التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

فقد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سراياه ورسله في أنحاء المنطقة. فوافاه نتيجة لذلك إلى تبوك يوحنه بن رؤبة وأهل جربا وأذرح فصالحوه على الجزية وكتب لهم كتب أمان. وسعى إليه يهود مقنا بنو جبنة وبنو العريض وبنو عاديا فوجدوه قد رجع إلى المدينة فلحقوا به وصالحوه على الجزية وأخذوا منه كتاب أمان. وقد كان من السرايا التي سيرها سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل. وقد استطاع خالد أن ينتصر عليه ويأسره واضطره إلى الصلح على ٢٠٠٠ بعير و ٨٠٠ رأس رقيق و ٤٠٠ درع و ٤٠٠ رمح وحمله معه إلى المدينة حيث أسلم على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكتب له كتاب عهد ..

وعلى كل حال فقد كانت هذه الغزوة في الجملة موطدة لهيبة النبي والمسلمين في هذه الأنحاء وقرعة قوية للأسماع والأذهان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوته فيها وفيما وراءها وتدشينا للخطوات التاريخية الخالدة التي خطاها خلفاؤه الراشدون من بعده. ولقد كان من بين الوفود التي تدفقت على المدينة في السنتين التاسعة والعاشرة وفود عديدة من هذه الأنحاء فبايعت النبي على الإسلام.

والمستفاد من الروايات أن من المنافقين من اشترك في الحملة ومنهم من اعتذر وتخلف. وكان هذا شأن الأعراب أيضا. أما المخلصون فلم يتخلف منهم قادر بدون عذر إلّا ثلاثة. وهذا وذاك مستفاد من بعض آيات السورة أيضا على ما سوف يأتي بعد. وهذا يؤيد صحة ما روي من العدد العظيم الذي اشترك في الحملة. ولقد روى ابن هشام أن عبد الله بن أبي كبير المنافقين ضرب عسكره مع من ينضوي إليه منفردا وكان فيما يزعمون ـ والتعبير لابن إسحاق الذي يروي عنه ابن هشام ـ ليس أقل العسكرين. ثم اعتذر وتخلف مع قسم كبير من رفاقه. وقد روت بعض الروايات أن عدد المتخلفين من المنافقين وذوي القلوب المريضة بعد اعتذارهم بأعذار كاذبة وإذن النبي لهم كان نحو ثمانين (١). والرواية السابقة التي

__________________

(١) ذكر هذا في حديث طويل رواه الشيخان والترمذي عن كعب بن مالك سنورده في سياق تفسير الآية [١١٨] من هذه السورة.

٤٤١

شكّ فيها ابن إسحاق بحقّ لا يمكن أن تصح لأن آيات عديدة في هذه السورة وقبلها مما نزل بعد التنكيل الحاسم باليهود ذكرت ما كان يعتري المنافقين من خوف وما كان من أيمانهم المغلظة على إخلاصهم مما لا يعقل أن يكون ذلك منهم لو كانت لهم مثل هذه القوة. وكانوا قبل ذلك معتدّين بأنفسهم حتى بلغ من أمرهم أن قالوا (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) على ما شرحناه في سياق سورة المنافقون.

ورواية كون عدد المتخلفين من المنافقين نحو ثمانين مما يؤيد ما نقول. وكانوا أكثرية المنافقين على ما يستفاد من آيات السورة. والرواية معقولة لأن المستفاد من الآيات أن المستأذنين المتخلفين هم ذوو الطول أي الأغنياء. وهؤلاء محدود والعدد دائما.

ونكتفي بهذه الخلاصة على أن نشرح الصور والمواقف الأخرى في مناسبات الآيات التي أشير إليها فيها.

ولقد روى الطبرسي عن السدي أن الآية الأخيرة قد نسخت بآية التوبة هذه (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) [٩١] لما علم الله من أن أصحاب هذه الأعذار عاجزون عن النفرة. وروى ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة أنها نسخت بآية التوبة هذه (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [١٢٢]. ومع أن الآية في مقامها هي في معرض التثريب على المتثاقلين والتحريض على النفرة فإن في الآيتين المذكورتين تعديلا أو استدراكا لحكم الآية من الناحية الموضوعية كما هو المتبادر.

هذا ، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [٤٠] حديثا عزاه إلى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله. فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» حيث يحتوي الحديث تنبيها على وجوب إخلاص القتال في سبيل الله.

٤٤٢

تعليق خاص على الآية

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ ...) إلخ.

في هذه الآية إشارة خاطفة إلى حادث خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا من مكة إلى المدينة. وقد جاءت كما شرحناه قبل على سبيل التنديد بالمتثاقلين عن النفرة إلى الجهاد وتنبههم إلى أن الله كفيل بنصر رسوله إن لم ينصروه. وقد نصره من قبل حين أخرجه الكفار من مكة.

وهي الإشارة الوحيدة في القرآن الصريحة إلى هذا الحادث العظيم الذي كان له أعظم الأثر في الرسالة الإسلامية وأدى إلى اندحار الشرك وغدو كلمة الله هي العليا كما جاء في الآية.

ولقد أوردنا خلاصة ما روي في صدد هذا الحادث في سياق الآية [٣٠] من سورة الأنفال وأوردنا ما روي من أحاديث نبوية أيضا وعلقنا على كل ذلك بما يغني عن التكرار.

والآية لا تذكر اسم صاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغار. ولكن التواتر الذي بلغ مبلغ اليقين أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى إن بعضهم قال بكفر من أنكر ذلك (١). ولقد روى الترمذي حديثا عن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأبي بكر أنت صاحبي على الحوض ، وصاحبي في الغار (٢). وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن أنس جاء فيه : «إن أبا بكر حدّثه. قال قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن في الغار لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» (٣). حيث ينطوي في الحديثين الصحيحين أدلة نقلية على كون أبي بكر هو صاحب رسول الله في الغار.

وفي الآية صورة رائعة لعمق إيمان النبي واعتماده على الله تعالى وما انبثّ في نفسه نتيجة لذلك من رباطة جأش. وصورة رائعة لشدة إخلاص أبي بكر رضي

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير البغوي.

(٢) التاج ج ٣ ص ٢٧٦.

(٣) التاج ج ٤ ص ١١٧.

٤٤٣

الله عنه. والحديث الذي يرويه البخاري والترمذي لا يذكر قول الرسول له «لا تحزن إنّ الله معنا». وإن كان يذكر معنى ذلك. ويجب الإيمان بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له هذه الجملة لأنها نصّ قرآني قاطع.

والتذكير في الآية قوي محكم. وبخاصة الإثارة إلى ما كان من نتائج نصر الله الباهر لنبيّه حيث خرج شريدا خائفا ثاني اثنين. فلم يزل الله تعالى يؤيده وينصره إلى أن أرغم جميع أعداء الإسلام وجعل كلمة الكفر والكفار السفلى وكلمة الله هي العليا في أنحاء جزيرة العرب ، وامتد ذلك إلى أطراف الجزيرة من خارجها ثم من خارجها إلى أبعاد شاسعة في مشارق الأرض ومغاربها. ولعلّ في هذه الإشارة صورة خاطفة ولكنها قوية رائعة وتامة لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيرها ونتائجها.

ومن المؤسف المثير أن الشيعة الذين يظهر أنهم لم يستطيعوا نفي صحبة أبي بكر لرسول الله زعموا زورا وكفرا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أخذه معه مخافة أن يشي به للمشركين والعياذ بالله من ذلك. وحاولوا تهوين شأنه في هجرته لله مع رسول الله بفسطات أشبه ما تكون بالهذيان منها بأي شيء آخر (١) متجاهلين أحاديث كثيرة صحيحة في التنويه بفضل أبي بكر وعظم قدره عند الله ورسوله. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال : «خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس وقال إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه. فكان رسول الله هو المخيّر. وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول الله إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربّي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوّة الإسلام ومودّته. وفي رواية ولكنه أخي وصاحبي» (٢). وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر فإنّ له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة. وما نفعني مال أحد قطّ ما نفعني مال أبي بكر» (٣). وحديثان آخران رواهما الترمذي عن عائشة جاء في أحدهما «دخل أبو

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير المنار لرشيد رضا.

(٢) التاج ج ٣ ص ٢٧٥.

(٣) المصدر السابق نفسه.

٤٤٤

بكر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أنت عتيق الله من النار قالت فمن يومئذ سمّي عتيقا». وجاء في ثانيهما «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمّهم غيره» (١).

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)) [٤٢ ـ ٤٨].

(١) عرضا قريبا : بمعنى الهدف القريب والغنيمة السهلة المنال.

(٢) سفرا قاصدا : رحلة قصيرة قليلة العناء.

(٣) بعدت عليهم الشقة : رأوا الرحلة بعيدة شاقة.

(٤) انبعاثهم : خروجهم.

(٥) خبالا : اضطرابا وفسادا.

(٦) ولأوضعوا خلالكم : لسعوا بينكم بالنميمة والفساد. وأصل الإيضاع الإسراع في السعي والسير.

(٧) قلبوا لك الأمور : بذلوا جهدهم في الكيد لك.

في هذه الآيات : تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النفرة في

__________________

(١) المصدر السابق نفسه. وهناك أحاديث صحيحة أخرى في فضائل أبي بكر فاكتفينا بما أوردناه. انظر المصدر نفسه.

٤٤٥

سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة وتطمين وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية :

١ ـ لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية. ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.

٢ ـ ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلّا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.

٣ ـ وأذن النبي لهم بالتخلّف حينما استأذنوه بذلك كان خطأ عفا الله عنه. وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.

٤ ـ ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكانوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السنّ والمرضى والزمنى والعميان ...

٥ ـ ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم ، يسمع كلامهم ويتأثر به (١) ولذلك لم يشأ الله تعالى

__________________

(١) بعض المفسرين ومنهم الطبري من أوّل جملة (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) بتأويل ثان مع التأويل الذي أولناه بها وهو أن بينكم أناس غير منافقين عيون لهم ينقلون إليهم أخباركم. والتأويل

٤٤٦

أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.

٦ ـ ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلّف وحسن القصد كذبا.

تعليق على الآية

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ ..)

والآيات الست التي بعدها

وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات

ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.

وفي صيغة (وَسَيَحْلِفُونَ) وفي جملة (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وجملة (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ) قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة. والآيات تلهم أن تخلّف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.

والوصف الذي وصف به المتخلفون يدلّ على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.

__________________

الذي اخترناه هو الأوجه لأن غير المنافق أجلّ من أن يكون عينا. والله أعلم.

٤٤٧

ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوي أمره وتمّ ما تمّ من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعل ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.

ومع أن الآية الثالثة أي الآية [٤٤] قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.

ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية [٤٣] نزلت في جماعة قالوا استأذنوا النبي فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)). هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوّه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون

٤٤٨

الآية تنطوي على عتاب رباني «وقيل إن الله عزوجل وقّر النبي ورفع محلّه بافتتاح الكلام بالدعاء له كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني» ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.

ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك «لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به حيث يقال إنما أمر به على وجه الذبّ عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم. والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلّف فيه.

ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي وهي الآية [١٠١] فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات [٤٥ ـ ٤٧] قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية [٤٣] دليلا على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني. وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها. حيث كان الوحي إما يقر النبي في اجتهاده أو

٤٤٩

يسكت سكوت إقرار أو ينبّه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات.

هذا ، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)) [٤٩].

في هذه الآية :

١ ـ صورة خاصة لموقف بعض المنافقين من الدعوة إلى حملة تبوك حيث جاء بعضهم يستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتخلف ويرجو عدم تعريضه للفتنة والإثم.

٢ ـ وردّ عليه بأنه هو وأمثاله قد تورطوا بمواقفهم التي يقفونها في الإثم والفتنة فعلا كأنما تريد أن تقول لهم إن خوفهم من الفتنة عجيب منهم لأنهم تورطوا فيها بتلك المواقف.

٣ ـ وإنذار لهم بأن جهنّم محيطة بالكافرين في كل حال ومآل.

ولقد روى الطبري روايات عديدة في صدد هذه الآية منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في استنفاره الناس يقول انفروا تغنموا بنات بني الأصفر أو بنات الروم. ومنها أن هذا كان لمنافق اسمه الجد كان مغرما بالنساء حيث قال له النبي ذلك أو قال له هل لك بجلاد بني الأصفر فتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال له ائذن لي بالقعود ولا تعرضني للفتنة وأنا أعينك بمالي دون نفسي.

وقد تكون الروايات أو رواية الجد صحيحة في الإجمال. فإنه لا يستبعد أن

٤٥٠

يكلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل إنسان بما يعرفه فيه من ميول. ومع ذلك فإنه يتبادر لنا سبب آخر للاعتذار وهو أن يكون المعتذر قد اعتذر بشدة رغبته الجنسية وعدم إطاقته الصبر عنها طويلا. فالاستمتاع بالسبي ليس في حدّ ذاته فتنة وإثما حتى يخشى المنافق على نفسه منه.

ومهما يكن من أمر فالآية لم تنزل لحدتها كما هو المتبادر من عطفها على ما قبلها وصلتها بالسياق السابق واللاحق. وإنما هي جزء من السلسلة تضمنت صورة من صور اعتذارات المنافقين على سبيل التنديد بهم.

وفي الآية دلالة مؤيدة لما قلناه قبل من أن المنافقين كانوا أو كان كثير منهم معروفين بأسمائهم كما هو المتبادر.

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)) [٥٠ ـ ٥٢].

(١) حسنة ومصيبة : الكلمة الأولى في مقامها كناية عن النصر والثانية كناية عن الانكسار والهزيمة.

(٢) قد أخذنا أمرنا من قبل : قد احتطنا لأنفسنا حتى لا نقع فيما وقعوا فيه.

(٣) تربصون : تتربصون أي تنتظرون وتتوقعون.

في الآيات :

١ ـ بيان لما في نفوس المنافقين نحو النبي والمؤمنين المخلصين من نيات وعواطف أو لما هو مفروض أن يكون فيهم إزاء هذه الغزوة بحيث لو أصابهم خير

٤٥١

ونصر استاءوا واغتاظوا ولو أصابتهم مصيبة وهزيمة حمدوا ما كان منهم من الحذر والاحتياط والتخلف وفرحوا.

٢ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يهتف قائلا لهم بلسان الحال إنه لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا وإنه هو مولانا وإن على المتوكلين أن يتوكلوا عليه وحده. وإنكم مهما تربصتم بنا وانتظرتم نتائج رحلتنا فلن يصيبنا منها إلّا إحدى الحسنيين. حسنى الشهادة والثواب في حالة الموت. وحسنى الفوز والغنيمة في حالة النصر. في حين أن أمركم إلى عذاب لا معدى لكم عنه في حال. فإمّا أن يكون عقوبة مباشرة من الله تعالى وإما أن يكون على أيد منّا فلننتظر معا والأيام بيننا.

وما حكي عن المنافقين من نيات هو لسان حالهم. ولهذا قلنا إن النبي أمر بأن يهتف بهم بلسان الحال بالمقابلة. ونرجو إن شاء الله أن يكون فيه الصواب.

تعليق على الآية

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ...)

والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين

وصور ولم يرو المفسرون شيئا خاصا في صدد الآيات.

والمتبادر أنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة

ومع خصوصيتها الزمنية والموضوعية فإن الصورة التي ترسمها الآية الأولى من الصور التي تقع من بعض الناس دائما إزاء الآخرين. وفيها تلقين بوجوب الحذر من أصحابها. والآيتان الثانية والثالثة مستمد إلهام قوي للمؤمنين المخلصين يمدهم دائما بالطمأنينة والسكينة. ويبث فيهم الاعتماد على الله وحده. ويحفزهم على الإقدام على عظائم الأمور والتضحيات في سبيل الله ومصلحة المسلمين العامة بنوع خاص برباطة جأش وسكون نفس وقوة قلب وجميل صبر وشدة تحمل. ويجعلهم على يقين بأنهم فائزون غانمون على كل حال إن لم يكن بنصر دنيوي فبثواب الله ورحمته ورضوانه.

٤٥٢

ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم روى صيغة له البخاري ومسلم مع زيادة مهمة فرأينا أن نوردها بدلا من صيغة البغوي وهي «تضمّن الله لمن يخرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا وتصديقا برسلي. فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل» (١) وينطوي في الحديث تساوق مع ما في الآيات من تلقين جليل مستمر المدى مع التنويه بفضل الجهاد والمجاهدين والحثّ عليه على أن يكون خالصا لوجه الله تعالى.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)) [٥٣ ـ ٥٥].

الخطاب في الآيات موجّه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيها :

١ ـ أمر بأن يعلن للمنافقين بأن الله لن يتقبل منهم ما يريدون أن ينفقوه طوعا من تلقاء أنفسهم أو رغما عنهم وكرها بضغط الظروف والموقف لأنهم قوم فاسقون. كفروا بالله ورسوله. ولا يقومون إلى الصلاة إلّا مع الكسل وعدم الرغبة الصادقة ولا ينفقون ما يريدون إنفاقه إلّا مع الكراهية والاستثقال.

٢ ـ وتسلية وتطمين له : فلا ينبغي أن يأخذه العجب من كثرة أموالهم وأولادهم. فإنما هي وسائل عذاب لهم في الدنيا حتى تزهق أنفسهم وهم كافرون جاهدون.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٩١ و ٢٩٢.

٤٥٣

تعليق على الآية

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ...)

والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين

وقد روى الطبري وغيره (١) أن الآية الأولى نزلت بمناسبة ما وعد به المنافق الجدّ من مساعدة مالية حينما استأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقعود والتخلف عن الحملة.

ويلحظ أن الأمر في الآية بسبيل إعلان لأكثر من شخص من المنافقين ، حيث يفيد هذا أن أكثر من واحد من المنافقين المستأذنين بالتخلف أرادوا أن يجاملوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاشتراك في نفقات الحملة. ومهما يكن من أمر فالذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها وأنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة.

ومع أن صيغة الآيات تفيد في ظاهرها أنها أمر بتوجيه الخطاب إلى المنافقين السامعين له فالذي يتبادر لنا استلهاما من روح الآيات وفحواها وبخاصة الآية الثانية والثالثة منها ثم من نزول السلسلة في أثناء السفر على ما تلهمه بعض آياتها أن هذه الصيغة أسلوبية. وأن الآيات بسبيل التنديد والتقريع وإعلان حالة المنافقين على حقيقتها من كفر وكسل واستثقال وكره أولا ثم بسبيل التهوين مما عندهم من كثرة مال وأولاد.

وفي الآيات ما يدل على أن طبقة المنافقين كانت أو كان أكثرها من ذوي اليسار والجاه. ولعل هذا من أسباب ما كان منها من مخامرة ونفاق. وكان هذا من أسباب ما لقيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة من مناوأة على ما شرحناه في مناسبات عديدة في السور المكيّة.

والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه موجه إلى المسلمين من جهة وإلى المنافقين من جهة أخرى أيضا على ما يلهمه روحها وهدفها. للأولين على

__________________

(١) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

٤٥٤

سبيل التعليم والتعليل والتلقين والتهوين والتسلية. وللآخرين على سبيل التنديد والإنذار والزراية.

ولقد تعددت تخريجات المؤولين على ما يرويه المفسرون لما ظنوه إشكالا في جملة (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) من حيث إن الأموال والأولاد في الدنيا يسببون السرور لا العذاب .. من ذلك أن في الجملة تقديما وتأخيرا وأن تقديرها (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) فيصبح معناها إن الله سوف يعذبهم بها في الآخرة بسبب حبسهم أموالهم عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم وفسادهم في الأرض. ومنها أن عذابهم بها في الدنيا هو وعيد رباني بأنه سوف يسلط عليهم بسبب مواقفهم الصادة عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم المصائب والضرائب والحسرات. ومنها أن الجملة تنطوي على معنى كون أموالهم وأولادهم هي من قبيل الاستدراج والابتلاء وليست من قبيل الحظوة من الله على ما جاء في آيات عديدة في سور سبق تفسيرها مثل باب سورة القلم [٤٤ و ٤٥] وطه [١٣١] والمؤمنون [٥٤ ـ ٥٦] وآل عمران [١١٨] فلا ينبغي أن يثير ذلك عجب النبي والمؤمنين.

والتأويلان الثاني والثالث هما أوجه من التأويل الأول فيما نرى مع القول إنه يصح مزج التأويلين معا. وقد يصح أن يقال أيضا إن حكمة التنزيل هدفت إلى تهوين شأن أموال المنافقين وأولادهم وبث روح القوة والتعالي في نفوس المؤمنين المخلصين. وهو ما انطوى أيضا في الآيات المشار إلى سورها وأرقامها آنفا.

وعلى كل حال إن الآيات موضوعيا هي في صدد منافقين مخامرين في إيمانهم وصلواتهم وصدقاتهم. وقد احتوت الآية [٥٤] تعليلا قويا للوعيد الرباني الذي تضمنته الآية [٥٥] ويجب أن يبقى ويؤخذ مدى الآيتين في هذا النطاق.

وفي الآيات كما في سابقاتها تلقين مستمر المدى والأثر. فلا ينبغي أن يكون لأموال ذوي القلوب المريضة ومظاهر قوتهم تأثير في الموقف الذي يجب أن يوقف منهم إزاء ما يبدو منهم من تثاقل في أداء الواجبات ورغبة في التفلت منها.

٤٥٥

ولا ينبغي أن يكون ما يقدمونه أحيانا مساعدات بضغط ظروف المجتمع وسيلة إلى الإغضاء عن المواقف التخريبية والمخامرات الضارة التي تبدر منهم.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)) [٥٦ ـ ٥٧].

(١) يفرقون : يخافون.

(٢) مدخلا : مكانا يدخلون إليه ليستخفوا فيه.

(٣) يجمحون : يسرعون.

الخطاب في الآيتين موجّه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين يقرر به :

١ ـ أن المنافقين يحلفون لهم بالله إنهم منهم وعلى ملتهم وهم في الحقيقة ليسوا كذلك.

٢ ـ وإنما يحملهم على ذلك فزعهم وخوفهم. وأنهم لو وجدوا ملجأ يعتصمون به أو مغارات يختفون فيها أو مدخلا ما يجعلهم في أمان لسارعوا إلى ذلك تخلّصا من الموقف الثقيل عليهم. والخطر الذي يهددهم ويحملهم على النفاق والمراءاة.

تعليق على الآية

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)

والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين

ولا يروي المفسرون رواية خاصة في صدد الآيتين. والمتبادر أنهما استمرار في السياق والموضوع وجزء من السلسلة. وفيهما توكيد آخر وأقوى لما قلناه قبل من تطور موقف المنافقين وخضد شوكتهم وتناقص عددهم واضطرارهم إلى

٤٥٦

المجاملة والتوكيد بإخلاصهم أكثر من ذي قبل. كما أن فيهما تقريرا لحقيقة حالهم وعدم تبدلها برغم ما يظهرونه من مجاملة وتوكيد بسبيل فضيحتهم وتقريعهم والتحذير منهم.

والصورة التي ترسمها الآيتان قوية رائعة حقّا. وهي من الصور التي تشاهد خاصة حينما يستعلي المخلصون في ظروف النضال. وفيهما تلقين مستمر المدى والأثر بوجوب الانتباه لهذه الفئة وعدم الانخداع بما تظهره من ضروب الرياء والمداهنة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)) [٥٨ ـ ٦٠].

(١) يلمزك : يطعن فيك أو يعيب عليك. ومعنى الكلمة هنا : ينسب إليك المحاباة.

(٢) الصدقات : هنا كناية عن الزكاة.

(٣) العاملين عليها : الموظفين لجبايتها.

(٤) المؤلّفة قلوبهم : الطبقة التي يراد تأليف قلوبهم وتقوية ارتباطهم بالإسلام ومصلحته.

(٥) وفي الرقاب : وفي عتق العبيد والمماليك وفكّ رقباتهم من العبودية.

(٦) الغارمين : المدينين المعسرين أو الذين يتحملون المغارم.

في الآيات :

١ ـ إشارة إلى صورة أخرى من صور المنافقين ومواقفهم : فإن منهم من كان

٤٥٧

ينسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحاباة في توزيع الصدقات ويعيب عليه ذلك. وكان هذا منهم لمنافعهم الخاصة ومآربهم الشخصية حيث كانوا يسخطون إذا لم يعطهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها ويرضون إذا أعطاهم.

٢ ـ وتنديد بهم : فقد كان الأولى بهم أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله وأن يعلنوا ثقتهم واكتفاءهم بفضل الله ورسوله ورغبتهم بما عند الله.

٣ ـ وتقرير لأصناف المصارف التي لا يجوز أن تصرف الصدقات إلى غيرها لتعطى لمن لا يستحقها وهي الفقراء والمساكين والموظفون القائمون بأمرها والمؤلفة قلوبهم وعتق العبيد والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل حيث كان هذا فرض الله الواجب الوقوف عنده وهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي لا يأمر إلّا بما فيه الحكمة.

تعليق على الآية

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ...)

والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين.

وما روي في صددها من روايات وما روي من أحاديث

وأقوال ومذاهب متنوعة في مصارف الزكاة وتوزيعها

ونصاب الزكاة في مختلف الأنواع وجبايتها

ولقد روى البخاري حديثا عن أبي سعيد في سياق هذه الآية قال : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إليه بشيء فقسمه بين أربعة وقال أتألّفهم فقال رجل : ما عدلت فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين» (١). وروى الطبري هذا الحديث بزيادة كبيرة عن أبي سعيد قال : «إن رسول الله كان يقسم إذ جاءه ذو

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١١٨. وروى شارح الحديث أن هذا هو ذو الخويصرة حرقوص بن زهير التميمي. وأن الأربعة الذين تألفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر وزيد الطائي وعلقمة العامري الكلابي. وهم من مشاهير زعماء قبائل العرب.

٤٥٨

الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله. فقال : ويلك ومن يعدل إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب ائذن لي فأضرب عنقه ، فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فينظر في قدحه فلا ينظر شيئا ثم ينظر في نصله فلا يجد شيئا ثم ينظر في رصافه فلا يجد شيئا قد سبق الفرث الدم آيتهم رجل أسود إحدى يديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة. يخرجون على حين فترة من الناس. قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا من رسول الله وأشهد أن عليا حين قتلهم ـ يعني الخوارج ـ جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١). وروى الطبري أيضا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت. فقال له ويلك فمن ذا يعدل؟ ثم قال احذروا هذا وأشباهه. فإن في أمتي أشباه هذا. يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن. وروي أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ورآه رجل من الأنصار فقال ما هذا بالعدل فنزلت الآية. وننبه على أن الطبري لم يذكر أن الآية نزلت إلا في مناسبة الرواية الأخيرة دون الروايتين السابقتين وكذلك البخاري فإنه لم يذكر في حديثه أن الرواية التي تضمنها الحديث كانت سبب نزول الآية (٢).

وذو الخويصرة هو حرقوص بن زهير الذي يذكر شراح الأحاديث أنه المعني في الحديث الأول كان على رأس الجماعات التي خرجت من البصرة إلى المدينة واشتركت في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه. وبايع عليا رضي الله

__________________

(١) روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا. انظر التاج ج ٥ ص ٢٨٤ و ٢٨٥.

(٢) هناك حديثان آخران من باب هذه الأحاديث يرويهما الشيخان والترمذي عن أبي سعيد وفيهما بعض الزيادات (انظر التاج ج ٥ ص ٢٨٣ و ٢٨٤). ولم يذكر في سياقهما أيضا أنهما في صدد نزول الآية. فلم نر إيرادهما ضرورة اكتفاء بما أوردناه.

٤٥٩

عنه وكان في جيشه مع قومه وحارب معه في وقعة الجمل التي كانت بينه وبين الجموع التي تجمعت حول عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم للمطالبة بدم عثمان والثأر من قاتليه ثم في وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. ثم كان من الذين خرجوا على عليّ لقبوله التحكيم وقتل في من قتل في وقعة النهروان التي كانت بين علي وأتباعه وبين الخوارج (١). ولقد روى الطبري أن عليّ بن أبي طالب قال لأتباعه حين انتهت وقعة النهروان إنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن قوما يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد ، وأمر أتباعه أن يلتمسوه بين القتلى وأن يقطعوا يده ويأتوه بها إذا وجدوه. وقد وجدوا فعلا رجلا مخدج اليد بين القتلى فقطعوا يده وأتوه بها فلما رآها قال ما كذبت ولا كذبت (٢).

والمشهور أن الخوارج كانوا من أشد المسلمين تعبدا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن وتقشفا في الحياة حيث ينطبق كل ذلك على الوصف الذي احتوته الأحاديث. وإذا صح حديث عليّ الذي يرويه الطبري فيكون فيه ، وعلى ضوء الأحاديث الأخرى فيكون فيها معجزة نبوية بإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغيب وقع بعد موته.

هذا مع التنبيه إلى أن قولنا يصح إذا كانت الوقائع المماثلة أكثر من واحدة. لأن الأشخاص المحكية عنهم متنوعون كما هو واضح من الأحاديث ومع التنبيه كذلك إلى أن روح الآية الثانية قد تلهم أن الذي صدر منه القول أو أحد من صدر منهم القول ـ إذا كانت الوقائع متعددة ـ من منافقي المدينة. وهذا ما ينطبق على الرواية الأخيرة. والله أعلم.

ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا من عطف الآيات على سابقتها. ومن ضمير الجمع الغائب الذي يعبر عن فريق كان موضوع الحديث في الآيات السابقة أن الآيات لم تنزل لمناسبة من المناسبات المروية لحدتها وأنها ليست منفصلة عن

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣٧٦ وما بعدها وج ٤ ص ٥٢ ـ ٦٥ وننبه على أن الطبري يسميه حرقوص بن زهير السعدي ولا ندري هل هو التميمي أم غيره.

(٢) المصدر نفسه ج ٤ ص ٦٨ ، ٦٩.

٤٦٠