التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

شروط الصلح التي تنصّ على إرجاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يأتيه من مكة بدون إذن وليّه ولو جاء مسلما. فأمر الله في الآية بعدم إرجاعهن.

واحتمال صحة إحدى الروايات قوي مع ترجيحنا وقوع الحادث بعد رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة بمدة ما على ما تلهمه روح الآية ومقامها المتأخر كثيرا عن سورة الفتح. فلو لم يكن هناك عهد لما كان ضرورة للأمر بعدم الإرجاع ولما كان هناك مجال لمجيء الكفار ومطالبتهم بالإرجاع كما هو ظاهر.

والآيتان وحدة تشريعية تامة ومنسجمة بحيث يسوغ ترجيح نزولهما معا بقوة. وفيهما أمور ليست من أسباب ومحتوى الرواية حيث يصحّ القول بأن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الآيتين أحكاما متصلة بأمور عديدة من باب واحد في مناسبة إحدى الحوادث المروية.

ولقد تعددت روايات المفسرين في حقيقة شروط الصلح لمعرفة ما إذا كان في الأمر بعدم الإرجاع نسخ لبعضها. فمن هذه الروايات أن النصّ كان مطلقا «لا يأتيك أحد منّا بدون إذن أهله إلّا رددته ولو كان مسلما» ومنها أنه كان بهذه الصيغة «لا يأتيك رجل منّا .. إلخ» ومنها أنه كان في شأن النساء فقط هكذا «لا تأتيك امرأة ليست على دينك إلّا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج تردّ على زوجها الذي أنفق». وليس هناك نصّ للعهد في حديث صحيح.

والنفس تطمئن إلى الرواية الأولى أكثر من غيرها. ولا سيما وهناك رواية ذكرت أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو وكان مسلما قد قيده أبوه بالحديد وحبسه جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديبية يرسف في أغلاله ، وكان أبوه هو مندوب المفاوضة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان الاتفاق قد تمّ على الشروط فطلب الأب ردّ الابن تنفيذا للعهد فردّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما شرحناه في سياق سورة الفتح. والرواية الثالثة متطابقة الفحوى مع الآية الأولى فلا يكون هناك ضرورة لأمر رباني ناسخ للاتفاق. وهذا فضلا عن أن نقض العهد الصريح وعدم تنفيذه لم يكن متسقا مع المبادئ القرآنية المكررة بشأن الوفاء بالعهود والعقود. وآيات سورة المائدة الأولى بخاصة قوية

٢٨١

شديدة في شأن صلح الحديبية على ما شرحناه في مناسبتها. ومن جهة أخرى فإن المشركين ما كانوا ليقبلوا بذلك. وكانوا اعتبروا الصلح منقوضا وحملوا تبعة نقضه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولم يرو شيء من ذلك. والمأثور أن العهد ظلّ محترما معتبرا إلى أن نقضه أهل مكة وحلفاؤهم بنو بكر بعد سنتين فكان ذلك سببا لزحف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأس المسلمين على مكة وفتحها.

والمتبادر أن قريشا كانوا يعتبرون نصّ العهد شاملا للنساء والرجال معا. فجاء ذوو النساء المهاجرات إلى المدينة ليطالبوا بردهن. ولم يكن هذا النصّ صريح الشمول فشاءت حكمة التنزيل أن يؤمر المؤمنون بعدم إرجاعهن ما دام ليس هناك نص صريح ، ثم شاءت أن يعوض أزواجهن عن النفقة التي أنفقوها والتي يتفق المؤولون على أن المراد منها الصداق إرضاء لهم لأنهم كانوا يرون في المطالبة بردهن شبهة من الحق. ولم يرو أحد أنهم رفضوا هذا الحلّ حيث ينطوي في هذا أنهم لم يكونوا يرون أنفسهم محقين أو مستندين إلى نصّ صريح. وهو بعد حلّ فيه العدل والإحسان. وفيه تلقين جليل في كل موقف مماثل.

ويلفت النظر خاصة إلى جعل الحقوق متبادلة بين المسلمين والكفار في مطالبة الأزواج المسلمين تعويضا عن نسائهم اللائي تخلفن عنهم أو التحقن بذويهم ولو كن كوافر أصلا أو ارتدادا وفي مطالبة الأزواج الكفار تعويضا عن نسائهم اللائي أسلمن والتحقن بالمسلمين. ففي ذلك تسوية متقابلة عادلة إنما تكون في ظروف عهدية وسلمية مستمرة ومحترمة من طرفيها. وفي ذلك أمارة من أمارات رحابة أفق وصدر الشريعة الإسلامية في المناسبات بين المسلمين وغير المسلمين ، وتلقين جليل مستمر المدى في كل موقف مماثل أيضا.

والحادث الذي نزلت الآيتان في مناسبته والأمر بعدم الإرجاع يدلان على كل حال على أن موقف المسلمين صار أقوى من موقفهم أثناء عقد صلح الحديبية فاقتضت حكمة التنزيل التساهل في مسألة ليس فيها نصّ صريح. في حين لم يكونوا في تلك الأثناء من القوة ما يكفي لإصرارهم على المساواة في بعض

٢٨٢

الشروط وبخاصة في عدم إرجاع من يأتي إليهم من ناحية المشركين مقابل عدم إرجاع هؤلاء من يأتي إليهم من ناحية المسلمين مما كان مثيرا لنفوس بعض المسلمين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الفتح.

ولقد روى المفسرون (١) روايات عديدة في كيفية الامتحان الذي أمرت الآية الأولى به. منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحلّف المرأة بالله أنها ما خرجت من بغض زوج ولا لالتماس دنيا وإنما خرجت حبّا لله ورسوله. ومنها أنه كان يحلّفها بأنها لم تخرج إلّا للدين. ومنها أنه كان يطلب منها بيعة بصيغة الآية التالية للآيتين. وهي «أن لا تشرك بالله شيئا ولا تسرق ولا تزني ولا تقتل أولادها ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها ولا تعصيه في معروف». وهذه الرواية بخاصة من مرويات البخاري والترمذي في سياق تفسير الآية عن عائشة حيث قالت : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية» (٢) ونحن نرجح هذه الرواية لأنها أوثق سندا وبقرينة ورود الآية التي تحتوي الصيغة بعد الآيتين. ولعلّها نزلت معهما.

ولقد انطوى في الآيتين صور عديدة من صور السيرة النبوية في العهد المدني زادتها الروايات جلاء :

(١) من ذلك أن بعض النساء المكيّات اللاتي أسلمن ولم يستطعن الهجرة وظلّت المتزوجات منهن في كنف أزواجهم المشركين كنّ يتحيّنّ الفرصة للهجرة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تاركات وطنهنّ وأهلهنّ وأزواجهنّ على ما كان يحفّ هذا العمل من أخطار ومصاعب. وفي هذا صورة رائعة للمرأة العربية ودورها في الدعوة الإسلامية وما بثّه الإسلام فيها من قوة وإخلاص وجرأة وإقدام وتضحية.

(٢) ومن ذلك أن بعض زوجات المهاجرين تخلّفن عن أزواجهنّ محتفظات بشركهن. ومؤثرات أهلهنّ على أزواجهنّ ، وممن روت الروايات أسماءهن قريبة

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والطبرسي والخازن.

(٢) انظر التاج ج ٤ ص ٢٣٣.

٢٨٣

بنت أبي أمية بن المغيرة وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية زوجتي عمر بن الخطاب وأروى بنت ربيعة زوجة طلحة بن عبيد الله (١).

(٣) ومن ذلك أن من المهاجرات من ارتددن وفررن من المدينة ولحقن بأهلهن. وممن ذكرت الروايات أسماءهن أم الحكم بنت أبي سفيان زوجة عياض بن شداد ، وبروع بنت عقبة زوجة شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى زوجة عمرو بن عبد ود ، وهند بنت أبي جهل بن هشام زوجة هشام بن العاص بن وائل (٢).

(٤) ومن ذلك أن بعض المسلمين ظلوا يحتفظون بعقد زوجيتهم بالكافرات اللاتي تخلفن عنهم ولم يسلمن ولم يهاجرن. وممن ذكرت الروايات أسماءهن عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وزوجاتهم اللاتي ذكرنا أسماءهن قبل قليل فطلقاهن بناء على أمر الله في الآية الأولى (٣).

(٥) ومن الصور الطريفة التي رواها الطبري أن زوجة أحد المسلمين فرت إلى مكة وجاءت في هذه الأثناء امرأة من مكة مهاجرة مؤمنة فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي ذهبت زوجته وقال للمرأة القادمة هذا زوج التي ذهبت إلى المشركين أزوجكه. فقالت يا رسول الله عذر الله زوجة هذا أن تفرّ منه لا والله ما لي به حاجة. فدعا رجلا جسيما اسمه البختري فقال لها هذا قالت نعم.

ومما يلحظ أن آية سورة البقرة [٢٢١] نهت عن نكاح المشركات. فالظاهر أن هذا النهي فهم على أنه بالنسبة للزواج بعد الإسلام وأنه ليس شاملا للعقود الزوجية السابقة فاحتفظ المسلمون بزوجاتهم الكافرات إلى أن نزلت هذه الآيات. وفي هذا مشهد من مشاهد تطور التشريع القرآني.

وقد قال المؤولون على ما ذكره الطبري وغيره في جملة (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري.

(٢) هذه الأسماء رواها الطبرسي عن الزهري. وقد قال الطبري إنه لم يخرج إلا امرأة واحدة ولم يذكر اسمها.

(٣) الطبري.

٢٨٤

إن المرأة إذا جاءت مؤمنة مهاجرة ووجب أداء صداقها إلى زوجها الكافر أخذ هذا الصداق من المؤمن الذي يتزوجها. وهذا حلّ حقّ. غير أن هناك حالة مفروضة وهي أن لا يتيسر للمرأة زواج والمتبادر أن أداء صداقها يكون على جميع المؤمنين أو على بيت مالهم. ويكون المخاطب بالتنفيذ في هذه الحالة ولي أمر المؤمنين فيجمعه من القادرين من المؤمنين أو يؤديه من بيت مال المسلمين الذي يكون تحت إشرافه.

وقد قال المؤولون كذلك في جملة : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) إنها في صدد أمر المؤمنين إعطاء صداق زوجات المؤمنين اللاتي يلحقن بالكفار مما ييسره الله من غنائم العدو.

وهذا حقّ مستلهم من روح الجملة. والمتبادر أن ما يعطاه الزوج يكون غير سهمه الخاص من الغنائم. وهذا من شأن ولي أمر المؤمنين الذي تكون قسمة الغنائم إليه.

هذا ، وهناك أحاديث يصحّ إيرادها في هذا المقام لتناسبها مع الموضوع وفيها أحكام تشريعية نبوية.

من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : «إنّ رجلا جاء مسلما على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم جاءت امرأته مسلمة فقال يا رسول الله إنها كانت أسلمت معي فردّها عليّ فردّها عليه» (١).

ومن ذلك حديث رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس قال : «أسلمت امرأة على عهد رسول الله فتزوّجت فجاء زوجها الأول إلى النبيّ فقال يا رسول الله إني قد كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زوجها الثاني وردّها إلى الأول» (٢).

__________________

(١) التاج ج ٢ ، ص ٣٢٤ و ٣٢٥.

(٢) المصدر نفسه.

٢٨٥

ويبدو من روح الحديثين والحادثين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تيقّن من كلام الزوجين فأمر بما أمره.

وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : «ردّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ستّ سنين بالنّكاح الأول ولم يحدث نكاحا» (١) وزينب هي بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد ذكر ابن هشام قصتها. وخلاصة ذلك أن زوجها وقع أسيرا في جملة أسرى بدر ، وكانت هي في عصمته في مكة فأرسلت قلادتها لفدائه. فاستشار النبي أصحابه بالمنّ عليه بدون فداء فوافقوا ومنّ عليه على شرط أن يرسلها إلى المدينة ففعل. ثم وقع أسيرا مرة أخرى وجيئ به إلى المدينة فاستجار بزينب فأخبرت بذلك أباها فأجاره ولكنه نبّه عليها قائلا : «لا يخلصنّ إليك فإنّك لا تحلّين له. وقد عاد إلى مكة بعد هذا الحادث وقضى مصالحه ورجع فأسلم فردّ النبي عليه زوجته بدون نكاح جديد» (٢).

وقد روى الإمام مالك حادثا مماثلا في حديث رواه عن ابن شهاب جاء فيه «أنّ صفوان بن أمية فرّ يوم الفتح فأرسل إليه النبيّ أمانا فعاد وكانت امرأته قد أسلمت قبله فردّها عليه بدون نكاح جديد» (٣). وروى البخاري حديثا عن ابن عباس قال : «إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرّمت عليه» (٤).

وقد يكون إسلام أبي العاص قبل نزول آيات الممتحنة التي حرّمت الزوجات المسلمات على أزواجهم الكافرين فلم يكن فيما فعله النبي نقض لأن الحكم القرآني لم يكن قد نزل. غير أن هذا ليس واردا بالنسبة لصفوان وزوجته. ويمكن والحالة هذه أن يقال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسّر جملة : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) في آية سورة الممتحنة بحرمة الوطء دون انفساخ العقد. وتكون جملة «حرّمت عليه» في

__________________

(١) التاج ج ١ ، ص ٣٢٥.

(٢) ابن هشام ج ٢ ، ص ٢٩٦ و ٢٩٧ و ٣٠٢ و ٣٠٣.

(٣) الموطأ ج ٢ ص ٣١.

(٤) التاج ج ٢ ص ٣٢٥.

٢٨٦

حديث ابن عباس في نفس المعنى. فلما أسلم الزوجان صار الحرام عليهما مباحا دون حاجة إلى عقد جديد. والله أعلم.

والمتبادر أن بقاء الزوجتين بدون زواج هو الذي جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمضي حكمه الحكيم. ولو تزوجتا قبل إسلام زوجيهما لما كان محلّ ولا إمكان لذلك.

والتحريم هو تشريع مدني كما هو واضح. فليس من محلّ للسؤال عن سبب بقاء بنت رسول الله التي نعتقد أنها كانت مؤمنة في عصمة زوجها المشرك في العهد المكي ثم في شطر من العهد المدني قبل نزول التحريم. ويظل الحكم الشرعي هو التفريق بين الزوجين إذا ارتدّ أحدهما ولم يتب. أما إذا تاب فقد يكون ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم محلّ قياس فيعود الزوجان إلى زوجتيهما بدون عقد جديد. وإذا كان الزوج هو المرتدّ فتكون عودة زوجته إليه إذا تاب رهنا ببقائها غير متزوجة. فإن تزوجت فيكون الأمر قد انتهى. والله تعالى أعلم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)) [١٢]

(١) ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن : ولا يقدمن على شيء مما تفعله الأيدي والأرجل فيه كذب وافتراء. وقد أوّلها معظم المؤولين بنسبة النساء لأزواجهم أولادا نتيجة للزنا والفاحشة. فبطنها الذي تحمل فيه ولد الزنا بين يديها ، وفرجها الذي تلده منه بين رجليها (١) وهو تأويل وجيه.

في الآية أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه إذا جاءه النساء المؤمنات يردن أن يبايعنه ويعطينه العهد على أنفسهن بأن لا يشركن ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا ينسبن كذبا لأزواجهن ولدا ليس منهم نتيجة للزنا والفاحشة ولا يعصينه في ما يأمر

__________________

(١) التفسير الأخير للنيسابوري.

٢٨٧

به من أمر معروف متعارف أنه خير وصالح ونافع فليبايعهن وليستغفر لهن الله تعالى المتصف بالغفران والرحمة.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ...) إلخ

وما روي في صددها من أحاديث وروايات وما

فيها من تلقين وبخاصة في صدد توطيد شخصية المرأة

واستقلاليتها في المجتمع الإسلامي إزاء الرجل

لقد أوردنا في سياق تفسير الآيات السابقة ما رواه البخاري والترمذي عن عائشة عن كيفية امتحان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء اللاتي يأتين إلى المدينة مؤمنات مهاجرات وهي مثل نصّ هذه الآية. مع التنبيه على أن صيغة حديث عائشة لا تفيد أنها أنزلت لذلك. ولم نطلع على رواية أخرى في صدد نزولها. وكل ما هناك أن المفسرين رووا روايات عديدة في تطبيقها. وقد يرد بالبال أن تكون نزلت مع الآيتين السابقتين لها لتكون صيغة الامتحان. وفي حال صحة هذا الاحتمال تكون صلتها بالآيات السابقة لها وموضوعها وثيقة. غير أن اختلاف الصيغة بين هذه الآية والآيتين السابقتين لها يجعلنا نتردد في الجزم بذلك. فالخطاب في الآيتين السابقتين يوجّه إلى المؤمنين بامتحان النساء المؤمنات اللاتي يجئن إليهم مهاجرات. والخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستجابة إلى النساء المؤمنات إذا جئن إليه للمبايعة. والفرق غير يسير في ما يتبادر لنا بالرغم مما يمكن أن يصح أن يقال إن الخطاب للمؤمنين يعني الخطاب للنبي. وكل هذا يجعل الاحتمال أقوى أن تكون الآية نزلت مستقلة استجابة إلى طلب تقدم به بعض المؤمنات إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبايعهن استقلالا عن الرجال. وقد روي شيء من ذلك في مناسبة الآية [١٩٥] من سورة آل عمران والآية [٣٥] من سورة الأحزاب على ما أوردناه في مناسبتهما. فإذا صحت وجاهة وقوة هذا الاحتمال فتكون الآية قد نزلت في ظرف مثل هذا الطلب وقبل مجيء المؤمنات مهاجرات من مكة فجعلت صيغتها

٢٨٨

صيغة امتحان لهن على ما ورد في حديث عائشة الصحيح ووضعت بعد الآيتين اللتين ذكرتا حادث مجيئهن للتناسب الموضوعي وهو ما نرجحه. وتكون الآية مظهرا جليلا آخر من مظاهر عناية القرآن بالمرأة المسلمة وتقرير شخصيتها وأهليتها للتكليف والخطاب والتعامل استقلالا مما فيه معنى تقرير كونها ركنا في الدولة الإسلامية كالرجل سواء بسواء. ومما فيه معنى دعم لكون قوامة الرجل عليها التي قررتها آية سورة النساء [٣٤] هي منحصرة في الحياة الزوجية على ما شرحناه في سياقها شرحا يغني عن التكرار ، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. على أنه لو صح الوارد الأول بكون الآية نزلت مع الآيتين السابقتين فإن هذا المظهر الجليل البعيد المدى والقوي الدلالة في نطاق شرحنا الآنف يظل ملموحا في الآية بكل روعته وجلاله.

ولقد روى ابن هشام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ البيعة من أول رهط أسلم من الأوس والخزرج قبل الهجرة إلى المدينة بصيغة هذه الآية (١). وروى الطبري عن أم عطية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد مقدمه إلى المدينة جمع طائفة من نساء الأنصار في بيت وجاء إليهن مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسلّم عليهن من وراء البيت وقال : أنا رسول الله ، فقلن : مرحبا وحبّا ، فقال : تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا ، إلى جملة ولا تعصين في معروف ، قلن : نعم. فمدّ يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال : اللهمّ فاشهد.

ولقد روى المفسرون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقب فتح مكة أخذ البيعة من الرجال ثم أخذ البيعة من النساء ، وأن صيغة بيعة النساء كانت صيغة الآية. ومن طريف ما روي في صدد ذلك أن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان من جملة من أقبل من نساء قريش على مبايعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت متنكرة لأنها حسبت أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاقدا عليها وقد يقتلها لما فعلته في عمّه حمزة رضي الله عنه يوم أحد. حيث روي أنها بقرت بطنه وأخذت قطعة من قلبه أو كبده فلاكتها شفاء لنفسها من قتل أبيها

__________________

(١) ابن هشام ج ٢ ص ٤١ بصيغة التذكير.

٢٨٩

وإخوتها وابنيها في وقعة بدر (١). وقد عرفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ذلك فدعاها باسمها فأتت فأخذت بيده فعاذت به وقالت عفا الله عما سلف يا رسول الله فصرف وجهه عنها. ولما لقن النساء (وَلا يَسْرِقْنَ) قالت والله إني لأصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلّهن لي أم لا قال أبو سفيان ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال فضحك رسول الله. ولما لقنهن (وَلا يَزْنِينَ) قالت يا رسول الله وهل تزني الحرة؟ قال لا والله ما تزني الحرة. ولما لقنهن (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ ...) إلخ. قالت والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق ، ولما لقنهن (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) قالت ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنت وهم أبصر. وضحك عمر حتى استلقى على قفاه وتبسّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما لقنهن (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قالت ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

وروايات مبايعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء بهذه الصيغة معقولة بالنسبة إلى ما بعد نزولها سواء أكان ذلك ممن كن يأتين مؤمنات مهاجرات قبل الفتح ويدعين الإسلام أم كان ذلك من نساء قريش عقب الفتح. أما روايات أخذ البيعة بنفس الصيغة قبيل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وعقب هجرته إليها ففيها نظر إلّا أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ألهم الصيغة قبل أن ينزل بها الوحي قرآنا. وفي هذا إذا صحت الروايات مشهد من مشاهد التوافق بين أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الملهمة وبين الوحي القرآني (٢).

والنهي عن قتل الأولاد متصل بعادة وأد البنات على ما ذكره المفسرون. وقد كان النساء إلى ذلك إذا ما ولدن بنتا يخنقنها حال ولادتها سخطا وكراهية ولادة

__________________

(١) انظر ابن هشام ج ٣ ص ٤١ ، وج ٢ ص ٢٥١ وما بعدها.

(٢) هناك حديث عن عبادة بن الصامت رواه الشيخان والترمذي والنسائي جاء فيه : «كنّا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلس فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله». انظر التاج ج ٣ ص ٣٤. وعبادة بن الصامت من الذين بايعوا النبي قبيل هجرته إلى المدينة وعيّنه النبي نقيبا مع رفاق له على ما شرحناه في سياق [الآية : ٣٠] من سورة الأنفال. وهذا الحديث الصحيح قد يفيد أن هذه البيعة تمت بعد الهجرة النبوية. والله أعلم.

٢٩٠

البنات وتفاديا من غضب أزواجهن. ولقد ندد القرآن المكي بوأد البنات في الآية [٨] من سورة التكوير والآية [٥٩] من سورة النحل. ونهى عن قتل الأولاد من إملاق أو خشية إملاق في الآية [٣١] من سورة الإسراء والآية [١٥١] من سورة الأنعام ، فجاءت الآية هنا مطلقة لتؤيد الأمرين معا. فيتساوق في ذلك القرآن المدني مع القرآن المكي.

وفي فقرة (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) تلقين جليل بالنسبة لظروف نزول الآية وبالنسبة لواجب المسلمين نحو أولياء أمورهم وواجب هؤلاء نحو المسلمين. حيث قرن النهي عن عصيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعبير (فِي مَعْرُوفٍ) للإيذان بأنه ليس من حق ولي الأمر أن يأمر بمعصية ، وأن ينتظر من الناس طاعة مطلقة بدون قيد. وبأن الطاعة الواجبة عليهم هي فيما هو متعارف عليه أو معروف بأنه خير وصلاح ومفيد ولا إثم فيه ولا منكر ولا عدوان ـ ولو كان النبي ـ وهذا من باب التعليم والتوكيد على هذا المبدأ الدستوري القرآني لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم عن الأمر بمعصية أو بما ليس فيه صلاح وخير وفائدة.

وقد سبق قيد قريب من هذا في إحدى آيات سورة الأنفال [٢٤] التي تأمر المؤمنين بالاستجابة إلى الرسول إذا دعاهم لما فيه خيرهم وحياتهم. فهذا القيد وذاك ينطويان على مبدأ دستوري قرآني عام بسبيل تنظيم الحقوق بين المسلمين وأولياء أمورهم. وبسبيل تقرير كون الحكم في الإسلام ليس مطلقا وإنما هو مقيد بأحكام الكتاب والسنّة وبما فيه الخير والحقّ والصلاح. وقد انطوى في آية سورة النساء [٥٩] حلّ دستوري لذلك فيما إذا قام نزاع عليه بين المسلمين أو بين المسلمين وأولياء أمورهم وهو ردّ النزاع إلى الله ورسوله أي إلى كتاب الله وسنّة رسوله على ما شرحناه في سياقها. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (١). حيث ينطوي فيه تدعيم حاسم.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٤٠.

٢٩١

ولقد روى المفسرون أحاديث وروايات في صدد هذه الجملة يكاد ظاهرها يبعدها عن المعنى الرائع الدستوري الشامل الذي نوهنا به. ويجعلها في صدد أمور ثانوية أو محددة. فقد روى الخازن عن أسيد بن أسيد عن امرأة من المبايعات قالت : «كان فيما يأخذ رسول الله من المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننشر شعرا» وعن أنس : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن. فقلن يا رسول الله نساء أسعدننا في الجاهلية ـ أي نحن معنا على أمواتنا ـ فنسعدهن؟ فقال لا إسعاد في الإسلام» (١) وروى الطبري عن أبي الجعد أن جملة (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) هي النوح. وعن ابن عباس : «ولا يعصينك في معروف أي لا ينحن» وعن زيد بن أسلم : «ولا يعصينك في معروف أي لا يخدشن وجها ولا يشققن جيبا ولا يدعون ويلا ولا ينشرن شعرا». وعن قتادة : «أخذ عليهن لا ينحن ولا يخلون بحديث الرجال إلا مع محرم».

وهذه الروايات والأحاديث قد تكون صحيحة. غير أنها ليس فيها حديث نبوي يفسر الجملة بالمنهيات أو يحصرها فيها. وليس من شأنها بالتبعية أن تغطي على المعنى الدستوري العام المطلق الذي ينطوي في الجملة. وكل ما في الأمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينهى النساء حينما كان يأخذ البيعة منهن عن بعض عاداتهن المنكرة التي فيها معصية والتي هي من متناول النهي القرآني فالتبس الأمر على الرواة.

ونستطرد إلى القول بأن المفسرين أوردوا أحاديث نبوية عديدة في سياق تفسير هذه الجملة في النهي عن النياحة وردت في الكتب الخمسة أيضا. وقد رأينا أن نجاريهم في إيرادها لما فيها من تأديب نبوي رائع. من ذلك حديث عن عبد الله رواه الخمسة إلّا أبا داود جاء فيه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس منّا من ضرب الخدود وشقّ

__________________

(١) من العجيب أن الطبري روى حديثا مناقضا لهذا الحديث عن مصعب بن نوح الأنصاري أن عجوزا لما سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذ على النساء عهدا بعدم النوح قالت يا رسول الله إن أناسا كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني وقد أصابتهم مصيبة فأنا أريد أن أسعدهم فقال لها فانطلقي فكافئيهم فانطلقت ثم أتت فبايعته.

٢٩٢

الجيوب ودعا بدعوة الجاهلية» (١) وحديث عن أبي موسى رواه الخمسة إلّا الترمذي جاء فيه : «أنّ رسول الله بريء من الصالقة والحالقة والشاقة» (٢) وحديث عن أبي مالك الأشعري رواه مسلم والترمذي جاء فيه : «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» (٣). وحديث رواه الشيخان والترمذي عن المغيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ينح عليه يعذّب بما نيح عليه» (٤) وحديث عن أبي سعيد رواه أبو داود قال : «لعن رسول الله النائحة والمستمعة» (٥).

ولقد أورد المفسرون في سياق الجملة كذلك أحاديث نبوية أخرى فيها تلقينات جليلة منها حديث رواه الطبري عن أميمة التيمية قالت : «إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لنسوة جئن لمبايعته بعد أن أخذ عليهن البيعة بأن لا يعصينه في معروف : «فيما أطقتن واستطعتن» فقلن الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا». وهذا متسق مع المبادئ القرآنية المتكررة من كون الله تعالى لا يكلّف نفسا إلّا وسعها. ومنها حديث رواه الطبري كذلك عن قتادة : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نهى النساء أن لا ينحن ولا يخلون مع غير المحارم من الرجال أو لا يخلونّ بحديث الرجال إلّا مع ذي محرم قال

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٣٠٧.

(٢) المصدر نفسه. والصالقة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة ، والحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة ، والشاقة هي التي تمزق ثيابها عند المصيبة.

(٣) المصدر نفسه ص ٣٠٧.

(٤) المصدر نفسه ص ٣٠٨.

(٥) المصدر نفسه. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي موسى قال «لمّا أصيب عمر جعل صهيب يقول وا أخاه فقال عمر أما علمت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن الميت يعذّب ببكاء الحي وفي رواية أن الميت يعذّب ببكاء أهله. وذكر لعائشة قول عمر فقالت رحم الله عمر ، والله ما حدث رسول الله بذلك ، ولكن قال : إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه. وقالت حسبكم القرآن. ولا تزر وازرة وزر أخرى. وفي رواية سمعت عائشة بقول ابن عمر الميت يعذب ببكاء أهله فقالت يغفر الله لأبي عبد الرحمن إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ. إنما مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» والمتبادر أن في تصحيح عائشة رضي الله عنها تفريقا بين البكاء والنواح وجواز الأول دون الثاني. وحديث عائشة من مرويات الخمسة أيضا. انظر المصدر نفسه ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

٢٩٣

عبد الرحمن بن عوف إنا نغيب يا رسول الله عن نسائنا ويكون لنا أضياف فقال ليس أولئك عنيت» حيث ينطوي في هذا توضيح نبوي لكون النهي إنما هو عن المواقف والحالات المريبة أو الداعية للفتنة والتهمة مما فيه كل الحكمة والسداد.

ولقد روى الطبري أيضا حديثا عن أميمة : «أنّ النساء بعد أن بايعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلن يا رسول الله ألا تصافحنا؟ فقال إني لا أصافح النساء ما قولي لامرأة واحدة إلّا كقولي لمائة امرأة». ولقد روى البخاري والترمذي عن عائشة حديثا جاء فيه : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبايع النساء بالكلام دون أن تمسّ يده يد امرأة» (١).

ولعلّ هذه الأحاديث هي مستند الذين يحرمون أو يكرهون مصافحة الرجال للنساء. وقد يكون الاستناد في محلّه. غير أن من الحق أن نذكر أنها لا تنطوي على ما يمكن الجزم به بأن ذلك كان حراما أو مكروها. والله تعالى أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)) [١٣].

(١) قد يئسوا من الآخرة : من المفسرين من أوّل الجملة بمعنى قد يئسوا من رحمة الله ورضائه وثوابه في الآخرة. ومنهم من أوّلها بمعنى قد يئسوا من أي احتمال للبعث الأخروي. وكلا التأويلين وجيه تتحمّله العبارة.

(٢) كما يئس الكفار من أصحاب القبور : بعض المفسرين أوّل الجملة بمعنى أن الأحياء من الكفار قد يئسوا من أي احتمال لبعث الذين ماتوا وصاروا أصحاب القبور. وبعضهم أولها بمعنى أن الأموات من الكفار يئسوا من أي بعث أخروي أو من رحمة الله ورضائه في الآخرة. والتأويلات الثلاثة وجيهة ومحتملة.

وفي هذه الآية نهي للمؤمنين عن موالاة أناس غضب الله عليهم فغدوا يائسين من رضاء الله في الآخرة أو ليس عندهم أي احتمال لبعث أخروي. وكان مثلهم في

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ، ص ٢٣٣.

٢٩٤

ذلك كمثل يأس الكفار الأموات من رحمة الله ورضائه في الآخرة أو يأس الكفار الأحياء من أي احتمال لبعث الأموات.

ولم يرو المفسرون (١) رواية في نزول الآية. وإنما قالوا والله إن المقصود من (قوم) هم اليهود وإنه كان أناس من فقراء المسلمين يتصلون باليهود ويخبرونهم بأخبار المسلمين فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله.

ويلحظ أن السورة قد نزلت قبيل الفتح المكي على ما سبق ذكره. وقد كان يهود المدينة قد أجلوا قبل ذلك بنحو سنتين عنها. كما أن خيبر وغيرها من القرى كانت دخلت في حيازة النبي والمسلمين وحكمهم فلم يبق يهود يصحّ أن يتخذهم المسلمون أولياء. ولقد بدأت السورة بنهي المسلمين عن اتخاذ الكفار المشركين أولياء والمساررة إليهم بالمودة. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل شاءت أن تختم بالنهي نفسه حتى يجتمع طرفاها في أمر واحد. فإذا صح هذا يكون في الآية مشهد من مشاهد التأليف القرآني. ويكون القوم هم الكفار المشركون أنفسهم وهو ما نرجو أن يكون صحيحا. وليس من الضروري أن يكون وصف القوم بأنهم الذين (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) مصروفا إلى اليهود ولو أن القرآن كثيرا ما وصفهم به. وهذا الاعتبار هو على الأغلب الذي أوحى بذلك. فالوصف يصح على كلّ كافر بطبيعة الحال. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.

٢٩٥

سورة الحديد

في هذه السورة دعوة إلى الإخلاص في الإيمان. والبذل في سبيل الله. وتحذير للمسلمين من قسوة القلوب والاستغراق في الدنيا وأغراضها كما صار إليه أهل الكتاب. وحضّ على الخير والتسابق فيه مع الاعتماد على الله. وتنديد بالبخلاء المختالين. وتنويه بالمؤمنين المخلصين وتقريع وإنذار للمنافقين بمناسبة موقف ممضّ وقفه بعض مرضى القلوب المنافقين. وفيها تشبيهات واستطرادات إلى حكمة إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد العدل وما كان من أمر الأمم السابقة وانحراف أكثرهم مما فيه توطيد لفكرة السلطان وهدفه. وفيها إشارة تنويهية إلى أخلاق الذين اتبعوا عيسى عليه‌السلام مع الإشارة إلى فسق كثير منهم أيضا.

وفصول السورة غير منقطعة عن بعضها بحيث يسوغ القول بأنها نزلت متتابعة. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أنها نزلت بعد سورة الزلزلة التي يروى أن سورة النساء نزلت بعدها وقبل سورة محمد. ومعظم رواة ترتيب النزول يجعلون ترتيبها مثل ترتيبها في هذا المصحف (١) في حين أن فيها آية تفيد بصراحة أنها نزلت بعد الفتح الذي يتفق معظم المؤولين على أنه فتح مكة (٢).

وليس في السورة ما يمكن أن يساعد على القول بأن فصولا منها نزلت قبل هذا الفتح. وهذا ما جعلنا نؤخر ترتيبها عن الترتيب المروي للتوفيق بين ظروف

__________________

(١) انظر روايات ترتيب نزول السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩.

(٢) انظر الطبري والنيسابوري والبغوي والزمخشري والخازن وابن كثير والطبرسي.

٢٩٦

نزولها ونزول سورة الممتحنة التي نزلت بعد صلح الحديبية وقبيل الفتح المكي.

ولقد وردت كلمة الفتح في سورة النصر ، والجمهور على أنه فتح مكة أيضا غير أن الإشارة جاءت فيها بأسلوب التذكير والتنويه ، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن السورة هي آخر سور القرآن نزولا. وقد ذكر ذلك الزمخشري. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أنها نزلت في حجة الوداع التي لم يعش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها إلا نحو ثمانين يوما. وروى حديثا عن ابن عباس أن السورة لما نزلت دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة رضي الله عنها وقال إنه قد نعيت إليّ نفسي. وحديثا عن عبد الله بن عقبة «أنّ ابن عباس سأله أتعلم آخر سورة نزلت من القرآن؟ قال نعم إنها (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ). فقال صدقت. وحديثا عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نعيت إليّ نفسي بها وإني مقبوض هذه السنة». وقال النيسابوري : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعش بعد نزولها إلّا سبعين يوما. حيث تتضافر هذه الروايات على أنها نزلت قبل قليل من وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي كانت بعد فتح مكة بنحو سنتين. ولقد احتوت سورة التوبة آيات تفيد بصراحة أنها نزلت بعد فتح مكة منها هذه الآية : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ...) [٣] وهذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ...) [٢٨].

وبناء على ما تقدم وضعنا سورة الحديد بعد سورة الممتحنة لأن الفتح المكي وقع بعد نزول هذه السورة وفي ظروف نزول سورة الحديد. والله تعالى أعلم.

٢٩٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)) [١ ـ ٦].

عبارة الآيات واضحة. وباستثناء صفتي الظاهر والباطن فقد ورد مثلها في سور عديدة مكيّة ومدنيّة. وهي هنا مجموعة رائعة قوية بسبيل تعداد صفات الله تعالى وعظمته وما أودعه في كونه من نواميس وبيان شمول ملكه وعلمه وقدرته. وإحاطته بجميع ما في الكون من مخلوقات وما يقع من هذه المخلوقات من أعمال وحركات ظاهرة وخفية وباطنة. وتقرير كون مردّ كل شيء إليه أولا وآخرا.

وليس هناك روايات خاصة في مناسبتها. والمتبادر أن مما استهدفته لفت نظر الإنسان وإيقاظ ضميره وتوجيهه نحو الله. وأنها مقدمة تمهيدية لما احتوته الآيات التالية من دعوة وأمر وتقرير وحثّ وعتاب. وهذا من أساليب القرآن المألوفة المتكررة.

وصفتا (الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) تأتيان في الآيات لأول مرة. ولقد شرحهما الطبري فقال : إن الظاهر بمعنى الظاهر على كل شيء دونه ، أو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه. وإن الباطن بمعنى باطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه. وروى البغوي أن عمر رضي الله عنه سأل عنها كعبا فقال : معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن. وروى بطرقه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو بدعاء فيه تفسير للصفتين وهو : «اللهم ربّ السموات وربّ الأرض وربّ كل شيء فالق الحبّ والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شرّ كل ذي شرّ أنت آخذ بناصيته. أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر

٢٩٨

فليس بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء. اقض عني الدين واغنني من الفقر». وقد روى هذا الحديث مسلم والترمذي أيضا عن أبي هريرة الذي قال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر فاطمة بترديد الدعاء الذي تضمنه حينما جاءت تسأله خادما.

ولقد علقنا على موضوع خلق السموات والأرض في ستة أيام في مناسبات سابقة بما يغني عن التكرار. وإن كان من شيء يحسن قوله هنا هو أن الآية التي ذكر فيها ذلك مع الآيات الأخرى هي بسبيل التنبيه على عظمة الله وقدرته وإحاطته بكل شيء في كونه وتسبيح كل ما في السموات والأرض له. وكون ذلك يوجب على الإنسان الخضوع له وتقديسه وتسبيحه من باب الأولى لما اختصه الله به من خصائص وكرم من تكرمات.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)) [٧ ـ ١٠].

تعليق على الآية

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ...) إلخ

والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

عبارة الآيات واضحة. والمستلهم من روحها وفحواها أنها موجهة إلى المؤمنين في الدرجة الأولى ثم إلى السامعين عامة. وقد تضمنت :

(١) دعوة لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق من المال الذي جعلهم الله

٢٩٩

خلفاء ووكلاء عليه. فالذين يفعلون ذلك منهم لهم أجر من الله عظيم.

(٢) وسؤالا استنكاريّا على سبيل الحثّ والعتاب عمّا يمنعهم عن الإيمان بالله ، ورسوله يدعوهم إلى ذلك. وهو قد أخذ قبل ذلك ميثاقا به إن كانوا حينما أعطوا هذا الميثاق مؤمنين حقّا.

(٣) وتنبيها على أن الله تعالى إنما ينزل على عبده النبي آياته ليخرجهم بها من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم ، وأنه إنما يفعل ذلك لأنه بهم رؤوف رحيم.

(٤) وسؤالا استنكاريّا آخر على سبيل الحثّ والعتاب أيضا عما يمنعهم عن إنفاق أموالهم في سبيل الله في حين أن كل ما في السموات والأرض هو ملك لله تعالى.

(٥) وتقريرا على سبيل الحثّ والبيان بأن هناك فرقا عظيما بين الذين أنفقوا أموالهم وقاتلوا قبل الفتح وبين الذين فعلوا ذلك بعده. وبأن الأولين أعظم درجة وأجرا عند الله مع تقرير كون الآخرين أيضا موعودين من الله كالأولين بالأجر والحسنى على كل حال وهو الذي يعلم علم كل ما يفعله الناس ويقدمونه بين يديهم.

ويتبادر لنا أن جملة : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) هي في مقامها في معنى (وما لكم لا تثقون ولا تتيقنون بما يأمركم الله ، وتطيعونه فيه) وليست تنديدا بعدم إيمانكم مبدئيا بالله ولا دعوة لهم إلى ذلك. لأن الخطاب في الجملة والآيات عامة لأناس مؤمنين بالله ورسوله مبدئيا. فيكون العتاب الذي انطوى في الجملة هو بسبب عدم تحقق ما يوجبه الإيمان فيهم من ثقة ويقين وطاعة. وجملة : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تدعم ذلك. كما تدعمه جملة : (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) من حيث إنها تعني (أنكم بإيمانكم الأصلي بالله ورسوله قد أعطيتم ميثاقا بالتحقيق بما يوجبه هذا الإيمان). وبهذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا يزول ما قد يورد من إشكال على صيغة الكلام. والله تعالى أعلم.

٣٠٠