تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) : يعني صلاة الجمعة. وهي في حرف ابن مسعود : (فامضوا إلى ذكر الله). وقال بعضهم : (فامشوا إلى ذكر الله) ، ذكروا عن الحسن في قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال : السعي بالقلوب والسعي بالنيات.

قوله عزوجل : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) : ذكروا عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : إذا أذّن المؤذّن يوم الجمعة حرم البيع. قال بعضهم : إنّما يقال ذلك لأنّ الشمس إذا زالت يوم الجمعة جاء وقت الصلاة. وإنّما هو قدر ما يتهيّأ للجمعة إذا انتصف النهار. ويستحبّ تعجيل الجمعة إذا زالت الشمس ليس كصلاة الظهر.

قال عزوجل : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩). ذكروا عن محمّد بن عبد الرحمن عن زرارة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر كتب من المنافقين (١).

ذكروا عن ابن عبّاس قال : من ترك أربع جمع من غير عذر طبع الله على قلبه.

قوله عزوجل : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) : أي من رزق الله. (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠). رخّص لهم أن ينتشروا إذا صلّوا إن شاءوا ، فإن أقاموا على ذلك كان أفضل لهم.

ذكر بعضهم قال : أربع (٢) أمر بهنّ في القرآن لسن بفرائض ، من شاء فعلهنّ ومن شاء لم يفعلهنّ : هذه الآية ، وقوله عزوجل : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] ؛ إن شاء اصطاد وإن شاء لم يفعل ، وقوله عزوجل : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور : ٣٣] ؛ إن شاء كاتب

__________________

(١) حديث صحيح ، أخرجه الترمذيّ في أبواب الصلاة ، باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر. وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب التشديد في ترك الجمعة (رقم ١٠٥٢). وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنّة فيها ، باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر (رقم ١١٢٥) كلّهم يرويه من حديث أبي الجعد الضّمريّ ، ولفظه : «من ترك الجمعة ثلاث مرّات تهاونا بها طبع الله على قلبه». وأخرجه ابن ماجه أيضا في نفس الباب عن جابر بن عبد الله (رقم ١١٢٦).

(٢) في ق وع : «خمس» ، والصواب : «أربع» ، كما جاء في مخطوطة ابن سلّام.

٣٢١

مملوكه وإن شاء لم يفعل ، ويستحبّ له أن يفعل ، وليس بحتم. وقوله عزوجل : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢٤١]. إن شاء متّع وإن شاء لم يمتّع ، ويستحبّ له أن يفعل ، وليس بحتم ، إلّا أن يطلق قبل أن يدخل بها ولم يفرض ، فتلك التي لها المتعة واجبة (١).

قوله عزوجل : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً). ذكروا عن الحسن قال : كانت عير تجيء إلى المدينة في الزمان مرّة ، فجاءت يوم الجمعة ، فانطلق الناس إليها ، فأنزل الله هذه الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو اتّبع آخركم أوّلكم لسال عليكم الوادي نارا (٢).

وقال بعضهم : التجارة العير التي كانت تجيء ، واللهو : كان دحية الكلبيّ قدم في عير من الشام ، وكان رجلا جميلا ، وكان جبريل عليه‌السلام يأتي النبيّ عليه‌السلام في صورته ، فقدمت عير ومعهم دحية الكلبيّ ، والنبيّ عليه‌السلام يخطب يوم الجمعة ، فتسلّلوا ينظرون إلى العير ، وهي التجارة ، وينظرون إلى دحية الكلبيّ ، وهو اللهو ، أي لهوا بالنظر إلى وجهه وتركوا الجمعة.

وقال بعضهم : سودان كانوا بالمدينة يلعبون ، وهو اللهو.

قال عزوجل : (قُلْ) يا محمّد (ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١).

* * *

__________________

(١) جاء في مخطوطة ابن سلّام رقم ١٨٠ آثار كثيرة وأقوال للصحابة والتابعين في فضل الجمعة وأحكامها تكاد تبلغ صفحتين لم يورد الشيخ هود إلّا القليل منها. أمّا ابن أبي زمنين فلم يشر إليها أصلا ، حتّى إنّ سورة الجمعة في مختصر تفسيره لا تكاد تبلغ صفحة واحدة.

(٢) أخرجه الحافظ أبو يعلى مرفوعا من حديث جابر بن عبد الله ، وأخرجه عبد بن حميد عن الحسن مرسلا ، ولفظه عندهما : «والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى معي أحد منكم لسال بكم الوادي نارا». وانظر : الواحدي ، أسباب النزول ، ص ٤٥٦.

٣٢٢

تفسير سورة المنافقون (١) ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : قوله عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) : وذلك أنّ نفرا من المنافقين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، إذا لقينا المشركين شهدنا عندهم إنّك لرسول الله ، فقال الله عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ) أي : نشهد عند المشركين إذا لقيناهم (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ) فيما قالوا لك (لَكاذِبُونَ) [أي : إنّما يقولونه بأفواههم وقلوبهم ليست على الإيمان] (٢).

قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) : وذلك أنّهم حلفوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصدّقهم ، فقال تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي : حلفهم الذي يحلفون به جنّة ، أي اجتنوا بها ، أي : استتروا [حتّى لا يقتلوا ولا تسبى ذراريهم](فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي عن الإسلام ، أي يصدّون الناس عنه قال : (إِنَّهُمْ ساءَ) : أي بئس (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) : أي أقرّوا وصدّقوا (ثُمَّ كَفَرُوا) : أي خالفوا وضيّعوا (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) : أي فختم على قلوبهم ، أي : بنفاقهم (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٣).

قال تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) : يعني في المنظر والهيئة (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) : أي من قولهم بما أقرّوا به وادّعوه (٣) (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) : أي : إنّما هم أجساد ليست لهم نية ولا حسبة في الخير (٤). ثمّ وصف جبنهم وجزعهم فقال : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) حذرا من القتال ، وجبنا عنه ، ليست لهم نية في الجهاد.

ثمّ انقطع الكلام ، ثمّ قال : (هُمُ الْعَدُوُّ) الأدنى إليك (٥) (فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ) أي

__________________

(١) في ق وع : «سورة إذا جاءك المنافقون» ، وفي ز : «تفسير سورة المنافقين». وأثبتّ ما جاء في مصحف ورش.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٦٣.

(٣) كذا في ق وع ، وفي ز : «من قولهم لما أعطوا من الإيمان في الظاهر».

(٤) كذا في ق وع ، وفي ز : «ليست لهم قلوب آمنوا بها».

(٥) كذا في ق وع ، وفي ز : «هم العدوّ فيما اسرّوا».

٣٢٣

لعنهم الله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤) : أي كيف يصدّون عن الإيمان.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) : أي أخلصوا الإيمان (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) : أي أعرضوا عن ذلك (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) : أي عن دين الله وعن الحكومة إلى نبيّ الله والمؤمنين ، ويدعون إلى المحاكمة إلى وثن بني فلان الذي كان أهل الجاهليّة يتحاكمون إليه. كقوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) (٤٨) [النور : ٤٨] وكقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (٦١) [النساء : ٦١]. قال : (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٥) : أي إنّهم أهل كبر وعظمة وأنف (١).

قال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٦) : أي فسق النفاق ، وهو فسق دون فسق ، وفسق فوق فسق. فأخبر الله أنّهم يموتون على النفاق ومقيمون عليه ، فلم يستحلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستغفر لهم بعد ذلك.

قال بعضهم : لمّا نزلت الآية التي في براءة : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد خيّرني ربّي فلأزيدنّ على السبعين (٢). فنزلت هذه الآية في المنافقين : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ ، أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ، أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : لا يكونون بالفسق والنفاق مهتدين عند الله.

قال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا). تفسير الحسن : إنّه كان بين عبد الله بن أبيّ ابن سلول ـ رأس المنافقين ـ وبين رجل من المسلمين من فقرائهم قول ، فقال : يا رسول الله ما لهم ، ولّى الله أمرهم فلانا ، يعني ذلك الرجل وأصحاب فلان (٣). ثمّ نظر إلى أصحابه فقال : أما والله ، لو كنتم تمنعون أطعمتكم هؤلاء الذين

__________________

(١) كذا في ق وع : «أنف» ، وهي كلمة عربيّة صريحة من : أنف يأنف أنفا وأنفة ، أنف من الشيء أي : استنكف وتكبّر.

(٢) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية المذكورة من سورة التوبة.

(٣) كذا في ق وع ، وعبارة الفرّاء : «وكلهم الله إلى جعال ، وذوي جعال». وجعال (ويقال : جعيل) بن سراقة ـ

٣٢٤

حصروا أطعمتكم ، وركبوا رقابكم ، لأوشكوا أن يذروا محمّدا ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم. فأنزل الله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ). قال ابن أبيّ ابن سلول حين رأى المسلمين نصروا ذلك الرجل : أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ـ وذلك أنّه في غزوة تبوك ـ ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، عمدنا إلى رجل من قريش فجعلناه على رقابنا ، أخرجوه فألحقوه بقومه ، وليكن علينا رجل من أنفسنا. فسمعها زيد بن أرقم فقال : لا والله لا أحبّك أبدا. فانطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فغضب غضبا شديدا. فأرسل إلى ابن أبيّ ابن سلول ، فأتاه ومعه أشراف من الأنصار يعذرونه ويكذّبون زيدا. فقال ابن أبي ابن سلول : يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما قلته ، وإنّ زيدا لكاذب ، وما عملت عملا هو أرجى أن أدخل به الجنّة من غزوتي هذه معك. فعذره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسير إذ نزل عليه عذر زيد فقال : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ..). إلى آخر الآية. فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخلّل الناس حتّى لحق زيدا فأخذ بأذنيه فعركهما ساعة ثمّ قال : أبشر ، أنزل الله عذرك وصدّقك. وقرأ عليه الآية (١). وبلغنا أنّ قول ابن أبيّ ابن سلول : ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، يعني به النبيّ عليه‌السلام.

قوله عزوجل : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي علم خزائن السماوات والأرض (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨) : [يخبر الله سبحانه وتعالى أنّه معزّ رسوله ومن عنده من المؤمنين] (٢) وقد فسّرناه قبل هذا الموضع.

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) : وبلغنا أنّها نزلت في المنافقين. يقول : يا أيّها الذين أقرّوا باللسان : (لا تُلْهِكُمْ ، أَمْوالُكُمْ وَلا

__________________

ـ الضمريّ من فقراء المهاجرين ، أسلم قديما. واقرأ في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ١٥٩ سبب نزول الآية تجد كلاما بليغا مختصرا واضحا.

(١) أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، تفسير سورة المنافقون عن زيد بن أرقم بلفظ : «إنّ الله قد صدّقك يا زيد». وانظر : الواحدي ، أسباب النزول ص ٤٦٠ ـ ٤٦١. وانظر : الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، ج ٣ ص ١١١ ـ ١١٢.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٦٣.

٣٢٥

أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي : عن حقّ الإيمان بالله. وبعضهم يقول : عن الصلاة المكتوبة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٩) : أي خسروا أنفسهم فصاروا في النار وخسروا الجنّة.

قال عزوجل : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) : يعني الزكاة المفروضة ، وهي قصّة المنافقين، كقوله عزوجل : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (٥٤) [التوبة : ٥٤] وكقوله عزوجل : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧) [الماعون : ٤ ـ ٧] يعني الزكاة. قال عزوجل : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا) : أي هلّا (أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) : وهو الموت ، قريب ، وإنّ عمر العبد قليل.

قال : (فَأَصَّدَّقَ) : أي فأزكّي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠) : أي فأحجّ ، ومثلها في سورة المؤمنون قوله عزوجل : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (٩٩) أي : إلى الدنيا (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠] قال الله عزوجل : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١).

* * *

٣٢٦

تفسير سورة التغابن ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢) : أي إنّ منكم من سيكون كافرا ومنكم من سيكون مؤمنا. وهو كقوله : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) [الإنسان : ٣].

ذكروا عن ابن مسعود أنّه قال : الشقيّ من شقي في بطن أمّه ، والسعيد من وعظ بغيره.

قال تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) : أي للبعث والحساب والجنّة والنار. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) : أي يوم القيامة.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤) : أي بما في الصدور.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي خبر الذين كفروا (مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) : أي عقوبة أمرهم ، يعني العذاب الذي عذّب به الأمم السالفة في الدنيا حين كذّبوا رسلهم. يحذّر المنافقين أن ينزل بهم ما نزل بمن كفر قبلهم.

قال تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥) : أي موجع ، يعني عذاب جهنّم مع عذاب الدنيا (١).

قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) : أي إنكارا لذلك ، وهو مثل قولهم : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (٩٤) [الإسراء : ٩٤] أي : لم يفعل. قال : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) : أي عن طاعة الله.

قال : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) : أي عنهم (وَاللهُ غَنِيٌّ) : عن خلقه (حَمِيدٌ) (٦) : أي : استحمد إلى خلقه ، أي : استوجب عليهم أن يحمدوه.

قوله عزوجل : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ) يا محمّد (بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) :

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز : «بعد عذاب الدنيا».

٣٢٧

أي يوم القيامة (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) : أي يوم القيامة ، يجتمع فيه الخلائق أهل السماوات وأهل الأرض (١) ، وهو تبع للكلام الأوّل ليبعثنّكم يوم يجمعنّكم ليوم الجمع (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) : أي يتغابنون في المنازل عند الله ، فريق في الجنّة ، وفريق في السعير. أي غبن أهل الجنّة أهل النار (٢).

قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) : أي لا يموتون ولا يخرجون أبدا (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) : أي النجاة العظيمة من النار إلى الجنّة.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها) : لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٠).

قوله عزوجل : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : أي بقضاء الله (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) : أي إن أصابته مصيبة سلّم ورضي وعلم أنّها من الله. قال : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١). ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قضاء الله خير لكلّ مسلم : إن أعطاه شكر ، وإن ابتلاه صبر (٣).

قال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) : أي عن الإيمان (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٢) : أي ليس عليه أن يكرههم على الإيمان ، أي : إنّ الله يهدي من يشاء. قال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣).

__________________

(١) اللام في قوله : (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) يجوز أن تكون للتعليل ، ويجوز أن تكون بمعنى (في) ، ورجّح ابن عاشور أن تكون للتوقيت ، فقال في التحرير والتنوير ، ج ٢٨ ص ٢٧٤ : «والأحسن عندي أن يكون اللام للتوقيت ، وهي التي بمعنى (عند) كالتي في قولهم : كتب لكذا مضين مثلا. وقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ، وهو استعمال يدلّ على شدّة الاقتراب ، ولذلك فسّروه بمعنى : عند ، ويفيد هنا أنّهم مجموعون في الأجل المعيّن دون تأخير ردّا على قولهم : (لَنْ يُبْعَثُوا) ...».

(٢) أوجز المؤلّف هنا تفسير التغابن ، وقد فصّله القرطبيّ بوجوهه في تفسيره ، ج ١٨ ص ١٣٦ ـ ١٣٨. وانظر : ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، ج ٢٨ ص ٢٧٥ ـ ٢٧٧.

(٣) انظر الإشارة إليه فيما مضى ، ج ٢ ، تفسير الآية ١١٢ من سورة التوبة.

٣٢٨

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) : تفسير الحسن : من لم يكن من أزواجكم وأولادكم على دينكم فهو عدوّ لكم. (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) : أي عمّا يؤذونكم به فيما بينكم وبينهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤). وذلك قبل أن يؤمر بقتال المشركين خاصّة.

وتفسير مجاهد : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال : يحمل الرجل حبّه ولده وزوجته على قطيعة رحمه وعلى معصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يستطيع من حبّه إلّا أن يطيعه.

وتفسير الكلبيّ : إنّ الرجل كان إذا أراد الهجرة تعلّق به ولده وزوجته وقالوا له : نناشدك الله أن تذهب وتتركنا فنضيع ، فمنهم من يطيع أمرهم فيقيم ، فحذّرهم الله إيّاهم ونهاهم عن طاعتهم. ومنهم من يمضي على الهجرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحذّرهم ويقول : أما والله لئن لم تهاجروا معي وأبقاكم الله حتّى تجتمعوا بي في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا. فلمّا جمع الله بينهم وبينه أنزل الله : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ليس عدوّك الذي إن قتلك أدخلك الله به الجنّة ، وإن قتلته كان لك ثوابا ، ولكن أعدى الأعداء نفسك التي بين جنبيك ، ثمّ أعدى الأعداء ولدك الذي خرج من صلبك. ثمّ أعدى الأعداء زوجتك التي تضاجعك ، ثمّ أعدى الأعداء ما ملكت يمينك (١).

قوله تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) : أي اختبار وبليّة لينظر كيف تعملون. (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٥).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا إنّ الدنيا خضرة حلوة ، وإنّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، ألا فاتّقوا الدنيا ، واتّقوا النساء ، لا يقلّدنّ الرجل منكم دينه امرأته (٢).

__________________

(١) رواه الطبرانيّ من حديث أبي مالك الأشعريّ مختصرا بلفظ : «ليس عدوّك الذي إن قتلته كان لك نورا ، وإن قتلك دخلت الجنّة ، ولكن أعدى عدوّ لك ولدك الذي خرج من صلبك ، ثمّ أعدى عدوّك مالك الذي ملكت يمينك».

(٢) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الرقاق ، باب أكثر أهل الجنّة الفقراء ، وأكثر أهل النار النساء ، وبيان الفتنة بالنساء ، من حديث أبي سعيد الخدريّ (رقم ٢٧٤٢) ولم ترد فيه الجملة الأخيرة.

٣٢٩

ذكروا عن الحسن أنّ امرأة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عرضت له في بعض الأمر فقال : فما أنت ممّا أنت هاهنا ، إنّما أنت لعبة إذا كانت لنا إليك حاجة دعوناك إليها ، ولست من الأمر في شيء (١).

قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) : قال بعضهم : ما أطقتم ؛ وذلك أنّ الله أنزل في سورة آل عمران : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] ، وحقّ تقاته أن يطاع الله فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، فنسختها هذه الآية : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

قال : (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا). وعليها بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة فيما استطاعوا. ذكروا عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وفيما كره ، ما لم يؤمر بمعصية الله ، فإن أمر بمعصية الله فلا طاعة في معصية الله (٢).

وقال بعضهم : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي : ما كنتم أحياء. وقال بعضهم : ما استطعتم فعلا من الأفاعيل. ذكروا أنّ عمران بن حصين قال للحكم الغفاريّ ، وكلاهما من أصحاب النبيّ عليه‌السلام : هل تعلم يوما ما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا طاعة في معصية الله؟ قال : نعم. قال : الله أكبر (٣).

قال الله تعالى : (وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) : تفسير الحسن : إنّها النفقة في سبيل الله.

__________________

(١) قد يبدو في كلام سيّدنا عمر ـ إن صحّ أنّ القول له ـ شيء من الجفاء والشدّة ، أو ما يشبه أن يكون إهانة للمرأة حين يصفها بأنّها لعبة لا تدعى إلّا للحاجة إليها ، وخاصّة عند ما نقرأ قوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] ونتفكّر آيات الله في الأزواج ، ولكنّه سيّدنا عمر! رضي الله عنه وأرضاه.

(٢) حديث متّفق على صحّته. أخرجه البخاريّ في كتاب الأحكام ، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية ، وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية ، (رقم ١٨٣٩) كلاهما يرويه من حديث ابن عمر.

(٣) اقرأ هذا الخبر مفصّلا في سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، ج ٢ ص ٣٤٠ في ترجمة الحاكم بن عمرو الغفاريّ. وفي صحيح مسلم ، كتاب الإمارة ، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ... «عن جنادة بن أبي أمية قال : دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا : حدّثنا ـ أصلحك الله ـ بحديث ينفع الله به ، سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : دعانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعناه. فكان فيما أخذ علينا ، أن بايعنا على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال : إلّا أن تروا كفرا بواحا». (الحديث رقم ١٧٠٩).

٣٣٠

قال تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٦) : قال بعضهم : هذا في جميع الدين : الزكاة وغيرها.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بريء من الشحّ من أدّى زكاة ماله ، وقرى الضيف ، وأعطى النائبة في قومه (١).

قال تعالى : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ).

ذكروا عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلّ حسنة يعملها ابن آدم بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف (٢).

ذكروا عن سعيد بن المسيّب قال : الذكر في سبيل الله يضاعف كما تضاعف النفقة ، والدرهم بسبعمائة.

قال تعالى : (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (١٧) : أي يشكر للعبد العمل اليسير ، ويثيبه عليه الثواب العظيم.

قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : الغيب : السرّ ، والشهادة : العلانية. (الْعَزِيزُ) في نقمته (الْحَكِيمُ) (١٨) في أمره. وقال الحسن : (الْعَزِيزُ) بعزّته ذلّ من دونه.

* * *

__________________

(١) انظر ما سلف قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٩ من سورة الحشر.

(٢) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٢٦١ من سورة البقرة.

٣٣١

تفسير سورة الطّلاق ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) : يعني النبيّ وجماعة المؤمنين. قال بعضهم : يطلّقونها في قبل عدّتها (١) طاهرا من غير جماع.

ذكروا عن الحسن قال : كان الرجل إذا أراد أن يطلّق امرأته استقبل طهرها ، ثمّ دعا شاهدين فأشهدهما على طلاقها واحدة ، وقال لها اعتدّي. ثمّ يلوم نفسه فيما بينه وبين انقضاء عدّتها. فإن كان له بها حاجة دعا شاهدين فأشهدهما أنّه قد راجعها ، وإن لم تكن له بها حاجة تركها حتّى تنقضي عدّتها ، فإن ندم كان خاطبا مع الخطّاب. وبلغنا عن ابن مسعود نحو ذلك.

ذكروا عن الحسن وابن سيرين قالا : كان يقال : من طلّق طلاق السنّة لم يندم على امرأة فارقها ؛ يقولان : ينبغي له أن يطلّق امرأته واحدة ، ولا يطلّقها ثلاثا. ذكر بعضهم أنّ النبي عليه‌السلام طلّق حفصة تطليقة ؛ فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال له : راجعها فإنّها صوّامة قوّامة ، فهي زوجتك في الجنّة ، فراجعها.

قال بعضهم : طلاق السنّة أن يطلّق الرجل امرأته في قبل عدّتها طاهرا من غير جماع تطليقة واحدة ، ثمّ يدعها. فإن شاء راجعها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة. فإن شاء أن يطلّقها ثلاثا طلّقها أخرى قبل عدّتها طاهرا من غير جماع ، ثمّ يدعها حتّى إذا حاضت وطهرت طلّقها ، ثمّ لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره.

ذكروا عن نافع عن ابن عمر أنّه طلّق امرأته وهي حائض ، فسأل عمر النبيّ عليه‌السلام فقال له : مره أن يراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر من حيضة سوى الحيضة التي طلّقها فيها ، فإذا طهرت فإن شاء أمسكها وإن شاء طلّقها ، فإن أراد أن يطلّقها فلا يقعنّ عليها عند طهرها ، فإنّ هذه العدّة التي أمر الله بها (٢). قال بعضهم : فإن ابن عمر طلق امرأته واحدة.

__________________

(١) «في قبل عدّتها» أي : في وقت تستقبل فيه العدّة.

(٢) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاريّ في كتاب الطلاق ، وهو أوّل أحاديث الكتاب ، ثمّ ترجم ـ

٣٣٢

ذكروا عن يونس بن جبير قال : قلت لابن عمر : رجل طلّق امرأته وهي حائض. قال : أتعرف عبد الله بن عمر؟ قلت : نعم. قال : فإنّه طلّق امرأته وهي حائض. فأتى عمر النبيّ عليه‌السلام فأخبره ، فأمره أن يراجعها. فإن بدا له في طلاقها طلّقها قبل عدّتها ، أي : قبل طهرها. قلت : أفتعتدّ بتلك التطليقة؟ قال : أرأيت إن عجّل واستحمق (١)؟.

ذكروا عن عبد الله بن دينار قال : سمعت ابن عمر يقرأ هذا الحرف : (فطلّقوهنّ في قبل عدّتهنّ) (٢).

ذكروا عن الحسن قال : الرجل لا يستأذن على مطلّقته ، ولكن يضرب برجله وينحنح. وقال بعضهم : يتنحنح ويسلّم ولا يستأذن عليها ، وتتشوّف له وتتصنّع ، ولا يرى لها رأسا ولا بطنا ولا رجلا ، ولكن ينام معها في البيت.

ذكروا عن عليّ قال : يستأذن الرجل على كلّ امرأة إلّا امرأته.

ذكر بعضهم قال : التي لم تحض والتي قعدت عن المحيض تطلّق عند كلّ شهر عند الهلال.

ذكروا عن جابر بن عبد الله في الحبلى يريد زوجها أن يطلّقها فقال : لا أراها تحيض فتعتدّ ، ولو كنت مطلّقها فحتّى تضع. والعامّة تقول : إذا استبان حملها طلّقها متى شاء.

__________________

ـ البخاريّ بعده : باب إذا طلّقت الحائض تعتدّ بذلك الطلاق. وأخرجه مسلم أيضا في كتاب الطلاق ، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ، وأنّه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها (رقم ١٤٧١) ، بطرق كثيرة أغلبها عن نافع عن ابن عمر.

(١) في ق وع : «فقد رأيت أن عجل واستحمق». وللعبارة وجه من التأويل. فإنّ ابن عمر ، وهو يتحدّث عن نفسه بضمير الغائب ، يجيب سائله يونس بن جبير ويقول له : إنه ، أي : ابن عمر ، قد عجّل في الأمر وأصابته حماقة فهو يتحمّل نتيجة عجلته وحماقته ، وتحسب عليه تطليقة. ولم أجد هذه العبارة فيما بين يديّ من كتب الحديث. وأكثر ما وردت هذه العبارة في كتب التفسير والحديث : «قال : أرأيت إن عجز واستحمق». وفي لفظ لمسلم : «أو إن عجز واستحمق؟» أي : أرأيت إن عجز عن الرجعة وركب حماقته ، أفلا تحسب عليه تطليقة؟ وهو استفهام إنكاريّ ، أي : بلى ، إنّها تحتسب عليه تطليقة. وقد عدّد الحافظ ابن حجر مختلف هذه العبارات وبيّن أوجه معانيها في فتح الباري ، ج ٩ ص ٣٤٨. فانظرها مستوفاة هنالك.

(٢) وهي قراءة نسبت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى عثمان وابن عبّاس وغيرهم ، انظر : ابن جني ، المحتسب ، ج ٢ ص ٣٢٣.

٣٣٣

قال بعضهم في الغائب يطلّق امرأته : إنّه يكتب إليها : إذا حضت ثمّ تطهّرت من محيضك فاعتدّي. فإن كانت حاملا فاستبان حملها كتب إليها بطلاقها. وإذا طلّقها بعض الطلاق ، وكانت تعتدّ ، ثمّ أتبعها طلاقا ، فإنّها تعتدّ من أوّل طلاقها.

قوله عزوجل : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) : أي فلا تطلّقوهن في الدم ولا في الطهارة وقد جامعتموهنّ ، إلّا في الطهارة بعد أن يغتسلن من المحيض من قبل أن تجامعوهنّ.

قوله عزوجل : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) : لا تخرج من بيتها حتّى تنقضي عدّتها ، وإن (١) طلّقها ثلاثا في قول العامّة. وفي قول ابن عبّاس والحسن : إن شاءت خرجت إذا طلّقها ثلاثا ، وإذا توفّي عنها زوجها أيضا.

معنى قولهما : تعتدّ منه وإن طلّقها اثنتين أيضا ، ومعنى قول العامّة : أنّها في المطلّقات اللاتي دخل بهنّ لا يخرجن حتّى تنقضي عدّتهنّ.

وهذا الخروج ألّا تتحوّل من بيتها ، فإن احتاجت إلى الخروج بالنهار لحاجتها ، خرجت ولا تمسي (٢) إلّا في بيتها.

ذكروا عن فاطمة بنت قيس أنّها أتت النبيّ عليه‌السلام وقد أبتّ زوجها طلاقها ، فقال : لا سكنى لك ولا نفقة (٣).

ذكروا عن عمر أنّه قال : ما كنّا لنأخذ بقول امرأة لعلّها وهمت ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لها السكنى والنفقة (٤).

__________________

(١) في ق وع : «فإن طلّقها» ، والصواب ما أثبتّه حتّى يستقيم المعنى.

(٢) كذا في ق وع. وفي ز : «ولا تبيت» ، وكلاهما صحيح ، والتعبير الثاني أكثر تسامحا.

(٣) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الطلاق ، باب المطلّقة ثلاثا لا نفقة لها (رقم ١٤٨٠) ولفظه : «لا نفقة لك ولا سكنى». وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق. باب المطلّقة ثلاثا هل لها سكنى ونفقة ، عن فاطمة بنت قيس أيضا (رقم ٢٠٣٥ و ٢٠٣٦).

(٤) لم أجد فيما بين يديّ من مصادر الحديث رواية لهذا الحديث بسند صحيح يرفعه راويه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلّا رواية من طريق إبراهيم النخعيّ ، وهو حديث منقطع لا تقوم به حجّة. وإنّما ورد في بعضها قول عمر هكذا : قال عمر : لا نترك كتاب الله وسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقول امرأة لا ندري لعلّها حفظت أو نسيت ؛ لها ـ

٣٣٤

ذكروا عن ميمون بن مهران قال : سألت ابن المسيّب عن أشياء فقال : إنّك تسأل سؤال رجل يمتحن ، فهل خالفت في شيء ممّا سمعت ما سمعت من غيري؟ قلت : لا ، إلّا قولك في المطلّقات إنّها لا تنتقل ، فما بال حديث فاطمة بنت قيس؟ فقال : ويح تلك المرأة ، كيف فتنت الناس! قلت : إن كان أفتاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما فتنت.

قوله عزوجل : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) : ذكروا عن نافع عن ابن عمر قال : [الفاحشة المبيّنة خروجها في عدّتها. وقال بعضهم] (١) : الفاحشة : الزنا ، والمبيّنة : أن يشهد عليها أربعة أنّها زنت (٢). وكانت المرأة إذا زنت وشهد عليها أربعة أخرجت من بيت زوجها ، وحبست في بيت آخر قبل أن ينزل حدّ الزاني ، وهو قوله عزوجل : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (١٥) [النساء : ١٥] فنسخ ذلك في هذه الآية : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢].

__________________

ـ السكنى والنفقة ، قال الله عزوجل : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). انظر في صحيح مسلم أحاديث الباب ، واقرأ في نيل الأوطار للشوكانيّ ، ج ٦ ص ٣١٩ ـ ٣٢٢ ، باب ما جاء في نفقة المبتوتة ، تحقيقا قيّما انتهى به صاحبه إلى أنّ حديث فاطمة بنت قيس هو الصحيح ، وأنّ ما نسب إلى عمر «كذب على عمر وكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وقال الدارقطنيّ : «السنّة بيد فاطمة قطعا». وانظر : فتح الباري ، ج ٩ ص ٤٧٧ ـ ٤٨١. وانظر : الجصّاص ، أحكام القرآن ج ٥ ص ٣٥٥ ـ ٣٥٨. وجمهور فقهاء الإباضيّة على أنّه لا نفقة ولا سكنى للمطلّقة طلاقا بائنا ، على أنّ في المسألة خلافا داخل المذهب. انظر : السالمي ، شرح الجامع الصحيح ، ج ٣ ص ٧٤ ـ ٧٨. وانظر : السالمي ، جوهر النظام ، ج ١ ص ٢٠٥. وانظر : الجنّاوني ، كتاب النكاح ، ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦ ، وتعليق الشيخ علي معمّر رحمه‌الله في الموضوع. وانظر : اطفيّش ، شرح النيل ، ج ٧ ص ٣٩٧ ـ ٣٩٨. وانظر : بشر بن غانم الخراساني ، المدوّنة الصغرى ، ج ٢ ص ٢٦٧.

(١) سقط ما بين المعقوفين من ق وع ، فأثبتّه من ز ، ورقة ٣٦٥. وهو الموافق لما جاء في تفسير الطبريّ ، ج ٢٨ ص ١٣٤ منسوبا إلى ابن عمر ، والقول الذي جاء بعده هو قول لابن زيد ، كما جاء في تفسير الطبريّ ، ونسب أيضا إلى الحسن وإلى مجاهد.

(٢) يكون هذا قولا لمن قرأ بفتح الياء المشدّدة من مبيّنة ، وهي قراءة ابن كثير وأبي بكر كما ذكرها الداني في التيسير ، ص ٩٥.

٣٣٥

وبعضهم يقول : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي : تزني فتخرج فيقام عليها الحدّ. وبعضهم يقول : الفاحشة المبيّنة : النشوز البيّن (١).

قوله عزوجل : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) : أي أحكام الله. وقال الكلبيّ : هذا حدّ الله ، بيّن فيه طاعته ومعصيته. قوله عزوجل : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) : أي يجاوز ما أمر الله به (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (٢).

قوله عزوجل : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١) : أي المراجعة ، رجع إلى أوّل السورة : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي : له الرجعة في التطليقة والتطليقتين ما لم تنقض العدّة فتغتسل من الحيضة الثالثة إن كانت ممّن تحيض ، أو ثلاثة أشهر إن كانت ممّن لا تحيض ، كبيرة قعدت عن المحيض ، أو صغيرة لم تحض بعد. وكذلك الضهياء (٣) التي لا تحيض.

قوله عزوجل : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) : [أي منتهى العدّة] (٤) (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : وذلك أنّ الرجل كان يطلّق المرأة فيتركها حتّى تشرف على انتهاء عدّتها ، ثمّ يراجعها ، ثمّ يطلّقها ، فتقضي المرأة تسع حيضات ، فنهى الله عن ذلك في هاتين الآيتين : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) والآية التي في سورة البقرة : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) [البقرة : ٢٣١] يعني ما كانوا يعتدون فتصير تسع حيضات ، فنهى الله عن ذلك ، وهو قوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩] ، وهو قوله : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١) [النساء : ٢١] وذلك من حين يملكها.

قوله عزوجل : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) : فإن هو أراد أن يراجعها قبل أن تنقضي العدّة [وغشيها قبل أن يشهد] (٥) فقد حرمت عليه في قول جابر بن زيد وأبي عبيدة والعامّة من

__________________

(١) قال أبو الحواري في تفسير الخمسمائة آية : «الفاحشة المبيّنة : العصيان البيّن وهو النشوز».

(٢) جاء في ز بعد قوله : (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) : «أي : بمعصيته من غير شرك».

(٣) الضهيأة والضهياء : التي لا ثدي لها ولا تحيض. انظر اللسان : (ضها).

(٤) زيادة من ز ورقة ٣٦٥.

(٥) سقط ما بين المعقوفين من ق وع ، والسياق يقتضيه حتّى يكون للحكم معنى وجيه. وهو قول عند ـ

٣٣٦

فقهائنا. وكان إبراهيم يقول : غشيانه لها مراجعة ، ويشهد بعد ذلك بالمراجعة.

وإن هو لم يراجعها حتّى تنقضي العدّة فهي الفرقة التي قال الله عزوجل : (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). فإذا انقضت العدّة بانت عنه بواحدة إن كان طلّقها واحدة أو اثنتين ، ما لم يطلّقها ثلاثا. ذكروا عن الأسود بن يزيد أنّ امرأة طلّقها زوجها وتركها حتّى وضعت ماءها لتغتسل من الحيضة الثالثة فراجعها. فردّها عليه عمر بن الخطّاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، وهو قول عليّ وأبي موسى الأشعريّ وعمران بن حصين وابن عبّاس.

ذكر الزهريّ عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت عن عائشة رضي الله عنها قالت : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت عنه.

وحدّثني الزهريّ عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنّه قال : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت عنه. وكذلك حدّثني عثمان عن نافع عن ابن عمر. وأهل العراق يقولون : الأقراء : الحيض ، وأهل المدينة يقولون : الأقراء : الطهر. وقد بيّنّا قولهم في سورة البقرة (١).

وقوله عزوجل : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي : على الطلاق والمراجعة.

وإذا طلّق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين ، ثمّ تركها حتّى تنقضي عدّتها ، فتزوّجت رجلا غيره ، فطلّقها أو مات عنها ، فراجعها الأوّل ، فإنّ عثمان حدّثني أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي في ذلك فقضى على ما بقي من طلاقها.

ذكر الحسن عن أبي هريرة قال : شهد عندي نفر فيهم عمر ـ وعمر أصدقهم ـ أنّها عنده على ما بقي من طلاقها. ذكروا عن الحسن عن أبيّ بن كعب قال : هي عنده على ما بقي من طلاقها ،

__________________

ـ الإباضيّة قديم. قال أبو الحواري في تفسير الخمسمائة آية ص ١٨٤ : «وإن جامعها من قبل أن يشهد بانت عنه ولا يتزوّجها أبدا». وفي المدوّنة الكبرى لأبي غانم الخراسانيّ ، ج ٢ ص ٩٢ ما يلي : «قلت : فرجل طلّق امرأته وأشهد وغشيها في العدّة ولم يشهد؟ قال : حدّثني أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عبّاس أنّه قال : حرمت عليه أبدا ولو نكحت أزواجا غيره فماتوا أو طلّقوها لم تحلّ له أبدا». وجاء في المدوّنة ، ج ٢ ص ٩٠ : «قال المرتّب : جاء الحديث : من راجع بلا إشهاد فهو زان» (كذا) ولم أجد هذا الحديث فيما بين يديّ من المصادر.

(١) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٢٢٨ من سورة البقرة.

٣٣٧

وهو قول عليّ وعمران بن حصين.

قوله عزوجل : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) : أي يقوم من كانت عنده فليؤدّها ولا يكتمها (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣].

قال عزوجل : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (٢) : تفسير الحسن : يجعل له مخرجا من الشرك إذا تاب ، ويغفر له ما مضى (١). ذكروا عن الأعمش قال : إنّ المخرج أنّه من قبل الله ، وأنّه هو الذي يعطيه ويمنعه. قال عزوجل : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) : أي من حيث لا يرجو.

قال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) : أي قاض (٢) أمره على من توكّل عليه وعلى من لم يتوكّل عليه. (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣) : أي منتهى ينتهي إليه.

قوله عزوجل : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) : [أي : إن شككتم] (٣) يعني بقوله : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) الأزواج ، وبقوله : (يَئِسْنَ) النساء عند أنفسهنّ (مِنَ الْمَحِيضِ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) : أي هي مأمونة في ذلك. وقال في آية أخرى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فالمرأة مأمونة على عدّتها. قال عزوجل : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] أي : لا تقول : أنا حامل وليست بحامل ، ولا تقول : إنّي لست بحامل وهي حامل ، ولا تقول : إنّي لست بحائض ، وهي حائض ، ولا تقول : إنّي حائض وليست بحائض. وقال الحسن : إذا كانت المرأة لا تحيض إلّا كلّ سنة اعتدّت به إذا علم أنّه حيضها. غير واحد من العلماء قال : تعتدّ بالحيض ما كان ، إلّا أن يعلم أنّه قطع.

ذكروا عن عكرمة أنّه قال : من الريبة المستحاضة والتي لا يستقيم لها حيض ؛ تحيض في الشهر مرّتين وفي الشهر مرّة ، فعدّتها ثلاثة أشهر. والعامّة أنّ حيضها إذا كان في الشهر مرّتين

__________________

(١) كذا في ق وع ، وفي ز ورقة ٣٦٥ : «تفسير ابن عبّاس في قوله عزوجل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) قال : من كلّ ضيق».

(٢) كذا في ق وع ، وفي ز : «أي يبلغ أمره على من توكّل عليه ...».

(٣) زيادة من ز.

٣٣٨

اعتدّت به ، ولا يكون دون ذلك. ذكر الزهريّ عن سعيد بن المسيّب قال : عدّة المستحاضة سنة. ذكروا عن الحسن وعطاء والحكم بن عيينة أنّهم قالوا في المستحاضة إذا طلّقت أنّها تعتدّ أيّام أقرائها. ذكروا أنّ عمر بن الخطّاب قال في التي تطلّق ثمّ تحيض حيضة أو حيضتين ، ثمّ ترتفع حيضتها أنّها تعتدّ تسعة أشهر. فإن تبيّن حملها وإلّا اعتدّت ثلاثة أشهر.

ذكروا عن حمّاد بن إبراهيم عن علقمة أنّه طلّق امرأته فحاضت حيضتين ، ثمّ لبثت في الحيضة الأخرى ، قال بعضهم : ثمانية عشر شهرا ، وقال بعضهم : ستّة عشر شهرا ، ثمّ ماتت. فقال عبد الله بن مسعود : حبس الله عليك ميراثها بكلّها (١).

وقول أصحابنا في هذا أنّها تعتدّ بالحيض ما كانت إلّا أن تكون قعدت عن المحيض فتعتدّ ثلاثة أشهر.

قوله عزوجل : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) : وهذه التي لم تبلغ الحلم ، هي مع اللائي يئسن من المحيض ، وكذلك الضهياء التي لا تحيض ، عدّتها ثلاثة أشهر.

قوله عزوجل : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) : هذه نسخت (٢) التي في سورة البقرة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤]. وإن كانت حاملا فأجلها أبعد الأجلين في قول عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس. وهو قول جابر بن زيد وأبي عبيدة والعامّة من فقهائنا. وفيها اختلاف. وقول العامة : إنّها نسخ منها الحامل فجعل أجلها أن تضع حملها. وهو قول أهل الخلاف ، ورووه عن أبيّ بن كعب وعمر بن الخطّاب وعبد الله بن مسعود (٣).

قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ

__________________

(١) كذا في ق وع : «بكلها» ، ولست مطمئنّا إلى صحّة الكلمة ، ولعلّ بها تصحيفا ، أو «بكلّه».

(٢) كذا في ز : «نسخت» ، وفي ق : «هذه هي التي في البقرة» ، وفي ع كلمة مطموسة.

(٣) اعتمادا على هذا القول الأخير يمكن لامرأة توفّي عنها زوجها وهي حامل فوضعت حملها بعد ساعة أو ساعتين أن تتزوّج في نفس اليوم لأنّها تكون قد خرجت من عدّتها بوضعها. لذا كان رأي الإمام عليّ وابن عبّاس أولى بالاعتبار وأنسب لحرمة الزوج ، خاصّة إذا تأملنا قوله تعالى : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) وأدركنا أنّ العدّة حقّ للزوج ؛ ومن الوفاء له أن تعتدّ المرأة بأبعد الأجلين.

٣٣٩

أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) : أي في القرآن. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (٥).

قوله عزوجل : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) : أي من سعتكم ، يعني أنّ لها المسكن حتّى تنقضي العدّة (وَلا تُضآرُّوهُنَّ) : أي في المسكن (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) : أي إن كانت حاملا أنفق عليها حتّى تضع حملها إذا طلّقها.

ذكروا عن سعيد بن المسيّب أنّه قال : المطلّقة ثلاثا وليست حبلى لها السكنى ولا نفقة لها. ذكروا عن ابن عمر أنّه قال : المطلّقة ثلاثا لا تنتقل ، وهي في ذلك لا نفقة لها (١).

ذكروا أنّ عليّا كان يقول : أيّما رجل طلّق امرأته فلينفق عليها حتّى يتبيّن له أنّها حامل أو لا. فإن كانت حاملا أنفق عليها حتّى تضع حملها ، وإن لم يكن حمل فلا نفقة لها.

وذكر عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس وابن الزبير قالا : نفقتها من نصيبها.

وقال ابن مسعود : النفقة من جميع المال. وبقول ابن عبّاس وابن الزبير يأخذ أصحابنا وعليه يعتمدون ، وهو قول أبي عبيدة والعامّة من فقهائنا.

قوله : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) : أي أجر الرضاع (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) : يعني الرجل والمرأة (٢).

(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) : أي في الرضاع (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) (٦) : أي فاسترضعوا له امرأة أخرى. وهو قوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٣٣].

قال تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) : أي : قتر عليه رزقه (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) : أي من النفقة على مطلّقته (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) : أي إلّا ما أعطاها من الرزق (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧) : أي سيجعل الله بعد ما قتر

__________________

(١) انظر : الدكتور محمّد رواس قلعه جي : موسوعة فقه عبد الله بن عمر ، (نفقة) ص ٧٠٢.

(٢) جاء في ز ما يلي : «قال محمّد : يقول : ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف في رضاع المولود والرفق به حتّى تتّفقوا على شيء معلوم من أجر الرضاع».

٣٤٠