التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)) [٨٢ ـ ٨٦]

(١) قسيسين : جمع قسّ. وتعددت الأقوال في اشتقاقها ومعناها. فقيل إنها مشتقة من قسّ الإبل يقسّها بمعنى أحسن رعيها وسوقها. وقيل إنها من التقسّس بمعنى التجسّس ونشر الأخبار وتسمع الأصوات وتعرية العظم من اللحم. ولعل القول الأول هو الأنسب. وعلى كل حال فالكلمة كانت مما يعرف العرب قبل نزول القرآن أن معناها رتبة دينية عند النصارى. وقد سمّي بعضهم بها. ومن مشهوريهم قسّ بن ساعدة الإيادي الخطيب.

(٢) رهبان : جمع راهب. وكان يطلق على المتبتّل من النصارى المنقطع في دير ، الذي نذر حرمان نفسه من التنعم بالزواج والولد ولذّات الطعام والزينة. وقيل إنها مشتقة من الرهبة بمعنى الخوف. أو من رهب الإبل بمعنى هزالها وكلالها. ولعل القول الثاني أنسب. لأن حرمان الرهبان أنفسهم من لذات الحياة يؤدي إلى هزالهم وكلالهم وإذا صح أن تكون من الرهبنة فينطوي فيها معنى الخوف من الله وكون ذلك هو الذي يجعل الرهبان يحرمون أنفسهم من متع الحياة ولذاتها. وعلى كل حال فالكلمة كانت مما يعرف العرب قبل الإسلام أنها تطلق على المتقشفين المبتعدين عن اللذائذ المتفرغين للعبادة من النصارى. وفي سورة الحديد إشارة إلى ذلك في صدد النصارى وفيها كلمة (رهبانية) وروي في مناسبتها حديثان جاء في أحدهما «لا رهبانية في الإسلام» تفسير الطبرسي وفي أحدهما «لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» تفسير ابن كثير.

٢٠١

تعليق على الآية

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ

أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ...)

والآيات الأربع التالية لها وما ينطوي فيها من صور ودلالات

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا توكيديا بأن أشدّ الناس عداوة للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا. وأقربهم مودة هم النصارى. وتعليلا لهذه المودة وهو أنهم كانوا متواضعين لا يستكبرون عن الحق واتباعه. ومشهدا من مشاهد إيمان جماعة منهم فيهم القسيسون والرهبان كتعليل آخر. وقد تضمن المشهد صورة رائعة لإيمان هذه الجماعة. وأثر ما تلاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن عليهم حيث فاضت أعينهم من الدمع حينما سمعوا ذلك ابتهاجا بالحق الذي انطوى فيه وعرفوه من قبل. وحيث أعلنوا إيمانهم ودعوة الله أن يكتبهم في سجل المؤمنين الشاهدين المصدقين وتساءلوا عما إذا كان يصح أن لا يصدقوا ويؤمنوا بالله والحق الذي سمعوه عن الله في حين أنهم يأملون من الله أن يجعلهم في جملة عباده الصالحين. واحتوت الآيات تقريرا بأن الله عزوجل قد أثابهم على ما وقع منهم بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وهو جزاء المحسنين وبأن الذين كفروا هم أصحاب الجحيم.

وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه «إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلّكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فقالوا لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ ...) إلخ الآيات. والحديث ليس من الصحاح. ويقتضي أن تكون بعض الآيات نزل لحدته كما يفيد أن الآيات نزلت في حادث جديد. والآيات منسجمة مرتبط أولها بآخرها. والتمعن فيها وفي السياق السابق لها يسوغ الترجيح أنها لم تنزل في حادث جديد وأنها متصلة بالسياق السابق واستمرار له. فبعد أن استمرت الآيات تتوالى في وصف انحرافات الكتابيين الدينية

٢٠٢

بصورة عامة. وفي وصف مواقف اليهود الكيدية للدعوة المحمدية والمسلمين ووصف أخلاقهم الخبيثة ومناقضتهم لمبادىء الإيمان بالله ووحدته جاءت هذه الآيات خاتمة ، واحتوت موقف وحقيقة كل من اليهود والنصارى من المسلمين. وأن المشهد الواقعي الرائع الذي احتوت حكايته الآيات بإيمان جماعة من النصارى فيهم القسيسون والرهبان كان حادثا سابقا وجاء هنا من قبيل التذكير والتدعيم والتعليل لما قررته من كون النصارى أقرب مودة إلى المسلمين والله تعالى أعلم.

ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في هوية أصحاب هذا المشهد. ومن الروايات ما يؤيد ما سوغناه من أن المشهد ليس جديدا. فهناك رواية تذكر أن الآيات عنت النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا حينما سمعوا القرآن من مهاجري المسلمين. ورواية تذكر أنها في صدد إيمان وفد حبشي أرسله النجاشي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع اختلاف في عدده بين ١٢ وبين ٧٠. ورواية تذكر أن هذا الوفد جاء مع جعفر بن أبي طالب ورفاقه المهاجرين في الحبشة حينما عادوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ورواية تذكر أنهم جماعة من النصارى كانوا على شريعة عيسى الأصلية دون ذكر هويتهم. ورواية تذكر أنهم نصارى نجران اليمن أو وفدهم. ورواية تذكر أنهم وفد رومي قدم من الشام.

والوصف يلهم أن المشهد كان في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والروايات تذكر أن وفد نصارى نجران رجع بدون أن يؤمن على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة آل عمران [٣٤ ـ ٦٤] وعلى هذا فإما أن يكون أصحاب هذا المشهد وفدا حبشيا جاء إلى المدينة مرسلا من النجاشي لمقابلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن عرف عنه ما عرف من المهاجرين ، وربما جاء معهم حين رجعوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. أو وفدا من الشام وأطرافها حيث كانت النصرانية سائدة. وقد يستلهم من الوصف أن الوفد كان يفهم العربية أو كان منهم من يفهمها. فهذا التأثر الشديد يرجح أن يكون من أسلوب القرآن وفحواه وروحانيته معا مما قد يتأثر به العارف بالعربية أكثر. وهذا ما يجعلنا نرجح أن يكون من نصارى الشام أو أطرافها التي كانت مأهولة بنصارى العرب والمستعربين من الأقوام العربية الجنس.

٢٠٣

ولقد قال ابن كثير إن هذا المشهد هو للذين ذكر إيمانهم بالنبي والقرآن في آيات آل عمران [١٩٩] والإسراء [١٠٧ و ١٠٨] والقصص [٥٢ ـ ٥٥] وهذا القول يؤيد تسويغنا أيضا وإن كنا نرجح أنه مشهد آخر لوفد قادم إلى المدينة من الخارج في حين أن المشاهد المذكورة في آيات سور آل عمران والإسراء والقصص هي على الأرجح لأناس كانوا مقيمين بين ظهراني المسلمين في مكة والمدينة. وإنه ليصحّ أن يقال بناء على ذلك إن أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد انتشرت إلى خارج الجزيرة فأثارت الأفكار ولفتت الأنظار وجعلت بعض رهبان النصارى وقسيسيهم وبتعبير آخر علماءهم الذين يستطيعون الحجاج والجدل ووزن الأقوال ويرغبون في معرفة وقائع الأمور وحقائقها والوقوف عليها بأنفسهم يفدون إلى المدينة ليروا هذا النبي ويسمعوا منه ويحاجوه ويجادلوه. وقد تأثر الوافدون بما رأوا وسمعوا ولمسوا من قوة الحق والروحانية والتطابق مع ما جاء به رسل الله السابقون فصدقوا وآمنوا. وخطورة هذا الحادث عظيمة جدا كما هو المتبادر من حيث سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية. ومن المحتمل جدا أن يكون لكتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسله الذين أرسلهم أثر في هذه الوفادة.

وإذا ما أضفنا هذا المشهد إلى ما احتوته آيات آل عمران والإسراء والقصص المذكورة آنفا ثم آيات البقرة [١٢١] وآل عمران [١١٣ ـ ١١٥] والنساء [١٦٢] والرعد [٣٦] والأحقاف [١٠] التي تذكر إيمان بعض أهل الكتاب وأهل العلم منهم من يهود ونصارى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن يظهر أن هذه المشاهد قد تكررت في العهدين المكي والمدني في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي هذا شهادة عيان قوية صادقة على ما كان لروحانية القرآن وروحانية النبي وروحانية الدعوة من تأثير في كل من كان يسمعها بعقله وقلبه ومنطقه وكان رائده الحقّ والهدى ولم يكن خبيث الطوية متعمدا للعناد والجحود من الكتابيين وعلمائهم ورؤساء دينهم في مقدمتهم. وهذا هو الذي قرره القرآن في صدد مستمعي آيات القرآن والدعوة النبوية إذا كانوا من الفئة الأولى كما جاء في آيات عديدة منها آية سورة يس [١١] هذه (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ

٢٠٤

اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) وآية سورة السجدة (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)) وإذا كان جمهرة اليهود في الحجاز الذين سمعوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يؤمنوا ففي القرآن شواهد كثيرة على أن هذا كان لأسباب عديدة لا تمتّ إلى صدق دعوة النبي وروحانية رسالته.

وفي السلسلة التي نحن بصددها آيات تتضمن أسباب ذلك كما أن مثل هذه الأسباب واردة في السلاسل الواردة في حق اليهود في سور البقرة وآل عمران والنساء. والآيات القرآنية المكية والمدنية تلهم أن أكثر النصارى في الحجاز آمنوا بالرسالة النبوية لأنهم لم يكن لديهم من الأسباب ما كان لدى اليهود فضلا عما كانوا عليه من دماثة خلق وحسن طوية نوّه بها القرآن في الآيات التي نحن في صددها وفي آية سورة الحديد هذه (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) [٢٧]. ولم يمض على فتح المسلمين بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية إلّا ردح قصير حتى أخذ النصارى فيها يقبلون على اعتناق الإسلام إلى أن اعتنقه سوادهم الأعظم. وشاء بعضهم أن يحتفظوا بدينهم فكان لهم ذلك. اتساقا مع حرية التدين التي قررها القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (الكافرون).

ونحن نعتقد أن موقف هؤلاء كان متأثرا بأسباب مادية ودنيوية أكثر من كل شيء. وقد يكون أكثرهم من الرهبان الذين كانوا يجنون ثمرات كثيرة من موارد الأديرة التي كانت تحت أيديهم. ولعل هذا ما قررت واقعه المشاهد آية سورة التوبة هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [٣٤].

ولقد ظلّ هذا الواقع بشكليه يتكرر في كل مكان وزمان. فمن استطاع أن يتغلب على أنانيته وهواه ويتفلّت من تأثير المنافع المادية والتعصّب الأعمى يؤمن بالقرآن ورسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن انساق بأنانيته وهواه فأعمياه عن الحقّ والحقيقة

٢٠٥

وجعلاه يتعصّب تعصّبا أعمى ظل مكابرا مناوئا وظلّ يستجيب للتحريض والإغراء والتهويش والمكائد ضد الإسلام والمسلمين.

وما دام القرآن قد وصف النصارى في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما وصفهم به من دماثة وخلق وحسن طوية ورحمة ورأفة وبأنهم أقرب الناس مودّة للمسلمين فيصحّ القول إن هذه الصفات المحببة هي نتيجة لتلقينات المسيحية السمحاء ولقد كان بعضهم لا يكتفون بعدم الاستجابة إلى الإسلام بل يقفون من الإسلام والمسلمين موقف المناوىء الباغي والمكابر المكائد المعادي ولا يزال هذا يظهر في كل ظرف فيكون أصحاب ذلك منحرفين عن تلك التلقينات.

ووصف اليهود بأنهم أعداء المسلمين قد ورد في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء (١). غير أن في الوصف الذي جاء في الآيات معنى خاصا حيث يفيد أنهم من أشدّ أعدائهم. وليس من ريب في أن هذا قد كان قائما على مواقف ومشاهد في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن المعجزات القرآنية أن هذا يتكرر اليوم بأشدّ صوره.

ومهما يكن من أمر ففي الآية الأولى تلقين مستمر المدى في كون النصارى يظلون على كل حال أقرب مودة إلى المسلمين وفي واجب المسلمين بالتعامل معهم على هذا الاعتبار. وفي كون اليهود يظلون أشد الناس عداوة للمسلمين وفي واجب المسلمين بالتعامل معهم على هذا الاعتبار أيضا.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الفقرة الأولى من الآيات حديثا أخرجه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن أبي هريرة بطرق عديدة جاء فيه «ما خلا يهوديّ بمسلم قط إلّا همّ بقتله أو إلّا حدثته نفسه بقتله» والحديث ولو لم يكن من الصحاح فإنه متساوق مع وصف الله تعالى لشدة عداوة اليهود للمسلمين في الآية في آيات السور المذكورة آنفا التي أشرنا إليها في الذيل.

__________________

(١) اقرأ بخاصة آيات سورة البقرة [١٠٩] وآل عمران [١١٨ ـ ١٢٠] والنساء [٤٤ ـ ٤٦].

٢٠٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)). [٨٧ ـ ٨٨]

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ...) إلخ

وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث وروايات

عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت نهيا للمسلمين عن تحريم ما أحل الله لهم من الطيبات على أنفسهم وعن تجاوز حدوده. وأمرا بالأكل مما رزقهم الله من الحلال الطيب مع التمسك بواجب تقواه وهو الذي يؤمنون به. وواضح من روح الآية ونصها أن جملة (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) لا تعني النهي عن جعل الحلال حراما دائما وإنما تعني النهي عن حرمان النفس بالاستمتاع بما هو مباح حلال من الطيبات.

والآيات فصل جديد كما تبدو. وقد روى الطبري (١) عن ابن عباس وعكرمة والسدي وقتادة وغيرهم روايات عديدة مختلفة الصيغ متفقة المعنى كسبب لنزول الآيات. وهي أن جماعة من المسلمين اختلفت الروايات في أسمائهم وفيمن سمتهم من كان من كبار أصحاب رسول الله مثل عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود أرادوا أن يقلدوا الرهبان والقسيسين فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة وتفرغوا للعبادة من صلاة وذكر وصوم وأرادوا أن يتخذوا لأنفسهم صوامع ومنهم من حاول أن يقطع مذاكيره. فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكرهه وأغلظ لهم المقال ثم قال «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد. شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم. وإني لأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء فمن أخذ بسنّتي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس

__________________

(١) لقد روى المفسرون الآخرون ما رواه الطبري فاكتفينا بالعزو إليه.

٢٠٧

مني فلم تلبث الآيتان أن نزلتا» ، ويروي الطبري صيغا أخرى مما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجماعة. منها «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد. شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم» ومنها «لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا» ومنها «ليس في ديني ترك النساء واللحم واتخاذ الصوامع». وهذه الروايات كسبب لنزول الآيات لم ترد في الصحاح. وقد وردت أحاديث صحيحة فيها شيء مما في هذه الروايات دون ذكر كون الآيات نزلت في مناسبتها. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو قال «أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أني أقول لأقومنّ الليل ولأصومنّ النهار ما عشت. فقال رسول الله أأنت تقول ذلك. فقلت قد قلته يا رسول الله. فقال إنك لن تستطيع. فصم وأفطر. وقم ونم. فإنّ لجسدك عليك حقا وإن لعينيك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا» (١) وروى الشيخان والنسائي عن أنس قال «جاء إلى بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة رهط يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا كأنهم تقالّوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم أما أنا فإني أصلّي الليل أبدا. وقال آخر إني أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر وأصلّي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» (٢) وروى أبو داود عن عائشة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال يا عثمان أرغبت عن سنتي قال لا والله يا رسول الله ولكني سنّتك أطلب قال فإني أنام وأصلّي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان. فإن لأهلك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم وأفطر وصلّ ونم» (٣) وهناك حديث رواه الترمذي عن ابن عباس يذكر سبب نزول الآية جاء فيه «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٩٠ و ٩١.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٥٤ ومعنى تقالوها استقلّوها.

(٣) المصدر نفسه ص ٩٢ وعثمان بن مظعون أحد الحالفين والناذرين على ما جاء في الرواية الأولى.

٢٠٨

يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرّمت عليّ اللحم فأنزل الله الآية» (١). ومع ذلك فإن الطبري يروي رواية أخرى كسبب لنزولها جاء فيها «أن ضيفا نزل على عبد الله بن رواحة فأخرت امرأته عشاءه إلى أن يحضر زوجها لأن الطعام قليل فلما جاء وعرف ذلك غضب وقال لن أذوقه فقالت وأنا لن أذوقه ما لم تذقه فقال الضيف وأنا لن أذوقه ما لم تذوقاه. فتراجع ابن رواحة وقال لامرأته قربي طعامك وكلوا باسم الله وغدا فأخبر النبي بالأمر. فقال له أحسنت وأنزل الله الآية» ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآيات نزلت في مناسبة ما مما ذكرته الأحاديث والروايات. وإن كنا نرجح الرواية الأولى التي ذكرت الأحاديث الصحيحة محتواها وبعض الأسماء التي جاءت فيها لأنها أكثر تساوقا مع فحوى الآيات وما سبقها ، وإذا صحّ هذا فتكون الآيات تليت في المناسبات الأخرى فالتبس الأمر على الرواة والله أعلم. وإذا صحّ ترجيحنا فيصحّ القول إن الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت بعدها. والله تعالى أعلم. والحادث الذي ذكرته الرواية الأولى وأيدت فحواه الأحاديث الصحيحة صورة رائعة لاستغراق المؤمنين الأولين في عبادة الله والرغبة في التقرّب إليه.

والآيتان في حدّ ذاتهما احتوتا كما هو المتبادر تشريعا وتلقينا عامي الشمول للمسلمين. وهما رائعان ومتسقان مع المبادئ العامة التي قررها القرآن. ومتمشيان مع طبائع الأمور. ومن مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود والظهور فهذه الشريعة لا تدعو إلى التنسك والزهد في أطايب العيش بل وتنكر ذلك. وقد استنكرته آية سورة الأعراف هذه (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [٣٢] وقد عاتب الله رسوله على شيء منه في حادث عائلي على ما مرّ شرحه في سياق تفسير سورة التحريم. وكل ما تأمر به الشريعة الإسلامية هو مراعاة القصد والاعتدال وتحري الطيّب الحلال.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٩٣.

٢٠٩

ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكلّ نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» (١) وروى الطبرسي حديثا آخر جاء فيه «لا رهبانية في الإسلام» (٢).

ولقد تعددت أقوال المؤولين التي يرويها المفسرون في تأويل جملة (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) حيث قيل إنها بمعنى لا تتجاوزوا ما رسم الله من الحلال والحرام كما قيل إنها بمعنى لا تستنوا بغير سنّة الإسلام. أو إنها بمعنى لا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام وكل هذه المعاني مما تتحمّله الجملة. وقد خطر لنا معنى آخر وهو عدم الإسراف ووجوب الاعتدال فيما أحلّه الله للمسلمين من طيبات الحياة على ضوء آية الأعراف هذه (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)) والله تعالى أعلم.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)) [٨٩].

(١) اللغو في أيمانكم : روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عن اللغو في الأيمان هو كلام الرجل في بيته : كلا والله وبلى والله (٣).

(٢) بما عقدتم الأيمان : بما وثقتم الأيمان أو صممتم في أنفسكم عليه. أو

__________________

(١) انظر تفسير آية الحديد [٢٧] في تفسير ابن كثير.

(٢) انظر تفسير الطبرسي لهذه الآية أيضا.

(٣) انظر التاج ج ٣ ص ٧٠.

٢١٠

أوجبتموه على أنفسكم باليمين أو تعمدتم الالتزام به.

تعليق على الآية

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ...) إلخ

وما ينطوي فيها من أحكام وتلقين ونبذة مقتبسة في أنواع الأقسام في الإسلام

وما يجوز وما لا يجوز

عبارة الآية واضحة وفيها :

(١) إيذان للمسلمين بأن الله تعالى لا يؤاخذكم على ما يمتزج في كلامهم من لغو الأيمان المعتاد في أساليب الخطاب. وإنما يؤاخذهم بالأيمان التي يعزمون على أنفسهم بها على أمر معين سلبا أو إيجابا وعن تصميم.

(٢) وبيان لما يجب عليهم في مثل هذه الحال. فإذا أقسم المسلم يمينا فيها عزيمة على الإقدام على عمل ما أو الامتناع عن عمل ما ثم بدا له أن يرجع عنها أو كان الأوجب الرجوع عنها حسب نوع العزيمة وماهيتها من الإباحة والكراهية فعليه أن يقدم كفارة عن يمينه وهي إطعام عشرة مساكين من نوع أوسط طعام أسرة الحالف أو كسوتهم أو عتق رقبة. فمن لم يستطع فعل ذلك فعليه أن يصوم بدل الكفارة ثلاثة أيام. وفي هذه الحالة لا يبقى حرج عليه من اليمين فيفعل أو لا يفعل ما حلف عليه سلبا أو إيجابا.

(٣) وتوصية للمسلمين بوجوب حفظ أيمانهم.

وقد انتهت الآية بتقرير كون الله إنما ينزل آياته متضمنة مثل هذه الأحكام والبيانات حتى يشعر المسلمون المخاطبون بفضله ويقوموا بواجب شكره. مما جرى النظم القرآني عليه في تشريعات وتقريرات عديدة.

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أنه لما نزلت الآيات السابقة قال الذين حرموا على أنفسهم طيبات الحياة ما نصنع يا رسول الله بأيماننا التي حلفناها على ذلك؟ فأنزل الله الآية.

٢١١

والرواية محتملة الصحة. ولا يبعد مع ذلك أن يكون خبر عزيمة الذين اعتزموا التنسك قد بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع خبر اليمين وأن تكون الآية قد نزلت مع الآيتين السابقتين كفصل تام فيه نهي عن تحريم التنسك وحرمان النفس من طيبات الحياة وحثّ أو إباحة للاستمتاع بالحلال الطيب وتحلة لليمين معا.

والآية في حدّ ذاتها جملة تشريعية تامة في صدد الأيمان وكفارتها. ولذلك أفردناها عن الآيتين السابقتين. وهي ثانية آية في هذا الصدد. ففي سورة البقرة آية تماثل الشطر الأول منها جاءت في معرض النهي عن اتخاذ اليمين وسيلة للامتناع عن الخير والإصلاح وتقوى الله. والآيتان متساوقتان. ويمكن أن تكون إحداهما متممة للأخرى فيما استهدفه القرآن من تلقين وتشريع في صدد أدب اليمين وتهذيب أخلاق المسلم وتوجيهه نحو الخير ومنعه أو حمايته من المزالق ومما يكرهه الله لعباده المؤمنين من أعمال ومواقف وعزائم.

ولقد روى المفسرون في صدد هذه الآية حديثا نبويا رواه الخمسة عن أبي موسى جاء فيه «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الذي هو خير وتحللتها» (١).

وهكذا يظهر من هذا الحديث ومن آية سورة البقرة [٢٢٤] التي جاء فيها (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) شدة التساوق بين المبادئ القرآنية والتلقينات النبوية. وكون المهم في الإسلام هو عمل الخير وعدم الوقوع في الضار أو المنكر أو المكروه. فإذا حلف امرؤ يمينا على أمر يفعله أو لا يفعله وكان في تنفيذها ضرر وشرّ ومنكر ومكروه أو كان هناك ما هو خير منها فعليه الرجوع عنها مع التكفير عنها. ولا يجوز له في حال أن يتخذ اليمين

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٧٨ وقد أورد مؤلف التاج مع هذا الحديث حديثين آخرين من بابهما واحدا رواه مسلم والنسائي جاء فيه «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» وآخر رواه مسلم والترمذي وأبو داود جاء فيه «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل».

٢١٢

وسيلة للامتناع عن الخير والبرّ والإصلاح أو لعمل ما فيه ضرر وشرّ ومنكر ومكروه. وفي هذا من التلقين والتهذيب ما يتسق مع مصلحة الإنسانية في كل ظرف ومكان. والتكفير عن اليمين هو بمثابة توبة إلى الله واعتذار وإعلان ندم. وقد جعلت الكفارة وسيلة لعمل البرّ في الوقت نفسه. وفي هذا ما فيه من التوجيه الجليل أيضا.

ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث نبوية في الأيمان اللغو وفي اليمين الغموس وفي اليمين المصبورة وفي اليمين التي تحلف لاقتطاع مال المسلم وفي ما يصح الحلف به ولا يصح وفي عدم لزوم الكفارة لمن يستثني في يمينه إلخ أوردناها في سياق تفسير الآية [٢٢٤] من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة ولقد أوردوا أقوالا متنوعة لبعض أصحاب رسول الله وتابعيهم ولأئمة الفقه في ما في الآيات من أحكام نوجزها ونعلّق عليها فيما يلي :

١ ـ هناك من ذهب إلى اعتبار اليمين التي يحلفها الحالف وهو يظن أنه يحلف صادقا ويكون الأمر على غير ذلك من باب اللغو أو الخطأ الذي لا يؤاخذ عليه. وهذا وجيه يؤيده نصّ آية سورة البقرة [٢٢٤].

٢ ـ هناك من ذهب إلى أن اليمين التي يحلفها الحالف ليقتطع بها مال رجل مسلم لا تفيد الكفارة في التكفير عنها ولا يخلو هذا من وجاهة مع القول إن التوبة الصادقة مع إصلاح الضرر قد يضمنان غفران الله استلهاما من آيات التوبة في القرآن على ما شرحناه في سياق سورة البروج.

٣ ـ هناك قول بأن تحريم المرء الطيبات على نفسه بدون يمين يوجب الكفارة. وقول إنه لا يوجب إذا لم يكن يمين. وهذا هو الأوجه لأن الكفارة شرعت لليمين. غير أن التحريم بدون عذر مشروع يظل مخالفا لنهي الله ومعرضا صاحبه لغضبه ما لم يتب عنه على ما هو المتبادر.

٤ ـ هناك من فسّر كلمة (أَوْسَطِ) بمعنى المعتدل المعتاد. وهناك من فسّرها بمعنى (خير) و (أحسن) فإذا كان أهل الحالف يأكلون اللحم والسمن والتمر والخبز

٢١٣

ولو لم يكن ذلك دائما فمن الواجب أن يكون طعام المساكين العشرة من ذلك. وإلى هذا فهناك اتساق على عدم جواز الإطعام من النوع الرديء الذي لا يأكله أهل الحالف عادة. وهذا وذاك حقّ متسق مع نصّ الآية وروحها. ويستتبع هذا القول إنه إذا كان طعام أهل الحالف من الأنواع الرديئة مثل خبز الذرة والشعير والملح والبصل والخلّ والزيت فلا بأس على الحالف من أن يطعم المساكين منه أيضا. عملا بالمبدأ القرآني (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها).

٥ ـ وهناك قول بأن الطعام هو وجبة واحدة مشبعة. وقول إنه قوت يوم كامل. أو غذاء أو عشاء. والآية تتحمل كل ذلك ومن السائغ القول إن على الميسور أن يفعل الأحسن.

٦ ـ وهناك قول إنه يصحّ جمع المساكين العشرة وإطعامهم أو إطعامهم متفرقين. وكل هذا وجيه. وعزا رشيد رضا إلى أبي حنيفة جواز إطعام مسكين واحد عشرة أيام ولا بأس في هذا وإن كان الأولى التزام النصّ وإطعام عشرة مساكين.

٧ ـ وأجاز بعضهم إعطاء بدل عيني. والآية تذكر الطعام الذي يمكن أن يقال إن المقصود به المهيأ للأكل. ولعلّ القائلين جوزوه لأنه يمكن أن يتحول إلى طعام مجز. وليس في هذا الرأي بأس فيما نرى. وقد اختلفوا في القدر فقيل إنه مدّ من برّ أو مدّ من تمر أو نصف صاع من برّ أو نصف صاع من تمر. أو مدّ برّ ومدّ تمر أو نصف صاع برّ ونصف صاع تمر. وروى رشيد رضا عن ابن ماجه حديثا يذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفّر بصاع من تمر وأمر به مع التنبيه على أن المفسر وصف الحديث بأنه ضعيف. ونقول هنا ما قلناه في الطعام المهيأ. وهو أن على الميسور أن يعطي الأكثر الأفضل.

والمتبادر أن المقادير المروية هي ما كانت تعدّ مجزية في الظرف والعرف اللذين قدرت فيهما وهذا ما ينبغي أن يلاحظ في أي ظرف وعرف كما هو

٢١٤

المتبادر. والمهم على كل حال إعطاء ما يكافىء ما أوحته الآية على الوجه الأفضل الممكن.

ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه يذكر جواز إعطاء ثمن الطعام نقدا. وقياسا على جواز إعطاء بدل عيني عنه نرى أن إعطاء الثمن سائغ أيضا والله تعالى أعلم.

٨ ـ وهناك قول بأن أي نوع من الكساء مجز. وقول إنه يجب أن يكون كسوة تامة. وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية بل وفحواها. وهناك اختلاف في القدر. فقيل ثوبان. واحد للصيف وآخر للشتاء. وقيل إزار ورداء وقميص وسروال. وقيل إزار ورداء وقيل عمامة وعباءة. وعلى كل حال فالمهم هو كسوة تامة. وهي عرضة للتبدل بتبدل الظروف بطبيعة الحال. وهناك قول بأن وصف (أَوْسَطِ) يشمل الكسوة فيكون الواجب كسوة المساكين كسوة تامة من خير ما يكسي الحالف أهله. وفي هذا وجاهة ظاهرة.

وقد يسوغ القول قياسا على سواغ إعطاء ثمن الطعام أن إعطاء ثمن الكسوة نقدا سائغ أيضا. والله أعلم.

٩ ـ هناك قول إن (أو) للتخيير. وهناك من قال إنها للترتيب. وهذا وذاك هما في صدد الطعام والكسوة وتحرير الرقبة. لأن الصيام إنما يجزي في حالة عدم القدرة على الطعام والكسوة والرقبة. والقولان مما يتحمله النظم القرآني. وهناك من أوجب البدء بالأعلى. فالقادر على الرقبة فعليه أن يحرر رقبة والقادر على الكسوة عليه أن يكسو إن كانت الكسوة أغلى من وجبة الطعام. ولا يخلو هذا من وجاهة.

١٠ ـ هناك من قال إن من كان عنده فضل لإطعام عشرة مساكين بعد قوته وقوت عياله يوما وليلة وجب عليه ذلك ولا يجزيه الطعام ولو لم يكن ذا مال كثير. وهناك من جعل ذلك منوطا بحيازة ما فوق المائتي درهم. وهناك من جعل ذلك منوطا بفضل يزيد على رأس مال الحالف الذي يتعيش به. والرأي الأخير هو الأوجه فيما يتبادر لنا. وعلى كل حال فالصيام لا يجزي إلّا في حالة العجز عن

٢١٥

أقل الكفارات الأخرى قيمة. وهذا العجز يقدر حسب ظروف الحالف. وهذه مسألة إيمانية يوكل المرء فيها إلى دينه وتقواه.

١١ ـ وهناك من لم يقيد الرقبة بأي قيد من لون ودين وجنس. وهناك من قيدها بأن تكون مؤمنة استلهاما من آية النساء [٩٢] التي تقيد الرقبة الواجب عتقها على القتل الخطأ بكونها مؤمنة. وهناك من قيدها إلى هذا بأن لا يكون فيها عيب أو عاهة من عمى وطرش وخرس وجنون أو لا يكون صغير السن. ويتبادر لنا أن قيد (المؤمنة) وجيه. ولكن إذا لم يوجد مملوك مسلم يشترى ليعتق فلا بأس فيما نرى من عتق رقبة غير مؤمنة لأن في ذلك على كل حال تحريرا للإنسان الذي كرّم الله جنسه مطلقا. وقد يكون إطلاق النصّ هذا مما يعضد هذا التسويغ. والمتبادر أن القائلين بسلامة الرقيق من العيب وبكونه كبير السن حتى لا يسترخص الحالف الرقبة التي يشتريها. ومع أن تحرير إنسان كبير وسليم قد يكون أنفع إلا أن تحرير إنسان صغير وذي عاهة ينطوي على البرّ والإشفاق أيضا مما يجعلنا لا نرى ذلك القيد وجيها وضروريا والله أعلم.

١٢ ـ وهناك من أوجب أن يكون صيام الأيام الثلاثة متتابعا وعدّ الفطر في اليوم الثاني أو الثالث ناقصا يوجب الإعادة وقد روي أن كعب بن أبي أحد كبار قراء أصحاب رسول الله كان يقرأ (ثلاثة أيام متتابعات) وهناك من أجاز عدم التتابع ويلحظ أن القرآن نصّ على التتابع في صيام الشهرين اللذين يجب صيامهما على قاتل الخطأ في آية سورة النساء [٩٢] وعلى المظاهر لزوجته في آية سورة المجادلة [٤] وما دام أن المؤولين قالوا إن صفة الرقبة يجب أن تكون مؤمنة قياسا على آية سورة النساء فيسوغ أن يقاس عليها أيضا ويقال إن التتابع في صيام الأيام الثلاثة هو الأوجه والله تعالى أعلم.

وفي تفسير المنار نبذتان عن أقسام الحلف. واحدة تبدو أنها للمفسر وأخرى مقتبسة من فتاوى الإمام ابن تيمية وفي كل منهما سداد وفائدة ولذلك رأينا أن نوردهما في هذه المناسبة.

٢١٦

ولقد جاء في الأولى أن الحلف باعتبار المحلوف عليه ينقسم إلى أقسام :

١ ـ أن يحلف على فعل واجب وترك حرام. فهذا تأكيد لما كلّفه الله إياه فيحرم الحنث به ويكون إثمه مضاعفا.

٢ ـ أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم فهذا يجب عليه الحنث به لأن يمينه معصية وتجب الكفارة.

٣ ـ أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه. فهذا طاعة فيندب أو يجب الوفاء ويكره أو يحرم الحنث.

٤ ـ أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه. وهذه معصية فيجب الحنث مع الكفارة.

٥ ـ أن يحلف على ترك مباح. وهذا مختلف فيه. غير أن النهي عن تحريم ما أحلّ الله في الآية يلهم كراهية ذلك ووجوب الحنث والكفارة. أما إذا كان الحلف على شأن غير ذلك فإذا كان في الحنث فائدة كمجاملة ضيف أو إدخال سرور على الأهل أو زيارة صديق أو مباشرة عمل أو سفر فهو مستحب مع الكفارة.

ولقد جاء في النبذة الثانية أن الأيمان ثلاثة أقسام :

(أولاها) ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات والكعبة والملائكة والمشايخ والآباء وتربتهم ونحو ذلك. فهذه أيمان غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصحّ قوليهم استنادا إلى ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحاديث منها «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» و «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» و «ومن حلف بغير الله فقد أشرك».

(وثانيها) اليمين بالله تعالى كقوله والله لأفعلنّ فهذه يمين منعقدة ، فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين.

(وثالثها) أيمان المسلمين التي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها

٢١٧

تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كقول المرء إن فعلت كذا فعليّ صيام شهر أو الحج إلى بيت الله أو الحل عليّ حرام لا أفعل كذا. أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام. أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعله. أو إن فعلته فنسائي طوالق وعبيدي أحرار وكل ما أملكه صدقة. فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال :

(١) إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به.

(٢) لا يلزمه شيء إذا حنث.

(٣) يلزمه كفارة يمين فقط إذا حنث ، ومن العلماء من جعل النذر كاليمين وأوجب في عدم الوفاء به كفارة.

وأظهر الأقوال وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار أنه يجزئه كفارة يمين في جميع هذه الأيمان كما قال الله (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) و (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢]. وثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه». فإذا قال الحل عليّ حرام لا أفعل كذا ، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا أو إن فعلت كذا فعليّ الحج أو مالي صدقة أجزأه في ذلك كفارة يمين فإن كفّر كفّارة الظهار فهو أحسن.

هذا ، ولقد تعددت تأويلات المؤولين القدماء في معنى جملة (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) حيث أوّلها بعضهم بمعنى (لا تنقضوها) أو (كفروا عنها) وأوّلها بعضهم بمعنى (لا تكثروا من الأيمان وتروّوا فيها). وكلا القولين محتمل وإن كنا نرجح القول الثاني والله أعلم.

ولما كانت هذه الآية هي الوحيدة التي فيها تحلّة اليمين فإن فيها دليلا على أن سورة التحريم قد نزلت بعدها لأن فيها جملة (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) حيث يكون في هذا دليل آخر أو قرينة أخرى على أن بعض فصول هذه السورة نزلت قبل فصول سورة متقدمة عليها. ويقال هذا بالنسبة لفصول اليهود التي يدل فحواها على أنها نزلت قبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة على كل حال. وهذا وذاك

٢١٨

يؤيدان ما قلنا من أن فصول هذه السورة قد ألّفت بعد تمام نزول ما اقتضت الحكمة أن تحتويه من فصول.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)). [٩٠ ـ ٩٢]

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ...) إلخ

والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وصور

وأحكام وتلقين وما ورد في صددها من أحاديث

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمؤمنين باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. وبيانا بأن كلا منها رجس وشرّ واجب الاجتناب. وتنبيها على ما يؤدي إليه الخمر والميسر بخاصة بوسوسة الشيطان من العداوة والبغضاء بين المؤمنين ومنع متعاطيهما منهم عن ذكر الله وعن الصلاة. وسؤالا فيه معنى اللوم والتبكيت وإيجاب الانتهاء عمّا إذا كان المؤمنون منتهين بعد الآن عن هذين العملين المنكرين. وحثا على طاعة الله ورسوله فيما يأمرانهم به وينهيانهم عنه. وتحذيرا من المخالفة بأسلوب ينطوي على الإنذار. فإذا لم يحذروا فليس على الرسول إلّا البلاغ وأمرهم لله القادر عليهم.

ولقد روى الطبري حديثا جاء فيه «قال عمر : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية البقرة [٢١٩] فدعي فقرئت عليه فقال اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية النساء [٤٣] فدعي فقرئت عليه فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية المائدة فدعي فقرئت عليه فقال : انتهينا انتهينا» (١) وإلى هذا

__________________

(١) هذا الحديث رواه أصحاب السنن أيضا انظر التاج ج ٤ ص ٩٤.

٢١٩

الحديث فإن الطبري أورد روايات أخرى كسبب لنزول الآيات. منها أن جماعة من المهاجرين والأنصار شربوا خمرا في وليمة أقامها أنصاري فانتشوا فتفاخروا فتشاجروا وضرب بعضهم سعد بن أبي وقاص على أنفه فكسره فنزلت الآيات. ومنها أن جماعة سألوا النبي عن الخمر والميسر فنزلت آية البقرة ثم سألوه فنزلت آية النساء ثم سألوه فنزلت آية المائدة (١).

وعدا الرواية الأولى التي يرويها أيضا أصحاب السنن فليس شيء من الروايات الأخرى واردا في كتب الحديث ، ويلحظ أن الروايات حتى أولاها التي هي أقواها سندا مقتصرة على الخمر في حين أن الآية احتوت نهيا عن الأنصاب والأزلام. والميسر أيضا.

ولقد قال الطبري حينما أورد الآية الأولى إن هذا بيان من الله تعالى للذين حرموا على أنفسهم طيبات ما أحلّ الله لهم تشبها بالقسيسين والرهبان بما هو الأولى والأوجب عليهم أن يحرموه. والقول وجيه ويربط بين هذه الآيات والآيات السابقة. مع التنبيه إلى أن حكمة التنزيل اقتض توجيه الكلام فيها إلى جميع المسلمين كما هو الشأن في الآيات السابقة جريا على النظم القرآني في المناسبات المماثلة.

ولعلّ وضع الآيات بعد تلك مباشرة مما يقوي هذا التوجيه ويسوغ القول باحتمال نزولها بعدها. وهذا لا يمنع أن يكون وقع ما روي في الحديث والروايات الأخرى كلّه أو بعضه. فاقتضت حكمة التنزيل جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام معا في النهي والبيان.

ولقد تضمنت آية سورة البقرة المار ذكرها تنبيها إلى أن إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما وتضمنت آية سورة النساء المار ذكرها نهيا عن الصلاة في حالة السكر. فجاءت هذه الآيات أقوى من المرتين بل خطوة حاسمة لتحريم الخمر

__________________

(١) هناك روايات أخرى يرويها الطبري ويرويها المفسرون الآخرون فاكتفينا بما أوردناه لأنها متقاربة.

٢٢٠