تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

قوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) : أي لا تنفع شفاعتهم المشركين والمنافقين شيئا ، إنّما يشفعون للمؤمنين ولا يشفعون (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢٦) : هو كقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] وكقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] ، وكقوله : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) [الزخرف : ٨٦] أي : قال : لا اله إلّا الله ، وعمل بفرائض الله.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) : أي بأنّهم إناث ولا بأنّهم بنات الله. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) : أي إنّ ذلك منهم ظنّ. قال : (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢٩) : أي تغنيهم (١). وهي منسوخة ، نسختها آية القتال ، هي قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

قال : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) : أي إنّ علمهم لم يبلغ الآخرة. كقوله عزوجل : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٦٦) [النمل : ٦٦]. وقال مجاهد : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي [مبلغ] (٢) رأيهم.

قوله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) : أي إنّ المشركين هم الذين ضلّوا عن سبيله (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) : أي إنّ النبيّ والمؤمنين هم المهتدون.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا) : أي أشركوا (بِما عَمِلُوا) : أي ليجزيهم النار (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) : أي آمنوا (بِالْحُسْنَى) (٣١) : أي الجنّة.

قوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ).

__________________

(١) كذا وردت الكلمة في ق : «تغنيهم» ولست مطمئنّا إليها ، وأشكلت الكلمة على ناسخ ع فكتبها هكذا : «لعهم».

(٢) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٦٣١. وهذا أحسن تأويلا. قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٠٠ : «صغر بهم ، يقول : ذلك قدر عقولهم ، ومبلغ علمهم حين آثروا الدنيا على الآخرة ؛ ويقال : ذلك مبلغهم من العلم أن جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله».

٢٢١

ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : الكبائر من أوّل سورة النساء إلى رأس الثلاثين. قال عزوجل : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١].

ذكروا عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الكبائر تسع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وقذف المحصنات ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والسحر ، والفرار من الزحف ، واستحلال البيت الحرام ، قبلتكم التي توجّهون إليها (١).

ذكروا عن الحسن قال : كان الفرار من الزحف يوم بدر من الكبائر خاصّة. قال بعضهم : ويحدّثون أنّ الفرار من الزحف يوم ملحمة الروم الكبرى من الكبائر لأنّ المسلمين مجتمعون يومئذ كما كانوا يوم بدر.

ذكروا عن الحسن قال : ذكرت الكبائر عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أين تجعلون اليمين الغموس (٢)؟.

ذكروا عن عوف قال : مرّ بنا أبو العالية الرياحيّ فقال : اتّقوا كبائر تسعا ، إنّي أراها تسعا وتسعا وتسعا ، حتّى عدّ أربعين أو أكثر.

غير واحد من العلماء المأخوذ عنهم ، والمقبول منهم قال : كلّ ما أوجب الله عليه الحدّ في الدنيا وأوعد عليه وعيدا في الآخرة فهو كبيرة. وقال : وكلّ ما عذّب الله عليه عذابا في الدنيا أو في الآخرة فليس بصغيرة.

ذكروا عن قيس بن سعد أنّ ابن عبّاس قال : كلّ ذنب تاب منه العبد فليس بكبيرة ، وكلّ ذنب أقام عليه العبد حتّى يموت فهو كبيرة.

وقال بعضهم : كان يقال : لا قليل مع الإصرار ، ولا كبير مع توبة واستغفار. والاستغفار مكنسة للذنوب. وقوله عزوجل : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) [البقرة : ١٩٩] أي : لا تعودوا.

تأويل هذا الحديث : إذا كان ذنب فيما بين العبد وبين الله فالتوبة إلى الله والاستغفار يجزيانه

__________________

(١) انظر الإشارة إلى الحديث فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٣١ من سورة النساء.

(٢) انظر في ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٧٧ من سورة آل عمران.

٢٢٢

باللسان. وإن كان ذنب فيما بينه وبين الناس من القتل وذهاب الأموال فلا يجزيه إلّا القود من نفسه والانتصال (١) من أموال الناس إذا كان يقدر على ردّ أموالهم.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه يوما : ما تعدّون الزنا والسرقة وشرب الخمر؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : كبائر وفواحش ، وفيهنّ العقوبة. ثمّ قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بحقّها ، وعقوق الوالدين. وكان متّكئا فجلس ، ثمّ قال : ألا وقول الزور ، ألا وقول الزور ، ألا وإنّ لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة بقدر غدرته يركز عند مقعدته ، ألا ولا غدرة أكبر من غدرة أمير عامّة (٢).

ذكروا عن سعيد مولى ابن عبّاس ، أنّه ذكرت عنده الخمر فقال : ليست من الكبائر. فقال ابن عبّاس : بل هي أكبر الكبائر ، إنّه إذا شرب زنى ، وفعل ، وفعل. وقوله عزوجل : (إِلَّا اللَّمَمَ) : ذكروا عن عكرمة قال : ما دون الحدّين (٣) [كلّ ذنب ليس فيه حدّ في الدنيا ولا عذاب في الآخرة فهو اللمم].

وقال الحسن : اللّمم : ما يلمّ به من الزنا والسرقة وشرب الخمر ، ثمّ لا يعود. تأويل حديث الحسن : أن يلمّ بشيء من هذا أن يفعله ولا يفعله ثمّ لا يعود أن يلمّ بها.

ذكروا عن أبي هريرة في اللمم أنّه قال : العين تزني ، وزناها النظر ، واليد تزني وزناها اللمس ، والرجل تزني وزناها المشي ، والنفس تهوى وتحدّث ، ويصدّق ذلك ويكذّبه الفرج.

ذكروا عن أبي هريرة [عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (٤) قال : كلّ بني آدم قد أصاب من الزنا لا محالة ؛

__________________

(١) لم أجد فيما بين يدي من معاجم اللغة هذا المصدر «الانتصال» ، وإنّما هو «التنصّل». يقال : تنصّل من ذنبه إذا تبرّأ منه. ومنه الحديث : «من لم يقبل من متنصّل صادقا أو كاذبا لم يرد عليّ الحوض» ، كما أورده الزمخشريّ في أساس البلاغة : (نصل) وذكر ابن منظور في اللسان ما يلي : «وفي الحديث : من تنصّل إليه أخوه فلم يقبل ، أي انتفى من ذنبه واعتذر إليه ...».

(٢) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٣١ من سورة النساء.

(٣) في تفسير الطبري : «ما بين الحدين» وما جاء بين المعقوفين زيادة للإيضاح من تفسير الطبري ، ج ٢٧ ص ٦٨.

(٤) زيادة لا بدّ منها لأنّ الحديث روي عن أبي هريرة مرفوعا.

٢٢٣

فالعين تزني وزناها النظر ، واليد تزني وزناها اللمس ، والرجل تزني وزناها المشي ، والنفس تهوى وتحدّث ، ويصدّق ذلك كلّه ويكذّبه الفرج (١).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة كفّارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر (٢).

قوله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) : أي يغفر ما دون الكبائر أي : يكفّرها بالصلوات الخمس.

قال غير واحد من العلماء : إنّ ما دون الكبائر مكفّر محطوط ، شرط من الله وثيق ، وهو قوله (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١]. فإذا اجتنبت الكبائر كانت هذه السيّئات مكفّرة مغفورة ، محطوطة باجتناب الكبائر. ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مثل الصلوات الخمس كمثل رجل على بابه نهر جار عذب ينغمس فيه كلّ يوم خمس مرّات ، فماذا يبقى من درنه (٣). وتفسير درنه : إثمه.

قوله عزوجل : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) : أي خلقكم من الأرض (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) : والأجنة من باب الجنين في بطن أمّه. قال تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢).

ذكروا عن الحسن عن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يقولنّ أحد : إنّي قمت رمضان

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة في كتاب الاستئذان ، باب زنا الجوارح دون الفرج ولفظه : «عن ابن عبّاس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم ممّا قال أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تمنّي وتشتهي ، والفرج يصدّق ذلك كلّه ويكذّبه».

(٢) انظر الإشارة إليه فيما مضى ، ج ١ ، تفسير الآية ٣١ من سورة النساء.

(٣) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة في كتاب الصلاة ، باب الصلوات الخمس كفّارة. وفي آخره : «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا». وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات عن جابر بن عبد الله مرفوعا ولفظه : «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كلّ يوم خمس مرات ...» قال : قال الحسن : «وما يبقى ذلك من الدرن».

٢٢٤

كلّه (١). فالله أعلم أكان يخشى التزكية على أمّته ، أم يقول : لا بدّ من رقاد وغفلة.

ذكروا عن الأعمش عن بعض أصحابه أنّ رجلا قال لأصحاب عبد الله بن مسعود : لقد قرأت البارحة كذا وكذا سورة. فذكروا ذلك لعبد الله بن مسعود فقال : أخبروه أنّ حظه من ذلك الذي تكلّم به. وذكروا عن بعضهم قال : كانت اليهود تقدّم أولادها فيصلّون بهم ، وقالوا ليست لهم ذنوب ، فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) [النساء : ٤٩].

وذكر بعضهم عن ثابت بن الحارث الأنصاريّ قال : كانت اليهود تقول لأولادها [إذا هلك صبيّ صغير : هذا] (٢) صدّيق. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمّها إلّا أنّه شقيّ أو سعيد (٣). فأنزل الله عند ذلك هذه الآية : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ، إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ ، أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى).

وتفسير الكلبيّ : ألّا يزكّي بعضكم بعضا. قال بعض العلماء : فإذا زكّى نفسه زكى أشد (٤).

قوله عزوجل : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) (٣٣) : أي عن الإيمان ، يعني المشرك ، والتولّي هاهنا الشرك ، لأنّ السورة مكّيّة. (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) (٣٤) : [تفسير عكرمة : أعطى قليلا ثمّ قطعه] (٥). قال بعضهم : إنّما قلّ لأنّه كان لغير الله. (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٣٥) : أي يختار لنفسه الجنّة إن كانت جنّة ، على تفسير الحسن. وتفسير الكلبيّ أنّ رجلا من أصحاب النبيّ عليه‌السلام كان ذا متاع حسن ، فأعطى عطيّة. فزعم أنّه يريد بها وجه الله. ثمّ أتاه أخ له من الرضاعة فقال له : ما تريد يا فلان بما تصنع من إهلاك مالك؟ قال : أريد به وجه الله وليكفّر به

__________________

(١) لم أجد هذا الحديث فيما بين يديّ من مصادر التفسير والحديث ، ولعلّه ممّا انفرد بروايته ابن سلّام.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٣٤٤ لا بدّ من إثباتها ليتّضح المعنى.

(٣) رواه ابن سلّام كما جاء في ز ورقة ٣٤٤ بالسند التالي : «يحيى عن ابن لهيعة عن الحارث عن يزيد عن ثابت بن الحارث الأنصاريّ» ، ولم أجده فيما بين يديّ من مصادر الحديث والسنّة بهذا اللفظ. وإن كان معناه ثابتا في كتب السنّة.

(٤) كذا في ق : «زكى أشد» ، وفي ع : «زكى وأشد» ، وكلاهما غير واضح المعنى.

(٥) زيادة من ز ، ورقة ٣٤٤. وقال ابن أبي زمنين : «وأصل الكلمة من كدية البئر ، وهي الصلابة فيها. فإذا بلغها الحافر يئس من حفرها فقطع الحفر. فقيل لكل من طلب شيئا فلم يبلغ آخره وأعطى ولم يتمم : أكدى». وانظر مجاز أبي عبيدة ، ج ٢ ص ٢٣٨.

٢٢٥

خطيئاتي. قال : فأعطني ناقتك هذه وأتحمّل عنك ذنوبك من يومك هذا إلى يوم تموت ، فأنزل الله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى).

قال : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣٨) : أي : لا يحمل أحد ذنوب أحد.

ذكروا عن عطاء بن السايب عن عكرمة عن ابن عبّاس في قوله : (الَّذِي وَفَّى) قال : عشر الخصال التي من السنّة ؛ خمس في الرأس ، وخمس في الجسد.

وقال بعضهم : ركعتان قبل الفجر. وقال بعضهم : وقى يومه بأربع ركعات من أوّل النهار. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الله يقول : يا ابن آدم ، أتعجز أن تصلّي أربع ركعات من أوّل نهارك أكفك آخره؟ (١).

قال : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) : أي إلّا ما عمل (وَأَنَّ سَعْيَهُ) : أي عمله (سَوْفَ يُرى) (٤٠) : أي سوف يتبيّن (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١). قال : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢) : أي المصير.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٤٣) : أي خلق الضحك والبكاء. (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (٤٤) : أي : خلق الموت والحياة. وقال في آية أخرى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢].

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٤٥) : الواحد منهما زوج.

(مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) (٤٦) : أي إذا أمناها الرجل ، وقد يجتمع ماء الرجل وماء المرأة. (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) (٤٧) : أي البعث.

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر ، وأخرجه الترمذيّ في أبواب الصلاة ، باب ما جاء في صلاة الضحى ، من حديث أبي الدرداء وأبي ذرّ ، وقال الترمذيّ : حديث حسن غريب ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب صلاة الضحى (رقم ١٢٨٩) عن نعيم بن همار بلفظ : «يقول الله عزوجل : يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أوّل النهار أكفك آخره». قيل : إنّ نعيم بن همار لم يرو إلّا هذا الحديث.

٢٢٦

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) (٤٨) : [أي أغنى عبده وأقناه] (١) من قبل القنية. وتفسير الحسن : أقنى أي : أخدم. وقال بعضهم : أغنى بالذهب والفضّة والثياب والمساكن ، وأقنى بالرقيق والإبل والغنم ، وهو أيضا من الغنى (٢). ذكروا أيضا عن عبد الله بن جبير عن رجل خدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كان النبيّ عليه‌السلام إذا فرغ من طعامه قال : اللهمّ لك الحمد على ما أنعمت وأطعمت وسقيت. أو قال : أنت أطعمت وسقيت ، وأغنيت وأقنيت ، فلك الحمد (٣).

قوله عزوجل : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٤٩) : وهي الكوكب الذي خلف الجوزاء ، كان يعبدها قوم. وقال مجاهد : مرزم الجوزاء ، يعني الكوكب الذي يتوقّد في الجوزاء.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٠) : وهي عاد واحدة ولم يكن قبلها عاد (٤). قال : (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) (٥١) : أي أهلكهم فلم يبقهم.

(وَقَوْمَ نُوحٍ) : أي وأهلك قوم نوح (مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل عاد وثمود (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) (٥٢) : أي إنّهم كانوا هم أوّل من كذّب الرسل.

قال : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) (٥٣) : يعني قرى قوم لوط ، رفعها جبريل بجناحه حتّى سمع أهل سماء الدنيا صراخ كلابهم ثمّ قلبها. والمؤتفكة المنقلبة.

قال تعالى : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٥٤) : أي الحجارة التي رمى بها من كان خارجا من المدينة وأهل السفر منهم.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٣٤٤.

(٢) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٠٢ : «رضّى الفقير بما أغناه به. (وَأَقْنى) من القنية والنشب». وقال ابن أبي زمنين في ورقة ٣٤٤ : «تقول : أقنيت كذا ، أي : عملت على أنّه يكون عندي لا أخرجه من يدي ، فكأنّ معنى أقنى جعل الغنى أصلا لصاحبه ثابتا». وانظر اللسان : (قنا).

(٣) أخرجه أحمد عن رجل خدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمان سنين ولفظه : «كان إذا قرّب إليه الطعام يقول : بسم الله ، وإذا فرغ قال : اللهمّ إنّك أطعمت وسقيت ، وأغنيت وأقنيت وهديت واحتبيت ، اللهمّ فلك الحمد على ما أعطيت».

(٤) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢٠١ : «وقوله : (عاداً الْأُولى) بغير همز : قوم هود خاصّة ، بقيت منهم بقيّة نجوا مع لوط ، فسمّى أصحاب هود عادا الأولى».

٢٢٧

قال عزّ من قائل : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) (٥٥) : أي تشكّ ، أي إنّك لا تشكّ.

ثمّ قال للناس : (هذا نَذِيرٌ) : يعني محمّدا عليه‌السلام (مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (٥٦) : أي جاء بما جاءت به الرسل الأولى.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٥٧) : أي دنت القيامة. كقوله عزوجل : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) (٥٨) : أي ليس يستطيع أحد أن يكشفها ولا يدفعها إلّا الله ، يعني قيامها (١).

قال تعالى : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) : يعني القرآن (تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ) : يعني المشركين ، أي : قد فعلتم. (وَلا تَبْكُونَ) (٦٠) : أي ينبغي لكم أن تبكوا.

(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٦١) : أي غافلون (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) : أي : فصلّوا لله.

(وَاعْبُدُوا) (٦٢) : أي : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، لا إله إلّا هو الحيّ القيوم.

* * *

__________________

(١) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٠٣ : «يقول : ليس يعلمها كاشف دون الله. أي : لا يعلم علمها غير ربّي. وتأنيث (الكاشفة) كقولك : ما لفلان باقية. أي : بقاء ، والعافية والعاقبة. وليس له ناهية ، كلّ هذا في معنى المصدر».

٢٢٨

تفسير سورة اقتربت الساعة (١) ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله عزوجل : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) : أي دنت الساعة. ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّما مثلي ومثل الساعة كهاتين ، فما فضل إحداهما على الأخرى. فجمع بين أصبعيه الوسطى والتي يقول لها الناس السبّابة (٢). ذكروا عن عمران الحوليّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حين بعثت بعث إلى صاحب الصور ، فأهوى به إلى فيه ، فقدّم رجلا وأخّر أخرى ينظر متى يؤمر فينفخ ، ألا فاتّقوا النفخة (٣).

ذكروا عن أبي سعيد الخدريّ قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما على أصحابه فقال : كيف أنعم وصاحب الصور قد حنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر الإذن متى يؤمر فينفخ (٤).

قوله عزوجل : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) : [ذكروا عن عطاء بن السايب عن أبي عبد الرحمن السلميّ قال : نزلنا المدائن ، فكنّا منها على فرسخ ، فجاءت الجمعة. فحضر أبي. وحضرت معه. فخطبنا حذيفة فقال : ألا إنّ الله يقول : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ، ألا وإنّ الساعة قد اقتربت] (٥) ، ألا إنّ القمر قد انشقّ. ذكروا عن العطّار أنّ عبد الله بن مسعود قال : انشقّ القمر شقّين (٦) ، حتّى رأيت أبا قبيس بينهما. وبعضهم يقول : حراء.

__________________

(١) في ق وع : «تفسير سورة اقتربت» ، وأثبتّ ما جاء في ز ، ورقة ٣٤٤ : «سورة اقتربت الساعة» ، وكذلك جاءت في تفسير الطبريّ ، ج ٢٧ ص ٨٤.

(٢) انظر الإشارة إليه فيما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية الأولى من سورة الأنبياء.

(٣) انظر نفس المكان.

(٤) أخرجه البغويّ في شرح السنّة ، ج ١٥ ص ١٠٣.

(٥) في ق : «ألا إنّ القمر قد استوى» ، وفي ع : «ألا إن انشق القمر قد استوى». كذا بدون ذكر لقائل هذا القول. وغلب على ظنّي أنّ سطرا أو أكثر قد سقط من ق وع. فأثبتّ ما بدا لي أنّه الصواب بين معقوفين من تفسير الطبريّ ، ج ٢٧ ص ٨٦ حتّى تستقيم العبارة.

(٦) في ق وع : «جزآن» ، وأثبتّ ما بدا لي أصحّ وأدقّ : «شقّين» من ز ورقة ٣٤٤. يؤيّده ما أورده الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٠٤ حيث قال : «ذكر أنّه انشقّ وأنّ عبد الله بن مسعود رأى حراء من بين فلقتيه ، فلقتي القمر».

٢٢٩

قال تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) : يعني المشركين (يُعْرِضُوا) : أي عنها. (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢) : أي ذاهب. وذلك قولهم (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٥) [الأنبياء : ٥].

قال عزوجل : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (٣) : أي لأهله إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

قال تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) : أي من الأخبار ، أخبار الأمم السالفة حين كذّبوا رسلهم فأهلكهم الله (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (٤) : أي عمّا هم عليه من الشرك ومن التكذيب.

قال تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) : أي القرآن (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥) [يونس : ١٠١].

قال تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) : أي صاحب الصور.

(إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (٦) : أي إلى شيء عظيم. (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) أي : فتولّ عنهم في الدنيا فستراهم يوم القيامة خشّعا أبصارهم : أي ذليلة أبصارهم. وكان هذا قبل أن يؤمر بقتالهم. (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) : أي من القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٧) : شبّههم بالجراد إذا أدركه الليل لزم الأرض ، فإذا أصبح وطلعت الشمس انتشر (١).

قوله عزوجل : (مُهْطِعِينَ) : أي منطلقين سراعا (إِلَى الدَّاعِ) : صاحب الصور ، إلى بيت المقدس (يَقُولُ الْكافِرُونَ) : أي يومئذ (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨). لقد علم الكافرون يومئذ أي (٢) عسر ذلك اليوم عليهم ، وليس لهم من يسره شيء.

قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) : أي قبل قومك يا محمّد. (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) : أي نوحا. (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (٩) : أي تهدّد بالقتل ، في تفسير الحسن. وقال مجاهد : واستطير جنونا.

قال : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١٠) : [أي : فانتقم لي من قومي] (٣) فنصره الله وأهلك قومه.

__________________

(١) هذا تفسير للحسن ، كما جاء في ز ، ورقة ٣٤٥.

(٢) كذا في ق وع. وفي ز : «يعلم الكافرون يومئذ أن عسر ذلك اليوم عليهم ...».

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٤٥.

٢٣٠

قال : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (١١) : أي بماء منصبّ بعضه على بعض ، وليس بمطر. (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) : أي فصارت الأرض عيونا. وتفسير الكلبيّ : إنّ ماء السماء وماء الأرض كانا سواء. قال تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ) : أي ماء السماء وماء الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (١٢) : أي على إهلاك قوم نوح.

قال تعالى : (وَحَمَلْناهُ) : يعني نوحا (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) : يعني السفينة (وَدُسُرٍ) (١٣) : والدسر : المسامير في تفسير بعضهم (١) : وذلك قول الشاعر :

ودسّرها نوح وأيقن أنّها

وأعلم أنّ الله قد كان عالما

وقال الحسن : دسرها : صدرها. وقال الكلبيّ : دسرها : عوارضها ، وقال مجاهد : أضلاعها.

وقال تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) : كقوله عزوجل : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٤٦) [طه : ٤٦] قال : (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (١٤) : أي جزاء لنوح إذ كفره قومه ، وجحدوا ما جاء به ، يعني إنجاء الله إيّاه في السفينة.

قوله : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) : لمن بعدهم ، يعني السفينة. قال بعضهم أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة ، حتّى أدركها أوائل هذه الأمّة. وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا.

قال : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٥) : أي متفكّر ؛ يأمرهم أن يعتبروا أو يحذروا أن ينزل بهم ما نزل بهم ، فيؤمنوا. قال : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١٦) (٢) أي : كان شديدا (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) : أي ليذكروا الله (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧) : وهي مثل الأولى.

قال تعالى : [(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) : والصرصر الباردة الشديدة البرد ، أحرقت أجوافهم ، وهي ريح الدّبور. قال : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) : أي مشؤوم (مُسْتَمِرٍّ) (١٩) : أي استمرّ بالعذاب. (تَنْزِعُ النَّاسَ) : أي تنزع

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٤٠ : «الدسر : المسامير والخرز ، واحدها : دسار. يقال : هات لي دسارا». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٠٦ : «مسامير السفينة ، وشرطها التي تشدّ بها».

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٠٧ : «النّذر هاهنا مصدر ، معناه : فكيف كان إنذاري. ومثله : (عُذْراً أَوْ نُذْراً) يخفّفان وبثقّلان ...».

٢٣١

أرواح الناس وتصرعهم ، (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢٠) : شبّههم في طولهم وعظمهم بالأعجاز ، وهي النخل التي قد انقلعت من أصولها فسقطت على الأرض. قال تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٢١) : أي كان شديدا. وهي مثل الأولى. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢٢) : وهي مثل الأولى.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) (٢٣) : أي بالرسل ، يعني صالحا (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) : يعنون صالحا (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ) : أي في ضلال من ديننا (وَسُعُرٍ) (٢٤) : أي في عذاب ، في تفسير الحسن. وقال مجاهد : (لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي : وشقاء (١).

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) : على الاستفهام منهم ، وهذا استفهام على إنكار ؛ أي : لم ينزل عليه الذكر من بيننا. يجحدون الذكر الذي جاء به صالح. (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) (٢٥) : والأشر اللّعّاب ، وهو من باب الأشر (٢). قال تعالى : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) (٢٦). قال الحسن : يوم القيامة. جعل الله قرب الآخرة من الدنيا كقرب اليوم من غد. قال : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) (٢٦) أي اللّعّاب ، لأنّ الكافر في الدنيا في لعب ، كقوله عزوجل : (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) (١٢) [الطور : ١٢] وما أشبه ذلك. وقالوا لإبراهيم : (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) (٥٥) [الأنبياء : ٥٥].

ثمّ قال : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) : أي بليّة لهم. (فَارْتَقِبْهُمْ) : أي انظر ماذا يصنعون (وَاصْطَبِرْ) (٢٧) : أي على ما يصنعون وعلى ما يقولون ، أي : إذا جاءت الناقة. وقد فسّرنا أمر الناقة في طسم الشعراء (٣).

__________________

(١) كذا في ق وع وز : «وسعر ، أي : وشقاء في تفسير مجاهد. أمّا في تفسير مجاهد ، ص ٦٣٧ فجاء فيه ما يلي : «قال : السّعر الضلال أيضا» ، وفي معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ١٠٨ : «أراد بالسعر : العناء للعذاب». وقال أبو عبيدة : «جمع سعيرة». وفي اللسان : «في ضلالة وجنون». ونسب فيه هذا القول إلى الفارسيّ. والصحيح ما ذهب إليه الفرّاء وقتادة من أنّ السعر هو العذاب ، وهو جمع سعير كما ذكره الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٧ ص ١٠٠.

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٤١ : «الأشر : ذو التجبّر والكبرياء ، وربّما كان النشاط». وقال الطبريّ : «يعنون بالأشر المرح ذا التجبّر والكبرياء والمرح من النشاط».

(٣) انظر ما مضى من هذا التفسير ، ج ٣ ، تفسير الآية ١٥٨ من سورة الشعراء.

٢٣٢

قال تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) : وهذا بعد ما جاءتهم الناقة. (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) (٢٨) : أي تشرب الناقة الماء يوما ويشربونه يوما (١).

قال : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) (٢٩) : أي الناقة.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٠) : وهي مثل الأولى.

قال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) : والصيحة : العذاب جاءهم. (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٣١) : وهي تقرأ على وجهين : (الْمُحْتَظِرِ) و (الْمُحْتَظِرِ). وهو النبات إذا هاج فذرته الرياح فصار حظائر (٢). وهذا تفسير من قرأ : (الْمُحْتَظِرِ) بكسر الظاء.

ومن قرأ (الْمُحْتَظِرِ) بفتح الظاء فالمعنى : الذي جعل حظائر ، شبّههم بذلك (٣).

قال عزوجل : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣٢) : وهي مثل الأولى.

قوله عزوجل : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) (٣٣) : أي بالرسل ، يعني لوطا (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) : يعني الحجارة التي رمى بها من كان منهم خارجا من المدينة وأهل السفر منهم وأصاب مدينتهم الخسف.

قال عزوجل : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) : يعني من آمن منهم (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) (٣٤) : وهو قوله : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٦) [الذاريات : ٣٦].

قال عزوجل : (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) : بمعنى نجّيناهم بالإنعام عليهم. (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) (٣٥) : أي : من آمن.

__________________

(١) قال محمّد بن أبي زمنين ، كما جاء في ز ورقة ٣٤٦ : «معنى (محتضر) يحضر القوم الشرب يوما وتحضره الناقة يوما». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١٠٨ : «يحتضره أهله ومن يستحقّه». وكذا قال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٤٣٣.

(٢) في ق وع : «فصار حطاما» ، والصواب ما أثبتّه : «حظائر» من ز ورقة ٣٤٦.

(٣) قال الفرّاء في المعاني : (الْمُحْتَظِرِ) التي يحتظر على هشيمه. وقرأ الحسن وحده : (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) فتح الظاء فأضاف الهشيم إلى المحتظر ، وهو كما قال : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) والحقّ هو اليقين وكما قال : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) فأضاف الدار إلى الآخرة ، وهي الآخرة. والهشيم : الشجر إذا يبس».

٢٣٣

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) : أي عذابنا (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) (٣٦) : أي كذّبوا بما قال لهم لوط (١).

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٧) : وهي مثل الأولى. وقد فسّرنا حديثهم في سورة هود ، في حديث حذيفة بن اليمان (٢).

وقال عزوجل : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) (٣٨) : أي استقرّ بهم العذاب. قال عزوجل : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٤٠) وهي مثل الأولى.

قال تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) (٤١) : أي الرسل ؛ يعني موسى وهارون عليهما‌السلام(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) : يعني التسع ، أي : اليد والعصا والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم ، وقال عزوجل : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) [الأعراف : ١٣٠]. قال عزوجل : (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (٤٢) : أي على خلقه. أي : عذّبهم بالغرق.

قال عزوجل : (أَكُفَّارُكُمْ) : [يعني أهل مكّة] (٣) (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) : يعني من أهلك من الأمم السالفة ، أي : ليسوا بخير منهم ، كانوا أشدّ منهم قوّة وأكثر أموالا وأولادا.

قال عزوجل : (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) (٤٣) : أي براءة من العذاب في الكتب (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (٤٤) : أي [بل يقولون] (٤) نحن جميع منتصر. (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) : يعني يوم بدر.

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) : تفسير موعدهم هذا بعذاب الاستئصال يعني كفّار آخر هذه

__________________

(١) جاءت العبارة مضطربة فاسدة ، فأثبتّ تصحيحها ممّا جاء في ز : ورقة ٣٤٦.

(٢) انظر ما مضى من هذا التفسير ، ج ٢ ، تفسير الآيات ٧٤ ـ ٨٣ من سورة هود.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٣٤٦.

(٤) زيادة من ز أيضا. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١١٠ : (أَمْ يَقُولُونَ) أي : أيقولون نحن جميع كثير منتصر».

٢٣٤

الأمّة ، في تفسير الحسن. (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) : أي من تلك الأحداث التي أهلك الله بها الأمم السالفة. (وَأَمَرُّ) (٤٦) : أي وأشدّ (١). قال الحسن : إنّ الله معذّب كفّار آخر هذه الأمّة بعذاب لم يعذّب به أمّة من الأمم ، وهي النفخة الأولى.

قوله عزوجل : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) : أي المشركين (فِي ضَلالٍ) : أي عن الهدى.

(وَسُعُرٍ) (٤٧) : أي في عذاب ، في تفسير الحسن. وقال مجاهد : في سعر : أي في شقاء. (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) : أي تسحبهم الملائكة (ذُوقُوا) : أي يقال لهم في النار : ذوقوا (مَسَّ سَقَرَ) (٤٨) : وسقر اسم من أسماء جهنّم (٢).

قوله عزوجل : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) : ذكروا عن سعيد بن جبير عن عليّ قال : كلّ شيء بقدر حتّى هذه ، ووضع إصبعه السبّابة على طرف لسانه ، ثمّ وضعها على طرف إبهامه اليسرى.

ذكروا عن عليّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يؤمن العبد حتّى يؤمن بأربعة : يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله بعثني بالحقّ ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر(٣).

ذكروا عن عطاء بن السايب عن عليّ قال : لا يجد عبد طعم حقيقة الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

ذكروا عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر (٤) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينما هو في ملإ من أصحابه إذ أقبل رجل حتّى سلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والملأ ، فردّ عليه‌السلام فقال : يا محمّد ، ألا تخبرني ما الإيمان؟ فقال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت

__________________

(١) كذا في ق وع : «وأشد» ، وفي ز : «وأشر».

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٣ ص ١١٠ : «سقر : اسم من أسماء جهنّم لا بجرى [أي لا ينصرف]. وكلّ اسم كان لمؤنّث فيه الهاء أو ليس فيه الهاء فهو لا يجرى ، إلّا أسماء مخصوصة خفّت فأجريت وترك بعضهم إجراءها ، وهي هند ، ودعد ، وجمل ، ورئم ، تجرى ولا تجرى ...».

(٣) حديث صحيح أخرجه الترمذيّ في باب في القدر (٢١٤٦) ، وأخرجه البغويّ في شرح السنّة ج ١ ص ١٢٢ ؛ باب الإيمان بالقدر ، كلّهم يرويه من حديث عليّ بن أبي طالب.

(٤) كذا في ق وع ، والصحيح أن يزاد فيه : «عن أبيه عمر بن الخطّاب».

٢٣٥

والحساب والميزان والجنّة والنار ، والقدر خيره وشرّه. قال فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال : نعم. قال : صدقت. فعجب أصحاب النبيّ عليه‌السلام من قوله : صدقت. ثمّ قال : يا محمّد ، ألا تخبرني ما الإسلام؟ قال : الإسلام أن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ بيت الله الحرام ، وتغتسل من الجنابة ، قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال : نعم. قال : صدقت. قال : يا محمّد ، ألا تخبرني ما الإحسان؟ قال : الإحسان أن تخشى الله (١) كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك. قال : فإذا فعلت ذلك فقد أحسنت؟ قال : نعم. قال : صدقت. قال : يا محمّد ، ألا تخبرني متى الساعة؟ قال : سبحان الله العظيم ثلاث مرّات ، ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، إنّ الله استأثر بعلم خمسة لم يطّلع عليها أحد (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤) [لقمان : ٣٤] ولكن سأخبرك بشيء يكون قبلها : حين تلد الأمة ربّها ، وحين يتطاول أهل البناء في البنيان ، وتصير الحفاة العراة على رقاب الناس. قال : ثمّ تولّى الرجل فاتّبعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطرفه حينا طويلا ، قال : ثمّ ردّ طرفه فقال : هل تدرون من هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا جبريل جاءكم يعلّمكم أمر دينكم فتعلموا (٢).

ذكروا أنّ عبد الله بن مسعود قال : ما كفر قوم بعد نبوّة إلّا كان مفتاح ذلك التكذيب بالقدر.

ذكروا عن عمران عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بني الإسلام على ثلاثة : الجهاد ماض منذ بعث الله نبيّه إلى آخر فئة من المسلمين تكون هي التي تقاتل الدجّال لا ينقضه جور من جار ، والكفّ عند ما لا تعلم ، والمقادير خيرها وشرّها (٣).

__________________

(١) كذا في ق وع : «أن تخشى الله» وهو لفظ جاء في إحدى روايتي أبي هريرة للحديث في صحيح مسلم. أما سائر روايات الحديث فجاءت بلفظ : «أن تعبد الله كأنّك تراه».

(٢) حديث صحيح رواه مسلم في كتاب الإيمان ، وهو أوّل أحاديث الباب الأوّل ، باب الإيمان والإسلام والإحسان ... يرويه عبد الله بن عمر بلفظ : «حدّثني أبي عمر بن الخطّاب» (رقم ٨). وأخرجه أيضا مسلم من رواية أبي هريرة في الباب الأوّل (رقم ٩). وأخرجه البخاريّ مختصرا في كتاب الإيمان ، باب سؤال جبريل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة. وأخرجه غيرهما.

(٣) حديث صحيح أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد. باب في الغزو مع أئمّة الجور عن أنس بن مالك ، ـ

٢٣٦

ذكروا عن يحيى بن كثير عن رجاء بن حيوة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّما أخاف على أمّتي حيف الأئمّة والتصديق بالنجوم والتكذيب بالقدر (١).

ذكروا عن أبي العجاج الأزديّ قال : قلت لسلمان الفارسيّ : ألا تخبرني عن القدر وعن الإيمان بالقدر؟ قال : تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولا تقل : لو لا كذا لم يكن كذا.

قوله عزوجل : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٠) : كقول الله عزوجل : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧] أي : بل هو أقرب. تفسير الحسن : أي إذا جاء عذاب كفّار آخر هذه الأمّة بالنفخة الأولى.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) : أي الذين على دينكم ومنهاجكم ، يقوله للمشركين : أي من أهلك من الأمم السالفة. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥١) : أي من متفكّر ، يخوّفهم العذاب ويحذّرهم.

قوله عزوجل : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٥٢) : أي في الكتب ، أي : قد كتب عليهم. (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٥٣) : أي مكتوب مسطّر.

قوله عزوجل : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (٥٤) : يعني جميع الأنهار ، كقولهعزوجل : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقّة : ١٧] يعني بالملك جماعة الملائكة. وكقوله : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١٦) [النحل : ١٦] يعني جماعة النجوم. وكقوله : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١] يعني جماعتها. وأنهار الجنّة تجري في غير أخدود : الماء والعسل واللبن والخمر ، وهو أبيض كلّه. فطين النهر مسك أذفر ، ورضراضه الدرّ والياقوت ، وحافاته قباب اللؤلؤ.

قال تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥) : أي عند الله (٢). أي : إنّ الجنّة في السماء والنار في الأرض.

__________________

ـ (رقم ٢٥٣٢) وأوّله : ثلاثة من أصل الإيمان.

(١) حديث صحيح أخرجه الطبرانيّ عن أبي أمامة.

(٢) كذا في ق وع ، وفي ز ورقة ٣٤٧ : «يعني نفسه تبارك وتعالى».

٢٣٧

تفسير سورة الرحمن ، وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤) : أي علّمه الكلام (١).

قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥) : قال مجاهد : [يعني بحسبان] (٢) كحسبان الرحى. وفي تفسير الحسن : (بِحُسْبانٍ) : بمجرى. وقال الحسن : هما والنجوم في مثل الطاحونة ، أي في مثل فلكة المغزل دون السماء. ولو كانت ملتزقة بالسماء لم تجر.

وفي تفسير الكلبيّ : (بِحُسْبانٍ) أي بحساب ومنازل معدودة [كلّ يوم منزل] (٣).

ذكروا عن أبي صالح : إنّ السماء خلقت مثل القبّة ، إنّ الشمس والقمر والنجوم ليس شيء منها لازقا بالسماء ، وإنّها تجري في فلك دون السماء. وإنّ أقرب الأرض إلى السماء بيت المقدس باثني عشر ميلا ، وإنّ أبعد الأرض من السماء الأبلّة (٤).

ذكروا عن مجاهد قال : قوله عزوجل : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣) [الأنبياء : ٣٣] قال : يدورون كما يدور فلك المغزل.

قوله عزوجل : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (٦) : النجم ما كان من النبات على غير ساق ، والشجر ما كان على ساق. وسجودهما ظلّهما. وقال في آية أخرى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ

__________________

(١) كذا في ق وع وز : «علّمه الكلام» ، وكذلك جاء في تفسير ابن قتيبة. وهذا تأويل غير كاف ، فلفظ البيان أبلغ تعبيرا وأدقّ معنى ، إذ يفيد الإبانة والإفصاح عمّا يختلج في نفس الإنسان ، والقدرة ـ بإذن الله ـ على التعبير عن مقاصده.

(٢) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٦٣٩. وقول مجاهد هذا وقول الحسن تأويل لا يعتدّ به الآن.

(٣) زيادة من ز ، وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٤٢ : (بِحُسْبانٍ) جميع حساب مثل : شهبان وشهاب». وقول الأخفش في معاني القرآن ، ج ٢ ، ص ١١٢ : (بِحُسْبانٍ) : حساب ومنازل للشمس والقمر لا يعدوانها». وأقوال الكلبيّ والفرّاء والأخفش هي أولى بالصواب ، وذلك ما أكّده العلم الحديث.

(٤) الأبلّة : مدينة على شاطئ دجلة قرب البصرة ، وهي أقدم عمرانا من البصرة. انظر : ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، ج ١ ص ٧٦ ـ ٧٨ ، والبكري ، معجم ما استعجم ، ج ١ ص ٩٨.

٢٣٨

اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) (٤٨) [النحل : ٤٨].

قوله عزوجل : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) : إنّ بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام. قال تعالى : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٧) : أي وجعل الميزان في الأرض بين الناس (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (٨) : أي لا تظلموا فيه. (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) : أي بالعدل (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (٩) : أي ولا تنقصوا الناس حقّهم. قال مجاهد : الميزان العدل.

قوله عزوجل : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) (١٠) : أي للخلق (فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) (١١) : تفسير الحسن : الأكمام : اللّيف ، وتفسير الكلبيّ : الطلع (١).

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) (١٢) : يعني البقل (٢) في الزرع ، والعصف سوق الزرع.

وقال الحسن : كنّا بالمدينة ونحن غلمان نأكل الشعير إذا قضب (٣) وكنّا نسمّيه العصف.

وقوله عزوجل : (وَالرَّيْحانُ) تفسير الحسن أنّه مبتدأ ، يقول : وفيها الريحان ، يعني الرياحين.

وتفسير الكلبيّ : الريحان الرزق. وهذا التفسير على من قرأها بالجرّ : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) ، يجعلهما جميعا من صفة الزرع. وبعضهم على المقرأ بالجرّ يقول : العصف سوق الزرع والريحان ورق الزرع. وتفسير الكلبيّ : العصف الورق [الذي لا يؤكل] ، والريحان الحبّ [الذي يؤكل] (٤). وقال مجاهد : العصف ورق الحنطة ، [والريحان الرزق] (٥).

قال عزوجل : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) : يعني الثقلين : الجنّ والإنس(٦).

__________________

(١) وقال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن : «أي : ذات الكفرّى قبل أن ينفتق. وغلاف كلّ شيء كمّه». والكفرّى هو وعاء طلع النخل.

(٢) في ق وع : «يعي القد في الزرع» ، وفي الكلمة تصحيف ولا شكّ ، فأثبتّ ما جاء في معاني الفرّاء ، ج ٣ ص ١١٣.

(٣) أي إذا قطع وهو أخضر قبل أن يستغلظ ، ويسمّى القصيل.

(٤) وقع اضطراب ونقص في ق وع في تفسير الكلبيّ ، فأثبتّ التصحيح والزيادة من تفسير القرطبيّ ، ج ١٧ ص ١٥٧.

(٥) زيادة من تفسير مجاهد : ص ٦٤٠.

(٦) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٤٣ : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي : فبأيّ نعمه ، واحدها ألى ، ـ

٢٣٩

قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) : يعني آدم (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) (١٤) : وهو التراب اليابس الذي يسمع له صلصلة. وقال مجاهد : الذي قد صلّ ، أي : أنتن.

قوله عزوجل : (كَالْفَخَّارِ) له صوت كالفخّار المتكسّر إذا حرّك. وكان آدم في حالات قبل أن ينفخ فيه الروح. قال تعالى في آية أخرى : (مِنْ طِينٍ) (٧) [السجدة : ٧] وقال : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٦) [الحجر : ٢٦] أي : من طين منتن فيما ذكروا عن عطاء بن السايب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.

قال تعالى : (وَخَلَقَ الْجَانَّ) : يعني إبليس (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) (١٥) : تفسير الحسن : من لسان النار ولهبها. قال ابن عبّاس : من خالص النار. وقال مجاهد : من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر ، يعني الاختلاط ، كقوله تعالى : (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥) [سورة ق : ٥] أي : ملتبس ، وهو المختلط.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٦) : يعني الجنّ والإنس. قال الحسن : الإنس كلّهم من أوّلهم إلى آخرهم ولد آدم. والجنّ كلّهم من أوّلهم إلى آخرهم ولد إبليس.

قوله عزوجل : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (١٧) : أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف ، ومغرب الشتاء ومغرب الصيف.

قال تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ) : أي نعماء (١) (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٨).

قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) (١٩) : [تفسير قتادة : أفاض أحدهما في الآخر] (٢) (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (٢٠) : [أي : بين العذب والمالح حاجز من قدرة الله لا يبغي أحدهما على صاحبه]. لا يبغي المالح على العذب فيختلط ، ولا العذب على المالح فيختلط.

وقال بعضهم : بين البحرين المالحين بحر فارس وبحر الروم حاجز ، أي : من الأرض.

__________________

ـ تقديرها : قفى. وقال بعضهم : تقديرها معى. و (تُكَذِّبانِ) مجازها مخاطبة الجنّ والإنس وهما الثقلان».

(١) كذا في ق وع : «نعماء» بالإفراد ، وهي النعمة ، وجمعها : نعم وأنعم. وقد تأتي الكلمة مفردة ويراد بها الجمع ، كما في قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤].

(٢) ما بين المعقوفين في هاتين الآيتين زيادة من ز ، ورقة ٣٤٨ للإيضاح.

٢٤٠