة الرعد.

(٢) حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه أصحاب السنن من طرق وبألفاظ متقاربة. أخرجه البخاريّ مثلا في كتاب الأدب ، باب الهجرة وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، عن أنس بن مالك ، وعن أبي أيّوب الأنصاريّ ، وأخرجه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب ، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعيّ ، عن أبي أيّوب الأنصاريّ ، وعن ابن عمر (رقم ٢٥٦٠ ، ٢٥٦١) وأخرجه أحمد بن حنبل ، وفيه : «فإن ماتا على صرامهما لم يجتمعا في الجنّة أبدا».

(٣) حديث صحيح أخرجه مالك في الموطأ ، كتاب الجامع ، باب ما جاء في المهاجرة ، وأخرجه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب ، باب النهي عن الشحناء والتهاجر ، (رقم ٢٥٦٥) وأخرجه أبو داود في كتاب الآداب ، باب فيمن يهجر أخاه المسلم (رقم ٤٩١٦) وغيرهم ، كلّهم يرويه من حديث أبي هريرة.

(٤) كذا في ق وع ، وفي ز ورقة ٣٠٨ : «وهي الحظّ العظيم». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٨ : «يريد ما يلقى ـ

٧٦

قوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) : قال الحسن : إنّ نزغه وسوسته ، يقول للنبيّ عليه‌السلام : إن وسوس إليك الشيطان أن تدع ما أنت فيه من الإيمان (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٦) : أي فلا أسمع منه ولا أعلم منه. وهي كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) [الأعراف : ٢٠١] أي : يطوف عليهم بوساوسه. وقال بعضهم : النزغ : الغضب.

قوله : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) : أي : خلق آياته ؛ فرجع إلى قوله : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) ، فلذلك صارت (خَلَقَهُنَّ) [ولم يقل] (١) خلقهم ، ولو لا أنّه رجع إلى الآية لكانت : الذي خلقهم ، لأنّ المذكّر والمؤنّث إذا اجتمعا غلب عليه المذكّر. والليل والنهار مذكّران ، والشمس مؤنّث ، والقمر مذكّر (٢). قال : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٣٧).

قال : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) : يعني المشركين عن السجود لله (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) : يعني الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (٣٨) : كقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠) [الأنبياء : ١٩ ـ ٢٠].

قال مجاهد : سألت ابن عبّاس عن السجدة في حم ، فقال : اسجد بالآخرة من الآيتين. وكان الحسن يسجد بالآية الأولى.

__________________

ـ دفع السيّئة بالحسن إلّا من هو صابر ، أو ذو حظّ عظيم ، فأنّثها لتأنيث الكلمة ، ولو أراد الكلام فذكر كان صوابا».

(١) زيادة لا بدّ منها ليستقيم المعنى.

(٢) وردت هذه الجملة : «والليل والنهار مذكّران ...» في ع دون ق. وقلّما يتعرّض المؤلّف لمثل هذه الملاحظات اللغويّة ، فهل هي من أصل التفسير ، أم من زيادات بعض الشرّاح والنسّاخ ، وهي شبيهة بزيادات ابن أبي زمنين وتعليقاته اللغويّة ، لكنّها غير واردة في ز ، وإنّما جاء فيه : «أي خلق آياته» فقط. على أنّ رجوع الضمير إلى الآيات غير متّفق عليه عند المفسّرين ، بل ذهب بعضهم إلى أنّ الضمير في (خَلَقَهُنَّ) يشمل الليل والنهار والشمس والقمر. انظر في هذا مثلا معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ١٨ ، وكشّاف الزمخشريّ ، ج ٤ ص ٢٠٠ ، والألوسي ، روح المعاني ، ج ٢٤ ص ١٢٥.

٧٧

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : ليس في المفصّل سجود. والمفصّل من سورة محمّد عليه‌السلام إلى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ).

ذكروا عن مجاهد عن ابن عبّاس أنّه كان يسجد في ص [وفي حم السجدة] (١) ولا يسجد في شيء من المفصّل.

ذكروا عن الحارث عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال : عزائم القرآن أربع : المّ السجدة ، وحم السجدة ، والنجم ، واقرأ باسم ربّك.

قوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) : أي هامدة متهشّمة (٢). وتفسير الحسن : ميّتة ، وهو واحد. قال : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) بالمطر (وَرَبَتْ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) فيها تقديم وتأخير. (وَرَبَتْ) : انتفخت للنبات ، و (اهْتَزَّتْ) : أي بنباتها إذا أنبتت (٣).

قال : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩) : وهذا مثل للبعث.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) : والإلحاد الشرك ، أي : يعبدون الأوثان من دون الله. وقال بعضهم : الإلحاد أن يصف الله بغير صفته.

وقال الكلبيّ : (يُلْحِدُونَ) يعني : يميلون إلى غير الحقّ. وهو أيضا الشرك.

وقال : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي : نحن نعلم ما يعملون وما يلحدون وسنجزيهم بأعمالهم وإلحادهم.

قال : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي إنّ الذي يأتي آمنا خير. قال : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤٠) : وهذا وعيد. كقوله في سورة الكهف : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) وهذا وعيد أيضا. وأخبر بما للمؤمنين وما للكافرين فقال : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ..). إلى آخر الآية. وقال :

__________________

(١) زيادة لا بدّ من إثباتها.

(٢) كذا في ق وع ، وفي ز ، ورقة ٣٠٨ : «غبراء متهشّمة».

(٣) وقال الفرّاء : (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) زاد ريعها ، أى : إنّها تنتفخ ، ثمّ تصدّع عن النبات».

٧٨

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) إلى آخر الآية. [الكهف : ٢٩ ـ ٣٠ ـ ٣١].

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) : أي بالقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) : أي إبليس (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) : أي لا يأتي القرآن من بين يديه فينقص منه شيئا (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) فيزيد فيه شيئا. أي : حفظه الله من ذلك. وقال في آية أخرى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩].

وتفسير الكلبيّ : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي : من قبل التوراة ، ولا من قبل الإنجيل ، ولا من قبل الزبور ، وليس منها شيء يكذّب القرآن ولا يبطله. (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي لا يأتي من بعده كتاب يبطله (١).

قوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ) : أي في أمره (حَمِيدٍ) (٤٢) : أي استحمد إلى خلقه ، أي : استوجب عليهم أن يحمدوه.

قوله : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) : أي ما قال لهم قومهم من الأذى ؛ كانوا يقولون للرسول : إنّك مجنون ، وإنّك ساحر ، وإنّك كاذب (٢). قال : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) : أي لمن تاب وآمن. (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (٤٣) : أي لمن لم يتب ولم يؤمن.

قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) : أي هلا فسّرت آياته وبيّنت (أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) : أي بالعجميّة والعربيّة ، على مقرإ من قرأها بغير استفهام. ومن

__________________

(١) تفسير الباطل بإبليس وجه من وجوه تأويل الآية ذهب إليه قتادة ومجاهد. وأولى من ذلك أن يكون الباطل بمعنى التكذيب أو ما ليس بحقّ ؛ وهذا ما ذهب إليه سعيد بن جبير والكلبيّ. وقال الطبريّ في تفسيره ج ٢٤ ص ١٢٥ : «وأولى الأقوال بالصواب أن يقال : معناه : لا يستطيع ذو باطل بكيده تغييره بكيده ، وتبديل شيء من معانيه عمّا هو به ...».

(٢) وهذا أيضا وجه من وجوه تأويل الآية إذ جعل المؤلّف القول صادرا من المشركين. وهو تأويل ذهب إليه جمع من المفسّرين. وقيل : إن القول هنا بمعنى ما يقول الله للنبيّ عليه‌السلام وللأنبياء قبله ، أي : ما يوحى إليهم من التوحيد والإيمان. وبناء الفعل للمجهول في الآية يوحي بالمعنيين معا. انظر تفسير ابن عاشور ، ج ٢٤ ، ص ٣١٠.

٧٩

قرأها على الاستفهام يمدّها : (أعجمي) وعربيّ؟ يقول : أكتاب أعجميّ ونبيّ عربيّ. أي : يحتجّون بذلك ، أي : كيف يكون ذلك؟ والمقرأ الأوّل تفسيره عن الحسن ، والمقرأ الأخير تفسيره عن ابن عبّاس.

قال الله عزوجل : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) لما في صدورهم. أي : يشفيهم ممّا كانوا فيه من الشرك والنفاق (١). والشرك مرض ، والنفاق مرض دون مرض الشرك. وهو مثل ، يقول : فكما أنّ المريض ليس كالصحيح ، كذلك الذي قلبه على الكفر ليس كالذي قلبه على الإيمان.

قال : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) : أي لا يصدّقون (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) : أي صمم عن الإيمان (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) : أي يزدادون عمى إلى عماهم (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤٤) : أي هم بمنزلة الأصمّ الذي ينادى من مكان بعيد ، فهو لا يسمع النداء ، أي : سمع قبول. وقال بعضهم : (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) من قلوبهم : أي : الإيمان بعيد من قلوبهم (٢).

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : يعني التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) : يعني آمن به قوم وكفر به قوم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) : أي ألّا يحاسب بحساب الآخرة في الدنيا (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي لحاسبهم في الدنيا فأدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار. وهذا تفسير الحسن.

وقال الكلبيّ : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) لكفّار هذه الأمّة ألّا يهلكهم بالعذاب قبل يوم القيامة ، كما أهلك من كان قبلهم من الكفّار ، لقضي بينهم ، أي : لعذّبهم كما عذّب الأمم الأولى حين كذّبوا رسلهم. قال : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) : أي من العقاب (مُرِيبٍ) (٤٥) : أي من الريبة.

قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) : أي فعلى نفسه. (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤٦).

__________________

(١) كذا في ق وع : «من الشرك والنفاق» ، وفي ز ورقة ٣٠٨ : «من الشكّ والشرك».

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ٢٠ : «تقول للرجل الذي لا يفهم قولك : أنت تنادى من بعيد ، وتقول للفهم : إنّك لتأخذ الشيء من قريب. وجاء في التفسير : كأنّما ينادون من السماء فلا يسمعون».

٨٠