التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

فهؤلاء قالوا إن صفات الله هي ذات الله فهو عالم بذاته قادر بذاته متكلم بذاته إلخ أي بدون علم وقدرة وكلام زائد عن ذاته أو غير ذاته على اعتبار أن الذهاب إلى كون صفات الله القديمة بقدمه هي غير ذاته يعني تعددا لله القديم الذي يستحيل عليه التعدد. في حين قال أهل السنة والجماعة إن لصفات الله تعالى معنى زائدا عن ذاته فهو عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلّم بكلام وحي بحياة إلخ. واحترزوا من أن يكون هذا الكلام مؤديا إلى التعدد لأنهم مثل المعتزلة يعتقدون باستحالة التعدد بحق الله تعالى فقالوا إن الله عالم بعلم غير منفك عن ذاته وقادر بقدرة غير منفكة عن ذاته ومتكلم بكلام غير منفك عن ذاته .. ثم انجرّ الخلاف إلى صفة كلام الله وماهية القرآن باعتباره كلام الله فقال فريق من أهل السنة والجماعة إن الله تكلّم بكلام أزلي قديم زائد عن ذاته وغير منفك عنها وإن القرآن معنى قائم بذات الله مع تقييدهم أنهم لا يعنون بذلك الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة ومثلوا على ذلك بالفرق بين ما يدور في خلد الإنسان من كلام دون أن ينطق به فهو شامل في أي وقت لجميع الكلام الذي يدور في الخلد. أما الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة من القرآن فإنها ليست من تلك الصفة القديمة وإنما هي من الحوادث لأنها تابعة لترتيب يتقدم فيه حرف على حرف نطقا وكتابة وسمعا وهذا من سمات الأمور الحادثة. وهناك من هذا الفريق من قال إن حروف القرآن المكتوبة المقروءة وأصواتها المسموعة غير منفكة عن كلام الله الأزلي القديم وإنها مثله قديمة أزلية أيضا ليست حادثة ولا مخلوقة. وهناك من هذا الفريق من قال إن جميع ما في المصحف هو من صفة الله القديمة حتى الورق والمداد وجلدة الغلاف ... أما المعتزلة والشيعة الإمامية الذين يذهبون إلى أكثر المذاهب الكلامية التي يذهب إليها المعتزلة فقالوا إن الله تكلم بذاته بدون كلام زائد عن هذه الذات وأنه يخلق الحروف والأصوات في الأعراض فتقرأ وتسمع وأن القرآن باعتبار أنه متصف بما هو صفة المخلوق وسمات الحدوث من تأليف وتنظيم وإنزال وتنزيل وكتابة وسماع وعروبة لسان وحفظ وناسخ ومنسوخ إلخ هو مخلوق لا يصح أن يكون قديما أزليا. ومما قالوه أن القرآن اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصحف

٣٦١

تواترا. وهذا يستلزم كونه مكتوبا في المصاحف مقروءا بالألسن مسموعا بالآذان. وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة. ويردّ عليهم جمهور أهل السنة بأنه كلام الله مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حالّ فيها بل هو معنى قديم قائم بذات الله يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف ويكتب بالقلم. وأن المراد بأن القرآن غير مخلوق هو حقيقته الموجودة في الخارج.

هذه خلاصة وجيزة جدا لرأي علماء المذاهب الكلامية. وواضح أن الجماعات المختلفة يعترفون بكمال صفات الله وأن اختلافهم هو حول آثار هذه الصفات وتخيلها وتفهمها. وأن شأنهم في هذا شأنهم في الخلافات الكلامية الأخرى المتصلة بالله تعالى وقدرته وكنهه وما ينسبه القرآن إليه من أعضاء وأفعال. منهم المعظم لله ومنهم المنزّه له. وأنهم متفقون على أن القرآن منزّل من الله تعالى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ونعتقد أن ثوران هذه المسألة الخلافية وما يترتب عليها من فتنة ومحنة في أوائل القرن الثالث الهجري ذو صلة بالأحداث السياسية والنحلية والطائفية والعنصرية التي حدثت في القرن الإسلامي الأول. ومن مظاهرها مسألة القدر وفرق المسلمين فيه على ما شرحناه في سياق سورة القمر مع احتمال أن يكون لتسرب الأفكار والكتب اليونانية وغير اليونانية أثر فيها. وأنها ضخّمت أكثر مما تتحمله طبيعتها. وقد يصح أن يقال مع ذلك أن للقرآن صلة وثقى بأحداث السيرة النبوية وظروف البيئة النبوية وشؤون البشر والحياة على إطلاقها وأن جلّ سوره وفصوله وآياته أو كلّها قد نزلت حسب المناسبات والأحداث والمقتضيات من هذه السيرة والظروف والشؤون. وأنه استهدف صلاح البشر وتوجيههم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وكل هذا من الأمور الحادثة المتجددة المتبدلة المتطورة ، ويجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة. ولا سيما إن القول الأول يؤدي إلى حرج القول أنه ما دام كلام الله صفة غير منفكة عن ذات الله وما دام القرآن هو كلام الله فيكون القرآن هو ذات الله سبحانه وتعالى ...

٣٦٢

ومما يجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة أن ألفاظ القرآن (مفرداتها وتركيباتها) ليست أمرا قاصرا على القرآن. وإنما هي مما يستعمله الناطقون باللغة العربية للتعبير عن أفكارهم نطقا وكتابة. وكان ذلك قبل نزول القرآن واستمرّ بعده وإلى ما شاء الله. وهي ألفاظ بشرية للتعبير عن أمور وأفكار بشرية حادثة. والله ليس كمثله شيء. فله سمع وبصر ولكن ذلك غير مماثل لأي شيء كما جاء في آية سورة الشورى التي أوردناها والتي هي ضابط قرآني هام في مثل هذه المسائل. ومن ذلك فهو متكلم ولكن كلامه غير مماثل لأي شيء.

وهناك أمر آخر مهم يقوي ذلك أيضا وهو أن الله عزوجل لم يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن مباشرة. ففي سورة الشعراء هذه الآيات (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)). وفي سورة النحل هذه الآيات (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)). وفي سورة البقرة هذه الآية (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)). أي إن الذي كلم النبي مباشرة وقرأ عليه القرآن ونزّله على قلبه هو جبريل الذي وصف في آيتي النحل والشعراء بالروح الأمين والروح القدس.

وجبريل مخلوق مثل سائر خلق الله ، ينقل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يتلقاه من الله. أما كيف كان جبريل يتلقى القرآن من الله تعالى فقد يصحّ أن يترك تأويله لله عزوجل تبعا لمسألة الملائكة على ما شرحناه في سياق سورة المدثر. ويصح أن يقال أيضا والله أعلم أن الله يخلق معنى ما يريد وحيه قرآنا إلى نبيّه في جبريل فينزل به على قلب النبي بألفاظه العربية.

ويظهر أن المفسرين الذين لم يفتهم هذا المعنى فطنوا إلى ما يمكن أن يورد عليه بما جاء في سورة القيامة (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨)) فقال ابن عباس في تأويل

٣٦٣

ذلك على ما رواه الطبري وابن كثير والبغوي في تفسير هذه الآية «إذا قرأه عليك جبريل فاتبع قرآنه» فصار في هذا توفيق بين هذه الآية وآيات النحل والشعراء والبقرة. وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس في ذلك أيضا قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يعرف منه ، فأنزل الله الآيات ، فكان إذا آتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعد الله».

هذا ومع تناولنا المسألة الخلافية وشرحنا لها موضوعيا في مناسبة جملة (كَلامَ اللهِ) مجاراة للمفسرين واجتهادا لوضع الأمر في نصابه فإننا نقول :

أولا : إننا لا نرى جملة (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) مناسبة سائغة لذلك. فهي تعني حتى يسمع ما أوحى الله لرسوله من مبادئ وأهداف الرسالة وأن في إثارة الجدل الكلامي في مناسبتها تحميلا لها غير ما تتحمل.

وثانيا : إن هذه الخلافيات والجدليات لا تتصل بآثار نبوية ولا راشدية موثقة ثابتة في ذاتها. فضلا عما كان من آثار نبوية وراشدية تنهى عن الخوض في ماهية الله والقرآن. ومن ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ومن خلق كذا حتى يقول من خلق ربّك. فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتبه» وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المراء في القرآن كفر. ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم فردوه إلى عالمه جلّ جلاله». وأن من الأولى أن يظل المسلم في حدود التقريرات القرآنية بأن القرآن كلام الله ومن عند الله ووحي من الله وأنزله الله ليتدبر الناس آياته وجعله عربيا ليعقله السامعون وليخرج الناس به من الظلمات إلى النور. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأن لله أحسن الأسماء وأكمل الصفات وأنه ليس كمثله شيء ولا تدركه الأبصار. وأن لا يتورط ويخوض في ماهيات وكيفيات متصلة بسرّ واجب الوجود وسرّ الوحي والنبوّة مما لا يستطاع إدراكه بالعقل الإنساني مع قيام البراهين عليه ومما لا طائل من ورائه. والله تعالى أعلم.

٣٦٤

هذا ، مع التقرير اللازم الذي يجب على المؤمن أن يؤمن به أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام الأزلية الأبدية القديمة مثل صفات السمع والبصر وغيرها. وأنه يراعي الضابط القرآني الوارد في آية سورة الشورى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

والكلام الذي يمكن أن يسمعه بشر لا يمكن أن يكون إلا بطريقة كلام وسمع البشر أي أصوات تخرج من شفتين وتتموج في الهواء حتى تصل إلى أداة سمع في إنسان آخر فيفهمها. وكل هذا متسم بصفة الحدوث التي تتنزه صفة كلام الله القديمة عنها. واستلهاما من ذلك كلّه يمكن أن يقال والله أعلم إن جملة (كَلامَ اللهِ) في الآية التي نحن في صددها وتأتي مكانها في القرآن تعني أحكامه وتبليغاته وتنزيلاته.

وقد يرد في القرآن جمل تفيد أن الله كلّم موسى كما جاء في آية سورة الأعراف (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [١٤٣].

وكما جاء في آية سورة النساء : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)). فيمكن أن يقال والله أعلم إن موسى مخلوق بشر ولا يسمع إلا أصواتا تأتي إلى أذنه بطريقة التصويت البشري وهذا متسم بالحدوث الذي تتنزه صفة كلام الله عنها ويمكن أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قذف في قلبه ما أراد تبليغه له وعبّر عن ذلك في القرآن بالجمل المذكورة والله أعلم. ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ

٣٦٥

الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)) [٧ ـ ١٢].

(١) إن يظهروا عليكم : إن يتفوقوا عليكم ويغلبوكم.

(٢) لا يرقبوا : لا يراعوا.

(٣) إلّا : عهدا.

(٤) اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا : بمعنى فضّلوا الثمن القليل أي متاع الدنيا وزينتها على آيات الله ودينه.

في الآيات :

(١) تساؤل يتضمن معنى النفي عما إذا كان يصحّ أن يكون للمشركين عهد محترم عند الله وعند رسوله.

(٢) واستثناء وجه الخطاب فيه للمسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم عند المسجد الحرام. وأمر بأن يستقيموا على عهدهم معهم ما استقاموا هم عليه. فإن في هذا تقوى الله والله يحبّ المتقين.

(٣) وتساؤل آخر وجّه الخطاب فيه كذلك للمسلمين يتضمن أيضا معنى النفي ثم تقريرا لواقع المشركين وتعليلا لعدم استحقاق عهودهم للاحترام ، فإنهم إذا ظهروا عليهم وانتصروا لا يرعون فيهم عهدا ولا ذمة ويعاملونهم معاملة العدوّ اللدود. وإنهم إنما يحاولون إرضاءهم بالكلام وقلوبهم غير صادقة ولا مخلصة. وإن أكثرهم فاسقون متمردون على الله تعالى خبثاء الطوية. وإنهم لا يرقبون في مؤمن عهدا ولا ذمة. وإنهم معتدون متجاوزون على كل حق في جميع مواقفهم.

(٤) وخطاب موجّه إلى المسلمين كذلك بشأنهم : فإذا تابوا عن شركهم وأسلموا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإنهم يصبحون إخوانا لهم في الدين. وفي

٣٦٦

هذا بيان يفهمه ويدرك قيمته الذين يعلمون ويدركون الأمور. أما إذا نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم الذي قطعوه على أنفسهم للمسلمين وطعنوا في دينهم فعليهم أن يقاتلوا أئمة الكفر الذين لا يقيمون وزنا لأيمانهم ، لعلّ هذا القتال يضطرهم إلى الانتهاء عن موقفهم الباغي.

تعليق على الآية

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...)

والآيات الخمس التالية لها وما روي في صددها من روايات

وما انطوى فيها من أحكام وتلقين ودلالات.

ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات أو بعضها. وإنما رووا روايات عن المقصود منها (١). فمن ذلك أن المقصود من الاستثناء الوارد في الآية الأولى منها أي الآية [٧] هم بنو خزيمة أو بنو مدلج أو بنو الديل من بني بكر بن كنانة الذين دخلوا في صلح الحديبية مع قريش ولكنهم لم ينقضوا حينما نقض بطون أخرى من بني بكر وظاهرتهم قريش فكان ذلك سببا لحملة الفتح المكي. ومنها أن المقصود منه هم قريش الذين عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديبية. وبخاصة زعماءهم الذين يصحّ عليهم وصف أئمة الكفر مثل أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن شيبة وسهيل بن عمرو. وذكر هذه الأسماء عجيب. لأن منهم من كان قتل يوم بدر مثل أبي جهل وأمية وعتبة. ومنها أن المقصود منه قوم في جوار منطقة المسجد الحرام كان بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد على أن لا يدخلوا هذه المنطقة ولا يعطوا للمسلمين جزية. ومن ذلك أن المقصود في الفقرة الأولى من الآية الأولى ثم في الآيات الأخرى هم المقصودون في آيات السورة الأولى أي المعاهدون الناقضون لعهدهم.

__________________

(١) أكثر المفسرين استيعابا لهذه الروايات هو الطبري.

٣٦٧

وقد علّق الطبري على الروايات التي تقول إن المقصود في الآيات قريش فقال إن الآيات نزلت بعد فتح مكة وبعد دخول قريش في الإسلام. وهذا سديد صحيح. وقد رجح الرواية التي تقول إنهم البطن الذي لم ينقض من بني بكر حين نقض العهد البطون الأخرى مع قريش فأمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا عليه. وهذا أيضا وجيه. ولكنه لا يمنع أن يكون أناس آخرون في جوار منطقة المسجد الحرام عاهدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فتح مكة فاستقاموا على عهدهم فعنتهم الآية والله أعلم. والرواية التي تقول إن المقصود من الفقرة الأولى من الآية الأولى أي الآية [٧] ثم الآيات الأخرى أي [٨ ـ ١٢] هم المشركون المعاهدون الناقضون لعهدهم محتملة ومتسقة مع فحوى الآيات وروحها. وقد انطوى فيها تبرير لإعلان براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى ثم في الآية الثالثة من السورة وتبرير للأمر الوارد في الآية الخامسة بقتلهم أينما وجدوا بدون هوادة إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وفي الآية [١١] قرينة على ذلك حيث جاءت بصيغة مماثلة للفقرة الأخيرة من الآية الخامسة.

وعبارات التبرير الواردة في الآيات قوية شديدة تدلّ على أن المشركين المعاهدين الذين بدا منهم النقض والغدر والذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم كانوا على درجة شديدة من الحقد على المسلمين وتبييت المكر والشرّ والكيد لهم بحيث كان من المستبعد أن يحترموا العهد احتراما صحيحا. وبحيث انطوى فيها حكمة التنزيل في عدم الكفّ عن مطاردتهم وقتالهم وقتلهم إلّا إذا تابوا نهائيّا عن الشرك وأسلموا.

والأمر بالاستقامة في العهد لمن يستقيم عليه من المشركين دليل كما نبهنا من قبل على أن المقصود من المشركين المعلن براءة الله ورسوله منهم والمأمور بقتالهم هم الناقضون البادي غدرهم. ويلحظ أن العبارة مطلقة بدون توقيت. وهذا مهمّ في بابه كما هو المتبادر.

وجملة (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) بالنسبة لمن يتوبون من المشركين ويقيمون

٣٦٨

الصلاة ويؤتون الزكاة جديرة بالتنويه حيث تلهم روحها معنى خلاص المشركين من تبعة أعمالهم ومواقفهم السابقة. وفي ذلك من التلقين والتشجيع والتسامح وفتح الباب للاندماج في الكيان الإسلامي بيسر. والعفو عما سلف ما هو جدير بالإجلال. وما فيه الدلالة على أن غاية الدعوة الإسلامية هي إنشاء كيان إسلامي قوي قائم على المبادئ القويمة السامية التي قامت عليها الدعوة الإسلامية وتيسير الاندماج فيه لكل امرئ مهما كانت حالته ومواقفه السابقة. وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة. وبخاصة مع الهدف والتلقين المنطويين في آيات التوبة الكثيرة على ما نبهنا عليه في مناسباته. وكلمة (فَإِخْوانُكُمْ) بخاصة تنطوي في مقامها على هدف التحبب والتأنيس لمن ينضوي إلى لواء الإسلام وتؤكد أخوة المنضوين الدينية التي قررتها جملة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] والتي تمثل أقوى الروابط الروحية الإنسانية وأعمقها لأنها رابطة العقيدة والمبدأ التي تسمو على سائر الروابط. ولقد جاء في آية سورة الأنفال (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [٣٨]. ويبدو أن حكمة التنزيل اقتضت أن يكون المعنى هنا أقوى وأروع وأبعد مدى.

وجملة (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) في [الآية : ١٢] قد توهم أنها في صدد معاهدين لم يكونوا نكثوا حينما نزلت الآيات. غير أن فحوى آيات السياق وروحها يلهمان بقوة أنها في صدد موضوع الكلام السابق من المعاهدين. بل إن نظم الآية قد يفيد ذلك حيث عطفت على ما قبلها والضمير فيها راجع إلى الذين هم موضوع الكلام السابق.

وجملة (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) في الآية تجعل الطعن في الدين الإسلامي من أسباب قتال المسلمين للمشركين والكفار ومبرراته. وهذا حقّ لا ريب فيه. لأن الطعن يؤدي إلى الصدّ عنه. وبالتالي إنه عدوان على الدين وأهله وحرية الدعوة إليه.

وجملة (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) قد تكون في صدد جميع المشركين

٣٦٩

بوصفهم أئمة كفر. وقد تكون في معنى التشديد في التحريض على قتال الأشد نكاية منهم في العداء والأذى. وقد يكون سياق الآيات وروحها مما يجعل الرجحان للمعنى الأول. غير أن المعنى الثاني لا يخلو من وجاهة. لأن التنكيل بالكبار والأشد نكاية يحلّ عقدة الباقين الذين هم تبع لهم. ومتأثرون بهم. والحملة على زعماء الكفار قد تكررت في القرآن من أجل ذلك وبسببه. غير أنها لم تقتصر عليهم وإنما شملت الكفار عامة مع التشديد على الزعماء. ويصحّ أن يقال إن مدى الجملة هنا هو من هذا القبيل. والله أعلم.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)) [١٣ ـ ١٦].

(١) وليجة : مرادفة في معناها للدخيلة بمعنى الولي أو البطانة الذي يدخل في خصيصة شأن المرء.

عبارة الآيات واضحة. وفيها :

(١) تحريض وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بصيغة السؤال عما إذا كان يصحّ لهم أن يترددوا ويحجموا عن قتال قوم نكثوا أيمانهم بعد العهد وكانوا من قبل يكيدون للنبي. وتآمروا على إخراجه. كما كانوا هم الذين بدأوهم بالبغي والعدوان. وعما إذا كان يصحّ أن يخشوهم في حين أن الله تعالى وحده هو الأحق بالخشية إن كانوا مؤمنين حقا.

(٢) وتوكيد للتحريض ينطوي على التطمين. فعليهم أن يقاتلوهم. فإنّ الله

٣٧٠

معذبهم بأيديهم ومخزيهم وناصر المسلمين عليهم. وشاف بذلك صدور قوم منهم مغيظة محنقة مما بدا منهم نحوهم. وقد يكون هذا القتال وسيلة لهداية الله من شاء هدايته منهم وتوبته عليهم. وهو العليم بما في صدور الناس وطواياهم. الحكم الذي لا يكون في أوامره وتوجيهاته إلّا الحكمة والصواب.

(٣) وتنبيه بصيغة السؤال موجّه إلى المسلمين أيضا عمّا إذا كانوا يحسبون أنهم قد نالوا رضاء الله واستحقوا وعده لهم وانتهت متاعبهم بما جرى وما تمّ إلى الآن من أحداث في حين أن الله تعالى ما يزال يرى ضرورة لاختبارهم لتمييز المجاهدين المخلصين منهم الذين لم يتخذوا لهم وليا ولا معتمدا ولا بطانة غير الله ورسوله والمؤمنين ولم يجعلوا لغير هؤلاء شركة ودخلا في أنفسهم وقلوبهم.

تعليق على الآية

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ...) والآيات الثلاث التي بعدها

وما فيها من تلقين وما ورد في صدد تأويلها من أقوال

ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات. غير أن الأقوال التي رواها الطبري عن أهل التأويل من التابعين ومنهم السدي ومجاهد في المقصود فيها متعددة. حيث روي عن بعضهم أنها في صدد قريش والحثّ على قتالهم بعد أن نكثوا عهدهم في صلح الحديبية. كما روي عن بعض آخر أنها في صدد قتال الذين أعلنت البراءة منهم بسبب نقضهم وغدرهم وأمهلوا أربعة أشهر.

وصلة الآيات بما قبلها وثيقة حتى كأنها جزء منها واستمرار لها. وهذا يجعل القول إنها في صدد مشركي قريش محلّ تساؤل وتوقف. لأن الآيات نزلت بعد فتح مكة. وقد دخلت قريش في الإسلام وانتهوا من موقف الشرك والعداء. وقد يجعل القول الثاني هو الأوجه غير أن الوصف الذي انطوى في الآية الأولى يثير الحيرة. لأن وصف (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ينطبق لأول وهلة على قريش. ولقد كان من الذين دخلوا في صلح الحديبية إلى جانب

٣٧١

قريش بطون بني بكر لأنهم حلفاء لهم في حين أنه دخل في هذا الصلح إلى جانب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين بنو خزاعة لما كان بينهم وبين بني بكر من عداء. ولقد بقي بعض بطون بني بكر أوفياء لعهدهم حينما نقضه فريق منهم بتشجيع بعض جماعة من قريش على ما ذكرناه آنفا. وكان نقض هذا الفريق سبب زحف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكة. فلعلّ من هذا البعض من بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي. وكانوا من جملة من كان موضوع البراءة. ولقد كانوا في الأصل حلفاء قريش فيمكن أن يكونوا وصفوا بما جاء في الآية على هذا الاعتبار. ولقد روى البغوي عن مجاهد أن جملة (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) قد قصد بها خزاعة حلفاء رسول الله الذين أعانت قريش أعداءهم بني بكر عليهم. وهذه الرواية قد تؤيد ما خمّنّاه من أن يكون الذين بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي هم بعض بني بكر ، في حين ظل بعض آخر أوفياء لعهدهم. وتفيد الرواية كذلك أن بني خزاعة قد اعتنقوا الإسلام فصار يصح عليهم جملة (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) ويمكن أن يكون هذا نتيجة لما كان من تحالف النبي معهم ثم انتصاره لهم وزحفه على مكة. والله أعلم.

وفي الآية الأولى بخاصة توكيد لصواب التوجيهات التي وجهناها في سياق الآيات السابقة إن شاء الله. وهي كون الأمر بالقتال والتحريض عليه إنما كان ضد الناكثين والذين بدأوا المسلمين بالعدوان والأذى والطاعنين في دينهم.

ولقد قال المفسرون إن الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة احتوت إشارة إلى ما علم الله تعالى من دخول أهل مكة في الإسلام. والقول يكون وجيها لو كان نزول الآيات قبل الفتح المكي. وعلى كل حال فإن في الفقرة بشرى للمسلمين وتشجيعا لهم على قتال الناكثين من جهة. وإبقاء لباب التوبة والإسلام مفتوحا أمام المشركين والناكثين من جهة أخرى. وهو ما جرى عليه القرآن في مواضع ومناسبات عديدة سابقة. وفيه ما فيه من روعة وجلال من حيث تركيز كون هداية الناس بهدى الإسلام والرسالة المحمدية هي الهدف الجوهري في كلّ المواقف والمناسبات.

٣٧٢

ولقد روى الطبري عن حذيفة وزيد بن وهب في صدد وصف أئمة الكفر أن أهل هذه الآية لم يقاتلوا بعد. بحيث تفيد الرواية أنهم غير أئمة الكفر في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم جماعة آخرون يظهرون بعد. وروى الطبرسي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآيات يوم البصرة الذي كانت المعركة فيه بينه مع أنصاره من جهة وبين عائشة وطلحة والزبير وأنصارهم من جهة ثم قال أما والله لقد عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليّ قال يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة.

والرواية الأولى غريبة. وغير متسقة مع فحوى الآيات وسياقها حيث إنها تتحدث عن أمور واقعة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أما الرواية الثانية فالهوى الشيعي بارز عليها. وهي من نوع ما يرويه رواة الشيعة ومفسروهم على هامش الآيات القرآنية من روايات كثيرة بسبيل تأييد أهوائهم.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)) [١٧ ـ ٢٢].

(١) يعمروا ، وعمارة : هنا بمعنى الخدمة والصيانة وقيل إنها تعني كذلك كثرة الغشيان للمساجد.

(٢) شاهدين على أنفسهم بالكفر : بعضهم أوّل الجملة بأنهم الذين كانوا يعترفون بشركهم وكفرهم. وبعضهم أولها بأن كفرهم وشركهم بمثابة شهادة

٣٧٣

منهم على أنفسهم. وهذا أوجه فيما هو المتبادر.

(٣) سقاية الحاج : مهمة تدبير الماء للحجاج.

في الآيات :

(١) تقرير بأنه لا يصحّ أن يكون المشركون عمّارا لمساجد الله ومتولين لأمورها في حين أن شركهم شاهد منهم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بالله وحده والمساجد مساجد الله وحده. وبأنهم مهما عملوا من أعمال يظنون أنها خدمة لله فهي حابطة ومصيرهم الخلود في النار.

(٢) وتعقيب تقريري بأن الذين يصحّ أن يكونوا عمّارا لمساجد الله هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة وو يؤتون الزكاة ولا يخافون أحدا غير الله. فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا على هدى من الله وأن يستحقوا رضاءه.

(٣) وسؤال استنكاري موجّه للسامعين والراجح للمسلمين على ما يستلهم من روح الآيات عما إذا كان ـ والحالة هذه ـ يصحّ أن يجعلوا الذين يقومون بمهمة سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من المشركين مثل الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله وفي درجتهم ومنزلتهم ؛ وتقرير بمثابة الإجابة بأن الفريقين لا يمكن أن يكونوا سواء عند الله. وإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم الأعظم درجة عنده. وإنهم هم الفائزون المبشرون برضوانه ورحمته. والخالدون في جناته.

تعليق على الآية

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ...) إلخ

والآيات الخمس التالية لها

وما ورد في صددها من روايات وما انطوى فيها من تلقين وصور

موضوع الآيات فصل جديد ، ولقد روي في مناسبة نزولها روايات عديدة ومختلفة. فقد روى الطبري أن قريشا افتخرت بما تفعله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وقالت لا أحد أفضل منا ، فأنزل الله الآيات ردا عليهم. وروي عن

٣٧٤

النعمان بن بشير أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند منبر رسول الله في يوم جمعة فقال رجل منهم ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلّا أن أسقي الحاج ، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية. وروي أن المسلمين أقبلوا يوم بدر يعيرون الأسرى من المشركين وفيهم العباس عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني (الأسير) فأنزل الله (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية. وروي أنها نزلت في العباس وعليّ وطلحة بن شيبة حيث اجتمع ثلاثتهم فقال الأول : أنا أفضلكم أنا أسقي حجاج بيت الله ، وقال طلحة : أنا أعمر مسجد الله ، وقال عليّ : أنا هاجرت مع رسول الله وأجاهد معه في سبيل الله ، فأنزل الله (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً). وروى الطبرسي أن عليّا قال لعمّه العباس : ألا تهاجر وتلحق برسول الله ، فقال : ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ...).

والآيتان الأولى والثانية تنفيان حقّ المشركين وأهليتهم لعمارة مساجد الله وتقرران كون هذا الحقّ والأهلية هما للذين آمنوا بالله واليوم الآخر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ولم يخشوا إلّا الله ، حيث يلهم هذا أن أصل المفاضلة لم يكن بين مؤمنين فيما بينهم وإنما كان في صدد نفي صلاحية المشركين وحقهم في عمارة مساجد الله التي منها المسجد الحرام. فاحتوت الآية الأولى ردّا على ذلك وقررت الثانية أن المؤمنين هم الأولى به. وهذا يلحظ أيضا في الآيات الأربع التالية للآيتين لأنها تندد بجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في درجة الإيمان بالله والجهاد في سبيله حيث يفيد هذا أن مؤمنين قالوا ذلك وأن المفاضلة ليست بالنسبة لمؤمنين يقومون بالمهمتين ولكنها بالنسبة لمشركين يقومون بهما لأنه ليس من

٣٧٥

محلّ للمفاضلة لو كان هؤلاء من المؤمنين. وهذا يسوغ القول إن الروايات التي تذكر المفاضلة أو المفاخرة بين مؤمنين فيما هو الأفضل لا تنطبق تماما على مدى الآيات. وكذلك الروايات التي تذكر أقوال العباس في بدر أو لعليّ بن أبي طالب لا تنطبق. لأنه ليس فيها نسبة ذلك القول إلى مؤمنين. وهذا فضلا عن أن بعض الروايات يفيد أن الآيات نزلت قبل فتح مكة مع أن السياق جميعه هو بعد هذا الفتح.

ولقد تبادر لنا احتمالات أخرى يمكن أن تنطبق على هذه الآيات أكثر. منها أن يكون وقع جدل بين مؤمنين حول ما إذا كان للذين كانوا يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وهم على شركهم ثواب ومنزلة عند الله على اعتبار أنهم كانوا يخدمون بيته وحجاجه. فسئل رسول الله عن ذلك فنزلت الآيات للردّ والبيان وجاءت الآيتان الأوليان منها كمقدمة عامة الشمول. ومنها أن تكون حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بها لتبرير منع المشركين من دخول المسجد الحرام الذي كان روي أنه كان مما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلان يوم الحج الأكبر ونودي به على ما ذكرناه في سياق شرح الآية الثالثة من السورة. ولعل بعض المؤمنين القرشيين أو غيرهم جادلوا في أمر منع المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام ونوهوا بما كان يقوم به بعضهم من خدمات للمسجد الحرام وللحجاج. أو بما كان يعود على أهل هذا المسجد من الزوار المشركين من فوائد. ولقد أمرت الآية [٢٨] من هذه السورة التي تأتي بعد قليل منع المشركين من دخول المسجد الحرام بأسلوب تشريعي حاسم. وعلّلت ذلك بأنهم رجس. وطمأنت المسلمين بأنهم إذا كانوا يخشون سوء الحالة الاقتصادية والمعاشية بسبب ذلك فإن الله كفيل بإغنائهم عنهم إن شاء حيث تبدو صلة ما بين هذه الآية والآيات التي نحن في صددها وحيث قضت الحكمة الإيحاء بها بسبيل ذلك ولتدعيم ذلك الإعلان الذي أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحج الأكبر. والله أعلم.

وبهذا البيان تبدو الصلة الموضوعية والظرفية واضحة بين هذه الآيات والسياق السابق مهما بدا عليها أنها فصل جديد.

٣٧٦

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [١٨] حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان». وحديثا آخر عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما عمّار المساجد هم أهل الله». والحديث الأول رواه الترمذي أيضا بزيادة في آخره وهي «قال الله تعالى (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)» (١) والحديثان متساوقان في التنويه والتلقين مع الآية الكريمة كما هو واضح.

والآيات في حدّ ذاتها مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير. وما احتوته متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن كثيرا من أن الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله كالهجرة والجهاد بالمال والنفس في سبيله هي التي تستحق رضاء الله وتدل على الإخلاص له. وإن كل خدمة أو عمل مع الشرك بالله حابط عند الله وإنه لا يصحّ مهما عظم في الأذهان والعرف أن يقاس مع الإيمان بالله والإخلاص له والجهاد في سبيله أو يكون في منزلته. وواضح أن هذه التقريرات المتكررة بالأساليب المتنوعة تستهدف فيما تستهدفه تدعيم الدعوة إلى سبيل الله والإخلاص له وحده في كل عمل وقول. والتنويه بمن ينضوي إليها ويخلص فيها ويجاهد في سبيلها وما له عند الله من عظيم المنزلة والأجر.

هذا ، ومع أن ذكر السقاية والعمارة لم يقصد به مدلولهما الخاص فقط وإنما قصد به الجنس وهو خدمة المسجد الحرام وحجاجه كما تلهم روح الآيات فإن في ورود الكلمتين توكيدا وتأييدا لما روته الروايات العربية (٢) من وجود مناصب ومهمات عامة في مكة قبل الإسلام ظلت إلى الفتح الإسلامي. وكان يقوم عليها زعماء البيوتات القرشية الرفيعة. وقد كانت السقاية في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عهدة عمّه العباس بن عبد المطلب والحجابة أو مفتاح البيت في عهدة طلحة بن

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١١٥.

(٢) انظر مروج الذهب للمسعودي ج ١ ص ٣٥٨ وما بعدها وج ٢ ص ١٦٤ وما بعدها وج ٣ ص ٣٦٦ وما بعدها وطبقات ابن سعد ج ١ ص ٤٦ وما بعدها وتاريخ الطبري ج ٢ ص ١٤ وما بعدها ، وتاريخ العرب قبل الإسلام ـ جواد علي ج ٤ ص ١٨٧ وما بعدها.

٣٧٧

عثمان بن شيبة. وقد كان من جملة تلك المناصب والمهام الرفادة واللواء والقيادة والسفارة والديات ورئاسة دار الندوة والأموال المحجرة والأعنة على ما ذكرته تلك الروايات. والسقاية هي تهيئة الماء الصالح للحجاج. والرفادة هي إكرام الحجاج وإطعام المحتاجين منهم. والديات هي جمع ما يترتب على قريش من الديات على ما يقع من بعض أفرادهم من جنايات الدم وفقا للتقاليد القبلية. واللواء هو عقد راية الحرب وتسليمها للقائد. والقيادة هي قيادة الحرب والحملات الحربية. والسفارة هي القيام بالمفاوضات والصلات بين قريش والقبائل الأخرى لحلّ المشاكل التي تقوم بين الطرفين. والأموال المحجرة هي الإشراف على ما كان يوقف وينذر من أموال الكعبة والأصنام. والأعنة هي قيادة الخيل. وقد كان يتألف من أصحاب هذه المناصب مجلس له الكلمة والنفوذ. وكان يتولى أمور مكة العامة وسياستها ومصالحها ويجتمع في دار قرب الكعبة تسمّى دار الندوة.

وتروي الروايات أن هذه الأمور قد رتبت من قبل قصي بن كنانة أحد أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجداد الأسر القرشية التي تلتقي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النسب. ويخمن وجوده قبل الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة حيث نبغ واستطاع أن يبسط حكمه على مكة.

ولقد أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في خطبته عقب فتحه مكة : «ألا إن كلّ مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج» وأنه أبقى مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة وقال له : خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وأبى أن يستجيب لعمّه العباس الذي طلب منه أن يجمع لبني عبد المطلب السدانة والسقاية. واكتفى بإقرار السقاية فيهم» (١).

ولعل اختصاص المهمتين بالذكر في الآيات بسبب ذلك بل ولعلّ هذا هو سبب الجدال حول ثواب ومنزلة من كان يقوم بهما عند الله وهو على شركه. والله أعلم.

__________________

(١) انظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٢ وابن سعد ج ٣ ص ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

٣٧٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)) [٢٣ ـ ٢٤].

(١) اقترفتموها : بمعنى كسبتموها وحزتموها.

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

(١) نهيا للمسلمين عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم أولياء ونصراء إذا فضلوا الكفر على الإيمان. ووصفا لمن يفعل ذلك بالظلم أي بالتمرّد على الله والانحراف عن جادة الحق والبغي على نفسه بالذات لأنه بذلك يعرضها للخطر.

(٢) وإنذارا لكل من يكون أبوه وأخوه وابنه وزوجته وعشيرته وأمواله وتجارته وموطنه المحبب إليه أحبّ إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله. فعلى من يكون كذلك أن ينتظر أمر الله فيه. وإن هذا لفسق ، وإن الله لا يمكن أن يسعد الفاسقين ويرضى عنهم.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ

اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ)

والآية التي بعدها وما فيهما من صور وتلقين ودلالات

لقد روى الطبري عن أهل التأويل من التابعين أن الآيات نزلت في العباس وطلحة بن شيبة حينما أمروا بالهجرة فقالوا نبقى لنقوم بمهمتنا. وأردف الطبري هذا بقوله وكان ذلك قبل الفتح! وروى كذلك عن مجاهد أن جملة (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى

٣٧٩

يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) تعني فتح مكة. وروى البغوي أن الآيات في شأن الذين تخلفوا عن الهجرة بعد الفتح تعلقا بأبنائهم وأزواجهم وأموالهم والذين نزلت فيهم وفي أمثالهم جملة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) في الآية [٧٢] من سورة الأنفال. كما روي أنها في صدد النهي عن موالاة تسعة من المسلمين ارتدّوا ولحقوا بمكة. وروى هذا المفسر عن الحسن أن الجملة المذكورة آنفا هي إنذار بعقوبة عاجلة أو آجلة إطلاقا. وروى الطبرسي أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى أهل مكة ينذرهم بعزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غزوهم. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح وهي لا تنطبق على فحوى الآيات وروحها. وفي الآيات التالية لها دليل قاطع على أنها نزلت بعد فتح مكة لا قبله كما تذكر الروايات أو تقتضيه. لأنها تذكّر المؤمنين بما كان من نصر الله لهم في يوم حنين بعد هزيمتهم على سبيل تدعيم النهي. ويوم حنين إنما كان بعد فتح مكة. ومن العجيب أن لا ينتبه الرواة والمفسرون إلى ذلك.

والصورة التي يمكن أن تنطوي في الآيات هي أنه كان لبعض المؤمنين بعد الفتح المكي أقارب ما زالوا على شركهم ، وكان المؤمنون يتواصلون معهم ويعتبرونهم عصبيتهم. ومن المحتمل أن يكون لبعضهم في المكان الذي هاجروا منه أموال وأراض فكانوا يتطلعون إليها ومنهم من حاول الالتحاق بها. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء من أهل مكة أو من القبائل المجاورة لها أو من القبائل التي لم تكن أسلمت من أطراف المدينة. ومن المحتمل أن تكون الظروف اقتضت أن يسيّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض سراياه عليهم فاعترض أقاربهم المؤمنون أو أظهروا عصبيتهم نحوهم فاقتضت الحكمة إنزال الآيات بالأسلوب القوي الذي جاءت به ليكون زاجرا وحاسما في توطيد الرابطة الدينية والكيان الإسلامي دون أي اعتبار لشيء آخر من صلات وأنساب ومنافع.

والآيات مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير والتلقين مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية. فصحة إيمان المؤمن منوطة بأن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله

٣٨٠