التّفسير الحديث - ج ١٠

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١٠

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٦

١
٢

٣
٤

محتوى الجزء العاشر من التفسير الحديث

١ ـ نموذج عن خط المؤلف

٢ ـ التقاريظ :

ـ محمد بهجة البيطار

ـ مجلة المعلم العربي

ـ عبد الفتاح أبو غدة

ـ د. مصطفى السباعي (مجلة حضارة الإسلام)

ـ البروفسور إسماعيل بوناولا الهندي.

٣ ـ الفتاوى

ـ أبو اليسر عابدين (مفتي دمشق)

ـ عبد الله القلقيلي (مفتي الأردن)

٤ ـ ترجمة المؤلف

٥ ـ الفهارس العامة

٥
٦

٧

تقريظ لمحمد بهجة البيطار (١)

كنت وصفت تفسير العلّامة الجليل محمد عزة دروزة فيما كتبته في مجلة مجمعنا العلمي على كتابه المطبوع (القرآن المجيد) ، وقلت : إنه يفسر القرآن بالقرآن ، بحيث تكون آياته في الموضوع الواحد مجموعة في مكان واحد ، ومفسّرة تفسيرا يجمع بين معانيها جمعا محكما. ومن أمعن النظر في تفسيره رأى فيه فوائد جمة ، ومباحث مهمة ، ونظرات ثاقبة ، ونقدا بالمنقول والمعقول ، لبعض مروياتهم في أسباب النزول ، وتفسيرا للآيات الكريمة بالظاهر المتبادر منها. وهو يرى أن السعادة لا تعود لهذه الأمة إلا إذا عادت إلى القرآن علما وعملا ، وأدبا وخلقا ، وله في ذلك كتاب مستقل سمّاه (الدستور القرآني في شؤون الحياة) وكنت كتبت عنه في مجلة المجمع أيضا.

وأمامي الآن الجزءان الأول والثاني من هذا التفسير الكبير الذي رتبه ترتيب نزول الآيات والسور ، على حسب تاريخها في الزمن. فأما الجزء الأول (البالغ ٢٧١ صفحة) فقد بدأ فيه ـ بعد المقدمة الوافية بالموضوع ـ بسورة الفاتحة التي يتلوها التالي في صلاته وغيرها ، ثم شرع بتفسير سورة العلق ، وفي آيها الخمس الأولى أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقراءة ، ولهذه الأمة الأمية التي أصبحت بهذا الوحي المنزل أمة كتاب وحكمة ، وهدى ورحمة.

وطريقة الأستاذ المفسر هي أن يفسر السورة كلها ، وإن كان بين هذه الآيات الخمس وما بعدها نزول جملة من القرآن تتضمن أمرا بالدعوة ، وشيئا من مبادئها

__________________

(١) انظر مجلة المجمع العلمي العربي ، الجزء الرابع من المجلد السابع والثلاثين ، تشرين الأول ١٩٦٢ ، جمادى الأولى ١٣٨٢.

٨

وأهدافها (قال) : وإلحاق هذه الآيات بالآيات الخمس الأولى ـ حيث تكونت شخصية السورة ـ يدلّ على أن سور القرآن كانت تؤلّف أولا فأولا ، وعلى أن المشهد الذي احتوته لم يتأخر كثيرا. وهكذا جرى الأستاذ دروزة في تفسير السور مرتبة على زمن النزول ، ولكنه لا يفرق بين أجزاء السورة الواحدة أو آياتها مهما تقدمت في النزول أو تأخرت ، حرصا على حفظ وحدة السورة وعدم توزيعها.

فسّر في هذا الجزء الأول ثلاثين سورة (عدا الفاتحة) بدأها بسورة العلق وختمها بالقارعة.

وأما الجزء الثاني (البالغ ما يقرب من ثلاثمائة صفحة) فقد بدأ بسورة القيامة وانتهى بسورة الفرقان ، ففسر اثنتي عشرة سورة. وطريقة الأستاذ دروزة في التفسير ما يأتي :

(١) تجزئة المجموعات والفصول إلى جمل تامة يصح الوقوف عندها من حيث المعنى والنظم والسياق.

(٢) شرح الكلمات الغريبة شرحا موجزا.

(٣) شرح مضمون الجملة شرحا مجملا.

(٤) إشارة إلى ما روي في مناسبة نزول الآيات وما قيل في مدلولها وأحكامها.

(٥) بيان ما تحويه الآيات من أحكام وحكم.

(٦) إيضاح مشاهد من السيرة النبوية.

(٧) قصص القرآن الحكيم.

(٨) الاهتمام ببيان ما بين آيات السور وفصولها من ترابط.

(٩) تفسير القرآن بالقرآن.

(١٠) وضع مقدمة أو تعريف موجز للسور قبل البدء بتفسيرها.

قال الأستاذ المفسّر في المقدمة : ولقد رأينا أن نجعل ترتيب التفسير وفق ترتيب نزول السورة بحيث تكون أولى السور المفسرة سورة العلق ، ثم القلم ثم المزّمل ، إلى أن تنتهي السور المكية ، ثم سورة البقرة ، فسورة الأنفال إلى أن تنتهي

٩

السور المدنية ، لأننا رأينا هذا يتّسق مع المنهج الذي اعتقدنا أنه الأفضل لفهم القرآن وخدمته ا ه. وقد استفتى في هذا بعض الأجلّاء فأفتوه بالجواز كما جاء في مقدمته. وهو يستشهد بكلام المفسرين ، من قدماء ومعاصرين ، كالطبري والرازي والزمخشري وابن كثير والألوسي وغيرهم ، وكتفسيري المنار والقاسمي. أثاب الله تعالى المؤلف خير الثواب ، ونفع بتفسيره أولي الألباب ويسّر له طبع الأجزاء كلها ، بمنّه سبحانه وتوفيقه.

محمد بهجة البيطار

١٠

تقريظ مجلّة المعلم العربي بدمشق (١)

إن القرآن الكريم ليس منبتّ الصلة بتاريخ أمتنا العربية ، وليس معزولا عن كل ذي فكر ، وبوجه خاص عن الباحثين والمؤرخين الذين يهتمون بتوخي الحقائق واعتماد أصدق المصادر في أبحاثهم ، ولا غرابة أن أقدم الأستاذ الجليل محمد عزة دروزة على إيجاد مثل هذا التفسير ، فقد انصرف الأستاذ الكريم كل الانصراف إلى البحث في تاريخ العرب وأنى له أن يجد معينا ينهل منه ويستقي أحسن وأفضل وأوثق من القرآن الكريم.

لقد عزم المؤلف على كتابة التفسير بعد جهود كبيرة بذلها في مطالعة الكتب والتفاسير العديدة بالإضافة إلى الجهود التي بذلها في تقديم كتبه السابقة ، وفيها أداة المادة ونواة المؤلّف الجديد ، ونتيجة لذلك فقد انتهج في تفسيره الخطة التالية :

١ ـ تجزئة المجموعات والفصول إلى جمل تامة ، يصح الوقوف عندها من حيث المعنى والنظم والسياق ، وقد تكون الجملة آية واحدة أو آيات قليلة أو سلسلة طويلة من الآيات.

٢ ـ شرح الكلمات والتعابير الغريبة وغير الدارجة كثيرا ، بإيجاز ودون تعمق لغوي ونحوي وبلاغي ، إذا لم تكن هناك ضرورة ماسة.

٣ ـ شرح مدلول الجملة شرحا إجماليا ، حسب المقتضى المتبادر بأداء بياني واضح ، ودون تعمق كذلك في الشروح اللغوية والتنظيمية. مع الاستغناء عن هذا

__________________

(١) انظر العدد الثاني / شباط ـ آذار ـ نيسان ١٩٦٥ م ، السنة الثامنة عشرة ، دمشق.

١١

الشرح والاكتفاء بعرض الهدف والمدلول ، إذا كانت عبارة الجملة واضحة نظما ولغة.

٤ ـ إشارة موجزة إلى ما روي في مناسبة نزول الآيات أو في صددها ، وما قيل في مدلولها وأحكامها ، وإيراد ما يقتضي إيراده من الروايات والأقوال ، والتعليق على ما يقتضي التعليق عليه منها بإيجاز.

٥ ـ تجلية ما تحتويه الجملة من أحكام ومبادئ وأهداف وتلقينات وتوجيهات تشريعية وأخلاقية واجتماعية وروحية. والاعتماد في ذلك على النظر في الدرجة الأولى ، وملاحظة مقتضيات تطور الحياة والمفاهيم البشرية. وهذه نقطة أساسية وجوهرية.

٦ ـ تجلية ما تحتويه الجملة من صور ومشاهد عن السيرة النبوية والبيئة النبوية لأن هذا يساعد على تفهم ظروف الدعوة وسيرها وأطوارها ، وجلاء جوّ نزول القرآن الذي ينجلي به كثير من المقاصد القرآنية.

٧ ـ التنبيه على الجمل والفصول الوسائلية والتدعيمية (وهي ما أريد به تدعيم الرسالة القرآنية ومبادئها المحكمة ، مثل القصص ومشاهد الحياة الأخروية والمواقف الجدلية والأمثال والتذكير .. إلخ) ؛ وما يكون فيها من مقاصد أسلوبية كالتعقيب والتعليل والتطمين والترغيب والترهيب والتقريب والتمثيل والتنديد والتذكير والتنويه ، مع إبقاء ذلك ضمن النطاق الذي جاء من أجله وعدم التطويل فيه. والتنبيه بإيجاز إلى ما ورد في صدده إذا اقتضى السياق بما لا يخرج به عن ذلك النطاق.

٨ ـ الاهتمام لبيان ما بين آيات وفصول السور من ترابط. وعطف الجمل القرآنية على بعضها سياقا أو موضوعا ، كلما كان ذلك مفهوم الدلالة ، لتجلية النظم القرآني والترابط الموضوعي فيه. لأن هناك من يتوهم أن آيات السور وفصولها مجموعة إلى بعضها بدون ارتباط وانسجام ، في حين أن الإمعان فيها يجعلنا على يقين تام بأن أكثرها مترابط ومنسجم.

١٢

٩ ـ الاستعانة بالألفاظ والتراكيب والجمل القرآنية في صدد التفسير والشرح والسياق والتأويل والدلالات والهدف والتدعيم والصور والمشاهد.

١٠ ـ العطف على ما جاء في كتاب «القرآن المجيد» من بحوث حين تفسير الجملة ومقاصدها تفاديا من التكرار والتطويل.

١١ ـ عرض المعاني بأسلوب قريب المأخذ سهل التناول والاستساغة ، واجتناب الألفاظ الحوشية والخشنة والغريبة والعويصة.

١٢ ـ شرح الكلمات والمدلولات والموضوعات المهمة المتكررة شرحا وافيا وخاليا من الحشو عند أول مرة ترد فيها ، والعطف على الشرح الأول في المرات التالية دون تكرار شرحها في مواطن تكررها.

والجدير بالذكر أن ترتيب هذا التفسير هو وفق ترتيب نزول السورة ، إذ بذلك يمكن متابعة السيرة النبوية زمنا بعد زمن ، كما يمكن متابعة أطوار التنزيل ، وبهذا أو ذاك يندمج القارئ في جو نزول القرآن وجو ظروفه ومناسباته ومداه ، ومفهوماته وتتجلى له حكمة التنزيل.

ولا ريب في أن هذا العمل لا يمسّ قدسية المصحف المتداول ، لأن التفسير ليس مصحفا للتلاوة من جهة ، وهو عمل فني أو علمي من جهة ثانية.

ولقد أثر عن علماء أعلام ، قدماء ومحدثين تفسيرات لوحدات وسور قرآنية ، دون وحدات وسور.

كما أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كتب مصحفا وفق نزول القرآن ولم نر نقدا أو إنكارا لهذا أو ذاك.

ـ محمد ـ

١٣

تقريظ عبد الفتاح أبو غدة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين.

أما بعد من عبد الفتاح أبو غدة إلى الأستاذ الفاضل السيد محمد عزة بك دروزة سلّمه المولى ، ونفع به وبآثاره آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد فأرجو أن تكونوا بخير من الله وعافية ، تسلّمت من الأستاذ السيد عمر بك الأميري مؤلفكم العظيم «التفسير الحديث» ، وشرح لي رغبتكم في المشاركة بخدمة القرآن الكريم ، وإني لحريص على أن يكون لي هذا الشرف الكبير ، ولكن كما حدثت الأستاذ عمر بك : شواغلي وواجباتي كثيرة تحول بيني وبين هذه الأمنية الغالية لدي.

وإني إذ أعتذر بكل أسف لعدم تمكني من القيام بهذه الخدمة الجليلة لكتاب الله تعالى ، أذكر لكم أستاذا من كرام إخواني وأحبائي ، وهو خير مني لهذا العمل وأجدر به ، بما آتاه الله من سعة في الوقت ، وبسطة في المعرفة والاطلاع ، ومتانة في الأسلوب واللغة ، وأناة في حلّ المشكلات وتتبع المعضلات ، وهو الأستاذ الشيخ محمد فوزي فيض الله ، أخي وزميلي في مراحل التحصيل كلها في حلب والأزهر ، ويقوم الآن بتدريس الفقه الحنفي في كلية الشريعة بالجامعة السورية خير قيام ، ولديه فوق ما ذكرت من طيب النفس وحسن السيرة ما يزيدكم حبّا به

١٤

واعتمادا عليه إلى الحدّ المرتضى إن شاء الله.

وقد اتصلت به بعد زيارتكم يوم كنت بدمشق ، وحدثته بهذا العمل الجليل فاعتذر أولا بمهام التدريس التي يقوم بها ، ثم قبل أن يقوم بالعمل بعد أن يقف على الجهد العلمي الذي يتطلبه الكتاب ، وقد اتفقت معه أن نزوركم إذا بقيت في دمشق ، ثم أعجلني الوقت فسافرت ولم نتمكن من زيارتكم ، وها أنا ذا أرسل هذا الكتاب مع «الجزء الأول» من التفسير إليه ليكون وسيلة طيبة لزيارتكم والالتقاء بكم.

وكان الأستاذ عمر بك سألني في حديثه عن كتابكم هذا عن صنيعكم في ترتيب السور المفسرة إذ بدأتم بها حسب النزول لا حسب تدوينها الآن في المصحف الشريف ، فذكرت له أني لا أرى مانعا من ذلك فيما أعلم ، وعلى من قال أو رأى غير هذا الرأي أن يدلي بما يستند إليه في المنع فأكون له من الشاكرين.

وحينما سعدت بزيارتكم في دمشق ذكرتم لي أن أحد أصدقائكم العلماء الأفاضل في فلسطين قد رغبتم منه أن يشارككم في خدمة هذا التفسير الكريم ، فأبدى لكم أطيب الاستعداد لذلك ، غير أنه توقف من أجل طريقتكم في ترتيب السور المفسرة بحسب النزول ، فإنه يراها طريقة غير سائغة في رأيه ، وليتني وقفت على مستنده في هذا الرأي لأرجع عن رأيي الذي لا أزال أراه صوابا حتى يقوم الدليل على خلافه.

وإني أذكر لكم هنا ما يحضرني الآن مما يؤكد جواز صنيعكم ، ولعل فيه مقنعا لمن قد يرى غير الذي أرى ، والله ولي التسديد والتوفيق.

إن شبهة المنع لهذه الطريقة آتية من جهة أنها طريقة تخالف ما عليه المصحف الشريف اليوم من الترتيب المجمع عليه والمتواتر إلى الأمة نقله جيلا بعد جيل. ودفع هذه الشبهة أن المنع يثبت فيما لو كان هذا الصنيع مسلوكا من أجل أن يكون هذا الترتيب «مصحفا» للتلاوة ، أي ليتلو الناس القرآن على هذا

١٥

النحو الذي سلكتموه ، أمّا وإن الغرض للمفسر والقارئ معا غير هذا ، فلا مانع من سلوكه إطلاقا.

ويستأنس لسواغية هذه الطريقة بما سلكه أجلّة من علماء الأمة المشهود لهم بالإمامة والقدوة من المتقدمين في تآليفهم ، ولم يعلم أن أحدا أنكر عليهم ما صنعوا ، ويحضرني منهم الآن الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦ من الهجرة ، فقد مشى في تفسير ما فسره في كتابه المطبوع «تأويل مشكل القرآن» على غير ترتيب النزول وعلى غير الترتيب المتلو الآن ، ويبدو هذا جليا فيه ب ص ٢٤٠ ـ ٣٣٩ ، ولا أشك أن هناك غيره من شاركه في هذه الطريقة من علماء عصره وما بعده ، ممن لا يسعني الآن البحث عنهم ، لضيق الوقت لديّ.

على أن القول بالمنع تبعا لهذه النظرة الضيقة ينبغي أن يشمل ما سلكه الشيخ جلال الدين المحلّي ثم جلال الدين السيوطي في تفسيرهما المعروف بتفسير الجلالين ، إذ قد بدأ الأول بالتفسير من آخر القرآن الكريم وهو صاعدا إلى سورة الكهف ، ثم مات فأتم الجلال السيوطي من حيث وقف سلفه إلى أول القرآن الكريم ، فهما لم يراعيا في مسلكهما هذا : البدء على ترتيب القرآن من أوله إلى آخره. وكذلك ينبغي أن يشمل ما صنعه الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» والشيخ محمد أحمد العدوي في كتابه «دعوة الرسل إلى الله» ، فهما أيضا لم يراعيا في مواضيع كتابيهما ترتيب القرآن المتلو اليوم ، بل راعيا اعتبارا آخر ، وكذلك ينبغي أن يتناول المنع كتابكم «الدستور القرآني في شؤون الحياة» ، فقد سلكتم فيه نحو طريقتكم في التفسير من جمع طائفة من الآيات الكريمة في صعيد واحد ، ثم تفسيرها وبيان ما تلهمه من المعاني الكريمة ، فهل يصح أن يقال : إنكم مع من ذكرنا قد خالفتم ترتيب كتاب الله تعالى ، وجافيتم الحق المشروع؟

فإن قيل : هناك فارق بين صنيعكم هناك في «الدستور» وصنيعكم هنا في «التفسير» ، فإن الأول يمكن أن يجعل من باب التأليف على اعتبار وحدة الموضوع

١٦

التي ينظر فيها إلى مدلول الآيات فحسب ، وأما الثاني فإن النظر فيه متجه إلى مراعاة النزول فحسب ، فالجواب : فليجعل هذا أيضا من باب وحدة الموضوع بين السورة والسورة من حيث زمن نزولها سابقة أو لاحقة.

ثم إن المنع إنما يتجه القول به لدى قائله إذا كان ترتيب السور توقيفيا لا دخل للاجتهاد فيه ، ولكن السيوطي رحمه‌الله تعالى قد حكى في كتابه «الإتقان» عن جمهور العلماء أن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة ، لا وليس هو بتوقيف من سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا نص عبارته (١ / ٦٢) :

«وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي أيضا أو هو باجتهاد من الصحابة؟ خلاف ، فجمهور العلماء على الثاني ، منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه ، قال ابن فارس : جمع القرآن على ضربين ، أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين ، فهذا هو الذي تولته الصحابة ، وأما الجمع الآخر ، وهو جمع الآيات في السور فهو توقيفي تولاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه ، وما استدل به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور ، فمنهم من رتبها على النزول ، ومصحف عليّ كان أوله «اقرأ» ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم التكوير ، وهكذا إلى آخر المكي والمدني.

وكان أول مصحف ابن مسعود : البقرة ثم النساء ثم آل عمران ، على اختلاف شديد ؛ وكذا مصحف أبيّ وغيره ، ثم ساق السيوطي رحمه‌الله بعد نحو صفحتين صورة عن الترتيب الذي في مصحف أبي بن كعب ومصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.

قلت : وإذا كان الأمر في ترتيب السور في المصحف اجتهاديا ، وجمهرة العلماء عليه ، فلا يقوم للقول بالمنع وجه في مراعاة النزول في التفسير وفي غير المصحف.

وجاء في كتاب «فرائد فوائد قلائد المرجان ، وموارد مقاصد منسوخ القرآن» للشيخ مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي (مخطوط عندي) ما صورته :

١٧

«ذكر ترتيب السور : وقد وقع فيه خلاف كبير بين العلماء ، هل هو بالنص أو بالاجتهاد؟ فمنهم من قال : إن ترتيب السور كان بتوقيف من جبريل عليه‌السلام ، ومنهم من قال : إن زيد بن ثابت هو الذي رتب السور بمشاركة من عثمان ومن معه.

قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه‌الله تعالى : ترتيب السور بالاجتهاد لا بالنص في قول جمهور العلماء من الحنابلة والمالكية والشافعية ، فيجوز قراءة هذه قبل هذه ، وكذا في الكتابة ، ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة في كتابتها ، لكن لما اتفقوا على المصحف زمن عثمان صار هذا مما سنه الخلفاء الراشدون ، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها» اه.

وواضح كل الوضوح أن محل اتباع هذه السنة التي يجب اتباعها إنما هو في كتابة المصحف الذي يكون للتلاوة والقراءة ، لا في كتابة تفسير وشرح لمعاني الآيات والسور الكريمة ، فإن ذلك غير داخل في موضوع اختلاف العلماء أو اتفاقهم إطلاقا ، بل هم فيما أرى متفقون على سواغيته وجوازه ، والله تعالى أعلم.

هذا ما حضرني الآن كتابته في هذا الصدد كتبته لكم راجيا المولى أن يسددنا إلى الحق والصواب ، ويهدينا سواء السبيل. وهو حسبنا ونعم الوكيل ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حلب البياضة الأحد ١٩ / من ذي القعدة سنة ١٣٧٦.

١٨

تقريظ مجلة حضارة الإسلام لصاحبها

الدكتور مصطفى السباعي

كنا قد ألمحنا إلى صدور الجزء الأول والثاني من كتاب «التفسير الحديث» للأستاذ محمد عزة دروزة في العدد الثالث من السنة الحالية لهذه المجلة ، وبيّنا طرفا مما امتاز به بحث الأستاذ دروزة خصوصا في تفسيره هذا عن بقية الكاتبين من حيث الأسلوب والمعالجة والتحقيق ـ وإن كان ذلك قد جعله يخرج عن دائرة ما أجمع عليه جماهير العلماء في بعض الأمور الهامة ـ وقد ظهر اليوم الجزء الثالث من هذا التفسير ، وهو كما قد قلنا سابقا قد سلك لأول مرة سبيل ترتيب النزول لا ترتيب الجمع على ما هو عليه ، ولا شك أنه ينطوي بذلك على جهد ممتاز مشكور.

إننا نرجو للأستاذ دروزة اضطراد التوفيق ونأمل أن تتكامل أجزاء هذا التفسير عما قريب.

١٩

هذه صورة عن كتاب ورد في تاريخ ٣ آذار ١٩٨٨ من البروفسور اسماعيل بوناولا ـ الهندي ـ الاستاذ في قسم اللغات والثقافة الاسلامية الشرق أوسطية في جامعة كليفورنيا ـ لوس أنجيلوس ، الولايات المتحدة [وهو الاستاذ الذي حرر نبذة عن المرحوم محمد عزّة دروزة في الأنسكلوبيديا الاسلامية / ليدن ، وكذلك الدراسة القيمة عن التفسير الحديث ومنهجيته ، في الكتاب الصادر عن مؤسسة روتلدج ، عن القرآن الكريم].

٢٠