التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

بالعمرة ، حيث يصح أن يتمتع الحاج بحالة الحلّ بين العمرة ووقت الوقوف في عرفات على ما شرحناه في سياق آيات الحج في سورة البقرة. والتحلل من حالة الإحرام بالنسبة للقول بأنها التسربل بلباس الإحرام والامتناع عن الطيب والنساء هو ممارسة ما كان ممنوعا من حلاقة الشعر أو تقصيره ولبس الثياب المخيطة والتطيّب والتزين ومباشرة النساء بعد نحر الهدي. ولقد شرحنا قبل مدى حرمة الصيد في حالة الحرم. وهناك أحاديث نبوية تسوغ قتل الحيوانات الضارة في هذه الحالة صدرت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبدو جوابا على سؤال أو بسبيل الاستدراك منها حديث رواه الخمسة عن حفصة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «خمس من الدوابّ لا حرج على من قتلهن الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور. وفي رواية خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم : الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة» (١) ومنها حديث رواه البغوي بطرقه عن أبي سعيد الخدري قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتل المحرم السبع العادي» (٢). وحكمة الأحاديث ظاهرة فضلا عن أن هذه الحيوانات ليست صيدا.

والعبارة القرآنية في الآيتين مطلقة. بحيث تشمل صيد البرّ والبحر وقد اقتضت حكمة التنزيل أن يستثنى صيد البحر من التحريم في آية أخرى من هذه السورة على ما سوف يأتي شرحه بعد.

ولقد روى الطبري وغيره من المفسرين (٣) عن أهل التأويل أقوالا مختلفة في صدد ما إذا كانت الآية الثانية منسوخة أو محكمة. منها أن جميع الآية منسوخة بآية التوبة هذه (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)) ومنها أن المنسوخ منها هو (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٠٧.

(٢) انظر تفسير البغوي للآيات [٩٤ ـ ٩٧] من هذه السورة.

(٣) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن والطبري والزمخشري ورشيد رضا والقاسمي.

٢١

الْحَرامَ) فقط وأنها نسخت بآية التوبة هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [٢٨] وبالآية الخامسة المذكورة آنفا أيضا. ومنها أن المنسوخ منها هو القلائد التي كان الحجاج يتقلدون بها خوفا من الاعتداء لأن الآية حرّمت إخافتهم. ومنها أن الآية في حق المسلمين وأنها محكمة لم ينسخ منها شيء.

والعجيب في هذه الروايات أن الذين يروونها رووا وقالوا إن سورة المائدة نزلت دفعة واحدة وإنها آخر ما نزل من القرآن! وننبه على أنه ليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. ولقد رجحنا أن جملة (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) هن في صدد الحجاج المسلمين استلهاما من باقي الآية وهذا ما يجعلنا نتوقف في نسخها بآيات التوبة. وحتى على فرض أنهم من المشركين فإن الآية [٥] من سورة التوبة هي في صدد قتال المشركين الناكثين وقد استثنى سياقها المشركين المعاهدين المستقيمين على عهودهم وأمر بالاستقامة لهم ما استقاموا على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

وليس في آيات التوبة ولا في آيات أخرى ما يمكن أن يدل على نسخ للقلائد سواء منها ما روي أنه قلائد الحجاج أم أنه قلائد الأنعام. وقد تكون القلائد بنوعيها قد أهملت بعد الفتح لأن كلمة الله أصبحت هي العليا وسلطان النبي أصبح هو النافذ وصار الحج مقصورا على المسلمين وحظر دخول المشركين للحرم وصار الهدي والحجاج في أمن وسلام فكان القول بالنسخ تطبيقا للممارسة وليس مستندا إلى نصّ ، والله تعالى أعلم.

هذا ، ومع خصوصية الآيتين الزمنية والموضوعية فإن الفقرات الأخيرة من الآية الثانية بخاصة احتوت تلقينا جليلا مستمر المدى. سواء أفي النهي عن التأثر ببغض قوم ما وجعله وسيلة أو مبررا للعدوان والإثم والضرر ولو كان على جماعة من غير المسلمين إذا كانوا مسالمين أو حياديين أو معاهدين ، أم في بيان ما هو الأمثل بالمسلمين من التعاون على البرّ والتقوى وإيجابه ، أم في تشديد الإنذار

٢٢

والنهي عن أي تعاون وتضامن فيما هو إثم وعدوان مطلقا. ونذكر بهذه المناسبة بما نبهنا عليه في مناسبات سابقة من أن مقابلة المسلم على عدوان المعتدي الكافر بالمثل لا يعدّ عدوانا وإنما هو دفاع.

والفقرة الأولى من الآية الأولى احتوت مثل هذا التلقين في أمرها بالوفاء بالعقود لأي كان.

وهذا وذاك متسقان مع المبادئ القرآنية العامة التي تكرر تقريرها في مختلف السور المكية والمدنية.

ولقد ساق ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق جملة (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ). منها حديث رواه الإمام أحمد وروى صيغة مقاربة له الشيخان والترمذي عن جابر وهي هذه «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما. إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر. وإن كان مظلوما فلينصره» (١) وحديث رواه الطبراني عن شمران بن صخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام». وهناك حديث مهم يحسن أن يساق في هذا المساق رواه أبو داود عن جبير بن مطعم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ليس منّا من دعا إلى عصبيّة وليس منّا من قاتل على عصبيّة. وليس منّا من مات على عصبيّة. قال واثلة قلت يا رسول الله ما العصبية قال أن تعين قومك على الظلم» (٢).

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٤٨.

(٢) المصدر نفسه ص ٢١.

٢٣

فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)) [٣]

(١) وما أهلّ لغير الله به : وما ذبح باسم غير الله أو ما ذكر حين ذبحه اسم غير اسم الله.

(٢) المخنقة : المخنوقة أو الميتة خنقا.

(٣) الموقوذة : الميتة من الطعن والنخز والضرب.

(٤) المتردية : الميتة بسبب سقوطها من محلّ مرتفع.

(٥) النطيحة : الميتة بسبب نطح حيوان آخر لها.

(٦) وما أكل السبع : الذي يأكله وحش ضار.

(٧) إلّا ما ذكيتم : باستثناء ما ذبحتموه ذبحا شرعيا وذكرتم اسم الله عليه قبل أن يموت من تأثير العوارض المذكورة.

(٨) وما ذبح على النصب : وما ذبح عند الأوثان.

(٩) وأن تستقسموا بالأزلام : الأزلام : هي سهام كانوا يلقونها على سبيل المراهنة أو الاقتراع أو الاستخارة. والاستقسام : هو الاقتراع أو الاستخارة أو المراهنة. وسيأتي شرح ذلك بعد.

(١٠) في مخمصة : في مجاعة.

(١١) غير متجانف لإثم : غير قاصد مقارفة الإثم أو متعمّد له.

في الآية :

(١) بيان حالات الأنعام التي حرّم الله أكلها على المسلمين. وهي التي تموت ميتة طبيعية. أو خنقا. أو سقوطا من محل مرتفع. أو نطحا. أو ضربا ووقذا. أو من نهش وحش ضار مفترس. أو التي يذكر غير اسم الله عليها حين ذبحها. أو التي تذبح عند الأوثان كقربان لها. أو التي يستقسم عليها بالأزلام. والدم ولحم الخنزير. مع استثناء أمرين في صدد محرمات الأنعام المذكورة حالاتها (الأول) في حالة بقاء رمق حياة في البهيمة التي تتعرض للموت خنقا أو

٢٤

سقوطا أو نطحا أو وقذا أو نهشا حيث يحل أكلها إذا ذبحت ذبحا شرعيا وذكر عليها اسم الله. (والثاني) في حالة الجوع الملجئ على شرط أن لا يتجاوز الأكل إلى أكثر من دفع الحاجة والخطر وأن لا يكون فيه تعمّد إثم ومعصية.

(٢) إيذان تنويهي وجّه الخطاب فيه إلى المسلمين بما كان من إكمال الله لهم دينهم وإتمام نعمته عليهم وارتضاء الإسلام لهم دينا. ويأس الكفار منهم بعد ذلك. مع هتاف لهم بعدم خشيتهم من الكفار وبخشية الله تعالى وحده.

ومن المحتمل أن تكون جملة (ذلِكُمْ فِسْقٌ) التي هي بمعنى العصيان والتمرد على الله خاصة بالمحرّمين الأخيرين وهما ما أهلّ به لغير الله والاستقسام بالأزلام ، كما أن من المحتمل أن تكون شاملة لجميع المحرمات على الاعتبار نفسه. والعبارة تتحمل الاحتمالين. وقد تتحمل الاحتمال الأخير أكثر لأنها جاءت بعد ذكر جميع المحرمات. غير أن آية الأنعام [١٤٥] احتوت وصفين للنوعين حيث وصف الدم ولحم الخنزير والميتة بأنها رجس أي نجسة ووصفت ما أهل لغير الله به بأنه فسق حيث يمكن الاستئناس بهذا على أن الجملة هي خاصة بالمحرّمين الأخيرين والله أعلم.

تعليق على الآية

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ ..) إلخ

وما فيها من أحكام وتلقين وما ورد في صددها

من أقوال وأحاديث وتمحيص مسألة تاريخ

نزول (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)

وتعليق على مدى متناولها

لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية كمجموعة. وإنما رووا روايات في صدد نزول مقطع (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أو هذا المقطع الذي قبله (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) حيث روى الطبري عزوا إلى ابن عباس والسدّي

٢٥

ومجاهد وقتادة وابن جريج أنه أو أنهما نزلا في حجة الوداع في يوم عرفة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقي خطبته على المسلمين حيث نظر أمامه فلم ير إلّا موحّدا ولم ير مشركا فحمد الله فنزل عليه جبريل بالمقطع أو المقطعين ، وأنه لم يعش بعد نزولهما إلّا نحو ثمانين ليلة. ومما رواه الطبري في صدد ذلك أنه لما نزلت الآية أو المقطعان منها يوم الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يبكيك فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا. فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. قال له صدقت. وروى كذلك حوارا جرى بين عمر وبين كعب الأحبار رواه الشيخان والترمذي بهذه الصيغة «قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب لو علينا أنزلت هذه الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) لاتخذنا ذلك عيدا. فقال عمر إني أعلم أيّ يوم أنزلت هذه الآية. أنزلت يوم عرفة في يوم جمعة» (١) وفي رواية الطبري زيادة غير اسم كعب وهي قول عمر وكلاهما بحمد الله لنا عيد.

وننبه على أن الطبري روى حوارا مماثلا لما روي بين عمر وكعب جرى بين ابن عباس ويهودي أيضا.

ويلحظ أن الروايات مع ذكرها كلمة (الْيَوْمَ) لم تذكر إلّا المقطعين غير مترافقين مع ما قبلهما ومع ما بعدهما. مع أنهما جزء من آية سبقه آية فيها تشريعات في صدد الحالات المحرمة من الأطعمة الحيوانية ولحقه مقطع ذو صلة وثيقة بالمقاطع السابقة له بحيث لا يفهم أية حكمة من إدماج هذا الجزء في آية يتصل أولها بآخرها اتصالا موضوعيا وثيقا لو كان نزل لحدته. وقد يقال ما دام قد ذكر (الآية) فيكون المراد بذلك جميع الآية وأن اختصاص ذكر هذا الجزء في الروايات لا يعني بالضرورة نزوله منفردا عنها. وهذا وارد. ولكن يرد معه أن الموضوع الرئيسي الذي احتوته الآية متصل بالآية الأولى من السورة اتصال توضيح وتفسير عبرت عنه جملة (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في هذه الآية التي قال جمهور المؤولين والمفسرين إنها تعني ما جاء في الآية الثالثة من السورة وهذا يجعل

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٨٩.

٢٦

احتمال نزول هذه الآية مع الآيتين السابقتين لها قوي الورود. وبقية الآية بخاصة تقوي ذلك. والآيتان السابقتان وبخاصة الثانية قد نزلتا على ما رجحناه استلهاما من فحواها بعد وقت قصير من صلح الحديبية الذي بينه وبين حجة الوداع نحو أربع سنين. وهذا يحمل على التوقف في التسليم بالروايات المروية عن نزول الآية أو المقطعين يوم عرفة في حجة الوداع. ويسوغ الترجيح بأن ما جاء في الآية من أحكام عن محرمات الذبائح هو إتمام وتوضيح لجملة (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في الآية الأولى من السورة وبأن الآية الثالثة مع المقطعين نزلت مع الآيتين السابقتين لها وبأن حكمة التنزيل استهدفت بالمقطعين تدعيم الأوامر والنواهي والأحكام التي احتوتها الآيات الثلاث وتثبيت قلوب المسلمين حولها وحول الدين العظيم الذي جاءت لبيان مداه. وبأن من المحتمل أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا المقطعين في حجة الوداع في عرفة الذي يمكن أن يكون قد صادف يوم الجمعة فالتبس الأمر على الرواة. وقد يتبادر لنا احتمال آخر وهو أن تكون الآيات الثلاث نزلت أثناء زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين للكعبة في السنة التالية لصلح الحديبية حسب الشروط التي تم الاتفاق عليها مع قريش حيث اقتضت حكمة التنزيل تنزيلها آمرة بالوفاء بالعهود ومنبهة على ما يحسن بالمسلمين وموضحة ما هو حلال لهم وحرام عليهم من الصيد والذبائح وهاتفة بهم فإن الله قد أكمل لهم دينهم وأتمّ عليهم نعمته وبأن الكفار قد يئسوا من إطفاء نور دينهم والتغلب عليهم فالتبس الأمر على الرواة. وهذا التخريج أو ذاك يشمل ما رواه الشيخان والترمذي من حوار بين عمر بن الخطاب واليهودي. والله تعالى أعلم. ومما يحسن التنبيه عليه أن الآية الخامسة من السورة احتوت كلمة (الْيَوْمَ) مع احتوائها أحكاما وتشريعات جديدة. ولم يرد في أية رواية أنها نزلت مع المقطعين أو مع الآية التي فيها المقطعان. وفحوى الآية الرابعة التي قبلها يفيد أنها نزلت هي والآية الخامسة معا بسبب سؤال عن بعض الأمور أورد من بعض المسلمين نتيجة لما احتوته الآيات السابقة من أحكام واحتوت هي الأخرى أحكاما جديدة حيث يسوغ القول إن كلمة (الْيَوْمَ) في الآية الثالثة والآية الخامسة معا أسلوبية.

٢٧

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن كلمة (الْيَوْمَ) لا تعني يوما بعينه. وقال الزمخشري إن المراد هو الزمان والحاضر وما يدانيه ويتصل به كقولك كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب حيث لا يراد بهذا تخصيص الأمس واليوم بمدلولهما الزمني. وهذا مما يؤيد قولنا إن الكلمة أسلوبية.

ولقد عقب الطبري على تأويل المؤولين بأن الآية أو مقطعيها عنت إكمال فرائض الله وما للمسلمين من حاجة من أمر دينهم بعدها قائلا «إنه لا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن قبض بل كان قبل وفاته أكثر تتابعا. ويكون بذلك معنى (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) والحالة هذه خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله بكمال العبادات والأحكام والفرائض». وهذا تعقيب سديد ولو أن المستفاد من كلام الطبري أنه فهم من حديث الشيخين والترمذي عن الحوار أن الآية أو المقطعين نزلا يوم عرفة في حجة الوداع. وقد تابعه معظم المفسرين لأنهم جروا على أن يكون ما ثبت عندهم من الأحاديث الصحابية أيضا هو الأولى بالتسليم في تفسير وتأويل القرآن. وهو ما نزال نراه غير متسق مع ما تلهمه الآيات فحوى ومقاما مع ما شرحناه ونرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله.

ولقد روى المفسرون عن ابن عباس وغيره في تأويل جملة (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ) أقوالا منها أنها بمعنى أنهم يئسوا من رجوع المسلمين إلى دين الآباء القديم. ومنها أنهم يئسوا من قهر المسلمين والتغلّب عليهم. ومنها أنهم لم يبق فيهم أي قوة يخشاها المسلمون منهم على دينهم. وكل هذا وارد.

والمقطعان في حدّ ذاتهما قويان رائعان في تنويههما وهتافهما ومداهما. ولعلّهما من أروع المقاطع القرآنية في بابهما. ولعل هذه الروعة والمدى هما اللذان جعلا المؤولين ينظرون إليهما نظرة خاصة مستقلة. وإن لمن شأنهما من دون ريب أن يبعثا كل الطمأنينة والرخاء والغبطة والفرح والاعتزاز في المسلمين في أي ظرف ومكان وسواء منهم أصحاب رسول الله الذين وجّه الخطاب إليهم

٢٨

مباشرة أم الذين يأتون بعدهم لما خصهم الله به من السعادة والرعاية في الانضواء إلى الإسلام الذي ارتضاه لهم دينا وجعله شريعة تامة خالدة أكملها لهم وأتمّ نعمته بذلك عليهم لتستجيب إلى جميع حاجاتهم ولتحلّ جميع مشكلاتهم الروحية والمادية والدنيوية والأخروية ثم لتستجيب إلى جميع مشاكل البشر الذين رشحت لتكون لهم دينا وتحلّ جميع مشكلاتهم. وإن لمن شأنهما كذلك أن يوثقا بينهم رباط الأخوة والتضامن ، وأن يبعثا فيهم القوة وعدم المبالاة بالأعداء والمضادين في تلك الظروف التي نزلا فيها وكان النضال قائما فيها بين الكفر والإيمان والشرك والتوحيد ، والضلال والهدى ، والظلمات والنور ، والعصبية القبلية الضيقة والأخوة العامة ، والتقاليد التي تحتوي كثيرا من الشذوذ والسخف والبغي والتمايز في الطبقات واستقطاب الثروة والغنى في جانب والفقر والعوز في جانب والدين الذي يدعو إلى الحق والهدى والمساواة والخير والتراحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البرّ والتقوى ، ويقرر أن ما في أيدي الناس من مال هو مال الله وهم مستخلفون فيه وأن فيه لحقّا معلوما للمحرومين والمعوزين يجب أداؤه إليهم بدون منّ ولا تبرّم. ويحل الطيبات ويحرم الخبائث والفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي ثم في أي ظرف آخر. لأن هذه الدعوة قد ظلت في أصولها القرآنية والنبوية صافية نقية تحتفظ بكل مزاياها وقوتها وفضائلها وعظمتها وسطوعها وسنائها.

ومن العجيب أن رواة الشيعة ومفسريهم لم يتركوا هذه الآية أو هذا المقطع على روائه وسنائه وإطلاقه وهتافه العام فأولوه بما فيه تأييد لهواهم. حيث روى الطبرسي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله «أنّ الآية نزلت بعد أن نصّب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا رضي الله عنه علما للأنام يوم غدير خمّ منصرفه من حجة الوداع وكان ذلك آخر فريضة أنزلها الله تعالى» كما روى قولا معزوّا إلى أبي سعيد جاء فيه «أن الآية لمّا نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي فمن كنت مولاه فعليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».

٢٩

ولقد أورد ابن كثير نصّ هذا الحديث وقال إنه غير صحيح. والهوى الشيعي بارز عليه. وننبه هنا كما نبهنا في مناسبات سابقة على أننا لسنا في صدد إنكار مزايا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنزلته عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكما اختلف أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى جملة (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) اختلف فيه أصحاب المذاهب الكلامية الذين جاءوا بعدهم. حيث استدل بعضهم بالآية على أن القياس ـ وهو من أصول التشريع في الإسلام ـ باطل لأنها دلت على أن الله تعالى قد نصّ على الحكم في جميع الوقائع إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن كاملا وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك كان عبثا وإن كان على خلافه كان باطلا. وحيث استدل بعضهم بها على بطلان الاجتهاد والرأي من حيث إن القرآن يذكر أن الله قد أكمل للمسلمين دينهم فلم يعد هناك مجال لاجتهاد ولا رأي. وقد ردّ عليهم مخالفوهم ردودا عديدة موجز ما تفيده أن الجملة القرآنية قد عنت الأمور العامة والعمومات الشاملة مما يحتاج إليه المسلمون في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم دون المسائل الفردية. وإن مما يدخل في الباب ما جاء في آيات مكية من الإشارة إلى أن الله قد أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء (١). وأنه لم يفرط في الكتاب من شيء (٢). مع أنه لم يكن نزل من التشريعات والأحكام شيء هام لأن ذلك إنما كان في العهد المدني. وأن السنة النبوية قد احتوت أمورا كثيرة رئيسية وثانوية لم ينص عليها القرآن صدرت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزول هذه الجملة وبعدها. وأن القياس واستنباط الأحكام الجزئية والفردية من عموميات النصوص القرآنية والسنّة النبوية الثابتة لا يناقض ذلك (٣). وفي هذا من السداد والوجاهة ما هو ظاهر. وإذا كان من شيء يحسن أن نقوله أيضا فهو أن القرآن والسنة قد احتويا من المبادئ والتقريرات والقواعد والأحكام ما فيه سداد لجميع حاجات المسلمين والبشر في مختلف

__________________

(١) آية سورة النحل ٨٩.

(٢) آية سورة الأنعام ٣٨.

(٣) انظر تفسير الآية في تفسير المنار والقاسمي.

٣٠

الشؤون ومختلف الأزمنة والأمكنة بوجه عام بحيث يصح القول إن الشريعة الإسلامية التي يمثلها القرآن والسنة دين كامل وشريعة تامة. ومن هذه المبادئ والتقريرات والقواعد والأحكام ما هو محدود ومنه ما هو خطوط وتلقينات عامة. ولما كانت حاجات الحياة في مختلف مجالاتها كثيرة ومتجددة ثم متبدلة بتبدل الظروف فقد اقتضت حكمة الله ورسوله أن يكون المحدود هو الأقل. وأن يترك للمسلمين أن يجدوا الحلول لمختلف حاجاتهم الأخرى بالاجتهاد والقياس والاقتباس والاستنباط على شرط أن يكون ذلك في نطاق تلك الخطوط والتلقينات العامة. ويصح أن نورد أمثلة كثيرة على ذلك. ونكتفي بمثل واحد. فالشريعة الإسلامية القرآنية والنبوية أوجبت أن يكون أمر المسلمين شورى بينهم وأمرت باستشارة المسلمين في الشؤون العامة السياسية والحربية مما شرحناه في سياق تفسير آية آل عمران [١٥٩] وسكتت عن بيان الكيفية لأن ذلك عرضة للتبدل والتطور على ما هو المتبادر. فهنا مجال اجتهاد أولي العلم والأمر والشأن من المسلمين لاختيار الطريقة المناسبة لتحقيق هذا الواجب. ولا يرد أي وارد لمنع ذلك. وقد نبهنا على كل هذا بشيء من الإسهاب أيضا في سياق تفسير آيات سورة النساء [٥٩ و ٨٣ و ١١٥].

وهذا هو في صدد موضوعية الجملة الحرفية. غير أن من الحق أن ننبه مع ذلك في صدد مقام ورودها إلى ما ذكرناه قبل من أن الآية الثالثة احتوت إتماما وتوضيحا لجملة (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في الآية الأولى من السورة ومن أن المقطعين استهدفا التدعيم والتثبيت والتنويه. وإلى ما رجحناه من نزولها بعد قليل من صلح الحديبية الذي عاش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده أربع سنوات أخرى نزل في أثنائها كثير من الأحكام القرآنية وصدر عن الرسول عليه‌السلام كثير من البيانات في مختلف الشؤون وإلى ما أوردناه من قول الطبري من عدم اتفاق أهل التأويل في القرن الهجري الأول على كون الجملة تعني كمال العبادات والأحكام والشرائع حين نزولها حيث يسوغ القول بناء على ذلك أنها في مقامها دون موضوعها لا تستوجب الخلاف الكلامي الذي دار حولها بعد ذلك القرن. والله تعالى أعلم.

٣١

والمحرمات الأربع الأول في مطلع الآية قد ذكر تحريمها في آيات عديدة مكية ومدنية في معرض الجدل بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار على ما شرحناه في مناسبات آيات سورة البقرة [١٦٧ ـ ١٧٦] والأنعام [١٢٥ ـ ١٤٧] والنحل [١١٣ ـ ١١٨]. ويبدو أن حكمة التنزيل اقتضت إعادة ذكرها في هذه الآية في معرض تقريري وتشريعي عام مع غيرها من المحرمات لتكون جامعة مانعة. وقد اقتضت هذه الحكمة تكرار وتوكيد ما جاء في الآيات السابقة المذكورة من الرخصة للمضطر بنفس الشروط حتى يكون التشريع متساوقا.

والمتبادر أن تحريم أكل البهيمة التي تموت في الحالات الخمس هو تبع للأصل المحرم وهو أكل الميتة إطلاقا. وكان العرب يأكلونها على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة الأنعام المذكورة آنفا. والمتبادر أن العرب كانوا يأكلون ميتة البهيمة في جميع حالات موتها فقضت الآية بتحريم جميع الحالات تبعا للأصل في هذه الآية التشريعية الجامعة.

وكلمة (وَالدَّمُ) تأتي هنا بدون وصف. ومثل ذلك جاء في آية البقرة [١٢٣] وآية النحل [١١٥] غير أنها جاءت بوصف (مَسْفُوحاً) في آية الأنعام [١٤٥] وهو الوصف الذي يحرم به أكل الدم مطبوخا أو شربه حسب ما كان جاريا في الجاهلية على ما عليه جمهور العلماء الذين قالوا إن فيه إخراجا للدم الذي يكون عالقا باللحم والعروق وللطحال والكبد اللذين هما دم متجمد على ما شرحناه في سياق آية الأنعام المذكورة.

وفي كتب التفسير أحاديث وتأويلات متنوعة أخرى في صدد مدلول عبارات الآية وأحكامها رأينا من المفيد إيجازها والتعليق عليها بما يلي :

١ ـ لقد روي في صدد جملة (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أن الاستثناء شامل للحالات التي ذكرت قبلها جميعها كما روي أن الاستثناء خاص بما نهشه السبع فقط. وقد صوّب الجمهور القول الأول وهو الأوجه.

٢ ـ لقد نبّه المفسرون والمؤولون على أن كلمة (السَّبُعُ) تشمل كل

٣٢

حيوان مفترس آكل للحوم. وهذا سديد.

٣ ـ لقد أجمعوا على أن الاستثناء لا يشمل الخنزير. لأن لحمه محرّم أصلا. وهذا حقّ وصواب.

٤ ـ مذهب الجمهور أن رمق الحياة الذي يصح أن يذكى الحيوان ليحل أكله إذا تعرض للحالات المذكورة في الآية هو أن يكون فيه على الأقل عين تطرف أو أذن أو يد أو رجل أو ذنب يتحرك. وهذا وجه يتسق مع روح الرخصة القرآنية.

٥ ـ هناك من قال إن الإصابة إذا كانت في العنق وبنهش سبع بنوع خاص وصار الحيوان في حكم المذبوح فلا يحل أكله. والمتبادر أن هذا غير متسق مع عبارة الآية وروحها المطلقين. فما دام ظل في الحيوان رمق يصح تذكيته وأكله في أي جهة منه كان أثر الحادث وبأي سبب. والله أعلم.

٦ ـ لقد رويت في مدى أداة الذبح وطريقته أحاديث عديدة. منها حديث رواه الخمسة عن رافع بن خديج جاء فيه «قلت يا رسول الله إنّا ملاقو العدوّ غدا وليست معنا مدى. قال أعجل أو أرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل. ليس السّنّ والظفر وسأحدثك أما السنّ فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة. قال وأصبنا نهب إبل وغنم فندّ منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش. فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا» (١) ومنها حديث رواه البخاري جاء فيه «كانت جارية لكعب بن مالك ترعى غنما له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال كلوها» (٢) ومنها حديث رواه أبو داود جاء فيه «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شريطة الشيطان. وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج ثم تترك حتى تموت. قيل يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبّة قال لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك» (٣).

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٩٤ أي اذبح بأي شيء يسيل الدم بما عدا السن والظفر. وهذا يفيد أن الذبح جائز بحجر محدد أو بشق عصا وخشبة أو بكتف عظم إلخ.

(٢) التاج ج ٣ ص ٩٤ و ٩٥.

(٣) المصدر نفسه.

٣٣

٧ ـ في كتب التفسير أقوال وأحاديث عديدة في مدى الاضطرار والمخمصة الذي يحل للمسلم به أن يتناول المحرمات في الآية (١). ولقد أوردنا طائفة منها وعلقنا عليها في سياق تفسير الآيتين [١١٨ و ١٤٥] من سورة الأنعام فنكتفي بهذا التنبيه.

٨ ـ قال المفسرون والمؤولون إن النصب التي حرّم أكل ما ذبح عليها هي حجارة كانت تنصب عند أوثان الكعبة وغيرها. وكان المشركون يذبحون قرابينهم عندها. وكان بعضهم يتعبّد لها ويقرّب إليها رأسا أيضا. ولم تكن أصناما مخلقة. والمتبادر أن القرآن حرّم أكل الذبائح التي تذبح عندها لأنها بمثابة ذبح لغير الله.

٩ ـ إن كلام المفسرين في صدد الاستقسام بالأزلام الوارد في الآية يفيد أنه إجابة الأقداح أو السهام على سبيل الاستفتاء أو الاستخارة. ورووا بهذه المناسبة عادة عربية جاهلية في مكة وهي أنه كان عند سادن صنم (هبل) سبعة سهام أو أقداح ـ وهي ما تعنيه كلمة الأزلام على ما فسّره المفسرون ـ كتب على واحد منها (افعل) وعلى ثان منها (لا تفعل) وعلى ثالث (منكم) وعلى رابع (من غيركم) وعلى خامس (ملصق بكم) وعلى سادس (عقل) (٢) وترك السابع غفلا بدون كتابة (٣). فإذا أراد امرؤ أو جماعة استفتاء الآلهة في مشكل أو موقف محرج أو محير من شؤون الدماء والأنساب والأسفار أو العزائم الأخرى جاءوا إلى السادن فطلبوا منه لقاء جعل مناسب إجالة الأقداح التي تناسب المطلب في كيس من جلد وتناولوا أحدها وعملوا بما يكون مكتوبا عليه. وإن كان السهم هو الغفل كان لهم الخيار بدون حرج. على أن في الروايات طريقة أخرى تسمى الاستقسام بالأزلام وهي من طرائق الميسر التي كان يذبح فيها بعير ثم يقترع بالسهام على من يغرم ثمنها وعلى كيفية توزيع لحمها على ما شرحناه في سياق تفسير آية البقرة [٢١٩]. والذي نرجحه أن الاستقسام الوارد في الآية قد عنى هذه الطريقة دون تلك لأنها

__________________

(١) انظر تفسير الطبري وابن كثير فقد استوعبا هذه الأحاديث والأقوال.

(٢) بمعنى أداء الدية على القتلى.

(٣) وهناك روايات أخرى عن العبارات المكتوبة على السهام لم نر ضرورة لذكرها.

٣٤

أكثر تناسبا مع بيان ما يحرم أكله من البهائم حيث أريد بذلك تحريم لحم البهيمة التي تذبح على سبيل الميسر. وقد عزا ابن كثير إلى مجاهد أنه قال إن الذي عنته الجملة هو القمار. وهذا مؤيد لترجيحنا.

ولقد روى المفسرون أحاديث نبوية عديدة في صدد الاستخارة وما يدخل في بابها أو معناها كالتنجيم والرمل والتطير والطرق والعرافة والكهانة والعيافة على هامش الجملة باعتبار أن الاستقسام يعني ذلك. فيها أحكام وتلقينات مفيدة فرأينا أن نوردها برغم ترجيحنا أن الجملة متصلة بالميسر أو القمار أو المراهنة وبعض هذه الأحاديث وارد في بعض الكتب الخمسة. منها حديث رواه أبو داود عن قبيصة قال «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول العيافة والطيرة والطرق من الجبت» (١) وحديث رواه مسلم وأحمد جاء فيه «من أتى عرّافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» (٢) وحديث أخرجه ابن مردويه عن أبي الدرداء قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن يلج الدرجات من تكهّن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا» (٣) وحديث عن ابن عباس رواه أبو داود وأحمد قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» (٤) وحديث عن عمران بن حصين مرفوعا رواه البزار بإسناد حسن ورواه الطبراني بإسناد حسن كذلك جاء فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس منّا من تطيّر أو تطيّر له أو تكهّن أو تكهّن له أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» (٥).

وظاهر من هذا أن الشرع الإسلامي قرآنا وسنّة يحرّم هذه الأمور. وفي ذلك من الحكمة والجلال ما لا يخفى.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٠١ والعيافة زجر الطير فإذا ذهب يمينا كان ذلك فألا حسنا ومضى الزاجر في عزيمته وإن ذهب شمالا تشاءم وانصرف عنها. والطيرة هي التطير والطرق ضرب بالحصى لمعرفة البخت والجبت هو الشرك أو الوثنية.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) النص من ابن كثير. ومعنى طائرا متطيرا.

(٤) التاج ج ٣ ص ٢٠٠.

(٥) نقلا عن تفسير القاسمي.

٣٥

على أن هناك بعض أحاديث تجيز الاستخارة والتفاؤل فمن ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كما يعلّمنا السورة من القرآن ويقول إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علّام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ـ وفي رواية عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه. اللهم وإن كنت تعلم أنه شرّ لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه واصرفه عني واقدر لي الخير حيث كان. ثم رضّني به» (١) ومن ذلك حديث عن أبي هريرة رواه البخاري ومسلم والترمذي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا طيرة وخيرها الفأل قيل يا رسول الله وما الفأل قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» ، وفي رواية : «لا طيرة ويعجبني الفأل الصالح والكلمة الحسنة» (٢) وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة أيضا «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع كلمة فأعجبته فقال أخذنا فالك من فيك» (٣) وحديث عن بريدة رواه أبو داود والنسائي قال «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمه رؤي ذلك في وجهه وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإن أعجبه فرح بها ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمها رؤي ذلك في وجهه» (٤) وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه «ذكرت الطيرة عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أحسنها الفأل ولا تردّ مسلما. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهمّ لا يأتي بالحسنات إلّا أنت ولا يدفع السيئات إلّا أنت

__________________

(١) نقلا عن ابن كثير. وقد عقب عليه قائلا (بلفظ الإمام أحمد وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي).

(٢) التاج ج ٣ ص ١٩٨.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) التاج ج ٣ ص ١٩٨ ـ ١٩٩.

٣٦

ولا حول ولا قوة إلّا بك» (١) وحديث رواه الترمذي جاء فيه «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبه إذا خرج لحاجته أن يسمع يا راشد يا نجيح» (٢).

وليس في هذه المأثورات أي تناقض مع المأثورات السابقة لأنها متصلة بعقيدة التوحيد وكون الله عزوجل وحده هو القادر الباسط القابض المعطي المانع الذي يرجع إليه المؤمنون ويستمدون منه القوة ويتوكلون عليه في شؤونهم.

ولقد جعل بعضهم القرعة من باب المنهيات في حين أجازها بعضهم لتطييب نفوس أصحاب الشأن والبراءة من التهمة في الإيثار (٣). والمتبادر أن القول الثاني هو الأوجه لأن القرعة لا تدخل في الحقيقة في متناول المنهي عنه في المأثورات السابقة. والله أعلم.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)) [٤].

(١) الجوارح : تطلق على الحيوانات والطيور الجارحة أي ذوات الأنياب والمخالب. ويدخل في نطاق الكلمة الكلاب والذئاب والنمور والسباع والفهود والضباع والصقور والنسور والبزاة. والراجح أن الكلمة هنا للإشارة إلى الجوارح التي تستعمل في الصيد كالكلاب والصقور والبزاة.

(٢) مكلّبين : من التكليب وهو تعليم الكلاب للصيد في الأصل ويستعمل في تعليم الجوارح للصيد عموما. وفي اللغة (كلاب) مؤدب الكلاب والجوارح.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٩٨ ـ ١٩٩ ومعنى لا تردّ مسلما أي لا يجوز أن يرتد المسلم عن عزيمته بالطيرة.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) تفسير القاسمي.

٣٧

تعليق على الآية

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) وما فيها من أحكام وتلقين

في الآية حكاية لسؤال وجوابه. والجواب ينطوي على تعميم وتخصيص. فقد حكت أن أناسا سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أحلّ لهم. وأمرت بتبليغ السائلين وبالتبعية جميع المسلمين بأن الله قد أحلّ لهم كلّ طيب بصورة عامة. وبأنه قد أحلّ لهم أكل الصيد الذي تمسكه الجوارح المعلّمة على أن يذكر اسم الله عليه. مع التنبيه إلى وجوب تقوى الله والتيقّن من سرعة حسابه على أعمالهم تنبيها ينطوي على الإنذار أو التحذير من مخالفة أوامر الله.

ولقد تعددت الأقوال في صرف جملة (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) (١) فقيل إنها بمعنى اذكروا اسم الله حينما ترسلون الجوارح المعلّمة لإمساك الصيد حتى إذا أتت بها ميتة جاز لكم أكلها. وقيل إنها بمعنى اذكروا اسم الله حينما تأكلونه. وقيل إنها بمعنى اذكروا اسم الله عليه حينما تذبحونه بعد إمساكه. وأوجه الأقوال هو الأول لأن حكم ما يموت بنهش السبع ـ والجوارح من السباع ـ قد تقدم ولأنه إذا لم يمت المنهوش وذكي حلّ أكله إطلاقا فلا يكون هناك حاجة إلى رخصة جديدة.

ولقد روى المفسرون عدة روايات في مناسبة نزول الآية. منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتل الكلاب فجاءه بعض المسلمين يسألونه عما يحلّ لهم اقتناؤه منها. ومنها أن بعض مسلمي البادية سألوه عن حكم ما تصيده جوارحهم المعلمة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.

والآية صريحة بأنها نزلت جوابا على سؤال. ومن المحتمل أن تكون إحدى الروايتين أو كلتاهما صحيحة. كما أن من المحتمل أن يكون السؤال وقع بمناسبة ما احتوته الآية السابقة من بيان حل الحالات المحرمة أولا وما يموت من نهش السباع التي منها الجوارح ثانيا. ونحن نرجح هذا الاحتمال كمناسبة مباشرة للآية لأنه متسق مع محتوياتها ومع سياقها. ومن المحتمل أن يكون السؤال قد وقع عقب

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والطبرسي وابن كثير والخازن.

٣٨

نزول الآية السابقة فوضعت الآية بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية وإلا فتكون قد وضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية.

ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة على هامش هذه الآية كانت مستندا لما وضعه الفقهاء من قواعد وأحكام في موضوع الصيد وأكله. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة منها حديث رواه الخمسة عن عدي بن حاتم جاء فيه «قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلّمة فيمسكن عليّ وأذكر اسم الله عليه. فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس معها. قلت فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا» (١) وللبخاري والترمذي «إن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل» (٢) وللبخاري وأبي داود «يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم يجده ميتا وفيه سهمه قال يأكل إن شاء الله» (٣) ولمسلم وأبي داود في الذي يدرك صيده بعد ثلاث «.. فكله ما لم ينتن» (٤) وروى الترمذي عن عدي قال «سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد البازي قال ما أمسك عليك فكل» (٥).

ولقد أورد ابن كثير حديث عدي بن حاتم معزوا إلى الصحيحين وفيه مباينة وزيادة لما ورد في التاج فرأينا من المفيد نقله لأن ابن كثير من أئمة الحديث «قال عدي بن حاتم قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك قلت وإن قتلن. قال وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على غيره. قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟. فقال إذا رميت بالمعراض

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه ص ٩٢.

٣٩

فخزق فكله وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله. وفي لفظ لهما إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإنّ أخذ الكلب ذكاته. وفي رواية لهما فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» وقد عقب ابن كثير قائلا فهذا دليل الجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. ثم قال وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا لا يحرم مطلقا. ثم أخذ يسوق أحاديث في تأييد جواز أكلها وفي بعض مسائل أخرى لم ترد في الكتب الخمسة ولكنه نبّه على أنها جيدة الأسناد. وأورد بعضها البغوي أيضا ونبّه التنبيه نفسه ، والمفسران من أئمة الحديث.

ومن هذه الأحاديث حديث عن سلمان الفارسي قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي» وحديث عن أبي ثعلبة الخشني قال «قلت يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. فقال كل ما أمسكن عليك. فقال ذكيا وغير ذكي وإن أكل منه. قال نعم وإن أكل منه. قلت يا رسول الله أفتني في قوسي. قال كل ما ردت عليك قوسك. قال ذكيا وغير ذكي قال نعم وإن تغيب عنك ما لم يصلّ ـ أي ينتن ـ أو تجد فيه أثر غير سهمك. قال أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها قال اغسلها وكل فيها». وهناك صيغ أخرى لحديث أبي ثعلبة جاء في إحداها «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه وكل ما ردّت عليك يدك» وفي إحداها «قلت يا رسول الله إنّا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس هو معلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي. قال أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل. وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل. وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل» وهناك أقوال أخرى مروية عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم تدور في النطاق الذي دارت فيه الأحاديث المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم نر ضرورة إلى إيرادها لأن فيها تكرارا لا فائدة منه.

٤٠