التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

نفسه والانتصار من عدوان وظلم قد يوقع عليه. وجعل هذا الحقّ وسيلة لجعل الناس يرتدعون عن العدوان كما جاء في آيات سورة البقرة [١٩٠] والنساء [٧٥] والحج [٣٩ ـ ٤١] والشورى [٣٧ ـ ٤٣] التي سبق شرحها. وكما جاء في حديث رواه مسلم جاء فيه «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي. قال فلا تعطه. قال أرأيت إن قاتلني قال قاتله. قال أرأيت إن قتلني قال فأنت شهيد. قال أرأيت إن قتلته. قال هو في النار» (١).

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)) [٣٣ ـ ٣٤].

(١) من خلاف : بمعنى المخالفة في القطع. فتقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.

(٢) من قبل أن تقدروا عليهم : من قبل أن يقعوا في أيديكم وتقبضوا عليهم وتظفروا بهم.

تعليق على الآية

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ...) إلخ

والآية التي بعدها ومدى ما فيهما من تلقين وأحكام

احتوت الآيتان تقريرا إنذاريا وتشريعيا في حقّ الذين يحاربون الله ورسوله

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٦.

١٠١

ويسعون في الأرض فسادا حيث قررت عقوبة من يقدم على ذلك الجرم الفظيع القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض ، بالإضافة إلى العذاب العظيم الذي سينالهم في الآخرة. مع استثناء الذين يتوبون قبل القدرة عليهم والتمكن منهم حيث يمكن أن ينالهم الله بغفرانه ورحمته.

ولقد روى المفسرون (١) روايات عديدة كسبب لنزول الآيتين. منها أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخيّر الله رسوله معاقبتهم بالعقوبات المذكورة في الآية الأولى. ومنها أنها نزلت في المشركين عامة. ومنها أنها نزلت في رهط من عكل وعرينة أسلموا وأقاموا في المدينة ثم جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له إنهم استوخموا الهواء فأعطاهم ذودا من إبل مع رعاته وأذن لهم بالنزول خارج المدينة وشرب ألبان الإبل فلما خرجوا قتلوا الرعاة وفي رواية سملوا عيونهم ثم قتلوهم واستاقوا الإبل وارتدوا إلى الكفر فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيلا وراءهم فأسروهم وأتوا بهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل عيونهم وتركهم في الحرّة حتى هلكوا وفي رواية أنه أحرقهم بالنار. وهذه الرواية من مرويات البخاري بخلاف يسير (٢). ومنها أنها نزلت في قوم هلال بن عويمر الذي وادع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسم قومه أن لا يعتدوا على أحد من المسلمين. أو على أحد يريد الإسلام. فمرّ بهم قوم من بني كنانة يريدون الإسلام فشدوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم. وهناك رواية يرويها الطبري والبغوي ـ ويعزوها الأخير إلى الليث بن سعد ـ أن الآية نزلت عتابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تنكيله برهط عكل وعرينة على تسميله أعينهم ولتحديد عقوبة أمثالهم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

(٢) انظر التاج ج ٤ ص ٩٠ ـ ٩١. (وهذه صيغة الحديث منقولة من التاج) عن أنس «قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي بلقاح ليشوبوا من ألبانها وأبوالها ، فانطلقوا بها فلما صحّوا قتلوا راعي النبي واستاقوا الإبل فجاء الخبر إلى النبي في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقوا في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا. قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا أو كفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله».

١٠٢

دون تسميل وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسمل بعد ذلك أحدا من أعداء الله بناء على هذه الآية وأنه ما قام خطيبا إلّا نهى عن المثلة.

والذي نستلهمه من روح الآيتين ونظمهما وترتيبهما أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة. وبخاصة الآية الأخيرة التي ذكرت أن كثيرا من بني إسرائيل ظلوا على إسرافهم في الفساد والاعوجاج برغم ما كتب الله عليهم من أحكام وأرسله إليهم من رسل فجاءت الآيتان تحتويان إنذارا وتنديدا جديدين لهم وتشريعا لما يجب أن يكون جزاء من يقف مثل موقفهم.

ومحاربة الله ورسوله تعني كما هو المتبادر الكفر برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحاربتها بالكيد والأذى والتعطيل والتضامن مع الأعداء. وهذا مما كان يفعله اليهود كما حكاه القرآن عنهم في مواضع عديدة في سور البقرة وآل عمران والنساء.

وما قلناه من ترجيح كون الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لا يمنع أن تكونا قد نزلتا في ظرف من ظروف نكث اليهود ومظاهرتهم للمشركين وهو ما ذكرته الرواية الأولى من الروايات الواردة في سبب نزول الآيتين. وإذا صحّ هذا فيكون في الآيتين كما قلنا قبل قرينة على أنهما نزلتا في وقت كان فيه كتلة قوية من اليهود.

أما حادث رهط بدو عكل وعرينة والتنكيل النبوي بهم الوارد في حديث البخاري والروايات الأخرى فمن المحتمل أن يكون وقع في ظروف نزول الآيتين فالتبس الأمر على الرواة ونقلوا أنهما نزلتا في صدده. ومن القرائن على ذلك أنه ليس في الآيتين عقوبة تسميل الأعين التي ذكرت الروايات ومنها رواية البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوقعها عليهم. بل ولعلّ الرواية التي تذكر أن الآيتين نزلتا بعد التنكيل وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسمل بعدها وصار ينهى عن المثلة هي الصحيحة. وقد قال الطبري إن هذا هو الأولى بالصواب.

وفحوى الآية الثانية من القرائن على أن الآيتين هما في صدد كفار أعداء. فمحاربة الله ورسوله لا يمكن أن تكون إلّا من كافر. والآية الثانية تؤذن بقبول توبتهم أي إسلامهم قبل القدرة عليهم أي قبل الانتصار عليهم وأسرهم. وقد جاء

١٠٣

هذا في آية في سورة التوبة فيها صراحة بأنها في صدد أعداء مشركين ناكثين للعهد وهي هذه (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)) وهذا متمثل بأسلوب آخر في آية سورة الأنفال هذه (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [٣٧] وقد يكون في هذه الآية بخاصة تدعيم لما تبادر لنا من أن الآيات في صدد كفار أعداء.

ولقد كان زعماء بني النضير اليهود حينما أجلوا عن المدينة مع قبيلتهم ذهبوا إلى خيبر وتزعموا يهودها وأخذوا يحرضون قبائل العرب المشركين على النبي والمسلمين ويغرونهم بغزو المدينة. وقد ذهبوا إلى مكة فحرضوا قريشا أيضا وأدى هذا إلى زحف قريش والأحزاب على المدينة. ولقد استمروا على حركاتهم العدوانية بعد وقعة الأحزاب والتنكيل ببني قريظة أيضا مما جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزحف على خيبر ووادي القرى وينكل بأهلها وبزعماء بني النضير بعد صلح الحديبية مع قريش على ما شرحناه في سياق تفسير سور الحشر والأحزاب والفتح. فمن الجائز أن تكون هذه الآيات بل وما قبلها في صدد ذلك وأن تكون نزلت قبل أن يزحف النبي عليهم. والله أعلم.

وقد يلحظ أن العقوبات في الآية الأولى غير اعتيادية. ونميل إلى القول إنها أسلوبية بسبيل تعظيم ما كان من اليهود وزعماء بني النضير من حركات فساد وتأليب وعدوان وما كان من ذلك من خطر على المسلمين وكيانهم.

وعبارة (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) في الآية ندم الأعداء الكفار وتوبتهم صدقا عن موقفهم قبل الانتصار عليهم ووقوعهم في الأسر. وينطوي في هذا مبدأ من مبادئ الجهاد في الإسلام. وتمثل التسامح الإسلامي السامي في كل المواقف المماثلة من حيث إنه يوحي بالإغضاء عما كان منهم قبل إسلامهم ما دام أنهم أسلموا من أنفسهم وقبل القدرة عليهم. وينطوي في هذا تقرير كون إصلاح الناس هو من الأهداف الرئيسية التي يهدف إليها القرآن ورسالة الإسلام ومبادئ الجهاد معا. ومن الحقّ أن ننبّه في هذه المناسبة على أن ما قلناه لا يعني أن لا تقبل توبتهم

١٠٤

أي إسلامهم بعد القدرة عليهم. فإن هذا من المقررات القرآنية المحكمة المتكررة بحق كل إنسان مهما عظمت جرائمه وإن وروده في حالة التوبة قبل القدرة هنا كان متناسبا مع الحالة المذكورة في الآيات كما هو المتبادر. وآية سورة التوبة التي أوردناها آنفا لم تشترط التوبة قبل القدرة وجاءت مطلقة لتشمل قبول التوبة قبل القدرة وبعدها كما هو المتبادر أيضا. والله أعلم.

ومع ما قلناه من أن القرائن تدلّ على أن الآيات في صدد كفار أعداء وفي صدد مواقف اليهود العدوانية والفسادية فإن أئمة (١) التأويل والفقه رأوا على ما ذكره الطبري وغيره من المفسرين في صيغة الآيتين التشريعية التامة والمطلقة ما جعلهم يعتبرونها شاملة للمسلمين أيضا بالإضافة إلى الكفار ويصوغون لها قواعد فقهية بعنوان (الحرابة) ويرونها قابلة للتطبيق على لصوص المسلمين المجاهرين بلصوصيتهم المصرّين على ذلك وبخاصة في الصحراء والمكابرين في الفسق والفجور والحاملين للسلاح على إخوانهم المسلمين والقاطعين للسبل والمخيفين للناس مسلميهم وذمييهم والمعتدين على أموالهم وأملاكهم وأعراضهم بالإرهاب والقوة. وقد يكون فرض ظهور أفراد ينتسبون إلى الإسلام يقترفون مثل هذه الأفعال الإرهابية واردا ويكون تطبيق العقوبات الواردة في الآية الأولى عليهم وتسمية أعمالهم باسم (الحرابة) سائغا. غير أن قبول التوبة منهم قبل القدرة عليهم وهو ما تضمنته الآية الثانية يعني فيما يعنيه إسقاط قصاص القتل عنهم إذا قتلوا وحدّ القطع إذا سرقوا وحدّ الرجم والجلد إذا زنوا وهدر ما أحدثوه من جراحات ودمروه من أملاك ونهبوه من أموال. ولا يصح أن يفرض سواغ ذلك بالنسبة لمسلم تحت السلطان الإسلامي حيث يكون على هذا السلطان واجب مصادرتهم وتعقبهم وإيقاع العقوبات والحدود عليهم.

وسياق الطبري وغيره يفيد أن هذه النقطة مما خطرت للفقهاء والمؤولين

__________________

(١) انظر تفسير البغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري والنسفي حيث رووا كلهم أقوالا وأوردوا كلاما وقواعد في هذا النطاق.

١٠٥

فاختلفوا فيها. فمنهم من قال إن التوبة التي يقبلها السلطان هي بالنسبة للكفار فقط حيث يسقط عنهم بالإسلام كل ما كانوا فعلوه إذا ما تابوا وأسلموا قبل القدرة عليهم وأن على السلطان أن يقيم الحدود على المسلمين إذا ما ارتكبوا جرائم ضد النفوس والأعراض والأموال. ومنهم من قال إن على السلطان أن يقبل التوبة من المحارب المفسد سواء أكان كافرا أم مسلما إذا ما تاب قبل القدرة عليه. وأورد هؤلاء خبر حوادث وقعت في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما حيث خرج بعض المسلمين فحملوا السلاح وسفكوا الدماء ونهبوا الأموال ثم أعلنوا توبتهم وطلبوا الأمان فأعطي لهم ولم يعاقبوا على ما فعلوه. كما أوردوا في معرض ذلك ما وقع في الردة في زمن أبي بكر رضي الله عنه حيث كان يعفو عن الذين كانوا يتوبون ويعودون إلى لواء الإسلام وسلطانه دون محاسبتهم عما وقع منهم في أثناء الردة ونحن نرجح القول الأول ونقول في ما جاء من تعليلات القول الثاني إن الأحداث كانت في سياق فتنة عامة وليست فردية شخصية وأنها لا تصحّ أن تورد في معرض ما نحن فيه وأن المسلم الذي يرتكب جرائم غير عادية فيها قتل نفس وقطع سبيل وإخافة الناس وعدوان على أموالهم وأعراضهم يجب أن يكون موضع تطبيق لحدود الله ولو تاب قبل اعتقاله أي القدرة عليه وإن كل ما يمكن أن يكون في حال توبته هو احتمال عفو الله له إذا ما أقيمت عليه الحدود واستردت منه الأموال. والله أعلم.

وقد يقال إن المسلم قد يرتدّ إلى الكفر ثم يرتكب الجرائم الموصوفة وهو كافر ثم يتوب قبل القدرة عليه. وواضح أن هذا المجرم لا يكون قد احتفظ بصفة المسلم ويصبح حكمه حكم كافر أو مرتد تقبل توبته إذا ما تاب وعاد إلى الإسلام قبل القدرة عليه. ولقد عزا الطبري إلى بعض الفقهاء والمؤولين قولا في صدد مثل هذا مفاده أن على الإمام أن يستردّ ما في يده من مال الناس ويردّه إلى أصحابه وأن يقيم عليه حدّ القتل إذا طلب ولي قتيل بدم قتيله وأقام البينة عليه إذا ما كان ذلك عملا شخصيا وليس في سياق حرب عامة. وهذا وجيه وقد يصح أن يطبق حتى على الكافر أصلا. وأن ينحصر سقوط ما يقع من جرائم من الكافر في الجرائم

١٠٦

العامة غير الشخصية والفردية. والله تعالى أعلم.

والكلام دار حول توبة المحارب الساعي في الفساد قبل القدرة عليه. والقدرة عليه تعني اعتقاله وأسره حيا ، فإذا ما تمّ ذلك صار موضع تطبيق العقوبات الواردة في الآية الأولى إذا كان مسلما. أما إذا كان كافرا فالذي يتبادر لنا أنه يكون موضع تطبيق العقوبات المذكورة إذا ارتكب جرائم إرهابية فوق العادة ضد المسلمين من نوع ما ذكره المفسرون. أما إذا كان عدوا عاديا وكان كل أمره أنه اشترك في عداء وقتال ضد المسلمين ثم وقع في الأسر فإنه يكون موضوع تطبيق حكم الأسر على ما شرحناه في سياق سورة محمد فإما أن يقتل وإما أن يسترق وإما أن يمنّ عليه بدون فداء أو يطلق سراحه بفداء حسب ما تقتضيه الظروف والمصلحة والأحداث ، والله تعالى أعلم.

هذا ، وهناك خلاف بين المؤولين والفقهاء على ما ذكره الطبري وغيره في ترتيب إيقاع العقوبات المذكورة في الآية الأولى في حال القدرة على المحارب قبل توبته ناتج عن اختلافهم في مدى حرف (أو) في الآية حيث قال بعضهم إن الحرف للتخيير وإن للإمام أن يعاقب المحارب بأية عقوبة من العقوبات المذكورة في الآية. وحيث قال بعضهم إن الحرف للبيان وإن العقوبات إنما تكون حسب الجرائم فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل. ومن قتل وأخذ مالا قطعت يده ورجله من خلاف (أي اليد اليمنى والرجل اليسرى) ثم قتل أو صلب. ومن حارب ولم يقتل ولم يأخذ مالا نفي. وقد قال الطبري الذي أورد هذه الأقوال إن أولاها بالصواب من أوجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه وجعل الحكم مختلفا باختلاف الأفعال. وقد ردّ على من قال إن (أو) للتخيير بكلام طويل وأيد كونه للبيان. وأورد سبيل تأييد تصويبه الحديث النبوي الشريف الذي رواه الخمسة وجاء فيه «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله إلّا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» (١). ثم قال فإما أن يقتل

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٧.

١٠٧

من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا فذلك تقدم على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم.

وواضح أن كلام الطبري مساق في صدد المسلم المحارب دون الكافر. وقد يكون هذا الكلام حينئذ في محلّه غير أنه لا يحجب وجاهة قول من قال إن للإمام أن يعاقب بآية عقوبة من العقوبات الواردة في الآية من حيث إن الأفعال التي عددها المفسرون والفقهاء واصطلحوا على تسميتها بالحرابة هي أعمال غير عادية من شأنها إقلاق أمن المجتمع وإثارة الاضطراب وتعريضه للخطر وإيقاع الأضرار بنفوس الناس وأموالهم وأعراضهم وتقتضي إجراءات رادعة غير عادية ولو لم ينتج عنها فعلا إزهاق أرواح وأخذ أموال. فيكون للإمام تقدير الموقف وتطبيق العقوبة الرادعة المتناسبة معها. أما الكافر الذي يقدر عليه قبل توبته فيعامل معاملة الكافر الذي سبق ذكرها. والله تعالى أعلم.

ولقد أورد المفسرون تأويلات عديدة لجملتي (أَوْ يُصَلَّبُوا) و (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ). فمما قيل في تأويل الأولى إن الصلب للتشهير كما قيل إن الصلب من أشكال القتل حيث يصلب المجرم حيا ثم يطعن بالرمح حتى يموت أو يترك مصلوبا إلى أن يموت. وكلا القولين سديد. ولعل مما يصح أن يزاد عليهما احتمال كونها بمعنى الشنق حيث جرت العادة من القديم على إعدام المجرمين شنقا.

ومما قيل في تأويل الثانية إنها بمعنى مطاردة المحارب حتى يضطر إلى الخروج فيخلص الناس من شرّه. كما قيل إنها بمعنى إخراجه بالقوة من البلد الذي عاث فيه فسادا إلى بلد آخر وحبسه فيه حتى يتوب ويغلب صلاحه. وقد صوّب الطبري القول الثاني وروى عن الحسن وعكرمة أنهما منعا اضطرار المسلم إلى الخروج إلى دار شرك. والكلام والحالة هذه يدور حول تعليق الجملة على المسلم المحارب دون الكافر. ويكون تصويب الطبري في محلّه على شرط أن لا يكون المجرم قد قتل ونهب ودمّر وهتك عرضا وأن يكون كل عمله إخافة الناس وإثارة

١٠٨

الاضطراب والقلق. أما إذا فعل الأفعال المذكورة فلا يعقل أن يكون كل جزائه الاعتقال والحبس حتى يتوب ويصلح أو يستريح الناس من عيثه. ولا بدّ من مطاردته واعتقاله بالقوة وتطبق العقوبات عليه. إلا أن يضطر إلى الخروج من البلاد. ويجب مع ذلك أن يظل مرصودا للاعتقال والعقاب. أما الكافر فقد يكون اضطراره إلى الخروج من دار الإسلام نتيجة لمطاردته هو معنى نفيه. لأنه لا يصح أن يكتفي السلطان الإسلامي بنفيه إذا ما قدر عليه. حتى ولو لم يكن قد قتل أحدا أو نهب مالا أو هتك عرضا. فهو كافر عدوّ فيطبق عليه حكم الكافر إذا وقع في الأسر المشروح سابقا. والله تعالى أعلم.

والجملة الأخيرة من الآية الأولى صريحة بأن العقوبات المذكورة فيها للمحارب لا تعفيه من عذاب الله العظيم في الآخرة. فهي عقوبة ردع وزجر لصلاح المجتمع فيكون ذلك خزيا له في الدنيا بالإضافة إلى عذاب الله العظيم في الآخرة. ومع الإيمان بحقيقة وعيد الله الأخروي فقد يكون من الحكمة فيه زيادة التشديد على المحارب وتعظيم جريمته وترهيبه ليرعوي عن موقفه والله أعلم.

ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية الثانية وبخاصة الجملة الأخيرة منها ، منها حديث عن عبادة بن الصامت قال إنه رواه مسلم. وقد ورد حديث مقارب له في التاج برواية البخاري ومسلم والترمذي والنسائي هذا نصّه «قال عبادة كنّا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلس فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ فمن وفى فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له. ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذّبه ، فبايعناه على ذلك» (١) وحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن علي قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب عليه فالله أعدل من أن يثنّي عقوبة على عبده ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه».

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٣٤.

١٠٩

ويلوح أن ابن كثير قد أورد الأحاديث على اعتبار انطباق الآية على المسلمين. ومع ذلك فإنه يلوح أنها إنما تصحّ أن تساق في معرض ذنوب يقترفها مسلم ما في حالة اعتيادية وليس في حالة توصف بأنها محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا. وقد يكون حينئذ من حكمتها تطمين المؤمن الصادق في إيمانه مع بثّ الخوف والرجاء في نفسه. أما على اعتبار أن الآية في صدد الكافر وبخاصة الكافر المحارب فليست الأحاديث موضع تطبيق كما هو المتبادر. فالذي يموت كافرا مخلّد في النار. حتى ولو لم يرتكب جرائم أخرى كما هو مقرر في الآيات القرآنية العديدة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)) [٣٥ ـ ٣٧].

(١) ابتغوا إليه الوسيلة : تحرّوا وافعلوا كلّ ما يكون فيه رضاء الله والقربى إليه.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ...) إلخ

والآيتين التاليتين لها. وبحث في التوسل والأحاديث

الواردة في معنى الوسيلة الأخروي

عبارة الآيات واضحة. وقد وجّه الخطاب فيها إلى المؤمنين حاثّا إياهم :

(أولا) على تقوى الله وتحرّي كل ما فيه رضاؤه والقربى إليه والجهاد في سبيله.

ومبينا لهم (ثانيا) أن في ذلك فلاحهم وسعادتهم. ومنبها إياهم (ثالثا) إلى هول

١١٠

مصير الكفار يوم القيامة على سبيل التحذير والاستطراد.

ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذي يتبادر من روحها ومضمونها وترتيبها أنها جاءت معقبة على سلسلة الآيات [١٢ ـ ٣٤] التي احتوت التذكير بانحرافات أهل الكتاب وكفرهم ونقضهم مواثيق الله وإهمالهم ما أنزل الله إليهم من كتب وإخفاء كثير منها بسبيل الإنكار والمكابرة والتي تساوقت سياقا وموضوعا على ما نبهنا عليه. فبعد أن انتهت السلسلة جاءت الآيات ملتفتة إلى المؤمنين حاثة مبينة منبهة لهم على النحو الذي شرحناه كأنما تريد أن تقول لهم إن هذا هو السبيل الأقوم لكم والأجدر بكم وعليكم أن تعتبروا بمن سبقكم وبالمصير الهائل المعدّ للكافرين والمنحرفين. والله أعلم.

وواضح من روح الآيتين الثانية والثالثة أنهما بسبيل بيان وتصوير مصير الكفار الذين يموتون كفارا. وهذا يستتبع القول إن باب التوبة يظل مفتوحا للكافر والمجرم ما دام حيّا. على ما نبهنا عليه في المناسبات العديدة المماثلة.

وتصوير مصير الكافرين الأخروي رهيب حقّا. فهم مخلدون في النار. ويتمنون الخروج منها وليس هناك أي إمكان لتحقيق أمنيتهم حتى ولو كان لهم ما في الأرض ومثله معه وافتدوا به. وقد تكررت هذه الصورة أكثر من مرة. والمتبادر أن من أهدافها إثارة الخوف في نفوس الكفار وحملهم على الارعواء والتوبة وهم في فرصة الحياة والعافية ثم إثارة الغبطة في نفوس المؤمنين الذين هداهم الله فجنبهم هذا المصير الرهيب وكتب لهم السعادة والنجاة.

وجملة (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) في مقامها تجعل كلمة (وَجاهِدُوا) بمعنى أوسع من القتال ؛ وبعبارة أخرى هي بمعنى بذل كل جهد مادي ومعنوي وحربي وغير حربي وفعلي وقولي في تأييد دين الله وشريعته والتزام حدوده وتنفيذ أوامره في مختلف الظروف وتحمّل ما يمكن أن يكون من جراء ذلك من شدة وعنت بالصبر والمجاهدة. وهذا المعنى ملحوظ في آيات كثيرة وردت فيها الكلمة ومشتقاتها.

١١١

وجملة (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أوجدت على ما يظهر في أذهان بعض المسلمين فكرة (التوسل) أي الاستشفاع بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين من أموات وأحياء لدى الله والإقسام عليه بحقهم بقضاء مطالب متنوعة من دفع ضرر وجلب نفع على اعتبار أنهم من الوسائل التي حثّت الآية على ابتغائها إليه. وبلغ الأمر إلى أن صاروا يشدّون الرحال إلى قبور الأنبياء وغيرهم من أولياء الله وينذرون لهم النذور ويقسمون على الله بحقهم أن يحقق لهم مطالبهم. وقد استشرت هذه العادة عند المسلمين في القرون المتأخرة. وكانت من أهم ما ثار عليه الإمام محمد عبد الوهاب من بدع مخالفة لروح الإسلام والتوحيد حتى أقدم متبعو دعوته تحت لواء السعوديين في القرن الماضي على هدم مزارات الأولياء في كل بلد احتلوه.

ولقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحب العباس رضي الله عنه عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الاستسقاء فقال (اللهم إنّا كنّا إذا أجدبنا توسّلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسقنا) كما رويت بعض الآثار الأخرى التي روي فيها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علّم بعض أصحابه أن يدعو إلى الله بحقه فكان هذا وذاك مستندا لمن سار على هذه العادة من المسلمين.

ولم نر المفسرين القدماء الذين اطلعنا على كتبهم يذكرون هذه العادة عند هذه الآية. حيث يدل هذا على أنها لم تكن في القرون الإسلامية الأولى. غير أنها صارت تمارس في القرون الإسلامية الوسطى حيث التفت إليها الإمام المصلح ابن تيمية فيما التفت إليه من بدع وألّف فيها رسالة باسم (الوسيلة والتوسل) ضمنها تحقيقا جليلا كعادته رحمة الله عليه. ولقد استطرد إلى ذكرها الإمامان رشيد رضا وجمال القاسمي في تفسيريهما. ونوّها برسالة الإمام ابن تيمية واعتبراها القول الفصل في الأمر وأوردا مقتبسات منها.

ومما قرره الإمام أن لفظ التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراد به ثلاثة معان. (أحدها) التوسل بطاعته وهذا حقّ وأصل من أصول الدين لقول الله تعالى (وَأَطِيعُوا اللهَ

١١٢

(وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). و (ثانيها) التوسل بدعائه. وهذا إنما كان في حياته كما جاء في حديث استسقاء عمر لأنه لو كان بعد موته لكان الأولى أن يتوسل عمر به ولا يتوسل بدعاء عمه. ويكون هذا كذلك يوم القيامة بشفاعته لما ورد في هذا من الأحاديث الصحيحة (١). و (ثالثها) التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته. فهذا الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته. ولا عند قبره ولا قبر غيره. ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة أو موقوفة ، أو عن من ليس قوله حجة. ثم أخذ الإمام يورد أقوال أئمة الفقه والحديث بسبيل تأييد رأيه. منها ما يقرر حرمة التوسل لدى الله بحق أحد من مخلوقاته ولو كان نبيا. ومنها ما يقرر كراهية ذلك كراهة شديدة. ومنها ما يعتبره نوعا من الشرك لأنه دعاء بغير الله أو دعاء غير الله. وقد تنبه إلى أمر مماثل وفيه تأييد لرأيه وهو اتفاق الأئمة على عدم جواز الحلف بغير الله استنادا إلى أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه «من حلف بغير الله فقد أشرك ـ وفي رواية ـ فقد كفر» ومنها حديث جاء فيه «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» (٢) وأورد أقوال

__________________

(١) من ذلك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي قال محمد بن علي فقال لي جابر يا محمد من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة» وحديث رواه الترمذي عن عوف بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أنا آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا» التاج ج ٤ ص ٣٤٧ ـ ٣٤٩. وحديث رواه البخاري عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من قال حين يسمع النداء اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة الدائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة» التاج ج ١ ص ١٤٧. وهناك أحاديث صحيحة أخرى. انظر التاج ج ٣ ص ٣٤٩ ـ ٣٥٥.

(٢) في التاج ج ٣ ص ٦٧ و ٦٨ هذه الصيغ : ١ ـ روى الخمسة عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدرك عمر في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله ألا إن الله عزوجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. ٢ ـ روى الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال». ٣ ـ روى أبو داود والترمذي وأحمد عن ابن عمر قال «سمعت رسول الله يقول من حلف بغير الله فقد أشرك».

١١٣

الأئمة بعدم انعقاد اليمين الذي يحلفه المسلم بالأنبياء والصالحين والكرسي والعرش والملائكة والكعبة والمسجد الحرام ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسجد الأقصى.

وحجة الإمام ناصعة قوية فيها القول الفصل المستند إلى النقل والعقل وجمهور الأئمّة بعدم جواز دعاء غير الله والإقسام على الله بحقّ أحد أو شيء مهما عظمت حرمته ومكانته لقضاء الحاجات والمطالب الدنيوية وبأن هذه العادة التي درج عليها عوام المسلمين في القرون الإسلامية المتأخرة ليس لها سند من سنة نبوية أو صحابية وهي بدعة مخالفة لروح الإسلام والتوحيد الصحيح. والله تعالى أعلم.

هذا ، وهناك بعض أحاديث نبوية تتضمن تقرير معنى غيبي لكلمة الوسيلة أوردها ابن كثير في سياق تفسير الآية. منها حديث عن جابر بن عبد الله جاء فيه «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قال حين يسمع النداء (١) اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له الشفاعة يوم القيامة» (٢). ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة» (٣) ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا صلّيتم عليّ فسلوا لي الوسيلة قيل يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال أعلى درجة في الجنة. لا ينالها إلّا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو» (٤). ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سلوا الله لي الوسيلة فإنه

__________________

(١) الأذان.

(٢) روى هذا الحديث البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود أيضا عن جابر انظر التاج ج ١ ص ١٤٧.

(٣) روى هذا الحديث الخمسة أيضا عن أبي سعيد انظر نفس الجزء والصفحة.

(٤) هذه النصوص منقولة من تفسير ابن كثير.

١١٤

لم يسألها لي عبد في الدنيا إلّا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» (١). ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه» (٢).

والمجمع عليه عند أئمة التأويل والمفسرين بدون خلاف على ما يقوله ابن كثير أن معنى الكلمة في الآية هو القربة إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح الذي يرضيه. وأمر الله تعالى المؤمنين بابتغاء الوسيلة إليه يتضمن ذلك كما هو المتبادر ويتضمن أيضا أن ذلك مما يمكن للمؤمنين أن يحققوه.

وعلى هذا فيكون ما ورد في الأحاديث أمرا آخر لا صلة له بالآية إلّا من حيث المشابهة اللفظية. ويجب التسليم به وإن لم يدرك مداه إذا صحت الأحاديث.

ولقد أورد ابن كثير مع سلسلة الأحاديث المذكورة حديثين آخرين. فيهما زيادة عجيبة. منهما حديث أخرجه ابن مردويه عن علي جاء فيه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الجنة درجة تدعى الوسيلة فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة ، قالوا يا رسول الله من يسكن معك؟ قال علي وفاطمة والحسن والحسين» ومنهما حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين الأزدي قال «سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة : يا أيها الناس إنّ في الجنة لؤلؤتين إحداهما بيضاء والأخرى صفراء. أما الصفراء فإنها إلى بطنان العرش والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة كل بيت منها ثلاثة أميال وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد واسمها الوسيلة هي لمحمد وأهل بيته. والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم عليه‌السلام وأهل بيته».

وقد وصف ابن كثير الحديث الأول بأنه منكر والحديث الثاني بأنه غريب. والهوى الشيعي بارز على الحديثين.

__________________

(١) هذه النصوص منقولة من تفسير ابن كثير.

(٢) المصدر نفسه.

١١٥

ولقد أورد الحديث الثاني المفسر الشيعي الطبرسي عن الأصبغ بن نباته. والطبرسي أقدم من ابن كثير حيث يمكن أن يكون في هذا قرينة على الصنع الشيعي.

وننبه على أن الطبري والبغوي والزمخشري وهم من المفسرين المتقدمين كثيرا عن ابن كثير لم يوردوا من الأحاديث التي أوردها ابن كثير في منزلة الوسيلة الأخروية. واكتفوا بتفسير الكلمة في الآية بمعنى القربة إلى الله تعالى بما يرضيه. والطبري والبغوي بخاصة إمامان في الحديث ولا بدّ من أنهما يعرفان الأحاديث التي وردت في الكتب الخمسة حيث يبدو من هذا أنهما لم يريا صلة بين الآية والأحاديث.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)) [٣٨ ـ ٤٠].

(١) نكالا : عقابا.

تعليق على الآية

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ...)

والآيتين التاليتين لها وما ينطوي فيها من أحكام

عبارة الآيات واضحة. وتحتوي تشريعا في حدّ السرقة بالنسبة للسارق والسارقة على السواء مع إيذان رباني بقبول توبة من تاب منهما وأصلح.

ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة الآيات. وإنما روى الطبري أن امرأة سرقت حليا فجاء الذين سرقتهم فقالوا يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة فقال :

١١٦

اقطعوا يدها اليمنى فقالت المرأة هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فأنزل الله (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ).

والذي يتبادر لنا أن للآيات صلة بالسياق السابق. فقد احتوت الآية [٣٢] حكما تشريعيا في حقّ من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا. وكان ذلك في ظرف ارتداد بعض البدو ونهبهم لذود الإبل الذي منحهم إياه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتلهم الرعاة فجاءت هذه الآيات لتستطرد إلى تشريع حدّ السرقة العادية ليكون الفرق واضحا بين عقوبة السرقة العادية التي تقع خفية وخلسة وبدون عنف ودم وبين تلك الجرائم التي تكون عادة مترافقة مع العنف والدم.

ونرجح أن الآيات الثلاث نزلت معا. وأن الإيذان بقبول توبة السارق قد جاء ليتساوق مع الإيذان بقبول توبة المحارب في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون المرأة السارقة سألت عن إمكان التوبة فتليت عليها الآية فالتبس ذلك على الرواة والله أعلم.

وحدّ السرقة من الحدود القليلة المعينة في القرآن لبعض الجرائم المهمة. وجريمة السرقة اعتبرت دائما وفي جميع المجتمعات والظروف من الجرائم المهمة لأن فيها عدوانا على أموال الغير التي تشغل في المجتمع مقاما رئيسيا بعد مقام الحياة والأعراض والسلامة العامة. فلا غرو أن يرتّب القرآن عليها حدّا كما رتّب على القتل والزنا والفساد في الأرض. ولا غرو أن اشتد في عقوبتها لتكون متكافئة مع خطورتها.

ولقد أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث فيها دلالة على تشدده في موضوع السرقة وإقامة حدّها. منها حديث عن عائشة جاء فيه «أن قريشا أهمّهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة الفتح ، فقالوا من يكلّم فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا ومن يجترىء عليه إلّا أسامة بن زيد حبّ رسول الله فأتى بها رسول الله فكلّمه فيها أسامة ، فتلوّن وجه رسول الله فقال أتشفع في حدّ من حدود الله

١١٧

عزوجل ، فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله فلما كان العشيّ قام رسول الله فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ وإني والذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها» (١) ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو قال «سرقت امرأة على عهد رسول الله فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا يا رسول الله إنّ هذه المرأة سرقتنا فقال قومها فنحن نفديها فقال رسول الله اقطعوا يدها فقالوا نحن نفديها بخمسمائة دينار. فقال : اقطعوا يدها فقطعت يدها اليمنى» (٢) ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الخمسة جاء فيه «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن الله السارق. يسرق البيضة فتقطع يده. ويسرق الحبل فتقطع يده» (٣).

وفي كتب التفسير (٤) بيانات متنوعة في صدد ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها فيما يلي مع ما يعنّ للبال من تعليق :

١ ـ إن حدّ السرقة لا يقام إلّا على العاقل البالغ. وهذا طبيعي. لأن العقل والبلوغ هما اللذان يجعلان الإنسان محلا للتكليف (٥).

٢ ـ وقال الخازن إن العلم بحرمة السرقة وحدها أيضا شرط لإقامة الحدّ. ولم يذكر سندا. ومثّل على ذلك بالمسلم الحديث العهد الذي لا يعرف أن السرقة

__________________

(١) النصّ من ابن كثير. والحديث الأول رواه الخمسة عن عائشة بفرق يسير انظر التاج ج ٣ ص ٣٣.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) التاج ج ٣ ص ١٩ وقد فسّر شراح الحديث والمفسرون (البيضة) في الحديث ببيضة الحديد أي المغفر الذي يضعه المحارب على رأسه. وهو تفسير في محله لأن قيمة بيضة الدجاجة لا تصل إلى النصاب الذي تقطع به يد السارق والذي حددته السنّة على ما سوف يأتي بعد.

(٤) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي ورشيد رضا.

(٥) هناك حديث رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق» التاج ج ١ ص ١٣٣.

١١٨

في الإسلام حرام تستوجب الحدّ. ولسنا نرى هذا وجيها. فالآية من جهة مطلقة ، والسرقة من جهة ثانية من الجرائم العامة التي هي محرمة في كل شريعة ولا يمكن أن يجهل أحد أن فاعلها ينجو من عقاب.

٣ ـ اختلف في النصاب الذي يقطع به بسبب اختلاف المأثور من السنّة النبوية. فهناك حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تقطع يد السارق إلّا في ربع دينار فصاعدا» (١) وهناك حديث عن ابن عمر رواه البخاري ومسلم والترمذي «أن رسول الله قطع سارقا في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم» (٢) وهناك حديث عن ابن عباس رواه أبو داود والنسائي «أنّ رسول الله قطع في مجنّ قيمته دينار أو عشرة دراهم» (٣) فذهب بعض أئمة الفقه إلى اعتبار النصاب الأدنى ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم ـ وقيمة الدراهم الثلاثة كانت تقارب قيمة ربع الدينار ـ وذهب آخرون إلى اعتبار النصاب الأدنى دينارا أو عشرة دراهم. وبناء على ذلك فمن سرق دون النصاب الأدنى لا يقطع. وهذا التشريع النبوي متمم للتشريع القرآني. حيث أوضح ما سكت عنه القرآن.

والمتبادر أن النصاب الأدنى سواء أكان ربع دينار أم دينارا إنما حدد حسب ظروف البيئة النبوية ؛ وهذا يورد على البال سؤالا عما إذا كان يصح أن يكون النصاب عرضة لتقدير ولي الأمر في حالة تغير الظروف والقيم وتطورها؟ ونميل إلى الإيجاب والله أعلم.

ولقد لاح لنا إلى هذا حكمة سامية في جعل النصاب الذي يقطع به ضئيلا. فالذي يسرق القليل يسرق الكثير. والعقوبة إنما استهدفت زجر المجرم وردع غيره عن الجريمة. فإذا ما عرف أن اليد عرضة للقطع مقابل القليل ارتدع عن القليل والكثير معا. ولعلّ حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه أن

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

١١٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» مما يدعم ذلك والله أعلم.

٤ ـ والعلماء متفقون على أن القطع إنما يكون في سرقة مال محرز أي موضوع في مكان من العادة أن يعتبر حرزا ، ومسوّر عليه ولو لم يكن عليه حارس. ويدخل في ذلك الخيمة. ولا يوجبون القطع على من أخذ شيئا موضوعا في مكان غير محرز ولا حارس عليه أو بهيمة في برية لا راعي لها. ويظهر أنهم اعتبروا أن مثل ذلك لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلو هذا من وجاهة. لأن آخذه قد يكون أخذه على أنه مهمل متروك.

٥ ـ وهناك من أسقط القطع عن جاحد المتاع المستعار أو جاحد الأمانة أو الذي يأخذ شيئا بطريقة الاختطاف والاختلاس العياني استنادا إلى حديث رواه أصحاب السنن عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» (١) وعلّلوا حكمة ذلك بإمكان استرداد المأخوذ خطفا أو نهبا والأمانة والمعار بالبينة. ولأن مثل هذا العمل لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلو القول من وجاهة.

٦ ـ ومما ذكره الخازن أن لا قطع على سرقة مال للسارق فيه شبهة حقّ كالولد يسرق من مال أبيه أو الوالد من مال ابنه أو العبد من مال سيده أو الشريك من مال شريكه. ولم يذكر المفسر سندا لقوله. ولم نر مفسرا آخر ذكر ذلك ويمكن أن تكون الأحاديث المروية في درء الحدود بالشبهات التي أوردناها في سياق تفسير الآية [٢٤] في سورة النساء سندا لذلك.

٧ ـ وأكثر العلماء على أنه لا قطع على آكل الثمر من البستان. وقد روي في صدد ذلك حديثان. واحد رواه أصحاب السنن عن رافع بن خديج قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا قطع في ثمر ولا كثر» (٢). وثانيهما رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢١.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٠ والكثر : هو جمار التمر.

١٢٠