التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث جاء فيه نعم المال الصالح للعبد الصالح. وحديث آخر أنه لما نزلت الآية كبر ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا فذكر عمر ذلك لرسول الله وقال له إن هذه الآية قد كبرت على أصحابك يا رسول الله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم. فكبّر عمر. فقال له رسول الله ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرّته. وإذا أمرها أطاعته. وإذا غاب عنها حفظته».

فهذه الأحاديث تفيد كما هو واضح أنه لا حرج من حيازة المال ولو كثر إذا أديت زكاته وأن الإنذار هو للذين لا يؤدون زكاة أموالهم. وأن معنى (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) لا يؤدون الزكاة عنها التي جعلت للإنفاق على سبيل الله. ولقد روى المفسرون (١) في سياق تفسير الآية أحاديث نبوية رهيبة الإنذار للذين لا يؤدون زكاة أموالهم منها حديث رواه أبو هريرة جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزميه ـ أي شدقيه ـ ثم يقول أنا مالك. أنا كنزك» (٢). ومنها حديث آخر عن أبي هريرة أيضا جاء فيه : «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره. كلّ ما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار. قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال ولا صاحب إبل لا يؤدّي منها حقّها ، ومن حقّها حلبها يوم وردها إلّا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والقاسمي. ومعظم ما نورده من نصوص وارد في تفسير الطبري.

(٢) روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. انظر التاج ج ٢ ص ٧.

٤٢١

إلى الجنة وإمّا إلى النار. قيل : يا رسول الله فالبقر والغنم. قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلّ ما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار» (١). حيث يبدو من هذه الأحاديث الاهتمام العظيم الذي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوليه لإيتاء الزكاة اتساقا مع القرآن الذي يوليها مثل ذلك بكثرة ترديدها والتوكيد على إيتائها والتنويه بفاعليها واعتبارها دليلا لا بدّ منه على صدق إيمان المسلم. ولا غرو فهي دعامة التضامن الاجتماعي والسلطان الإسلامي في آن واحد على ما شرحناه في المناسبات العديدة السابقة.

وإلى جانب الأحاديث الواردة في معنى الكنز وإباحة الاكتناز إذا أديت زكاته روى المفسرون أحاديث فيها تحديد للحدّ الأعلى الذي يكون ما فوقه كنز يحق على صاحبه الإنذار وفيها ذم لاكتناز المال والذهب والفضة إطلاقا. فقد روي عن علي بن أبي طالب قوله إن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم سواء أديت زكاته أم لم تؤد وما دون ذلك نفقة لا حرج في حيازته. وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن علي بن أبي طالب جاء فيه : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تبّا للذهب ، تبّا للفضة ثلاث مرات. فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله فقالوا فأي مال نتخذ فقال عمر أنا أعلم لكم ذلك ثم أتى رسول الله فقال يا رسول الله إن أصحابك قد شقّ عليهم. قالوا أي المال نتخذ فقال رسول الله : لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعين أحدكم على دينه» (٢).

والحديث قد يفيد أن أصحاب رسول الله فهموا أن المذموم هو نوع المال أي

__________________

(١) روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. انظر التاج ج ٢ ص ٦ ـ ٧.

(٢) روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة «لما نزلت الآية قال بعض أصحاب رسول الله يا رسول الله أنزل في الذهب والفضة ما أنزل لو علمنا أي المال خير فنتخذه فقال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه» انظر التاج ج ٤ ص ١١٦.

٤٢٢

عين الذهب والفضة لا جنس المال فكان جواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منبها إلى أن المذموم هو الجنس على ما هو المتبادر. وفي الحديث الطويل الذي أوردناه آنفا صراحة أكثر لأنه شمل الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم. وقد روى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة. وروى معه عن ثوبان حديثا جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ترك بعده كنزا مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول ويلك ما أنت؟ فيقول أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده» (١). وروي عن أبي سعيد حديث جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الق الله فقيرا ولا تلقه غنيّا. قال يا رسول الله كيف لي بذلك قال ما سئلت لا تمنع ما رزقت لا تخبأ. قال يا رسول الله كيف لي بذلك قال هو ذاك وإلّا فالنار». وروي عن قتادة «أنّ رجلا من أهل الصفّة مات فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله «كيّة» ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال كيّتان». وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في ذمّ المال والاكتناز والتحذير من فتنتهما. منها حديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ لكلّ أمة فتنة وفتنة أمتي المال» (٢) وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبيّ قال : «لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا» (٣). وحديث رواه البخاري عن أبي ذرّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة إلّا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» (٤). وحديث رواه مسلم والترمذي عن مطرّف عن أبيه قال : «انتهى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول ألهاكم التكاثر. قال يقول ابن آدم مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت ، أو أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت» (٥). وحديث رواه أبو داود عن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أوردنا قبل حديثا رواه الشيخان عن أبي هريرة صيغته مقاربة لهذه الصيغة مع فارق مهم هو أن الوعيد لمن لا يؤدي زكاة كنزه.

(٢) التاج ج ٥ ص ١٤٧ ـ ١٥٩.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٤٢٣

قال : «أما إن كلّ بناء وبال على صاحبه إلّا ما لا ، إلّا ما لا ، يعني ما لا بدّ منه» (١). وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تعس عبد الدينار والدّرهم والقطيفة والخميصة. إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» (٢).

وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا وقنّعه الله» (٣). وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهمّ أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. فقالت عائشة لم يا رسول الله؟ قال إنّهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا» (٤). وحديث رواه الترمذي عن عائشة عن رسول الله قال : «يا عائشة إن أردت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب. وإيّاك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه» (٥). وحديث رواه الترمذي عن عثمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال بيت يسكنه ، وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء» (٦). وحديث رواه الترمذي عن عبيد الله بن محصن عن أبيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا» (٧). وحديث رواه الترمذي عن أبي أمامه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ. ذو حظ من الصلاة ، أحسن عبادة ربّه ، وأطاعه في السرّ ، وكان غامضا في الناس ، لا يشار إليه بالأصابع ، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك ، ثم نفض يده فقال عجّلت منيّته. قلّت بواكيه قلّ تراثه» (٨). وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ هذا المال

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٤٧ ـ ١٥٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) المصدر نفسه.

(٧) المصدر نفسه.

(٨) المصدر نفسه.

٤٢٤

حلو من أخذه بحقّه ووضعه في حقّه فنعم المعونة هو. ومن أخذه بغير حقّه كان كالذي يأكل ولا يشبع» (١). وحديث رواه البغوي عن أبي ذرّ قال : «انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في ظلّ الكعبة فلما رآني قال : هم الأخسرون وربّ الكعبة. فجئت حتى جلست فلم أتقارّ أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم فقال الأكثرون أموالا إلّا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم». وروي عن أبي ذرّ أنه كان يقول من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة. ولقد روي عن زيد بن وهب قال : «مررت على أبي ذرّ بالربذة ـ وهي قرية من قرى المدينة ـ فقلت ما أنزلك بهذه الأرض قال كنّا بالشام فقرأت : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ...) فقال معاوية ما هذه فينا ما هذه إلّا في أهل الكتاب. فقلت إنها لفينا وفيهم فارتفع في ذلك بيني وبينه القول فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إليّ عثمان أن أقبل إليه فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنحّ قريبا قلت والله لن أدع ما كنت أقول» (٢). ويروي الطبري في تاريخه بعض مواقف أبي ذرّ من هذا الباب

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٤٧ ـ ١٥٩.

(٢) روى هذا الطبري وروى البخاري شطرا من هذا الحديث وهو هذا عن زيد بن وهب قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت ما أنزلك بهذه الأرض قال كنا بالشام فقرأت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ...) الآية قال معاوية ما هذه فينا ما هي إلا في أهل الكتاب قلت إنها لفينا وفيهم. وقال ابن عمر هذا قبل الزكاة. فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال) التاج ج ٤ ص ١١٦ ونقول استطرادا إن كلام ابن عمر يوهم أن الزكاة فرضت بعد هذه الآية. وهناك من قال إن آية الزكاة نسخت هذه الآية وإن الزكاة فرضت في السنة التاسعة. وقال القاسمي الذي أورد هذا إن ابن كثير جزم بذلك في تاريخه. وإن بعضهم قواه بسبب كون آية الصدقات في هذه السورة قد نزلت بعد هذه الآية. والمقصود من آية الزكاة وآية الصدقات هو هذه (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)). وهذا القول غريب من نواح عديدة. فالزكاة ذكرت في سور مكيّة مبكرة ثم ظلت تذكر متلازمة مع الصلاة في السور المكيّة ثم في السور المدنيّة بأسلوب يفيد بكل قوة أنها كانت

٤٢٥

ويقول إن الفقراء ولعوا بما كان أبو ذر يقوله وصاروا يوجبونه على الأغنياء ، حتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس فكان ذلك مما جعل عثمان يستدعي أبا ذرّ مع الرفق به. ومما رواه أن عثمان قال لأبي ذرّ ما لأهل الشام يشكون منك؟ فقال لا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا فقال عثمان عليّ أن أقضي ما عليّ وآخذ ما على الرعية ولا أجبرهم على الزهد ولا أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد (١).

وقد عقب المفسّر ابن كثير على حديث أبي ذرّ بقوله : «كان من مذهب أبي ذرّ رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين وأن يأخذه إليه فاستقدمه وأنزله بالربذة. ومما رواه هذا المفسر أن معاوية أراد أن يختبره فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يوميه ثم بعث الذي أتاه بها ليقول له إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال له ويحك إنها خرجت. ولكن إذا جاء ما لي حاسبناك به.

ولقد عقب الطبري على هذه الأحاديث والأقوال قائلا وأولى الأقوال بالصحة هو أن كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز يحرّم على صاحبه اكتنازه وإن كثر ، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب وإن قلّ إذا كان مما تجب فيه الزكاة. وعقب

__________________

مفروضة وممارسة في العهد المكي. وهناك آيات مكيّة قوية الدلالة على أن مقدارها كان معينا وكان المسلمون يؤدونه مثل آيات سورة المعارج هذه (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥)) وآية الصدقات أو الزكاة المذكورة ليست في صدد فرض الزكاة وإنما هي في صدد ذكر المصارف التي تصرف فيها. بل إن أسلوبها لا يدل على أن هذه المصارف تعين تعيينا جديدا. وإنما هو في صدد تقرير ذلك كأنما هو المعروف الذي يجب أن يوقف عنده. والرقاب ورد ذكرها في معرض ما يجب الإنفاق عليه في آية سورة البقرة [١٧٧] وليس في القرآن والحديث ما يفيد أن الزكاة فرضت في العهد المدني فضلا عن أواخره. ونحن نجل ابن عمر رضي الله عنه عن أن يجهل ذلك. ولذلك فإما أن يكون كلامه نقل محرفا أو أن المقصود منه هو أن الآية في حق الذين لم يؤتوا الزكاة ، وأن الزكاة جعلت طهرا للأموال. وهذا هو ما جاء في الحديث النبوي المروي سابقا والله أعلم.

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣٣٥.

٤٢٦

البغوي قائلا إن القول الأول هو الأصح لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال الحلال. وقد علّق النيسابوري والزمخشري والخازن والنسفي والطبري تعليقات مماثلة أيضا. وقد يكون هذا هو المتسق مع طبائع النفوس والأمور. فليس من ذلك أن يطلب من كل الناس أن لا يحتازوا مالا أو أن ينفقوا ما يحتازونه دون أن يدخروه أو ينفقوا معظمه. وكل ما يتسق مع ذلك هو أن يطلب منهم أداء ما فرضه الله عليهم من حقّ. وقد يكون الهدي النبوي في الأحاديث التي ذكر فيها «أن المال الذي يؤدي زكاته ليس كنزا. وأن نعم المال الصالح للعبد الصالح. وأن الله إنما فرض الزكاة ليطيّب بها ما بقي عند الناس من أموال. وأن المال الذي يفعل به الخير نعم المعونة هو» هو الاتساق مع طبائع الأمور والنفوس في شأن ليس محرما تحريما باتا. ويمكن أن يضاف إلى هذا أن الهدي القرآني لا يمنع المسلمين من الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق إذا ما راعوا الاعتدال والقصد لأن ذلك هو المتسق مع تلك الطبائع. غير أن قوة الزجر في الآيتين اللتين نحن في صددهما والأحاديث العديدة الأخرى التي لا نرى تناقضا بينها وبين هذا الاتساق الذي يراعيه هدي القرآن والنبي معا تسوغ القول أنها تنطوي في الوقت نفسه على تلقين قوي بشجب اكتناز المال والتكالب عليه وحبسه عن سبيل الله ومصالح المسلمين ومحتاجيهم وعمل الخير حتى ولو كان ما احتازوه بطرق مشروعة ولو أدوا القدر الزهيد المفروض عليها زكاة. ومن الجدير بالذكر والتأمل :

أولا : إن القليلين من الأغنياء هم الذين يؤدون الزكاة بحقها. أما الأكثر فإما أنهم لا يؤدونها بالمرة وإما أنهم يؤدون قدرا أقل من المستحق عليهم. ومعنى هذا أن أكثر الأغنياء هم موضوع الإنذار الرهيب الذي تضمنته الآيات من جهة. وقد فقدوا التكأة التي تجعل حيازتهم للكنوز سائغة على ضوء بعض الأحاديث من جهة أخرى ونعني بها إعطاء الزكاة كاملة عنها.

وثانيا : إن كثرة الثروة في أيدي الأفراد مؤدية في الأعمّ الأغلب كما هو مشهود دائما في أيامنا بنوع خاص إلى التبذير والإسراف والفسق والفجور والبغي

٤٢٧

والاستعلاء على الفقراء المحرومين وهو المستنكر المندد به والمنهي عنه في آيات وأحاديث كثيرة على ما نبهنا عليه ، أوردنا نصوصه في سور سبق تفسيرها مما يجعل التلقين القرآني واللغوي أشدّ لزاما واستحكاما.

وثالثا : إن سبيل الله الذي أنذرت الآيات الذين لا ينفقون أموالهم فيها ذلك الإنذار الرهيب هي الدعوة الإسلامية نفسها التي من نطاقها نشر الدعوة وحمايتها والدفاع عنها وحماية الإسلام والمسلمين من البغي والعدوان. وتوفير الكرامة والعزة والحرية لهما على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المزمل. وكل هذا من مهام السلطان وأولي أمر المسلمين.

وبناء على ذلك كلّه يسوغ القول إن لأولياء أمر المسلمين أن يعالجوا أمر استقطاب الثروة في جانب واستقطاب الفقر والعوز في جانب وتعديل الفروق بأساليب متنوعة تضمن منع الأفراد عن التبذير والسّفه والاستعلاء مع عدم الإجحاف بحق الحيازة المعتدلة وحاجات الحياة المشروعة من جهة وسدّ حاجة سبيل الله ووجوه الخير ومساعدة المحتاجين من جهة أخرى. ولعلّ الفاروق رضي الله عنه حينما قال كلمته المشهورة «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء وفرقتها على الفقراء» (١) كان يستوحي من هذا التلقين القرآني والنبوي. والله تعالى أعلم.

ومن الجدير بالذكر أن آيات التوبة التي نحن في صددها ليست هي الوحيدة في بابها. فإن الآيات التي تندد بحبّ المال حبّا جمّا والتكاثر فيه والبخل به عن سبيل الله والمحتاجين وبالذين ينهجون هذا المنهج وتنذرهم قد تكررت كثيرا في سور عديدة مكيّة ومدنيّة. وكل ما في الأمر أن أسلوب آيات التوبة قد جاء على أشدّ ما يكون زجرا وإنذارا حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في أواخر ما نزل من القرآن ليظلّ شديدا على الأسماع والأذهان والله أعلم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٩١.

٤٢٨

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)) [٣٦ ـ ٣٧].

(١) النسيء : من الإنساء وهو التأجيل. والتعبير اصطلاح على تقليد جاهلي لتبديل أعيان الأشهر المحرمة بالتقديم والتأخير.

تعليق على الآية

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ...)

والآية التي بعدها وما ورد في صددهما من روايات

وما انطوى فيهما من صور ودلالات وتلقين وأحكام

المستلهم من روح الآيتين وفحواهما أنهما بسبيل التنبيه على حرمة الأشهر الحرم بأعيانها وأعدادها معا. والتنديد بالنسيء الذي يؤدي إلى الإخلال بحرمة أعيانها مع محافظته على أعدادها. وأسلوب الآيتين تقريريّ يتضمن تقرير ما يلي :

إن الله قد جعل للزمن منذ خلق السموات والأرض دورة تتجدد كل سنة. وجعل في كل سنة اثنتي عشرة دورة ثانية متجددة تظهر في مشاهد القمر وهي الشهور. ومن هذه الشهور أربعة محرّمة بأعيانها. وهذا هو الحق القويم ويجب على المسلمين مراعاته وعدم ظلم أنفسهم بفعل ما يخلّ به وفي عادة النسيء الذي سار عليها العرب في الجاهلية إخلال به. وفي سير الكفار عليه زيادة في الكفر لأنه وإن كان فيه رعاية للعدد فإن فيه تحليلا لأشهر حرّمها الله بأعيانها وتحريما لأشهر أحلّها الله بأعيانها والاكتفاء بالمحافظة على العدد وحسب ، مع أن الواجب أن

٤٢٩

ترعى حرمة العين كما ترعى حرمة العدد. وهذا مما زيّن للكافرين من عاداتهم السيئة فلا يجوز للمسلمين أن يتبعوه.

وقد جاء في الفقرة الأخيرة من الآية الأولى حثّ للمسلمين على قتال المشركين كافة ومجتمعين ومتضامنين كما يقاتلهم المشركون كذلك. وتطمين لهم بأن الله تعالى مع المتقين لحرماته يؤيدهم وينصرهم.

ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في سبب نزول الآيتين اللتين تبدوان في الظاهر أن لا صلة لهما بما قبلهما ولا بما بعدهما. وكل ما قاله الطبري أن فيهما حثّا للمسلمين على قتال المشركين جميعا متفقين ومؤتلفين وغير متفرقين كما يفعلون هم ذلك. ولم يذكر تأويلا لسبب ذكر عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء. وقال البغوي وابن كثير إن جملة (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) هي في صدد تبرير حصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين للطائف في شهر ذي القعدة المحرم استمرارا لما بدأ به في شوال. وحصار الطائف كان بعد قليل من فتح مكة ويوم حنين أي في السنة الثامنة على ما ذكرناه قبل. وهذه الآيات نزلت في سياق آيات أخرى بين يدي غزوة تبوك التي كانت بعد سنة تقريبا من ذلك. ولا تبدو حكمة من إقحام ذلك في هذا السياق. ولم يذكر المفسران بدورهما شيئا من أسباب وحكمة ذكر عدة الشهور والنسيء. وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا شيء مهم آخر في هذا الصدد.

ولقد ذكرت الروايات أن غزوة تبوك قد كانت في شهر رجب من العام الهجري التاسع (١). وذكرت كذلك أن وقفة الحجّ في الحجة التي حجّها أبو بكر رضي الله عنه في هذا العام بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونيابة عنه كانت في شهر ذي القعدة بدلا من شهر ذي الحجة (٢) بناء على إعلان إنساء في العام السابق. حيث صار بهذا الإعلان الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية شوال وذا القعدة وذا الحجة بدلا من ذي

__________________

(١) انظر ابن سعد ج ٣ ص ٢١٨.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٣٨.

٤٣٠

القعدة وذي الحجة والمحرم وصارت الوقفة في ذي القعدة وصار المحرّم حلالا. ونتيجة لذلك تغير رجب عن مكانه الصحيح وهو رابع الأشهر الحرم بسبب موسم ديني كان يقوم في الحجاز فيه وقد سمي لذلك رجب مضر على ما شرحناه في سياق تفسير سورة البقرة. فالذي يخطر بالبال أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما استنفر الناس إلى غزوة تبوك وكان ذلك في رجب اعترض البعض على السير للقتال في هذا الشهر لأنه شهر محرم أو لاحظوا ذلك فنزلت الآيتان ليعلن بهما :

أولا : إن هذا الرجب ليس هو الرجب المحرّم الأصلي وإن مكان الرجب المحرم الأصلي هو جمادى الثانية. لأن رجب يأتي بعد المحرّم بستة أشهر. وقد صار ذو الحجة في هذا العام بديلا عن المحرم فصار رجب هذا العام غير الرجب الأصلي ويكون الرجب الأصلي هو جمادى الآخرة.

وثانيا : إن السير إلى غزوة تبوك في رجب هذا العام ليس فيه إحلال بحرمة شهر المحرم لأن رجب هذا العام ليس هو الشهر المحرم الأصلي.

وثالثا : إن تقليد النسيء باطل وكفر وضلال ولو أن فيه مواطأة لعدة الأشهر المحرمة لأن الحرمة ليست للعدة فقط بل هي لعين الأشهر أيضا. فإذا صح هذا ونرجو أن يكون صحيحا والشرح يقوي صحته ورجحانه على أي احتمال آخر ، فتكون الآيتان قد نزلتا في المناسبة التي نزلت فيها الآيات السابقة واللاحقة ويكون السياق منسجما ومتلاحقا.

ولقد حجّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العام الثاني لحجة أبي بكر أي في العام العاشر للهجرة. وكان ترتيب الأشهر الحرم قد عاد إلى أصله فكان مما قاله في خطبة الوداع «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (١). وهكذا حسم أمر وجوب الاحتفاظ

__________________

(١) روى هذا الحديث البخاري انظر التاج ج ٤ ص ١١٦ ، ١١٧. وروى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة أيضا.

٤٣١

بأعداد الأشهر الحرم وأعيانها وترتيبها دون أي إخلال.

وجملة : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) قد تبدو ولا صلة لها بالمناسبة. غير أن المتعّن في الآية [٣١] يكشف عن صلتها الوثيقة بها لأنها حكت نسبة اليهود عزيرا إلى الله بالبنوّة ونسبة النصارى المسيح إلى الله بالبنوّة واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله في حين أنهم لم يؤمروا إلّا بعبادة إله واحد ونزّهت الله تعالى عما يشركون. وبهذا دخلوا في زمرة المشركين. وهكذا يطّرد الكلام ويستقيم ويتوثق الانسجام في السياق.

ولقد دأب المفسرون على وصف هذه الجملة بآية السيف مثل الآية [٥] من هذه السورة وظلوا يقررون أنها ناسخة لكل ما جاء في القرآن في صدد التساهل والتعاقد مع المشركين وقبول غير الإسلام منهم على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة. ولقد أدخلت الآية [٣١] النصارى واليهود ـ أهل الكتاب ـ في زمرة المشركين وأذنت بالكفّ عن الأعداء المحاربين منهم إذا رضخوا للمسلمين وأعطوهم الجزية. وهذا دليل قرآني على عدم نسخ الآية للآيات الأخرى فضلا عن كون ذلك غير متسق مع المبادئ القرآنية العامة ولا مع طبائع الأمور على ما شرحناه قبل قليل. وفي الجملة تفسير لمقصدها. فالأعداء المشركون ـ ومنهم المنحرفون من أهل الكتاب ـ يقاتلون المسلمين كافة ومجتمعين وبكل حماسة فيجب أن يكون قتال المسلمين لهم مثل ذلك. وفي الجملة والحالة هذه توكيد على المبادئ القرآنية العامة التي نبهنا عليها بدلا من كونها تنقضها وتنسخها!

ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره (١) عن أهل التأويل في صدد جملة (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). فهناك من صرفها إلى جميع الأشهر. وهناك من صرفها إلى الأشهر الحرم. وهناك من أول الظلم بالإثم والمنكر عامة. والذين صرفوها إلى الأشهر الحرم وصرفوا الظلم إلى الإثم والمنكر قالوا إن النهي هو بسبب كون الظلم فيها أشدّ إثما منه في غيرها. وهناك من صرف الظلم إلى

__________________

(١) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير.

٤٣٢

الإخلال بحرمة الأشهر الحرم وعمل ما هو محرّم فيها مما هو غير محرّم في غيرها كالصيد والقتال أو تبديل أعيانها وجعل حلالها حراما وحرامها حلالا. وقد رجح الطبري قول من قال إنها في صدد الأشهر الحرم وتنظيم حرمتها وعدم استحلال حرامها. وهو الصواب المتبادر من مقام الجملة وروحها. والله أعلم.

والنسيء تقليد جاهلي متصل بحرمة الأشهر الحرم. ويظهر من فحوى الآية وروحها أنه بدعة ابتدعت فيما بعد. ومما روي (١) عن ذلك أنه كان يتولى إعلان النسيء زعيم بيت معين من بيوتات العرب يوم الحج الأكبر إذا رأى ذلك مناسبا أو طلب منه الناس فيعلن مثلا بأن يكون شهر شوال القادم حراما فيصبح شهر المحرم حلالا ويتغير موعد الحج فتكون الوقفة في شهر ذي القعدة بدلا من ذي الحجة. ويكون ذو الحجة بديلا عن المحرم. ثم يعلن في سنة ثانية بأن يعود المحرم محرما فتعود الأشهر الحرم إلى ترتيبها أو يعلن أن صفر العام القابل محرما فيصير بدء الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية ذا الحجة وتكون الوقفة في شهر المحرم. وقد روي أن صاحب النسيء في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية الكناني حيث كان يوافي الموسم فينادي يوم الحج الأكبر فيقول : ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يخاب فيقال له نعم فيعلن تقديم الأشهر الحرم أو تأخيرها شهرا. ويروى أن أبا ثمامة ورث المهمة عن أبيه أمية. وهذا عن أبيه قلع وهذا عن أبيه عبّاد وهذا عن أبيه حذيفة الذي كان أول من تولّى مهمة إعلان النسيء. ومما يروى أن العرب كانوا يطلبون من صاحب النسيء إعلان ذلك ليتمكنوا من متابعة حرب تعطلت بدخول الأشهر الحرم دون انتظار طويل. ويروى إلى هذا ما يفيد أن هذا التقليد قد ابتدع لموازنة الفصول حيث كان من شأن السير في حساب أشهر السنة على حساب القمر أن تتبدل مواعيد الحج وتدور على الفصول فكان يراد بالنسيء إبقاؤه في موسم أو فصل واحد. ونحن نميل إلى ترجيح كون الأصل في النسيء هو الرواية الأخيرة لأنها متسقة مع طبائع الأشياء كما أن من الممكن الاستدلال على رجحانه

__________________

(١) انظر لأجل هذه النبذة تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج ٥ ص ٢٣٤ وما بعدها.

٤٣٣

بأسماء الأشهر نفسها. ففي أسماء الأشهر العربية المستعملة دلالات على الفصول وموسم الحج معا مثل ذي الحجة وربيع الأول وربيع الثاني ورمضان. وأسماء الأشهر المتداولة الآن مبدلة عن أسماء سابقة حيث كانت الأسماء هكذا : المؤتمر بدلا من المحرم ثم ناجر وخوات ومصان وحنتم ورباء والأصم وعاذل ونافق وغل وهواع وبرك. وهناك روايات فيها أسماء بدلا من أسماء. وفي تسمية رمضان دلالة على شدة الحرارة لأنها من الرمضاء على ما هو متفق عليه عند علماء اللغة. ويعقبه شوال وهو ليس محرما ثم تأتي الأشهر المحرمة الثلاثة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهي أشهر الحج. فمن المحتمل أن يكون تقليد الأشهر الحرم للحج قد ضعف لسبب ما ، ثم جاءت ظروف قضت تقويته وتجديده. وربما كان ذلك لاتجاه أنظار العرب إلى الكعبة في الظرف الذي غزا الأحباش فيه اليمن وقوّضوا السلطان العربي عنها وسيطروا عليها. وكان الرومان مسيطرين على بلاد الشام وعربها والفرس مسيطرين على بلاد العراق وعربها. وكانت الحجاز وحدها تحتفظ باستقلالها. وربما كان ذلك في آخر صيف وكان رمضان يصادف شهر آب وشوال يصادف شهر أيلول فصارت أشهر الحج الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم مصادفة لأشهر تشرين أول وتشرين ثاني وكانون أول وهي أشهر معتدلة الطقس يمكن السير فيها في جزيرة العرب بسهولة ويسر. فلما أخذت الفصول تتبدل لأنها تابعة لدورة الشمس ورأى العرب أن أشهر الحج صارت تصادف موسم البرد الشديد أو الحرّ الشديد ابتدعوا تقليد النسيء وصاروا في كل بضع سنين يقدمون وقت الأشهر المحرمة شهرا أو يؤخرونه شهرا حتى تظل أشهر الحج تأتي في موسم معتدل الطقس. ولما كانت اللغة الفصحى قد صارت كذلك قبل البعثة النبوية بمائة وخمسين سنة أو نحوها ولما كانت أسماء الأشهر العربية هي من الفصحى فيمكن القول إن هذه البدعة ابتدعت من نحو مائة وخمسين سنة. وإذا صح ما روي أن حذيفة الكناني هو أول من قام بمهمة النسيء فيكون هذا التقدير في محله لأنه أعقبه إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعة أجيال.

ولا نريد أن ننفي بترجيحنا القول الثاني نفي القول الأول. فإن ما يحتمل

٤٣٤

كثيرا أن يكون النسيء الذي جعل في أول أمره لموازنة الفصول قد أسيء استعماله مؤخرا فصار الناس يطلبونه لأغراض حربية وثأرية. ولعل هذا كان من أسباب إلغائه المباشرة فضلا عن حكمة أخرى تنطوي في الإلغاء وهي سدّ الباب أمام الجرأة على انتقاص الحرمات والتلاعب فيها. وهذا المعنى منطو في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما. والله تعالى أعلم.

وتقليد الأشهر الحرم هو تقليد عربي خاص كما هو واضح في حين أن عدة الشهور (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) هو ناموس كوني. ولهذا فالمتبادر أن تعبير (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) مرتبط بما بعده وليس بما قبله.

وكتب التفسير تذكر تعليلا لتسمية ذي القعدة بأنه الشهر الذي كان العرب الذين يعتزمون الحج يرتحلون فيه إلى مكة ويقعدون بسبيل ذلك على رواحلهم ولتسمية ذي الحجة بأنه الشهر الذي يتمّ فيه الحج. أما تسمية المحرم الذي لا تكون فيه مناسك حجّ فقد قالوا إنها بسبيل توكيد تحريم القتال فيه. لأنّ الشهر الذي ينصرف الحجاج فيه إلى منازلهم فيكون فيه مجال اللقاء والقتال. وفي التعليلات وجاهة ظاهرة. أما تسمية رجب وهو الشهر المحرم الرابع ، فهي مشتقة من الترجيب وهو التعظيم على ما قالوه فينطوي فيها سبب أو مدى تحريمه كما هو المتبادر.

ولقد تعددت أقوال المؤولين في تأويل جملة (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) فمنهم من قال إنها بمعنى الحساب الصحيح ، أو الحقّ دون تبديل وتعديل بالنسيء. ومنهم من قال إن معناها أن ذلك هو الأصل الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل. وكلا القولين وجيه. والثاني متصل بما كان يتداوله العرب من إرجاع أصول الحج إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام على ما مرّ شرحه في مناسبات سابقة. وعلى كل حال فإن في الجملة إيذانا بأنّ هذا التقليد على وجهه المحدد هو من حيث الأصل من التقاليد الدينية الملهمة أو الموحاة من الله عزوجل. ويؤيد هذا جملة (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) وفي هذا توكيد لما قلناه في

٤٣٥

المناسبات السابقة من أن العرب في الجاهلية كانوا يعتقدون أن تقاليد الحجّ هي تقاليد دينية موحاة من الله عزوجل ومن هنا استحكم فيهم التنديد.

والأشهر الحرم الثلاثة هي أشهر الحج. ويبدو أنها قدرت لتكون كافية لرحلة أي عربي من أي منزل وبلد إلى الحج وعودته إلى مأمنه. أما شهر رجب فيستفاد من الروايات أنه كان يقام في أثنائه موسم ديني في الحجاز. لا صلة له بموسم الحج ولعلّه موسم زيارة الكعبة المعروفة بالعمرة. وعند المسلمين تقليد أو اصطلاح (الزيارة الرجبية) ولعلّه متصل بذلك.

ويبدو من خلال الروايات ومن قصر المدة أنه كان موسما حجازيا لا يشترك فيه إلّا أهل الحجاز (١). والله أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)) [٣٨ ـ ٤١].

(١) اثّاقلتم إلى الأرض : أثقلتم مقاعدكم في الأرض. والجملة كناية عن عدم المسارعة إلى الاستجابة إلى دعوة النفرة في سبيل الله ومقابلتها بالبطء والتثاقل.

__________________

(١) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ج ٥ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٩.

٤٣٦

(٢) خفافا وثقالا : قيل في تأويل اللفظين إنهما بمعنى حمل السلاح خفيفه وثقيله. وقيل إنهما بمعنى النفرة إلى سبيل الله مشاة وركبانا. أو شيوخا وشبانا. أو مع أسرهم وبدونها. أو سواء أكانوا مشاغيل أم لا. أو فقراء وأغنياء. وعلى كل حال فالمراد بهما الاستجابة إلى النفرة في أي حال وإمكان وصورة وعدة.

في هذه الآيات :

١ ـ تنديد وعتاب موجّه للمسلمين على تثاقلهم وعدم نشاطهم حينما يدعون إلى النفرة إلى الجهاد في سبيل الله.

٢ ـ وسؤال على سبيل الإنكار والعتب عمّا إذا كانوا قد رضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة مع أن مدة الحياة الدنيا ومتاعها بالنسبة للآخرة قليلة تافهة.

٣ ـ وإنذار لهم بأنهم إذا لم ينفروا يعرضون أنفسهم لعذاب الله الأليم. ولغضبه واستغنائه عنهم واستبداله إياهم بغيرهم وهو القادر على كل شيء. ولن يضرّوه شيئا.

٤ ـ وتذكير منطو على العتاب والتحدي : فإذا لم ينصروا النبي ويلبّوه فإن الله ناصره وكفى به نصيرا. وهو الذي نصره حينما اضطرّه الكفار إلى الخروج فخرج ليس معه إلّا صاحبه ولبثا في الغار. وقد ألمّ بصاحبه الخوف والحزن فهتف به لا تحزن إن الله معنا. وقد أنزل الله عليه سكينته وأيّده بجنود لم يرها أحد. ثم كان من أمره أن أظهره الله على جميع أعدائه حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى.

٥ ـ وتعقيب على هذا كلّه بأمر المسلمين بالنفرة خفافا وثقالا على كل حال وبأي إمكان وصورة وبدون أي اعتذار وتعلّل وبالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله فذلك خير لهم لو كانوا يعلمون.

٤٣٧

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ...)

والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي

في صددها من روايات وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها

والمفسرون (١) متفقون على أن هذه الآيات وما بعدها هي في صدد استنفار المسلمين إلى غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث وصور وبعض مواقف المسلمين والمنافقين في أثنائها وقبلها في سياق ذلك. وفي الآيات التالية لها بعض القرائن على ذلك.

ولقد ذكرنا قبل أن منطقة تبوك وما وراءها كانت مأهولة بقبائل نصرانية وكان سلطان الروم ممتدا عليها. وأن الآية [٢٩] وما بعدها هي بسبيل غزوة تبوك. وهكذا تكون الآيات استمرارا للسياق.

والعتاب والتنديد في الآيات عام التوجيه إلى المسلمين. غير أن الآيات التالية احتوت دلائل صريحة على أن الذين وقفوا الموقف الموصوف في الآيات في مناسبة غزوة تبوك هم المسلمون المستجدون والمنافقون وذوو القلوب المريضة وفريق من الأعراب.

ومثل هذا العتاب والتنديد جاء في فصول قرآنية عديدة في سور عديدة أيضا. واحتوت دلائل صريحة وضمنية على أن المقصود بهما هذه الفئات أيضا. ولما كانت غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن هذا يعني أن هذه الفئات التي كانت تقف المواقف المستوجبة للعتاب والتنديد ظلت تقف نفس المواقف إلى أواخر العهد المدني. وظلت من أجل ذلك عرضة للعتاب والتنديد بل للمقت الرباني الذي انطوى في آيات سورة الصف هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والنسفي والنيسابوري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

٤٣٨

يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)) (١). أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقد كانوا يسارعون إلى تلبية كل دعوة إلى الجهاد والتضحية وتنفيذ أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مختلف الأوقات وظلوا كذلك إلى النهاية على ما احتوت الإشارة إليه والتنويه بهم من أجله آيات كثيرة في سور سابقة وآيات أخرى في هذه السورة.

والعتاب والتنديد والإنذار وتهوين أمر الدنيا في الآيات قد جاء بأسلوب قوي قارع حيث يدل هذا على أن موقف المتثاقلين المتباطئين والمنافقين ومرضى القلوب كان شديد الوقع والأثر. وفي آيات أخرى من السورة استمرار في ذلك وفضح لمواقف سابقة ولاحقة لهم حيث يوثق ذلك تلك الدلالة. ومع خصوصية الآيات الزمنية يظل ما فيها من نداء وتنديد قارعا مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل يتثاقل فيه بعض الجماعات الإسلامية عن النفرة إلى الجهاد في سبيل الله. إذا ما دعت الحاجة إليه والتضامن في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين.

وغزوة تبوك التي قلنا إن المتفق عليه أن معظم هذه السورة نزلت فيها كانت كما قلنا آخر غزوة غزاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعظمها حشدا وأبعدها شقة. وكانت في السنة الهجرية التاسعة أي بعد فتح مكة بنحو سنة. وآيات السورة لا تذكر وقائع وإنما هي بسبيل التنويه والتعليم والعظة والتنديد بسبب ما كان في سياقها وأثنائها من مشاهد ومواقف وصور متنوعة جريا على الأسلوب القرآني.

ولقد روى المفسرون ورواة السيرة والمؤرخون القدماء روايات عديدة فيها بيانات كثيرة عن هذه الغزوة. خلاصتها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان من العرب النصارى وقدموا طلائعهم يريدون غزو الحجاز ، ولعلهم كانوا يقصدون الرد على غزوة المسلمين

__________________

(١) هناك آيات أخرى من هذا الباب أو قريبة منها في سور مرّ تفسيرها مثل آيات آل عمران [١٥٦ و ١٦٦ ـ ١٦٨] والنساء [٧١ و ٧٣ و ٨٨ و ٨٩ و ١٣٧ ـ ١٤٣] والمائدة [٥٢] والأحزاب [١٢ ـ ٢٠] وسيأتي في هذه السورة آيات عديدة أخرى من هذا الباب.

٤٣٩

لمؤتة في السنة الثامنة. وهي الغزوة التي كانت تحت قيادة زيد بن حارثة. والتي أشرنا إليها في مناسبة قريبة من هذه السورة فرأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجمع أكبر عدد ممكن من المسلمين ويخرج بهم إلى مشارف الشام إرهابا للأعداء. فاستنفر الناس بدوا وحضرا واستعانهم بالمال ولم يزل بهم محرضا مرغبا ومنذرا حتى تمكن من جمع جيش عظيم بلغ على ما ذكرته الروايات ثلاثين ألفا فيه عشرة آلاف فرس. وقد سمّي الجيش بجيش العسرة بسبب كون الوقت كان صيفا قائظا وحالة المسلمين الاقتصادية سيئة والشقة بعيدة. ولقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتاد أن يكني ولا يفصح عن المكان الذي يغزوه إلّا هذه الغزوة حيث صرّح لهم بقصده ليكونوا على بينة واستعداد. وكان من مشاهد هذه الحركة أن تبرّع بعض أغنياء الصحابة المخلصين كعثمان بن عفان بمبالغ طائلة سددت ثغرات واسعة من الحاجة كما كان من مشاهدها تسابق فقراء الصحابة المخلصين إلى التبرع بجهدهم والانضمام إلى الجيش. وبكاء وحزن بعض المسلمين الذين لم يتسن لهم الاشتراك في الحملة بسبب فقرهم وعدم إمكان مساعدتهم على تحقيق رغبتهم (١).

وقد خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجيشه العظيم في شهر رجب فوصل تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدها. ولم يجد فيها ما بلغه من جموع حيث كانوا تفرقوا حينما بلغهم مسيره. ولم يشتبك مع أحد بحرب. وقد أقام نحو شهر ثم قفل راجعا. ولم تخل الغزوة من مكاسب مادية وسياسية ومعنوية.

__________________

(١) روى الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال شهدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يحثّ على جيش العسرة فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ مائتي بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. فنزل رسول الله وهو يقول ما على عثمان ما عمل بعد هذه. وروى عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألف دينار في كمّه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجرة فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم. (التاج ج ٣ ص ٢٩٣). أما المشاهد الأخرى فقد أشير إليها في آيات من هذه السورة.

٤٤٠