التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

فالتوراة والإنجيل اللذان أوحى بهما الله لموسى وعيسى عليه‌السلام واللذان كانا موجودين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفقودان على ما شرحناه في التعليق على التوراة والإنجيل في سياق تفسير الآية [١٥٨] من سورة الأعراف. وأسفار العهد القديم التي يمكن أن يكون فيها شيء مما بلّغه الله عزوجل لموسى عليه‌السلام أو بلّغه موسى لبني إسرائيل قد دونت بعد موسى بمدة طويلة. وفيها متناقضات كثيرة تدل على طروء تحريف عليها فضلا عن أنه ليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلّغه الله عزوجل لموسى أو بلّغه موسى لبني إسرائيل. والأناجيل المتداولة هي ترجمة حياة عيسى عليه‌السلام وليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلّغه الله عزوجل لعيسى وبلّغه عيسى لبني إسرائيل وغيرهم. ولقد جعل الله القرآن مهيمنا على الكتب السابقة المنسوبة إلى الله عزوجل. ومقتضى هذا من وجهة العقيدة الإسلامية أن كل ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة اليوم من المبادئ والأسس هو الحق على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [٤٨] من سورة المائدة.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا روى الشيخان صيغة مقاربة لأوله مع زيادة مهمة فرأينا أن نورد صيغة الشيخين لما في الزيادة من روعة وتلقين وهذه هي «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم. لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لو لا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا. ولكني لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ...» (١).

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٩١ ـ ٢٩٢.

٥٤١

هذا ، ولقد رأينا المفسر القاسمي يقف عند كلمة (السَّائِحُونَ) ويروي ما قاله بعض العلماء من أنها بمعنى السياحة في الأرض مطلقا وينقل عنهم ما ذكروه من فوائد السياحة المتنوعة حيث يبدو أنهم يرون في الكلمة إيعازا قرآنيا للمسلمين بالسياحة في الأرض واجتناء فوائدها. وشيء من هذا في تفسير رشيد رضا أيضا. ومع أن فيما قالوه من فوائد السياحة وكونها مستحسنة للمسلمين وجاهة ، فإنّ في الاستدلال على ذلك من الكلمة في مقامها تكلفا. ولا سيما أنها تصف المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة إذا ما قاتلوا في سبيله بأوصاف تدخل في نطاق عبادة الله والإنابة إليه. ولم تكن السياحة بمعناها هذا قد تحققت في المسلمين المخاطبين الأولين في الآية. والله تعالى أعلم.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)) [١١٣ ـ ١١٥].

(١) أوّاه : قيل إنها بمعنى الخاشع المتضرّع إلى الله الموقن به. وقيل إنها بمعنى كثير التأوّه والخوف من الله.

تعليق على الآية

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ..)

والآيتين اللتين بعدها

وما فيها من تلقين وما روي في صددها من روايات

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت الأولى والثانية منها تنبيها على أنه لا

٥٤٢

ينبغي للنبي والمسلمين أن يستغفروا للمشركين الذين ماتوا على شركهم وغدت الجحيم مصيرا حتميّا لهم في الآخرة. وبيانا بأن استغفار إبراهيم لأبيه لا يصح أن يكون مثالا مبررا لذلك لأنه إنما استغفر له بناء على وعد وعده به وقبل أن يتيقّن من عدائه لله فلما تيقّن من ذلك تبرأ منه لأنه يخاف الله ولا يفعل ما لا ينبغي. أما الآية الثالثة فقد احتوت تنبيها بأن الله سبحانه اقتضت حكمته أن يبين للناس الذين هداهم بهداه الأعمال التي يجب عليهم أن يتقوها ويتجنبوها ولا يدعهم في عماية وضلال حتى يكونوا على بيّنة وهو العليم بكل شيء ومقتضيات الأمور.

لقد روى الطبري روايات عديدة في سياق نزول الآية. منها رواية أنها في صدد وعد رسول الله لعمّه بالاستغفار له حينما حضرته الوفاة وأصرّ على دين آبائه بتحريض من زعماء قريش الكفار. وهذا الخبر ورد في حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : «لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال رسول الله يا عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب. فلم يزل النبي يعرضها عليه ويعيد الاثنان عليه قولهما حتى كان آخر كلامه هو على ملّة إبراهيم وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآية» (١) ومنها أنه لما قدم النبي على مكة من الفتح وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآية. وروى الطبري صيغة أخرى لهذا الخبر ولا يذكر أن الآية نزلت في هذا الموقف.

وقد روى هذا مسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة بهذه الصيغة «زار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربّي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» (٢).

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٢٠.

(٢) التاج ج ١ ص ٣٤٥.

٥٤٣

ومن الروايات التي يرويها الطبري أن بعض أصحاب رسول الله قالوا له يا نبيّ الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي الذمم أفلا نستغفر لهم. قال بلى. والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله الآيتين الأوليين. فيهما نهي وبيان بسبب استغفار إبراهيم لأبيه وكفّه عن ذلك. ومنها أن شخصا سمع آخر يستغفر لوالديه وهما مشركان فقال له أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان فقال أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ذلك فنزلت الآيتان. وروى الطبري أن الذين استغفروا لآبائهم ظنوا أنهم اقترفوا إثما بعد نزول الآيتين فأنزل الله الآية الثالثة.

وروى البغوي رواية أخرى في صدد نزول الآية الثالثة وهي أن قوما قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلموا ولم تكن الخمر محرّمة ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة ثم قدموا عليه بعد مدة فوجدوا الخمر محرمة والقبلة مصروفة إلى الكعبة فقال يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله الآية الثالثة.

ويلحظ أن المناسبة بعيدة بين وفاة أبي طالب والآيات. وكذلك بينها وبين زيارة النبي لقبر أمه. فضلا عن أن الآيات تشرك المؤمنين مع النبي وليست قاصرة عليه. وهذا ما يجعلنا نتوقف في روايتي أبي طالب وأم النبي ونزول الآيات في صددهما. وحديث أبي طالب الذي يرويه الشيخان عن سعيد بن المسيب والذي فيه أن الآية نزلت في صدد ذلك هو قول شخص وليس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مباشرة. ولا يكون حجة قاطعة على أن الآية نزلت في صدد ذلك. والحديث الذي يذكر أن الآية نزلت في صدد استغفار النبي لأمه ليس من الصحاح. والحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي في ذلك ليس فيه أن الآية نزلت في ذلك.

وقد تكون الرواية التي تذكر أن النبي قال لمن سأله عن صواب الاستغفار للآباء ذوي الأعمال الحسنة بلى ثم قال لأستغفرن لأبي أيضا هي أكثر الروايات اتساقا مع نصّ الآيتين وإن لم ترد في الصحاح. لأن النبي والمؤمنين معا اشتركوا

٥٤٤

فيها. وهذا يقال بالنسبة للرواية التي يرويها البغوي كمناسبة لنزول الآية الثالثة حيث ظن النبي والسائلون أنهم أثموا بالاستغفار لآبائهم بعد نزول الآيتين فنزلت الآية الثالثة بعدهما. والله تعالى أعلم.

ومع أن الآيات الثلاث تبدو كما قلنا فصلا جديدا فإنّ وضعها بعد سلسلة الآيات التي نزلت عقب غزوة تبوك قد يسوغ القول إن الحوادث التي نبهت ونهت عنها الآيات كانت بعد العودة من هذه الغزوة.

والمتبادر أن وصف إبراهيم عليه‌السلام بالأوّاه الحليم هدف إلى التنبيه على أنه لا يمكن أن يفعل شيئا لا يرضاه الله تعالى لأنه شديد الخوف منه وإن ما كان من وعده لأبيه قبل أن يصبح عداؤه لله يقينيا إنما جاء من رأفته وحلمه وإشفاقه ولكن ذلك لم يحل دون تبرئه منه حالما تيقن من ذلك العداء. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى كما هو ظاهر.

ولقد احتوت الآية الثالثة أساسا إيمانيا وتشريعا جليلا. وهو أن الله عزوجل لا يؤاخذ مسلما على عمل لم ينه عنه. وأن كل ما لم يؤمر المسلمون باجتنابه بنصّ قرآني أو نبوي صحيح مما ليس فيه منكر وإثم وفاحشة بينة هو مباح لهم. وهذا متسق مع ما قرره القرآن في مواضع عديدة وأساليب متنوعة نبهنا عليها في مناسبات سابقة. وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصح أن يورد كضابط عظيم في هذا الصدد ونصه «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» (١).

وجملة (ما كانَ لِلنَّبِيِ) قرينة قرآنية أخرى على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد يجتهد في أمر يكون غيره الأولى في غيب الله تعالى فينزل قرآن بالعتاب أو التنبيه أو النهي مع بيان ما هو الأولى. وهذا لا يتناقض مع العصمة الواجب الإيمان بها فيه

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٣٧.

٥٤٥

لأن هذه العصمة هي في صدد تبليغ جميع ما أوحاه الله إليه وعدم مخالفته وعدم اقتراف أي إثم ومعصية على ما شرحناه في المناسبات السابقة.

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)) [١١٦].

عبارة الآية واضحة وقد أفردناها لأن من المحتمل أن تكون معقبة على الآيات السابقة فيكون معناها إيجاب عدم تعلّق المسلمين بذوي قرباهم المشركين واستغفارهم لهم نتيجة لهذا التعلّق لأنهم ليس لأحد منهم نصير ولا ولي غير الله. ومن المحتمل أن تكون مقدمة وتمهيدا للآيات التالية لها التي قررت إعلان توبة الله على النبي والمسلمين فيكون معناها أن الله وحده هو ناصرهم ووليهم. وعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه وحده. وفيها على كل حال توكيد لما تكرر كثيرا في القرآن من إيذان الناس عامة والمؤمنين خاصة أن السموات والأرض تلك لله وحده وأنه ليس لأحد من دونه ولي ولا نصير فهو وحده المرتجى. وبه وحده يتحقق النصر ولا يصح لأحد أن يتعلق بغيره.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)) [١١٧ ـ ١١٨].

(١) وظنوا : الراجح أن الكلمة هنا بمعنى تيقنوا لأن الظن من الأضداد أحيانا ، تعني الشك وتعني اليقين. وفي القرآن أمثلة من هذا الباب مثل ما جاء في آية سورة يوسف [١٠٩] وآية سورة الكهف [٥٤].

٥٤٦

في الآيتين :

١ ـ تطمين رباني بتوبة الله تعالى ورضائه عن النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ظرف عسير شاق حتى كاد يزيغ بعضهم فيه ويتورطون في موقف لا يرضاه الله. فثبتهم وتاب عليهم لأنه رؤوف رحيم بهم.

٢ ـ وتطمين رباني آخر بشمول توبة الله تعالى ورحمته أيضا للثلاثة المتخلفين عن رسول الله الذين استشعروا بخطئهم استشعارا جعل الأرض تضيق بهم على رحبها بل وجعل أنفسهم تضيق عليهم فلجأوا إلى الله ليعفو عنهم لأنهم تيقنوا أن لا ملجأ لهم ولا مفرّ منه إلا إليه فتاب عليهم. وهو التواب الرحيم.

تعليق على الآية

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...)

والآية التالية لها.

وما روي في صددهما من روايات

وما انطوى فيهما من صور وتلقين

الآيتان تبدوان فصلا جديدا مع اتصالهما بموضوع غزوة تبوك. وفحواهما يلهم أنهما نزلتا بعد عودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين من تبوك وهو ما تفيده الروايات المروية في صددهما. والمتبادر أنهما نزلتا بعد الفصل السابق الذي رجحنا أنه نزل بعد العودة من تبوك فوضعتا بعده.

ولم يرو المفسرون حادثا معينا في صدد نزول الآية الأولى وإنما رووا وصفا لظروف غزوة تبوك وما كان فيها من شدة كادت قلوب فريق من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزيغ منها على حدّ التعبير القرآني. والمتبادر أن توبة الله المعلنة في هذه الآية هي متصلة بذلك (١). ووصف القرآن لها بيوم العسرة مؤيد لذلك حيث كانت عسرة من شدة الحرّ وعسرة من قلة الظهر والزاد والماء حتى كان الثلاثة والأربعة

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

٥٤٧

بل والعشرة منهم يتناوبون على بعير واحد. وحتى وصل العطش بهم أحيانا إلى نحر الإبل واعتصار كروشها. وحتى وصلت قلة الطعام مع بعضهم إلى الاكتفاء أحيانا بالتمرات القليلة في اليوم بل إلى المناوبة في لوك التمرة الواحدة. وقد برّح ببعضهم التعب حتى كان بعضهم يتخلف عن الركب فيخبرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به فيقول دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه. وكان من المتخلفين ثم اللاحقين أبو ذرّ رضي الله عنه. وتخلّف من المخلصين بضعة نفر أحدهم أبو خيثمة الأنصاري الذي ندم بعد رحيل الجيش والتحق به في خبر شائق يرويه ابن هشام حيث قال (١) إنه جاء أهله في يوم حار فوجد زوجتيه في عريشين لهما في حائطه ـ بستانه ـ كل منهما قد رشت عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الضح ـ في الشمس ـ والريح والحرّ وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم. ما هذا بالنصف. ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهيئا لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل تبوك. ولقي في طريقه واحدا مثله خرج للالتحاق برسول الله وهو عمير بن وهب الجمحي فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير : إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله قبلك ففعل حتى إذا دنا من رسول الله قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كن أبا خيثمة» فقالوا : يا رسول الله هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلّم على رسول الله وأخبره فدعا له بخير. وقد أورد ابن هشام أبياتا منسوبة إليه جاء فيها :

لما رأيت الناس في الدين نافقوا

أتيت التي كانت أعفّ وأكرما

وبايعت باليمنى يدي لمحمّد

فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما

تركت خضيبا في العريش وصرمة

صفايا كراما بسرها قد تحمّما

__________________

(١) انظر ابن هشام ج ٤ ص ١٧٤ ـ ١٨٦.

٥٤٨

وكنت إذا شكّ المنافق أسمحت

إلى الدين نفسي شطره حيث يمّما

ومما يلفت النظر اختصاص المهاجرين والأنصار بالذكر في الآية الأولى في حين أن الروايات تذكر أن من القبائل البدوية من اشترك في الحملة إلى جانبهم. ومما يؤيده ذكر حادث اعتذار بعض الأعراب ذوي القدرة والثروة في الآية [٩٠] وبعدها.

ويتبادر لنا أن هذا هو بسبب كون هذه الطبقة هي التي كانت العمود الحقيقي القوي الذي قامت عليه الدعوة والمجتمع الإسلامي في عهد النبي وعقب وفاته. والتي كانت تسارع إلى تأييد رسول الله والاستجابة إليه قلبا وقالبا في كل ظرف وبخاصة في الملمات فيقتدي بها سائر الناس. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اختصتهم بالذكر استعظاما لما حكته الآية عن بعضهم (كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) لأنه لم يكن يصحّ أن يصدر مثل هذا من أي فرد من هذه الطبقة. أما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم وشموله بالتوبة فقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس وغيره أن ذلك إما بسبب موقف التساهل الذي وقفه من المستأذنين بالتخلف والإذن لهم مما حكته بعض الآيات وإما بقصد تشريف المهاجرين والأنصار وتطمينهم. وكلا القولين وجيه وإن كنا نرجح الثاني. لأن موضوع الإذن قد ذكر في آية بأسلوب تحببي عتابي مع ذكر عفو الله عنه وهي الآية [٤٣] فلم يبق محل لتوبة أخرى والله أعلم.

أما الآية الثانية فهي في حق ثلاثة من المخلصين تكاسلوا وتخلفوا في المدينة بدون عذر ، وقد روى المفسرون خبرهم ، وقد روى خبرهم الشيخان والترمذي في سياق تفسير الآية في حديث طويل عن كعب بن مالك أحد الثلاثة رأينا إيراده لما فيه من فوائد وصور رائعة عن أخلاق أصحاب رسول الله (١). قال : «لم أتخلّف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة غزاها قط إلّا في غزوة تبوك. غير أني قد تخلّفت في غزوة بدر ولم يعاتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا تخلّف عنه إنما خرج النبيّ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٢٢ ـ ١٢٨.

٥٤٩

ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. وكان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها النبيّ في حرّ شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عددا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ. فقلّ رجل يريد أن يتغيب يظنّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله. وكانت تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر. فتجّهز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمرّ بالناس الجدّ فأصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاديا والمسلمون معه. ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم ويا ليتني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلّا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا. فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيّضا يزول به السراب فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. فلما بلغني أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد توجّه قافلا من تبوك حضرني بثّي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي. فلمّا قيل لي إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أظلّ قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه وصبّح رسول الله قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاء المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له

٥٥٠

وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلّمت تبسّم تبسّم المغضب ثم قال تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلّفك. ألم تكن قد ابتعت ظهرك قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا. ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ. ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله. والله ما كان لي عذر والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك قال رسول الله أمّا هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى النبيّ بما اعتذر به إليه المخلّفون ، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لك قال : فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكذّب نفسي ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي من أحد. قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك ، قلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي في الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلّمني أحد وآتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرّك شفتيه بردّ السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفتّ نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليّ فسلمت عليه فو الله ما ردّ علي فقلت له يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحبّ الله ورسوله فسكت ، فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته فقال

٥٥١

الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وعدت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيّ من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدلّ على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع لي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه : أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرتها بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن النبيّ يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها فلا تقربنّها. وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال فجاءت امرأة هلال بن أمية ـ أحد الثلاثة ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه. قال لا ولكن لا يقربنّك. فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه ، فقلت لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ما يقول لي إذا استأذنته فيها وأنا رجل شابّ. قال فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منّا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج فآذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبيّ مبشرون وركض رجل إليّ فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشّرني فنزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥٥٢

جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره فكنت لا أنساها له. فلما سلمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبرق وجهه من السرور قال : أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك. فقلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال لا بل من عند الله. وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سرّ استنار وجهه كأنّ وجهه قطعة قمر وكنّا نعرف ذلك. فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ، فقال أمسك بعض مالك فهو خير لك. فقلت إني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلّا صدقا ما بقيت. قال فو الله ما علمت أن أحدا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به. والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال فأنزل الله عزوجل : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨))(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)). قال كعب : والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألّا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. فإنّ الله أنزل الوحي فيهم بشرّ ما قال لأحد قال : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)). وفي رواية البخاري خاصة زيادة وهي «فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال عليّ الأمر وما من شيء أهمّ إليّ من أن أموت فلا يصلّي عليّ النبي أو يموت النبيّ فأكون من الناس بتلك

٥٥٣

المنزلة فلا يكلّمني أحد منهم ولا يصلّي عليّ. فأنزل الله توبتنا على نبيّه حين بقي الثلث الآخر من الليل وهو عند أم سلمة وكانت محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله يا أمّ سلمة تيب على كعب قالت أفلا أرسل إليه فأبشّره. قال إذا يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليلة حتى إذا صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا. وكان إذا استبشر استنار وجهه كأنه قطعة من القمر».

والآية الثانية تلهم بقوة أن الذين تخلّفوا بغير عذر صحيح من المخلصين هم ثلاثة فقط. ويدلّ هذا على أن جميع القادرين من هؤلاء قد اشتركوا في الحملة. وقد اشترك فيها نساء أيضا على ما ذكرته الروايات كما اشترك فيها المخلصون من القبائل البدوية. وعدد المتخلفين من المنافقين في المدينة كان نحو ثمانين شخصا على ما جاء في الحديث الطويل الصحيح الذي أوردناه آنفا المروي عن كعب بن مالك. وأسلوب الآيات [٩٠ ـ ٩٢] التي تندد بالمعتذرين من الأعراب يدل على أن عددهم كان قليلا أيضا. وفي كل هذا دلائل على ما كان من خطورة الحملة ومن صحة العدد العظيم الذي روى اجتماعه فيها. ولا سيما إذا لحظنا أن المدينة بعد فتح مكة أخذت تكتظّ بالوافدين إليها من كل صوب.

والصورة التي رسمتها الآية الثانية عن المتخلفين الثلاثة قوية البروز تدلّ على ما كان من شدة أثر الموقف المتجهم الذي وقفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون منهم في نفوسهم. وهو ما زاده الحديث المروي عن كعب بيانا وقوة. وحكمة ذلك واضحة. فالتقصير في الواجب ولا سيما إذا كان من المخلص خطير شديد الأثر من حيث احتمال تذرع غير المخلص به واحتمال عدواه للمخلص في الوقت نفسه. وفي هذا تلقين مستمر المدى فيما يجب على المسلمين أن يقفوه من موقف الحزم والشدة مع الذين يشذون عن المجموع ويقصرون في واجباتهم. وبخاصة في واجب الجهاد والنضال حتى ولو لم يكونوا متهمين في إيمانهم وإخلاصهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)) [١١٩].

٥٥٤

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

وما فيها من تلقين

عبارة الآية واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وقد روى المفسرون عن أهل التأويل مثل نافع والضحاك وسعيد بن جبير أن المقصود بالصادقين في الآية هم الذين صدقوا في الاعتراف بذنبهم ولم يعتذروا بأعذار كاذبة ممن تخلفوا عن غزوة تبوك. كما رووا أنهم محمد وأصحابه الخلّص أو أبو بكر وعمر وأمثالهما. ونرى القول الثاني هو الأوجه وهو مستلهم من فحوى الآية. فالخطاب فيها موجّه للمؤمنين على سبيل حثّهم على مراقبة الله وتقواه وعلى أن يكونوا مع السابقين الأولين من أصحاب رسول الله الذين كانوا صادقين في القول والعمل والجهاد والطاعة لله ورسوله. وهذا يسوغ القول إن الآية جاءت معقبة على الآيتين السابقتين اللتين أشير فيهما إلى ما كان من تخلّف بعض المخلصين وإلى ما كاد أن يقع فيه بعض الأنصار والمهاجرين من زيغان القلب بسبب عسرة ظروف غزوة تبوك لتهيب في هذه المناسبة بجمهور المؤمنين بتقوى الله والاقتداء بأصحاب رسول الله السابقين الصادقين ويسلكوا مسلكهم. وتسوغ القول أيضا بأن هذه الطبقة من أصحاب رسول الله لم يكونوا من المعنيين بجملة (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) في الآية [١١٧].

وإطلاق الخطاب في الآية يجعلها مستمرة التلقين بوجوب اتخاذ المخلصين في الإيمان والجهاد والإقدام والتضحية والصدق في القول والعمل قدوة وأسوة وإماما في كل ظرف ومكان.

ولقد روى الطبري والبغوي أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأها (كونوا من الصّادقين) ويقول : «إن الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه له ، اقرأوا ، إن شئتم (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا

٥٥٥

من الصادقين) ومع ما في هذا من وجاهة وتلقين فإن الجمهور على أن المعني بالصادقين هم أصحاب رسول الله السابقون.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)) [١٢٠ ـ ١٢١].

عبارة الآيتين واضحة وفيهما :

١ ـ تنبيه إلى أنه ما كان يصحّ ولا ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله حينما يخرج إلى الجهاد. ولا أن يفضلوا أنفسهم عن نفسه ويضنوا بها عن التعرض لما يمكن أن يتعرض له من الأخطار والمشاق.

٢ ـ وتنبيه آخر فيه بشرى بما للذين يشتركون في حملات الجهاد في سبيل الله من عظيم الأجر والمنزلة مهما كان نصيبهم فيها : فإنهم لا يصيبهم في هذا السبيل ظمأ ولا نصب ولا جوع ولا يقفون موقفا يغيظ الكفار ولو لم يقع الحرب بينهم. ولا ينالون من أعدائهم نيلا ما ولا ينالهم من عدوّهم نيل ما. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة. ولا يقطعون واديا أو يسيرون مسيرة إلّا كتب الله لهم به عملا صالحا وجازاهم عليه بما هو أحسن منه. ولا يضيع عند الله أجر المحسنين قط.

٥٥٦

تعليق على الآية

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ..)

والآية التالية لها وما فيهما من تلقين

لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين كذلك. والمتبادر أنهما معقبتان أيضا على الآيات السابقة وعلى سبيل الحثّ والتنبيه والتحذير بمناسبة ما ورد في الآيات السابقة من خبر تخلّف المتخلّفين واعتذار المعتذرين من أهل المدينة والأعراب. وهما والحالة هذه متصلتان بالسياق. والراجح أنهما نزلتا بعد الآيات السابقة لهما فوضعتا مكانهما للتناسب الزمني والموضوعي.

وقد قلنا في شرح الفقرة الأولى من الآية الأولى : ما كان ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب أنها في معنى أنه ما كان يصحّ ولا ينبغي لأحد ما أن يتخلّف عن رسول الله حين يدعو إلى الجهاد أو أن يفضل لنفسه العافية دونه ، لأن روح الفقرة قصدت ذلك كما يتبادر منها ولأن الوقائع اليقينية ذكرت أن الجمهور الأعظم من أهل المدينة وكثيرا من أعرابها لم يتخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واختصاص أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بالذكر قد يكون هدف إلى التنبيه على أن واجب هؤلاء في عدم التخلف هو ألزم وأشدّ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ظهرانيهم ولأنه إذا كان للبعيدين ما يمكن أن يكون عذر ما يسبب بعدهم وغيابهم وظروفهم فهذا ليس واردا بالنسبة للقريبين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتصلين به مباشرة. ولا سيما أن الدعوة تصل إليهم بيسر. ويفرض أن يكونوا ملمّين بالظروف والبواعث. والنبي عمود الدعوة والقريبون إليه هم أولى الناس بالالتفاف حوله. وهذا الاختصاص بهذا البيان لا يعني كما هو المتبادر تخفيف واجب المسلمين البعيدين.

ومع خصوصية الآيتين الزمنية فإنها ، فيما عدا ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، محكمة الأمر عامة التوجيه مستمرة التلقين فيما هو المتبادر. فجمهور المسلمين مدعو إلى التضامن مع أولياء أمره ودعاته المخلصين في الجهاد في سبيل الله في كلّ مناسبة ملزمة. وواجب القريبين لمجالات الجهاد وظروفه وأسبابه واجب ألزم لا يصح فيه

٥٥٧

تكاسل ولا تثاقل. وكل ما يقوم به المسلمون في سبيل هذا الواجب مهما كان شأنه بدنيا أو ماليا أو استعدادا أو مرابطة هو داخل في مشمول هذا الواجب ومستحق لأجر الله الموعود.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)) [١٢٢].

(١) فلو لا : هنا في معنى الحضّ أو الاستدراك.

(٢) طائفة : هنا بمعنى جماعة قليلة من جماعة أكثر.

في الآية :

تقرير تنبيهي بأنه ليس من الضروري أن ينفر جميع المؤمنين إلى الجهاد وأنه يكفي أن ينفر من كل فريق منهم قسم. وأن من شأن ذلك أن يتيح لبعضهم التفقّه في الدين وإنذار قومهم حينما يعودون إليهم حتى يحذروا مما يجب الحذر منه.

تعليق على الآية

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ...)

وما ينطوي فيها من صور وتلقين

ولقد تعددت الروايات التي يرويها الطبري وغيره (١) في سبب نزول هذه الآية. منها أنه لما نزلت الآيات السابقة في التنديد بالمتخلّفين قال الناس هلك المتخلّفون بعد الآن فصاروا إذا دعا النبي إلى الجهاد يسارعون إلى النفرة بقضّهم وقضيضهم ولو لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخارجين إلى الغزوة ولو لم تكن الحاجة ماسة. ومنها أن من قبائل البدو التي أسلمت من أخذ ينتقل إلى المدينة بقضّه وقضيضه ويقيم فيها أو حولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له وحجة

__________________

(١) انظر البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي أيضا.

٥٥٨

مصاحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستماع منه والتفقّه بالدين. وكان هذا مما يضيق على أهل المدينة. ومنها أن فريقا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا إلى البادية وأصابوا خيرا فأقاموا ثم أخذوا يدعون الناس إلى الإسلام فقيل عنهم إنهم تركوا صاحبهم فوجدوا في أنفسهم وعادوا جميعا فنزلت فيهم بعذرهم وإيذانهم بكفاية وجود جماعة من كل فريق منهم عند النبي ليتعلموا منه ويعلّموا قومهم إذا رجعوا إليهم. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة.

والرواية الثالثة لا تتسق مع مفهوم الآية ولا مع روحها وسياقها كما هو المتبادر من حيث إن الآية في صدد جميع المؤمنين أو غالبيتهم العظمى على الأقل. والرواية الثانية ليست بعيدة الاحتمال. فإن المدينة بعد فتح مكة أخذت تعجّ بوفود قبائل العرب. وتدخل في دين الله أفواجا. فلا يبعد أن يكون منهم من حاول الإقامة في المدينة وحولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له ومصاحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتفقّه بالدين فسبّب هذا ضيقا على أهل المدينة.

وقد صوب الطبري الرواية الأولى. وقد يكون التصويب في محلّه مع شيء من التعديل تقتضيه الوقائع المعروفة. فلم يرو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا بنفسه غزوة ما بعد تبوك. كما أنه لم يرو خبر سرايا عديدة سيّرها إلا ما كان من خبر سرية سيّرها إلى اليمن بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وإعداد جيش إلى البلقاء بقيادة أسامة بن زيد. ويتبادر لنا أن المسلمين خارج المدينة قد فزعوا وتحسبوا من عواقب الآيات السابقة فصاروا يقبلون على المدينة للاشتراك في الجهاد ومصاحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستماع له والتفقه بالدين. وكان في ذلك حرج عليهم وعلى أهل المدينة معا فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية على سبيل التخفيف والتطمين والتعليم. وعلى كل حال فالآية متصلة بالآيات السابقة موضوعا وسياقا مع رجحان نزولها لحدتها بعدها من حيث إنها مترتبة عليها. والله أعلم.

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره في المقصود بالجملة الثانية من الآية. منها أنهم الذين ينفرون إلى الجهاد حيث يعاينون نصر الله لأهل

٥٥٩

دينه فيكون ذلك لهم فقه في الدين ويرون مكائد الأعداء فيكون ذلك موضوع إنذار وتحذير لقومهم حين رجوعهم إليهم. ومنها أنهم الذين يبقون حول رسول الله حيث يتفقهون بما يسمعون منه من قرآن وحكم وينذرون بذلك قوم الذين نفروا إلى الجهاد حين رجوعهم.

ويتبادر لنا على ضوء الشرح المعدل الذي نقدم والذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن الجملة عائدة للطوائف التي أذن لها أن تنفر من كل فرقة وتفد إلى المدينة لتكون مع رسول الله مقيما أو مجاهدا فتتفقه بما تسمعه من قرآن وحكم وتنذر قومها بما تعلمته حين تعود إليهم والله أعلم.

والآية في حدّ ذاتها وبإطلاق عبارتها شاملة التعليم والتلقين لجميع المسلمين في مختلف ظروفهم. وفيها تعليم أسلوب من أساليب الاشتراك في الجهاد أو السعي للتفقه في الدين والوقوف على مقتضيات الأمور ـ حسب احتمال مضمون الآية ـ حيث أوجبت اشتراك جميع الفئات ، دون اشتراك جميع الأفراد. ولعلّ فيها إلهاما بالمناوبة في الاشتراك بين أفراد كل فئة فلا يتعطل الجهاد والسعي للتفقه ولا تتعطل مصالح الناس معا. وقد اعتبر بعضهم الآية مستندا لوصف فرض الجهاد بأنه فرض كفاية إذا قام به فريق سقط عن الباقين (١). وقد يكون هذا في محله إذا كان قيام فريق من المسلمين كافيا للحاجة وسادّا لها. أما في حالة الضرورة فإن هذا الفرض يكون فرض عين على كل قادر. وقد كتب على المؤمنين جميعا على ما انطوى في الآية [٢١٦] من سورة البقرة. فإذا لم يقم به حينما تدعو دواعيه من الفئات ما يسدّ الحاجة أثم القاعدون.

ولقد أورد البغوي وهو إمام محدث أيضا بعض الأحاديث النبوية في سياق تفسير هذه الآية وفي صدد ما احتوته من التفقه بالدين رأينا من المفيد نقلها عنه لأن فيها تعليما وتوجيها نبويين عظيمين في هذا الصدد لكل المسلمين في كل ظرف. منها حديث عن ابن عباس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يرد الله به خيرا يفقّهه في

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير القاسمي عزوا للسيوطي.

٥٦٠