التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

والميسر. حيث يصح القول بأن حالة العهد المدني صارت تتحمل هذه الخطوة الحاسمة إلى تحريم هذه الأفعال الضارة التي كان لها رسوخ شديد بين العرب ومتصلة بمصالحهم الاقتصادية في الوقت نفسه والتي اكتفي بسبب ذلك بالخطوات التمهيدية في صددها في آيتي البقرة والنساء.

ولقد قال بعض المتمحلين إن أسلوب الآيات أسلوب تحذير وكراهية أكثر منه أسلوب تشريع وتحريم حاسم. وحاولوا تأييد تمحّلهم بالقول بأن حدّ شارب الخمر ليس قرآنيا وإنما هو سنّة نبوية وراشدية متموجة المقدار. وليس من حدّ على لاعب الميسر. وهذا وذاك لا يقومان على أساس صحيح لا من حيث أسلوب الآيات ولا من حيث مضمونها. بل ومن الحقّ أن يقال إن أسلوبها ومضمونها احتويا قوة في التحريم. ويكفي أن يكون الخمر والميسر قد قرنا مع الأنصاب بالذكر للتدليل على ذلك. فإنه لن يسع أحدا أن يقول مثلا إن النهي عن الأنصاب التي كان يقيم المشركون طقوسهم الدينية ويقربون قرابينهم عندها هو من قبيل التحذير والكراهية وليس من قبيل التحريم الزاجر. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد ذكر فيها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول هذه الآيات. يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي أمر القرآن المسلمين بأخذ ما آتاهم والانتهاء عمّا نهاهم ، كما أنه من الله ـ من أحاديث عديدة في تحريم كلّ مسكر وفي اعتبار كل مسكر خمرا وفي لعن شاربها وبائعها وحاملها وإنذار شاربيها ومستحليها ومسمى بعضها بأسماء أخرى بالنذر القاصمة. من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر وجاء فيه «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام» (١) وحديث رواه الخمسة عن عائشةو جاء فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلّ شراب أسكر فهو حرام» (٢) وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن طارق الجعفي «أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال : إنما أصنعها

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٢٦ ـ ١٣٠.

(٢) المصدر نفسه.

٢٢١

للدواء فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء» (١) وحديث رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال «سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : إنا يا رسول الله بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوّى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا ، قال : هل يسكر؟ قلت : نعم ، قال : فاجتنبوه ، فقلت : إن الناس غير تاركيه ، قال : فإن لم يتركوه فقاتلوهم» (٢) وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام» (٣) وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كلّ مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكفّ منه حرام» (٤) وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» (٥) وحديث رواه النسائي والترمذي عن ابن عمر ونفر من الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه ، وفي رواية : فاضربوا عنقه» (٦) وحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليشربنّ ناس من أمتي الخمر يسمّونها بغير اسمها» (٧) وحديث رواه أصحاب السنن «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ، قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال : صديد أهل النار. ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» (٨). أما كون القرآن لم يضع حدا على شارب الخمر ولاعب الميسر

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٢٦ ـ ١٣٠.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) المصدر نفسه.

(٧) المصدر نفسه.

(٨) المصدر نفسه.

٢٢٢

فالمتبادر أن ذلك راجع إلى كونهما ذنبين شخصيين لا يتعلق بهما حق الغير. فالحدود القرآنية إنما تفسّر بهذا الأصل فيما يتبادر لنا في جملة ما تفسّر به أيضا. ويلحظ أن القرآن لم يعيّن حدّا على تارك الصلاة والصوم والحج والزكاة وهي أركان الإسلام مما يمكن أن يفسر بمثل ذلك. والقول بعدم حرمة المسكر والميسر كفر لا ريب فيه بإجماع علماء المسلمين في كل زمن ومكان استنادا إلى هذه الآيات وروحها والأحاديث النبوية العديدة. وإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى أن يجلد شارب الخمر دون لاعب الميسر فحكمة ذلك ما في شرب الخمر من إضاعة عقل وكرامة واحتمال إقدام الشارب على أفعال ضارة به وبغيره كما هو المتبادر. ويلحظ أن المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك يجعل السنّة النبوية من باب التعزير والتأديب حيث روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس «أنّ نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وفي رواية : أنه أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. وفي رواية للترمذي : أنه ضرب شارب الخمر بنعلين أربعين» (١) وروى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال : اضربوه ، فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض القوم : أخزاك الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان» (٢) وروى البخاري «أنه كان رجل على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمّى عبد الله وكان يلقّب حمارا وكان يضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان قد جلده في الشراب فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال بعض القوم : اللهمّ العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تلعنوه فو الله ما علمت إلّا أنه يحبّ الله ورسوله» (٣) وليس في النهي النبوي في الحديثين ما يخفف إثم شارب الخمر واستحقاقه للتعزير وكل ما في الأمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير تجاوز ذلك إلى لعنه. وفي هذا تأديب نبوي رفيع كما هو المتبادر.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٨.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

٢٢٣

ولقد استلهم أصحاب رسول الله سنته من بعده فروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أن أبا بكر جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال ما ترون في جلد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف أرى أن تجعلها كأخفّ الحدود فجلد ثمانين (١).

ولقد روى الشيخان عن ابن عمر قال سمعت عمر على منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل» (٢) والجملة الأخيرة من الحديث المتوافقة مع بعض الأحاديث التي أوردناها قبل تزيل الوهم بحلّ ما يمكن أن يصنع من غير المواد المذكورة من شراب مسكر كما هو ظاهر. والمتبادر أن المواد التي ذكرت في الحديث هي ما كان يصنع منه الخمر في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفائه.

هذا ، وهناك أحاديث أخرى فيها بعض الأحكام في صدد الخمر أيضا. منها حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت «قدم وفد عبد القيس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه عن النبيذ فنهاهم أن ينتبذوا في الدّباء والنقير والمزفّت والحنتم» (٣) والانتباذ هو نقع الزبيب والتمر وما من بابهما وشرب نقيعه الذي كان يسمى نبيذا. وقد روى مسلم والترمذي حديثا فيه تفسير للألفاظ عن ابن عمر لسائل سأله عنها جاء فيه «نهى النبيّ عن النبذ في الحنتم وهي الجرة والدباء وهي القرعة والمزفّت وهو المطلي بالقار والنقير وهي جذع النخلة المنقور وأمر بأن ينتبذ في الأسقية» (٤) وهناك حديثان معولان للحديث النبوي روى أحدهما الخمسة إلا البخاري عن بريدة جاء فيه فيما جاء «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهيتكم عن الأشربة إلّا في ظروف الأدم فاشربوا في كلّ وعاء غير ألّا تشربوا مسكرا» (٥) وحديث رواه الخمسة جاء فيه «قال

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٩٤.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) التاج ج ٣ ص ١٢٦ وما بعدها.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٢٢٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهيتكم عن الظروف. وإن ظرفا لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه. وكلّ مسكر حرام» (١) حيث يبدو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحظ احتمال تغير النقيع في الأوعية المذكورة حتى يصير مسكرا. ثم استدرك في الحديثين فركز النهي على المسكر. بحيث صار هذا هو القاعدة والضابط. مع ملاحظة الأحاديث السابقة التي تقول ما أسكر كثيره فقليله حرام. وهناك حديثان فيهما توضيح متسق مع هذا الاستدراك رواهما مسلم وأبو داود والنسائي أحدهما عن ابن عباس جاء فيه «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينقع له الزبيب مساء فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى أو يهرق» (٢) وثانيهما عن عائشة قالت «كنّا ننبذ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سقاء يوكى أعلاه وله عزلاء ننبذه غدوة فيشربه عشاء وننبذه عشاء فيشربه غدوة» (٣) وهناك حديث آخر فيه توضيح آخر رواه الخمسة عن عائشة قالت «سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل فقال كلّ شراب أسكر فهو حرام» (٤).

وهذه أحاديث نبوية أخرى فيها بعض الأحكام منها حديث رواه مسلم والترمذي عن أنس جاء فيه «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلّا فقال لا» (٥) وحديث رواه أبو داود عن أنس جاء فيه «إنّ أبا طلحة سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أيتام ورثوا خمرا قال أهرقها. قال أفلا أجعلها خلا قال لا» (٦) وروى الإمام أحمد حديثا جاء فيه «أهدى رجل زقّ خمر لصديق له بعد نزول الآيات فقال له إن الله حرّمها فاذهب فبعها. فقال رسول الله إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها فأهرقت في البطحاء» (٧).

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٢٦ وما بعدها.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) المصدر نفسه.

(٧) المصدر نفسه.

٢٢٥

وقد يرد سؤال وهو ما إذا كان للمضطر أن يشرب الخمر قياسا على إجازة القرآن للمضطر بأكل الميتة ولحم الخنزير والدم وما أهلّ لغير الله به على ما جاء في آيات عديدة منها الآية الثالثة من هذه السورة. ولقد أوردنا قبل قليل حديثا فيه جواب نبوي يفيد النهي عن صنع الخمر وشربها كدواء. ويتبادر لنا أن نصّ الحديث غير حاسم. وأن من السائغ أن يقال إن للمضطر في حالة المرض الشديد الذي لا يكون له علاج إلا الخمر وإن له في حالة العطش الشديد الذي لا يجد صاحبه ما يدفع به عطشه إلا الخمر أن يتناول من الخمر ما يشفي مرضه ويدفع عطشه في نطاق الرخصة القرآنية المنطوية في جملة (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الأنعام [١٤٥] و (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المائدة [٣] والله تعالى أعلم.

وفي صدد الميسر نقول إننا شرحنا معناه اللغوي في سياق تفسير سورة البقرة [٢١٩] ونقول هنا إن صيغة الآية تفيد أن تحريم كلّ ما يندرج في معنى الميسر وهو أخذ مال من آخر بدون حقّ وسند شرعي وبأسلوب اللعب والرهان بخاصة هو بنفس قوة تحريم الخمر. وهناك أحاديث في صدد تحريم بعض الألعاب. منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة ومنها ما رواه أئمة حديث آخرون. فمن الأول حديث رواه مسلم وأبو داود عن بريدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» (١) وحديث رواه أبو داود عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» (٢). ومن الثاني حديثان في صيغة متقاربة أوردهما ابن كثير أخرج أحدهما الإمام أحمد عن ابن مسعود قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران زجرا فإنهما من ميسر العجم» وأخرج ثانيهما ابن أبي حاتم عن أبي موسى قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر» وقد روى

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٢٦١.

(٢) المصدر نفسه.

٢٢٦

ابن كثير قولا عن عبد الله بن عمر عن الشطرنج أنه شرّ من النرد وعن عليّ أنه من الميسر. وقال إن مالكا وأبا حنيفة وأحمد حرّموه وإن الشافعي كرهه. وروى عن عطاء ومجاهد وطاووس أن كل شيء من القمار هو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والبيض. ويصحّ أن يفرع على هذا ألعاب الورق التي لم تكن معروفة قبل.

وظاهر مما تقدم أن كل ما يمارس ، من ألعاب وأعمال فيها رهان وقمار وأخذ مال الغير وبنية ذلك يدخل في معنى الميسر ويتناوله الوصف والحظر القرآنيان. وفي قول مجاهد وعطاء وطاووس الذي يرويه ابن كثير دعم لذلك.

وفي صدد الأزلام نقول إن المستفاد من كلام الطبري وغيره أن المقصود من الكلمة في الآية هو ما يذبح من ذبائح على سبيل الميسر. وهي الطريقة التي شرحناها في سياق آية سورة البقرة [٢١٩] حيث أريد بالعبارة القرآنية هنا التنبيه إلى أنّ كل ما يذبح من ذبائح على سبيل الميسر هو رجس حرام. وتأويل الأزلام بالذبائح التي تذبح على سبيل الميسر هنا وجيه. غير أن ذكر الأزلام مع الميسر قد يفيد أن الكلمتين غير مترادفتين. والذي يتبادر لنا أن الميسر هو القمار بصورة عامة وأن الأزلام نوع منه اختص بالذكر لأنه الأكثر ممارسة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته ممتدّا إلى ما قبل. وقد يدعم هذا الاكتفاء بذكر الميسر في الآية الثانية.

والأنصاب هي ما كان العرب ينصبونه للعبادة والطقوس من حجر وشجر وكانوا يذبحون عندها قرابينهم باسم معبوداتهم التي يشركونها مع الله وقد ذكر ذلك في الآية [٣] من هذه السورة. حيث حرّم ما يذبح عليها (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ولعل المقصود هنا أيضا توكيد تحريم أكل الذبائح التي تذبح عليها لأن هذا هو المتناسب مع مقام الآيات.

هذا ، وأسلوب الآيات شديد في الوصف والتحذير. مما قد يدلّ على قوة جذور هذه العادات وتعلّق الناس بها وبخاصة الخمر والميسر. وقد نبهت الآية الثانية إلى ما في تعاطي الخمر والميسر من مضارّ عظيمة اجتماعية وخلقية ودينية مما هو من باب حكمة التشريع ومما هو متسق مع الأسلوب القرآني بوجه عام.

٢٢٧

وما احتوته الآيات من الحكمة أولا والنهي المشدد والمطلق عن الخمر والميسر ثانيا مما انفرد به القرآن. ومما هو متسق مع العقل والمصلحة الإنسانية في كل ظرف وبالتالي من مرشّحات الشريعة الإسلامية للخلود.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)) [٩٣].

تعليق على الآية

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا

إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) إلخ

وما فيها من تلقين

عبارة الآية واضحة. وقد روى الطبري وغيره روايات عديدة مختلفة الصيغ متفقة في الجوهر أن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوا النبي حينما نزلت الآيات السابقة عن حالة الذين شربوا الخمر وأكلوا لحم ذبائح الميسر منهم ومن إخوانهم الذين ماتوا قبل نزولها فنزلت الآية.

والروايات لم ترد في الصحاح. ولكنها محتملة وتكون الآية بذلك متصلة بما سبقها اتصالا موضوعيا ولعلّها نزلت عقبها مباشرة قبل أن ينزل قرآن آخر والله أعلم.

وقد قال الطبري في شرح مدى الآية قولين جاء في واحد منهما أن الفقرة الأولى هي بسبيل رفع الحرج عن الذين أكلوا وشربوا قبل التحريم إذا ما آمنوا واتقوا وعملوا الصالحات وخافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارمه وثبتوا على ذلك. وجاء في ثانيهما أن الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله تعالى بالقبول والتصديق والعمل به. والثاني هو الاتقاء بالثبات على ذلك. والثالث بالإحسان والتقرب بنوافل الأعمال. وقال البغوي إن الاتقاء الأول اتقاء الشرك والثاني بمعنى الدوام في الاتقاء والثالث الإحسان في الأعمال. ومما قاله الطبري أن الأول بالنسبة للذين

٢٢٨

ماتوا والثاني بالنسبة للذين ظلوا أحياء في عهد النبي والثالث للزمن المقبل.

وفي كل هذه الأقوال وجاهة. ولقد انطوت الآية على رفع الحرج عن المؤمنين في زمن النبي عمّا فعلوه ولم يكن محرّما عند فعله. كما انطوت على تلقين مستمر المدى بكون المهم عند الله تعالى هو الإيمان والتصديق والاجتهاد في اتقاء حرمات الله ومحرماته واتباع أوامره واجتناب نواهيه والعمل الصالح والإحسان فيه ثم يتسامح الله عزوجل فيما يتناوله المؤمنون من مشروب ومطعوم بحسن نية وبغير قصد الإثم وبغير العلم بالإثم ولو كان في حقيقته فيه شبهة أو تهمة. وهذا متسق مع تلقينات القرآن العامة. ومتسق مع طبائع الأمور ، ومن مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود.

وواضح من هذا أن التسامح لا يشمل الذين يتناولون المحرمات من مطعوم ومشروب عن علم خلافا لما يقوله ويفعله بعض الفسّاق والمجّان.

ويظهر أن هذا قديم حيث رأينا الرازي يتصدى له ويفنده تفنيدا سديدا على ما جاء في تفسير رشيد رضا مسهبا مع تفنيده بدوره تفنيدا سديدا.

ومقام الآية ونصّها لا يمكن أن يتحملا ذلك. فهي في صدد الذين تناولوا ما تناولوه قبل تحريمه وهي تشترط لرفع الجناح عنهم أن يتقوا حرمات الله بعد تحريمه ويؤمنوا ويحسنوا ويعملوا الصالحات.

واستحلال ذلك بعد نزول الآيات المحرّمة كفر وتناول المحرمات مع الاعتراف بحرمتها دون استحلالها كبيرة. وكل ما يمكن أن يقال في الحالة الثانية هو أن باب التوبة مفتوح أمام المؤمن في نطاق شروطها من ندم واستغفار وعزم على عدم العودة وفي حالة الصحة. والله تعالى أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ

٢٢٩

الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)) [٩٤ ـ ٩٦].

(١) النعم : مرادفة للأنعام.

(٢) ذوا عدل : معروفين بالعدل والاستقامة.

(٣) السيارة : بمعنى القافلة والمسافرين.

في الآيات :

(١) تنبيه للمسلمين بأن الله قد يختبرهم فيجعل في متناول أيديهم ورماحهم شيئا من الصيد حتى يظهر فعلا المؤمن المخلص الذي يخاف الله ويؤمن به بالغيب ولو لم يره ويقف عند أوامره.

(٢) وإنذار للذين ينحرفون عند الاختبار ويتعدون حدود حرمات الله فإن لهم عنده عذابا أليما.

(٣) ونهي عن قتل الصيد في حالة الإحرام وتشريع الكفارة لمن يفعل ذلك. وهو تقريب قربان عند الكعبة من الأنعام معادل لما قتل أو إطعام بعض مساكين أو صيام بعض أيام تعادل ذلك ليشعر بهذا قاتل الصيد أنه اقترف محظورا وكفّر عنه.

(٤) وإيذان بأن الله قد عفا عما سلف من ذلك وأن من عاد إليه فإنه يكون قد عرض نفسه لانتقام الله العزيز.

(٥) وخطاب تشريعي للمسلمين بأن الله تعالى قد أحلّ لهم صيد البحر وأكله على أن يتمتع بهذه الرخصة المسلمون على السواء المقيم منهم والمسافر وبأنه قد حرّم عليهم صيد البرّ ما داموا حرما. وموعظة لهم فعليهم بتقوى الله الذي سيحشرون إليه ويقفون بين يديه.

٢٣٠

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ ...)

والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وما ورد

في صددها من أحاديث وشرح لمعنى الكعبة

وقد روى البغوي في سياق الآية الأولى أنها نزلت عام الحديبية وكان المسلمون محرمين فابتلاهم الله بالصيد وكانت الوحوش تغشى رحالهم بكثرة فهمّوا بأخذها فنزلت. وروى أن الآية الثانية نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شدّ على حمار وحش وهو محرم فقتله. ولم نطلع على رواية في مناسبة حلّ صيد البحر وطعامه. وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ولا في تفسير الطبري.

ويلحظ أن الآيات وحدة منسجمة شكلا وموضوعا. وأن فيها موضوعا لم يذكر في روايات النزول وهو حلّ صيد البحر وطعامه مما يجعلنا نرجح نزول الآيات دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون وقع ما ذكرته الروايات فكان ذلك مناسبة لنزول الفصل ليكون تشريعا تاما في موضوع الصيد في حالة الحرم.

وقد لا تبدو صلة ظرفية بين هذا الفصل والآيات السابقة له. ولكن التناسب الموضوعي ملموح لأنه فصل تشريعي كسابقه وفيه تشريع فيما يؤول إلى الأكل وقصده وهو الصيد. والمتبادر أن وضعه في مكانه بسبب ذلك إن لم يكن قد نزل بعد الآيات السابقة مباشرة.

ومع أننا لم نطلع على ما يفيد أن صيد البحر كان محظورا أو غير محظور في حالة الحرم قبل الإسلام فالذي نرجحه من مدى ومفهوم التقليد القديم في حظر الصيد المنبثق من حظر سفك الدم في حالة الإحرام أنه كان محظورا فاقتضت حكمة التنزيل إباحته ليكون ذلك تسهيلا للمسلمين عامة وللذين يأتون من المسافات البعيدة ويكون البحر طريقهم أو على طريقهم. وهذا يؤدي إلى القول أن المقصود من الجملة القرآنية إباحة صيد البحر وأكله في حالة الحرم كما هو المتبادر.

٢٣١

ولقد شرحنا مدى جملة (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) في سياق تفسير الآية الأولى من السورة. فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.

ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية والأقوال المعزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها ونعلق عليها فيما يلي (١) :

١ ـ هناك من قال إن الكفارة إنما تجب على الذين يقتلون الصيد عمدا وهم ناسون أنهم في حالة الإحرام. فإذا لم يكونوا ناسين فلا يحكم عليهم بكفارة لأن ذنبهم أعظم من أن يكفر ويكونون موضع انتقام الله. وينحلّ إحرامهم ويبطل حجهم. وصرف القائلون جملة (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) إلى ما قبل نزول الآيات. وهناك من قال إن الكفارة تصحّ لمن يقتل الصيد لأول مرة عمدا في حالة الإحرام ولو كان ذاكرا أنه في هذه الحالة. فمن كرر العمل فيغدو ذنبه أعظم من أن تكفره كفارة فلا يحكم عليه ويكون موضع انتقام الله. واتفقوا مع القول الأول بصرف العفو عما سلف إلى ما قبل نزول الآيات وقالوا إن الكفارة لا تسقط ما أنذر الله به من العذاب في الآية الأولى لأنه خالفها. ونبهوا على أن على المحكّمين أن يسألا الذي يحكّمهما إن كان قتل صيدا عمدا قبل ذلك فإن قال نعم ردّاه ولم يحكما وإن قال لا حكما. وقد صوّب الطبري القول الثاني. وهو تصويب في محله إلّا في أمر عدم سقوط ذنب الذي يقتل الصيد لأول مرة بالكفارة. فالكفارة ليست تعويضا لصاحب حقّ وإنما هي بمثابة توبة لله. والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات كما جاء في آية سورة الشورى [٢٥] وهناك ذنوب أعظم تسقط بالتوبة فضلا عن الكفارة على ما مرّ شرحه في سياق الآيات [٣٣ ـ ٣٤] من هذه السورة وفي سياق بحث التوبة في سياق سورة الفرقان.

٢ ـ هناك من قال إن (أو) هي للتخيير. فالحكمان العدلان يحكمان بما يعادل الصيد طعاما أو صياما أو هديا. والصائد يختار إحدى هذه الثلاث للتكفير.

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. والطبري كعادته أكثرهم استيعابا وإسهابا.

٢٣٢

وهناك من قال إنها للترتيب فيجب الهدي أولا فإن لم يمكن فالطعام فإن لم يمكن فالصيام. والنظم القرآني يتحمل كلا القولين. وإن كنّا نميل إلى القول إن على الميسور أن يقدم هديا إن وجد وقدر عليه وإلا فيطعم المساكين وإن لم يقدر فليصم وقد نبهوا على أن الهدي يذبح عند الكعبة. ويوزع لحمه على المساكين.

٣ ـ وقد بينوا الحدود التي يحسن أن يحكم الحكمان في نطاقها. فمن قتل حمار وحش أو بقرة وحش أو وعلا فعليه هدي بقرة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام عشرة أيام. ومن قتل غزالا أو أرنبا أو ضبّا أو يربوعا فعليه شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ستة أيام. ومن قتل دون ذلك كعصفور أو سمان أو حمامة فلا يحكم عليه بهدي لأنه ليس في الأنعام ما يعادل ذلك وإن كان يستحب أن يقرب سخلة أو شاة. ويحكم عليه بطعام ثلاثة مساكين أو صيام ثلاثة أيام. والطعام قوت يوم كامل نصف صاع أو مدّ من برّ أو تمر أو أكل جاهز.

٤ ـ ومما قالوه إن الصيد يقوّم بدراهم وهو حي ويشترى مما ندّ له من النعم إذا كان القاتل قادرا ولم يكن يملك ندا. وإن لم يجد ندا فيشترى بها حنطة أو تمر أو طعام ويوزع على المساكين. فإن لم يجد فيصوم مقابل ذلك أياما. وهناك من قال إن صيام يوم يقابل ما قيمته نصف صاع أو مدّ. وهناك من قال إن مقابل صيام اليوم ما قيمته صاع أو مدّ. والاختلاف في عدد الأصوع والأمداد هو بسبب اختلاف روايات مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ترو في الصحاح. ومهما يكن من أمر فالمبدأ الذي احتوته هذه الفقرة وهو تقويم الصيد بثمنه وهو حيّ وشراء ندّ له وتقريبه وإطعامه للمساكين إذا أمكن وشراء طعام أو حنطة أو تمر بالثمن وتوزيعه على المساكين إذا كان القاتل قادرا وصيام أيام عن كل ما قيمته صاع أو مدّ أو نصف صاع أو نصف مدّ يصحّ أن يكون مبدأ عاما يطبق في كل ظرف. والله أعلم.

٥ ـ وقد نبهوا على أن النهي هو في صدد ما يؤكل من الحيوان. وأباحوا قتل المؤذي منه في حالة الحرم استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم روى واحدا منها الخمسة عن النبي جاء فيه «خمس من الدوابّ لا حرج على من قتلهنّ الغراب

٢٣٣

والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور». وفي رواية «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة» (١) ولقد ألحق الفقهاء الوحوش الضارّة والحيوانات الضارة الأخرى قياسا على هذه الأحاديث. وهو وجيه.

٦ ـ وقد نبهوا إلى جواز أكل صيد البرّ للمحرم إذا لم يصده الآكل أو يصد له. استنادا إلى حديث رواه الإمام الشافعي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «صيد البرّ لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» (٢) ولقد روى الخمسة عن ابن عباس قال «أهدى الصعب بن جثّامة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمار وحش وهو محرم فردّه عليه وقال لو لا أنّا محرمون لقبلناه منك وفي رواية أهدي له عضو من لحم صيد فردّه وقال إنّا لا نأكله. إنّا حرم» (٣) وقد فسّر المفسرون هذا الحديث بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظنّ أن هذا الصيد قد صيد له ليزيلوا التناقض بينه وبين الحديث السابق. وأوردوا بسبيل ذلك حديثا جاء فيه «إن عثمان بن عفان نزل مع ركب بالروحاء فقرّب إليهم طير وهم محرمون فقال لهم عثمان كلوا فإني غير آكله. فقال له عمرو بن العاص وكان معه أتأمرنا بما لست آكلا. فقال لو لا أني أظنّ أنه صيد من أجلي لأكلت فأكل القوم» (٤). وهناك حديث مؤيد لذلك رواه البخاري والنسائي عن أبي قتادة «أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم لو سألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه فسألناه فقال لقد أحسنتم. هل معكم منه شيء قلنا نعم. قال فأهدوا لنا فأتيناه منه فأكل منه وهو محرم» (٥).

٧ ـ ونبهوا كذلك إلى أن صيد البحر وطعامه مباح للمحرم وغير المحرم. وسواء أخرج من الماء حيا أم ميتا. وكذلك ما قذفه البحر إلى الساحل. وما يقدد

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٠٧.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه ص ١٠٦.

(٤) تفسير الطبري.

(٥) التاج ج ٣ ص ٨٣.

٢٣٤

منه وما يملح. وجعلوا الأنهار في مثابة البحار في هذا الأمر. وبعضهم استثنى الضفادع والسرطانات لأنها ليست حيوانات بحرية تماما.

٨ ـ أما الحكمان ذوا العدل فلم نطلع على شيء في صددهما. والمتبادر أن الصائد هو الذي يختارهما من ذوي العدل والخبرة ليقدروا المسألة ويشيروا على الصائد برأيهم فيها. فهذه مسألة دينية وليست مسألة قضائية حقوقية بين متخاصمين حتى يصح أن يكون لولي أمر المسلمين دخل فيها. والله أعلم.

هذا ، وبمناسبة ورود كلمة الكعبة لأول مرة نقول إن المفسرين قالوا إنها سميت بذلك لأنها مربعة أو مرتفعة. وإنها من كعبت المرأة إذا نتأ ثديها أو ارتفع كما قالوا إنها سميت بذلك لانفرادها عن البنيان (١). وقد ينطوي في هذا المعنى الأول بشكل ما. ولقد أشير إليها في مواضع عديدة في السور السابقة المكية والمدنية باسم البيت والبيت الحرام والبيت العتيق وهو ما كان العرب يسمونها به قبل الإسلام. وكانوا يضعون فيها وحولها أصنامهم ويطوفون بها ويقيمون صلاتهم ويقربون قرابينهم عندها. والمأثور في الروايات العربية (٢) أنها لم تكن الوحيدة في جزيرة العرب حيث كان لبعض قبائل العرب كعبات للأغراض نفسها مع اعتبارها كعبة للعرب جميعهم. وحينما فتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وجد فيها وحولها ٣٦٠ صنما ووجد على جدرانها صور إبراهيم وعيسى عليهما‌السلام حيث قد يدل هذا على أن العرب كانوا يعتبرونها كعبة عامة مشتركة ومنهم قبائل نصرانية أرادوا أن يؤيدوا ذلك بوضع نسخ من أصنامهم ومعبوداتهم فيها وحولها. ولقد ذكرنا في مناسبات سابقة ما ورد في صدد وجودها وبنائها فلا ضرورة للإعادة.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.

(٢) انظر العرب قبل الإسلام لجواد عليّ ج ٥ ص ٧٥ وما بعدها. وانظر الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص ٦٠٢ وما بعدها.

٢٣٥

عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)) [٩٧ ـ ١٠٠]

(١) قياما للناس : قوام حياة الناس ومصالحهم.

تعليق على الآية

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ...) إلخ

والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات

وتلقين وحكمة الإبقاء على معظم تقاليد الحج السابقة للإسلام

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

(١) تنبيها إلى ما في الكعبة التي هي بيت الله الحرام والأشهر الحرم والهدي والقلائد وحرماتها وتقاليدها من أسباب قوام أمور الناس ومعايشهم ومصالحهم.

(٢) وهتافا للمؤمنين بأن عليهم أن يتأكّدوا ويعلموا أن الله العليم بكل ما في السموات والأرض عليم بمقتضيات كل شيء وبما يقوم به أمر الناس. وأنه شديد العقاب على من يتمرد على حرماته وينقضها غفور رحيم لمن حسنت نيته وراقب الله في أعماله وندم على ما فرط منه.

(٣) وتنبيها آخر إلى أنه ليس على الرسول إلّا البلاغ وأن الله مراقب المخاطبين وعليم بكل ما يبدون وما يكتمون ومحصيه عليهم.

(٤) والتفاتا في الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر به بأن يقول للناس إنه لا يصحّ في حال أن يكون الخبيث والطيب والحلال والحرام سواء ولو كان ظاهر الخبيث أو الحرام معجبا مغريا بكثرته.

(٥) وهتافا موجها إلى أولي العقول بتقوى الله تعالى فإن فيها الفلاح والنجاح.

٢٣٦

ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة على سبيل البيان والتعليل لتقاليد الحجّ المتنوعة التي من جملتها تحريم الصيد. ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أو عقبها مباشرة.

ولقد شرحنا في مناسبات سابقة من هذه السورة وقبلها مدى ودلالات وتقاليد الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد فلا ضرورة للإعادة أو الزيادة. وإنما نريد أن نلفت النظر إلى ما احتوته الآيات من تعليل رائع في مداه ومفهومه وتلقينه لتقاليد الحج. فالله عزوجل إنما ألهم العرب هذه التقاليد أولا وأقرّها في القرآن ثانيا من أجل ما فيها من مصالح عظيمة للناس متنوعة الأشكال والصور وخاصة وعامة ودنيوية وتعبدية معا وفيه قرينة على ما كان لهذه التقاليد من أثر صالح في حياة العرب قبل الإسلام. حيث كانت وسيلة لاجتماعهم في مناسك واحدة ومكان واحد على اختلاف عقائدهم ومعبوداتهم ومنازلهم. ومظهرا من مظاهر حركة وحدوية ظهرت فيهم. وهدنة مقدسة تتوقف فيها الحروب والمنازعات ويسود فيها الأمن والطمأنينة في تلك الربوع الشاسعة الواسعة التي ليس فيها سلطات حكومية أو قضائية نافذة. وسببا لقيام أسواق يتبادلون فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم. ويحلّون مشاكلهم. وتتوحد لغاتهم ولهجاتهم. ويتداولون مفاخرهم. ويستمعون للمواعظ والخطب والقصائد والأخبار المتنوعة في مداها وتأثيرها مما شرحنا صوره في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الحج والبقرة. وفي كل هذا مظهر حركة يقظة وجيشان نفوس وأفكار سبقت البعثة النبوية.

والآيات بهذا الاعتبار تنبه على أن التشريع الإسلامي إنما يستهدف مصالح الناس المادية والمعنوية. وتزيل وهما يمكن أن يقوم في الأذهان نحو تقاليد الحج التي أبقي أكثرها على ما كان عليه في الجاهلية بعد تجريدها مما فيها من شوائب ومعائب. كما أنها تحتوي تلقينا جليلا شاملا ومستمرا بإباحة توطيد وإيجاد وتيسير كل ما من شأنه أن يكون فيه قوام مصالح الناس ومعايشهم. ووسيلة إلى قوة المسلمين وعمران بلادهم. وارتقاء أحوالهم مع مراعاة حرمات الله تعالى والوقوف

٢٣٧

عند الحدود التي رسمها للحلال والحرام والطيّب والخبيث والنافع والضار والخير والشرّ. والعدل والإحسان والبغي والطغيان.

ولقد أتمت الآية الأخيرة هذا التلقين بما نبهت عليه من عدم جواز إقبال الناس على الخبيث والحرام والضارّ والشرّ انخداعا بمظهره وزخرفه ولذاته وسهولة الحصول عليه. ومن وجوب التفريق بينه وبين الطيب والحلال والنافع والخير وعدم التسوية بين هذا وذاك. وفي المقطع الأخير من الآية معنى قوي حيث وجّه الخطاب فيه لذوي العقول المفكرة على اعتبار أنهم يستطيعون التمييز وإدراك ما في تنبيه القرآن من حكمة وحقّ وأسباب نجاح وفلاح ويستطيعون أن يبينوه للناس. ويتقون الله ويدعون إلى تقواه.

وكل هذا متسق مع التقريرات والتلقينات القرآنية العامة على ما مرّ التنبيه إليه في مناسبات كثيرة سابقة. وكل هذا كذلك من مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود لأنه متسق مع مصلحة الإنسانية وكرامتها وخيرها وصلاحها وطهارة روحها ولا يستطيع عاقل منصف في أي ظرف أن ينكره.

تعليق على مدى جملة (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ)

ونقف عند مدى جملة (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) لنقول إنها في مقامها تعني أن الرسول لم يرسل ليسيطر على أفعال العباد وقلوبهم وإنما ليكون مبلّغا عن الله فيما شاء من رسوم وحدود. وقد تكرر هذا في مثل هذا المقام في سور مكية ومدنية عديدة.

وليس بين هذا وبين ما أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يباشره في العهد المدني بخاصة من سلطان زمني على المسلمين ومن يدخل في ذمتهم ومن أعمال فيها مهمة الدولة والسلطان مثل تسيير وقيادة الجيوش والحرب والصلح وجباية الزكاة وقبض الزكاة وخمس الغنائم والفيء والتصرف فيها حسب الحدود المرسومة والقضاء بين المسلمين فيما يشجر بينهم من مشاكل ومنازعات وإقامة الحدود إلخ. فكل هذا

٢٣٨

باشره النبي بإلهام أو وحي قرآني وصار له به سلطان زمني بالإضافة إلى مهمة التبليغ عن الله. ولا يعني هذا أنه صار له على قلوب الناس وأفعالهم سيطرة مانعة لهم من أي فعل وتفكير. فقد كان وظلّ يقوم بتبليغ ما أمره الله به لهم ويعمل فيهم في نطاق ذلك. وما كان يبقى في حيز تفكيرهم رفع عنهم إثمه لأن الله قرر (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) كما جاء في الآية [٢٨٦] من سورة البقرة وفي نطاق شرحنا لها. وما كانوا يفعلونه إن كان حلالا ومباحا أقرّهم عليه. وإن كان بغيا وعدوانا أقام عليهم فيه أحكام الله في نطاق تبليغاته ووحيه وإلهامه. والله تعالى أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)) [١٠١ ـ ١٠٢].

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ...) إلخ

وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث

عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت :

(١) نهيا للمسلمين عن سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمور بدون مناسبة وضرورة.

(٢) وتعليلا للنهي بأنهم قد يجابون إجابة فيها ما يكرهون أو يسيئهم بشدته ومشقته.

(٣) وتنبيها تدعيميّا للنهي والتعليل. فقد كان بعض من سبقهم يسألون أنبياءهم مثل هذه الأسئلة فكانت أجوبتها سببا لجحودهم وتمرّدهم.

(٤) وإيعازا لهم بأنهم إذا كانوا يودّون السؤال عن شيء فليسألوا عنه حين ينزل قرآن فيه مناسبة لذلك. فهذا هو ما يصحّ وما يحسن أن يسألوا عنه بدون حرج

٢٣٩

ولا خوف عاقبة فيجابوا بما فيها البيان.

(٥) وإيذانا بأن الله تعالى قد عفا عمّا وقع من مثل هذه الأمور وهو الغفور الحليم.

والآيات فصل مستقل كما يبدو. ولعلها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها في ترتيب السورة. وقد روي في سبب نزولها روايات عديدة. منها رواية رواها البخاري والترمذي عن ابن عباس قال : «كان قوم يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل من أبي ويقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي فأنزل الله الآيات» (١). ورواية رواها الترمذي ومسلم عن عليّ قال «لما نزلت (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قالوا يا رسول الله في كلّ عام فسكت قالوا يا رسول الله في كل عام. قال لا. ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله الآيات» (٢) ورواية رواها البخاري ومسلم عن أنس قال «بلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال عرضت عليّ الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشرّ ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا فما أتى على الأصحاب يوم أشدّ منه حتى غطّوا رؤوسهم ولهم خنين فقام عمر فقال رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد نبيا فقام رجل فقال من أبي قال أبوك فلان فنزلت الآيات» (٣). ولقد أورد الطبري هذه الروايات مع شيء من الزيادة وبطرق أخرى. فالرواية الثانية رواها عن أبي هريرة فيها زيادة «ولو وجبت لكفرتم» وليس فيها أن السؤال ورد حينما نزلت الآية (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وإنما ذكرت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام في الناس فقال «كتب عليكم الحجّ» والرواية الأخيرة رواها بهذه الصيغة «سأل الناس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فألحفوا في المسألة فغضب فقال لا تسألوني عن شيء في مقامي إلّا أجبتكم عليه فقام رجل كان يدعى إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله فقال له أبوك حذافة. فقام رجل آخر فقال

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٩٤.

(٢) المصدر نفسه ص ٩٥.

(٣) المصدر نفسه ص ٩٥.

٢٤٠