التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

وصف مريم بالصديقة في آية سورة المائدة [٧٥] وجاءت كلمة الصديقين في آية سورة النساء هذه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [٦٩]. وقد تكون الكلمة تعني طبقة استغرقت في طاعة الله فصارت ذات حظوة عنده بعد النبيّين. ومع ذلك فمجيئها بعد جملة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) تعني أن المخلصين من هؤلاء هم الصديقون.

(٣) الشهداء : هناك من قال إن الكلمة عنت الذين قتلوا في سبيل الله. وهناك من قال إنها عنت الأنبياء والملائكة الذين يشهدون على الناس يوم القيامة. وهناك من قرأ : (الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ) كجملة واحدة وقال إنها تفيد أن كل مؤمن مخلص صديق شهيد. وهناك من قال إن كلّا منهما تعني فئة غير الأخرى وقد رجح الطبري هذا ، وترجيحه وجيه. ونرجح إلى هذا أنها عنت الذين قتلوا في سبيل الله.

تعليق على الآية

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ ...) إلخ

والآية التي بعدها

عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا تنويها بالمتصدقين والمتصدقات الذين يبذلون أموالهم في سبيل الله ويقرضونه قرضا حسنا ووعدا بالأجر المضاعف الكريم لهم عند الله. ثم تنويها بالذين آمنوا بالله ورسوله حيث يستحقون بذلك اسم (الصديقين) وبالشهداء في سبيله الذين لهم الأجر والنور عند الله في حين تكون الجحيم عقابا ومصيرا للكافرين المكذبين.

ولا يروي المفسرون رواية في نزولها فيما اطلعنا عليه. وقد رأينا البغوي يروي عن الضحاك أحد علماء التابعين أن الآية الأولى عنت ثمانية نفر من الأمة سبقوا أهل الأرض في الإسلام وهم أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وإن لهم تاسعا ألحقه الله بهم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا.

٣٢١

ومع الاحترام العظيم للتسعة فإنه يلحظ أن هناك عددا غير يسير من الرجال والنساء قد أسلموا وصدقوا وتعرضوا للأذى قبل حمزة وعمر. منهم خديجة أم المؤمنين وعبد الرحمن بن عوف وفاطمة بنت الخطاب وعبد الله بن مسعود وخباب وعمّار وأبو سلمة وزوجته وأبو عبيدة وغيرهم وغيرهم. والآيات إلى هذا منسجمة مع بعضها وبسبيل التنويه والبشرى للفئات الثلاث مع الإنذار للكافرين والمكذبين بصورة عامة. ومثل هذا التخصيص لا يؤخذ به إلا عن رسول الله وليس هناك حديث وثيق بذلك.

والآيتان على كل حال تنطويان على صور رائعة لفريق من الرجال والنساء السابقين إلى الإيمان بالله ورسوله الذين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا في سبيل الله بإخلاص وفناء واستغراق. ولعل حكمة التنزيل استهدفت بهما الاستدراك على ما تضمنته الآيات السابقة من صور غير مستحبة لفريق من المسلمين استحقوا ذلك الهتاف والعتاب على ما شرحناه آنفا لتقرر أن هناك فريقا من المسلمين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا وأخلصوا وفنوا في سبيل الله ودينه وطاعة رسوله.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)) [٢٠ ـ ٢١].

(١) الكفار : هنا بمعنى الزراع. ومن معاني كفر الأصلية ستر وغطى. والزارع يستر بذاره ويغطيه.

(٢) حطاما : مكسرا مهشما من اليبس بعد الاصفرار.

٣٢٢

عبارة الآيتين واضحة كذلك. وقد تضمنتا :

(١) وصفا تقريريا للحياة الدنيا بالنسبة للبشر بكونها لعبا ولهوا وزينة وموضوع تفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد.

(٢) تمثل ذلك في حقيقته ونهايته كالماء الذي ينزل إلى الأرض فينبت به نبات رائع يسرّ به الزراع ثم يتعاظم ولكنه لا يلبث أن يصفرّ ويغدو حطاما مهشّما.

(٣) وتقريرا تنبيهيّا آخر ينطوي على الأمر الجد وهو أمر الآخرة حيث يلقى الناس فيها مصائرهم إما عذابا شديدا وإما غفرانا من الله ورضوانا وحينئذ يدركون أن الحياة الدنيا لم تكن إلا متاعا قصيرا لأمد ، خداع المظهر.

(٤) ودعوة تعقيبية على ذلك التقرير موجهة إلى المخاطبين بأن يسارعوا ـ والحالة هذه ـ إلى اصطناع الأسباب إلى غفران الله ورضوانه وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض قد هيئت للذين يؤمنون بالله ورسله. وهذا من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

تعليق على الآية

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...) إلخ

والآية التالية لها وما فيهما من تلقين

لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان أيضا بالآيات السابقة سياقا وهدفا وأن المخاطبين فيهما هم المسلمون. وظاهر من فحواهما وروحهما أنهما بسبيل الموعظة والحثّ على التسابق إلى نيل رضاء الله عزوجل بالبذل والإخلاص. والكفّ عن التقصير والتردد اللذين ندد بهما في الآيات السابقة.

ومع ما يلحظ من صلة الآيتين بالموقف الراهن في العهد النبوي حين نزولهما فإن إطلاق العبارة والنداء فيهما يجعلهما خطابا مستمر المدى لكل الناس ولكل المسلمين بخاصة في كل ظرف ومكان ليكون لهم بما فيهما من عظة وحث

٣٢٣

وإيجاب للكف عن التقصير والتردد في الإخلاص والبذل والاستغراق في دين الله والطاعة لله ولرسوله ، أكثر وأشد من الاستغراق في متع الحياة وزينتها والتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد.

ولقد تكرر تمثيل الحياة الدنيا بهذا الأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى في مواضع سابقة. وجاء هنا في معرض التنديد بالمقصرين والمترددين في الإخلاص والبذل كما جاء في المواضع السابقة في معرض الدعوة إلى الله وعدم التصامم عنها ركونا إلى ما يتمتع به المدعوون من جاء ومال وقوة دنيوية. ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة إن الآيات ليست في صدد التزهيد في الدنيا وطيباتها والكسب والمال والولد. وكل ما في الأمر أن فيها تنبيها على عدم ميل المرء إلى الدنيا وجعل أعراضها أكبر همّه وقصارى آماله. وعلى عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله ونحو الناس. ويجعله يغفل عن الآخرة وحسابها وهي دار الخلود في حين أن أمد الحياة الدنيا قصير جدا بالنسبة لكل إنسان يعيش فيها. والأسلوب بهذا البيان علاج روحاني شاف يفيد الإنسان في جميع ظروفه وبخاصة حينما تطغى المادة على الروح وتغطي أغراض الدنيا الغرارة مثل الإنسانية العليا وتقسي القلوب وتنزع منها خشية الله تعالى.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)) [٢٢ ـ ٢٤].

(١) من قبل أن نبرأها : من قبل أن نخلقها. ومن المؤولين من جعل الضمير عائدا إلى النفس والأرض ومنهم من جعله عائدا إلى المصيبة. وضمير المفرد قد يجعل عودته إلى المصيبة أوجه.

٣٢٤

(٢) لكيلا تأسوا : لكيلا تحزنوا.

في الآيات :

(١) تقرير وجه الخطاب فيه إلى مخاطبين قريبين بأن كل ما يقع على الأرض وما يصيب نفوس الناس من مصيبة هو في كتاب عند الله مكتوب قبل وقوعها.

وهذا من الأمور اليسيرة على الله عزوجل المتسقة مع شمول قدرته وعلمه.

(٢) وتقرير آخر بأن الله تعالى يبين لهم هذه الحقيقة حتى لا يداخلهم الحزن والأسى مما يفوتهم من خيرات ولا يبطرهم الفرح بما ينالونه من خيرات. مع التنبيه إلى أن الله تعالى لا يحب المتكبرين المتفاخرين المزهوين بما قد يحرزونه من خير ثم يبخلون عن البذل ويحرضون غيرهم على احتذاء حذوهم وبأنه غني عن الذين يعرضون عن استجابة أوامره. حميد شاكر لمن يستجيب إليها.

تعليق على الآية

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ..)

والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين

ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وتعقيبا. وأن الخطاب فيها موجّه بدوره إلى المسلمين موضوع الخطاب السابق. وهي بنوع خاص على ما تلهمه روحها بسبيل تقرير كون ما يحرزه الناس من خير وسعة رزق هو من فضل الله تعالى وليس لهم فضل فيه يبرر لهم الاغترار والتبجح والزهو والبخل به عن المحتاجين وسبيل الله. وكونهم غير قادرين على منع ضياعه وتلفه فلا موجب للبخل فيه والتقصير في واجب شكر الله عليه. وقد تلمح من هنا صلة قوية بين أهداف هذه الآيات والآيات التي ندد فيها قبل ببعض الصور غير المستحبة وبخاصة الضنّ بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله. في حين أن المال الذي في أيدي الناس هو مال الله جعلهم مستخلفين فيه وحسب.

٣٢٥

وروح الآيات وفحواها يلهمان أن المصيبة المذكورة فيها هي من نوع ما ليس في مقدور الناس جلبه أو دفعه. ومعظم المفسرين أداروا الكلام عليها في هذا النطاق بحيث يصح القول إنها لا صلة لها بما يصدر من الناس من أعمال يثابون ويعاقبون عليها في الدنيا والآخرة.

ويلمح في الآيات صفات أخرى من صفات المنافقين المرتابين المترددين المتربصين الذين كانوا موضوع الحملة والتنديد في الآيات السابقة أريد التنويه بها والتحذير منها وهي الاختيال على الناس والكبر والغرور بما حازوه ، والبخل به وأمر الناس بالبخل. وهذا يفعله البخلاء في الغالب لتبرير بخلهم.

وواضح أن في الآيات تلقينات مستمرة المدى تمدّ المسلم في كل ظرف بالثقة بالله والتسليم له والصبر على ما يصيبه من بلاء وعدم الجزع والأسى والشكر على ما يناله من خير وعدم الزهو والبطر والغرور به وعدم الخوف من عواقب البذل في سبيل الله ومساعدة المحتاجين وعدم الارتكاس في رذيلة الحضّ على البخل ومنع الخير عن الغير في أي حال.

وقد تكررت الآيات القرآنية التي احتوت هذه التلقينات في القرآن المكي والقرآن المدني معا حيث يبدو من ذلك التساوق في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها وإسلام النفس إلى الله في كل حال وظرف. واستهداف تربية المسلم والتسامي به إلى أوج الكمال النفساني والأخلاقي.

وقد أورد المفسرون أحاديث نبوية في سياق هذه الآيات بالتنديد بالبخل والاختيال والكبر والتفاخر. ولقد أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق سور الليل ولقمان والإسراء والنساء (١) التي ورد فيها التنديد بهذه الأخلاق البغيضة ونبهنا على ما فيها من تساوق مع التلقين القرآني فنكتفي بهذه الإشارة.

هذا ، ولما كانت الآيات قد جاءت بسبيل التسكين والتحذير في ظروف

__________________

(١) انظر تفسير آيات الليل [٨] ولقمان [١٨ و ١٩] والإسراء [٣٧] والنساء [٢٦ و ٢٧].

٣٢٦

خاصة على ما شرحناه استلهاما من فحواها وسياقها فنرى الأولى أن يوقف عند ذلك دون توسع في موضوع قدر الله وكون ما يصيب الناس من مصائب هي مقدرة عليهم حتما. لأن هذا ليس من مقاصد الآيات في مقامها وسياقها. وكل ما فيها هو تقرير كون ذلك بعلم الله الأزلي الذي عبّر عنه في الآية بكلمة (كِتابٍ) والله أعلم.

وننبّه على أن المفسرين والمؤولين الذين يروي المفسرون أقوالهم قالوا إن كلمة (كِتابٍ) هنا عنت اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سوف يحدث في كون الله وخلقه. ولقد قالوا مثل هذا في سياق آيات أخرى وردت فيها كلمة (كِتابٍ) بالمعنى الذي وردت فيه هنا. مثل آيات سورة الأنعام [٥٩] وهود [٦] والرعد [٢٩] والحج [٧٠] وفاطر [١١]. ولقد علقنا على تعبير اللوح المحفوظ في سياق تفسير سورة البروج التي ورد فيها لأول مرة كما علقنا على ما قالوه في سياق الآيات المذكورة آنفا. فنكتفي بهذه الإشارة دون التكرار.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)) [٢٥].

في الآية تقرير رباني : بأن الله قد أرسل رسله للناس بالحجج والبينات. وأنزل عليهم الكتب التي احتوت ما يجب أن يقوم به الناس لتوطيد الحق والعدل فيما بينهم. كما أنه خلق الحديد وألهمهم كيفية استعماله وفيه وسائل القوة والتنكيل كما فيه منافع أخرى للناس وقد جعل الله كل هذا اختبارا للناس وقطعا لحجتهم وأعذارهم. وليمتاز منهم الذين ينصرون الله ورسله بتصديقهم وتأييدهم بما جاءوا به من الحقائق الإيمانية ولو كانت ماهيتها غائبة عنهم وأفهامهم غير مدركة لكنهها. وهو القوي العزيز المستغني عن الناس القادر على ما يريد.

٣٢٧

تعليق على الآية

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ ...)

وما فيها من تلقين

ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. ومع أنها تبدو فصلا جديدا إلّا أن احتمال اتصالها بالآيات السابقة لها اتصال تعقيب واستطراد وارد. ولا سيما أن الآيات السابقة احتوت دعوة إلى الجهاد والبذل في سبيل الله. وهذه الآية احتوت بيان هدف من أهداف هذه الدعوة وهو توطيد الحق والعدل بين الناس.

والآية بحد ذاتها جملة تامة احتوت تلقينات إيمانية واجتماعية وقضائية وسلطانية. وبجملة واحدة احتوت تقرير استهداف قيام السلطان في الأرض لتوطيد الحق والعدل بين الناس : فالله تعالى لم يدع الناس بدون تعليم وتنبيه. فأرسل رسله إليهم بالبينات الواضحة. وأنزل عليهم كتبه لتوطيد الحق والعدل بينهم. وجعل القوة الممثلة في الأسلحة الحديدية من الوسائل النافعة لمن ينحرف ويكابر ويعاند ويحاول مظاهرة البغي والباطل على الحق والعدل ولا يرضخ لمقتضياتهما. وكل ذلك إنما هو لخير الناس وصلاحهم.

ولقد اختلفت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين عن أهل التأويل الأولين في صدد الميزان والحديد اللذين أنزلهما الله على رسله (١). حيث رووا أن الميزان هو الميزان المعروف الذي يتعامل الناس به في معايشهم وأن الله قد أنزله مع جبريل على نوح وأمره أن يأمر قومه بالتعامل به ، وحيث رووا أيضا أن الله قد أنزل مع آدم من الحديد السندان والكلبتين والمطرقة والميقعة. وحيث رووا حديثا مرفوعا عن ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزل الله أربع بركات من السماء إلى الأرض وهي الحديد والنار والماء والملح» وحيث رووا مع ذلك أن الميزان هنا بمعنى العدل وأن القصد من تعبير إنزال الحديد هو خلقه وتعليم الناس الانتفاع به في شتى الوجوه من حفر الأرض والجبال وبخاصة في صنع السلاح الذي فيه ردع للناس وهو ما عبر عنه

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي وابن كثير والخازن.

٣٢٨

بجملة : (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ). والحديث النبوي لم يرد في الصحاح. والمتبادر أن التأويل الأخير هو الأوجه المتسق مع طبائع الأشياء. وقد روى المفسر القاسمي في محاسن التأويل للإمام ابن تيمية تفنيدا سديدا للتأويلات الأولى جاء فيه فيما جاء أن ما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يروى عن ابن عباس من إنزال الأدوات الحديدية على آدم ونوح كذب. وأن الناس يشهدون بعضهم وهم يصنعون بأيديهم هذه الأدوات من حديد المعادن الذي يعثرون عليه في الأرض والجبال. وأن تلك الأقوال مكابرة للعيان.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)) [٢٦ ـ ٢٧].

تعليق على الآية

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ...)

والآية التالية لها. وما فيهما من صور وتلقين وأهداف وتنويه بأخلاق

النصارى عامة وما ورد في رهبانية النصارى والإسلام من أحاديث

لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما جاءتا معقبتين على الآية السابقة لهما تعقيبا بيانيّا تضمن تقرير كون الله ـ جريا على ما اقتضته حكمته من إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد الحق والعدل بينهم ـ قد أرسل نوحا وإبراهيم. وجعل في ذريتهما النبوّة والكتاب. فاهتدى من اهتدى منهم وفسق عن أمر الله وانحراف عن جادة الحق كثيرون. ثم أرسل على آثارهم ونهجهم من بعدهم رسلا كثيرين. ثم أرسل عيسى ابن مريم وآتاه الإنجيل. وجعل في قلوب

٣٢٩

الذين اتبعوه رأفة ورحمة حتى إنهم فرضوا على أنفسهم ابتداعا شيئا لم يفرضه الله عليهم وهو الرهبانية والاعتزال للعبادة والتبتل والتعفف عن النساء ابتغاء رضوان الله تعالى وتزيدا في عبادته. ولكنهم لم يستمروا على رعايتها حق الرعاية. فمنهم من آمن وأخلص فآتاه الله أجره. وكثير منهم فسق عن أمر الله وانحرف عن جادة الحق أيضا.

وينطوي في البيان التعقيبي الذي استهدفته الآيات ـ كما تبادر لنا ـ تقرير واقع الأمر عند نزول الآيتين بالنسبة لأهل الكتاب وبخاصة النصارى منهم كما هو ظاهر.

ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه بطرقه عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم. وقد وازت فرقة من الثلاث الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك. وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشير. وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم فترهبوا فيها فهو قول الله عزوجل (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) قال : ما فعلوها (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) وهم الذين آمنوا بي وصدقوني. قال : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) قال : فهم الذين جحدوني وكذبوني».

والحديث ليس من الصحاح. فإن صحّ جاء توضيحا للمقصود من الجملة الأخيرة في الآية الثانية وهم الذين آمنوا به وكفروا به فالأولون لهم أجرهم والآخرون فاسقون وهم الأكثر. وهذا كذلك متبادر من العبارة ولو لم يصح الحديث أيضا لأنها تقرر واقع النصارى عند نزول القرآن. ولا يمكن أن تنصرف عبارة (الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا إلى الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإيمان فريق من النصارى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل عليه حقيقة يقينية مؤيدة بنصوص قرآنية عديدة جاءت في سور

٣٣٠

سبق تفسيرها. ولقد كان عدد المؤمنين منهم في حياة النبي أقل من الجاحدين. وكانت النصرانية سائدة في بلاد الشام ومصر. فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله وكتبه إلى ملوكهم فلم يستجيبوا إليها. وهذا وذاك مصداق ما جاء في الآية. والله تعالى أعلم.

وفي الحديث إن صح بالإضافة إلى ما فيه من أخبار متسقة مع المأثورات القديمة عن سير المسيحية ونزاعاتها وفرقها وما كان من اضطهاد ملوك الرومان للنصارى أولا ثم لمن خالف مذهبهم بعد أن اعتنقوا النصرانية ثانيا وما جرى من قتال بين الفرق النصرانية (١) تفسير لجملة (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) يفيد أن الله تعالى لم يفرض عليهم الرهبانية بدءا وإنما هم ابتدعوها وفرضوها على أنفسهم فأقرهم الله عليها ابتغاء رضوانه. وهذا ملموح من فحوى الآيات وروحها وبدلالة كلمة (ابْتَدَعُوها) إن لم يصح الحديث.

ولقد أراد فريق من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبتدعوا رهبانية في الإسلام ابتغاء رضوان الله تقليدا للرهبان والقسيسين من النصارى الذين أثنت عليهم آيات سورة المائدة [٨٧ ـ ٨٩] فاقتضت حكمة التنزيل أن لا تشجعهم على ذلك لئلا يقعوا فيما وقع فيه النصارى من قبلهم. ولينصرفوا إلى ما هو الأنفع والأجدى لنشر دين الله وتعاليمه والجهاد في سبيله مما انطوى خبره وتلقينه البليغ في الآيات المذكورة وفي الأحاديث النبوية الواردة في صددها والتي منها «لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات المذكورة.

وذكر النصارى على الوجه الذي ورد وإن كان يتبادر أنه من قبيل الاستطراد المألوف في النظم القرآني فإن فيه على كل حال معنى التنويه المستحب بما كان عليه النصارى إجمالا من دماثة خلق ورقة قلب وتسامح وتواضع بالقياس إلى اليهود الذين وصف القرآن أخلاقهم بما وصفها من قسوة وغلظة وخبث وأنانية

__________________

(١) انظر كتابنا تاريخ الجنس العربي ج ٢ وج ٤ وتاريخ سورية للدبس مجلد ٣ ج ٣ ومجلد ٣ ج ٤.

٣٣١

ودسّ وعداء شديد صريح للمسلمين. ولعل فيه كذلك إشارة تنويهية إلى تلك الفئة التي كانت تقيم في الصوامع والديارات التي كانت منثورة في براري العراق والفرات والشام والتي كان العرب يمرون بها في رحلاتهم غدوا ورواحا والتي كانوا قد فرغوا فيها للعبادة واعتزلوا شهوات الدنيا وأعراضها وشرورها وبهارجها. والله أعلم (١).

وجملة : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) بالنسبة لنوح وإبراهيم عليهما‌السلام قد تفيد أن الله عزوجل اختصّ ذريتهما بذلك. وإذا صح هذا يكون ذلك لأول مرة في القرآن لأنه لم يسبق مثله. ومما يرد على البال أن مما استهدفه توكيد دخول جميع الأنبياء والرسل في مشمول (ذُرِّيَّتِهِمَا) فيدخل في ذلك الأنبياء الذين لم يعرف أنهم من نسل إبراهيم مثل هود وصالح وشعيب ولوط وإدريس وغيرهم ممن لم يرد ذكرهم في القرآن وإنما أشير لهم إشارة عامة في جملة : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ). في الآية [١٦٤] من سورة النساء وفي الآية [٧٨] من سورة غافر التي احتوت جملة قريبة. ولعل مما استهدف بهذا التوكيد الردّ على بني إسرائيل الذين كانوا يدعون أن جميع الأنبياء من جنسهم ويزهون ويتبجحون بذلك على ما شرحناه في سياق آيات سورة الجمعة وغيرها وعلى ما حكته روايات عديدة أوردناها في سياق ذلك. والله أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)) [٢٨ ـ ٢٩].

(١) كفلين : بمعنى ضعفين على قول الجمهور.

__________________

(١) اقرأ بحث الديارات في حرف الدال في معجم البلدان لياقوت واقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي أيضا.

٣٣٢

(٢) لئلا يعلم : الجمهور على أن (لا) زائدة وأن تقدير الجملة لأن يعلم أو لكي يعلم. وروح الآية يؤيد ذلك. وقد قرئت (ليعلم) وهذه في نفس المعنى المقصود.

(٣) أن لا يقدرون : الجمهور على أن (أن) هي مخففة من أنّ وتقدير الجملة (أنهم لا يقدرون) أي لا يقدرون على منع فضل الله عن أحد. وعدم حذف نون المضارع دليل على صحة ذلك.

عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنت الأولى التفاتا إلى المؤمنين منطويا على التعقيب والحثّ والبشرى : فعليهم ـ وقد عرفوا سنّة الله تعالى وحكمته ـ أن يعتبروا ويتقوا الله ويلتزموا حدوده ويؤمنوا برسله إيمانا مخلصا ويتبعوا إرشاده. فإن فعلوا ضاعف الله لهم الأجر وجعل لهم نورا يمشون في ضوئه فلا يضلون عن سبيل الحق القويم وغفر لهم ذنوبهم وهو الغفور الرحيم وتضمنت الثانية شيئا من الالتفات إلى أهل الكتاب منطويا في الوقت نفسه على بشرى للمسلمين : ففي ما يوصي الله تعالى المؤمنين ويأمرهم به من تقوى الله والإيمان برسله ويعدهم به من مضاعفة الأجر لهم وتيسير النور الذي يسيرون على هداه وغفران ذنوبهم. ويكون في ذلك تنبيه لأهل الكتاب ليعلموا أنهم غير قادرين على منع فضل الله عن أحد ولا محتكريه. فالله تعالى هو صاحب الفضل وهو يتصرف فيه كما تقتضي حكمته وعدله فيؤتيه من يشاء ويصرفه عمن يشاء.

وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا يتضمن قرينة بل دلالة على أن جملة (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) لا تعني الإيمان البدني بالرسول لأنهم مؤمنون به حينما وصفوا ب (الَّذِينَ آمَنُوا) وإنما تعني الحثّ على قوة اليقين والوثوق والطاعة. وهي من هذه الناحية من باب الآيتين [٧] و [٨] من هذه السورة على ما شرحناه في سياقهما.

٣٣٣

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) إلخ

والآية التالية لها. وما فيهما من تلقين وما ورد في صددهما من أحاديث

روى المفسرون في سياق هذه الآيات أن وفدا من نصارى الحبشة وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا. ورأوا ما عليه المسلمون من خصاصة فاستأذنوا النبي بأن يحضروا شيئا من أموالهم ويعطوها للمحتاجين فأذن لهم فذهبوا وأحضروها ووزعوها فأنزل الله آيات سورة القصص [٥٢ ـ ٥٥] هذه (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)). فصاروا يفخرون على المسلمين من العرب ويقولون لهم أجرنا مضاعف ، لأننا آمنا بكتابكم وكتابنا من قبله فأنزل الله الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما فحسد المسلمون الحبشة المسلمين العرب فأنزل الله الآية الثانية.

والرواية لم ترد في الصحاح. ولقد روي أن آيات القصص المذكورة مدنيّة. ولعل ذلك متصل بهذه الرواية. ولقد توقفنا في سياق تفسير آيات القصص في رواية مدنيتها ونبهنا على ما تبادر لنا من دلائل على مكّيتها بما يغني عن التكرار. ونزيد هنا فنقول إن فحوى الآيتين لا يمكن أن ينطبق على ما جاء في الرواية من حيث إن الرواية تقتضي أن تكون الآية الأولى ردا على فخر من بعض أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بسبب آيات مدنيّة وضعت في سورة مكيّة. ثم وضع الردّ في سورة مدنيّة. وأن يكون أهل الكتاب الذين آمنوا قد حسدوا المسلمين العرب فأنزل الله آية فيها ردّ عليهم مع أن فحوى الآية لا يمكن أن تفيد أنها عنت جماعة مؤمنين بالرسالة المحمدية ...

٣٣٤

والذي يتبادر لنا أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة التي تحكي حالة أهل الكتاب وبخاصة النصارى في زمن النبي وقبله لتهتف بالمسلمين أن يتقوا الله ويتيقنوا ويثقوا بكل ما جاء به رسوله ودعا إليه فيستحقوا بذلك ضعفين من رحمة الله وغفرانه ونوره. ويكون في ذلك ردّ على أهل الكتاب غير المؤمنين الذين قد يحتجون بأنهم على هدى الله وأنهم الحائزون وحدهم لرحمته وفضله.

والراجح أنه كان يقع حوار بين بعض المسلمين وأهل الكتاب حول من هو الأهدى والأفضل والمستحق لرحمة الله فكان في الآية الثانية ترديد لذلك ووضع للأمر في نصابه الحق. وهناك آيات في سور سبق تفسيرها تذكر ما كان من تبجح أهل الكتاب بأنهم أبناء الله وأحباؤه وبأنهم الأهدى الذين لهم الجنة وحدهم إلخ كما جاء مثلا في آيات البقرة [١١١ و ١٢٠ و ١٢٥] والمائدة [١٨].

ولقد روى الطبري عن ابن زيد في تأويل جملة : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) إنها بمعنى يؤتكم رحمته مرتين مرة في الدنيا ومرة في الآخرة. وعن الضحاك إنها بمعنى يؤتكم أجرا على إيمانكم بالكتاب الأول وأجرا على إيمانكم بالقرآن. ومع أن القول الأول أوجه من الثاني فإنه يتبادر لنا أيضا أن الجملة على سبيل البشرى والتطمين بمضاعفة الله الأجر للمؤمنين المتقين. وهو ما تكرر بأساليب متنوعة مرّت أمثلة كثيرة منها في السور التي سبق تفسيرها والله أعلم.

وعلى كل حال ففي الآيتين تلقين مستمر المدى يستمد منه المسلم حافزا على تقوى الله لنيل أجره المضاعف والاهتداء بنوره الهادي. وإيذانا بأنه لا حرج على فضل الله ولا يحقّ لأحد أن يحتكره فالله هو صاحب الفضل فيؤتيه من يشاء ممن استحقه بعمله الصالح وتقواه.

ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية فيها تمثيل مبشر للمسلمين وهي ليست من الصحاح ومع ذلك فلم نر بأسا من إيرادها لما فيها من تبشير وتطمين للمسلمين. منها حديث أخرجه الطبري عن عبد الله بن عمر قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة

٣٣٥

العصر إلى مغرب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر عمالا فقال من يعمل من بكرة إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود ثم قال : من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى ، ثم قال : من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قراطين فعملتم». وحديث أخرجه الطبري بطرقه عن عبد الله بن دينار قال : «سمعت ابن عمر يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل هذه الأمة أو قال مثل أمتي ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل قال من يعمل لي غدوة إلى نصف النهار على قيراط قال اليهود نحن فعملوا. ثم قال من يعمل من نصف النهار إلى العصر على قيراط قالت النصارى نحن فعملوا. وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل على قيراطين».

هذا ، وفي دعوة المسلمين إلى تقوى الله عزوجل والإيمان برسوله في ختام السورة تناظر مع الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله في أول السورة. وقد يكون في هذا مشهد من مشاهد النظم والتأليف القرآني التي تكررت في أوائل وأواخر سور عديدة على ما نبهنا عليه في مناسباته ، والله أعلم.

٣٣٦

سورة التوبة

في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة إلّا أنها يجمعها طابع عام واحد هو الحثّ على الجهاد والحملة على المنافقين والكافرين والمشركين. والثناء على المؤمنين المخلصين.

وتنطوي فصولها على :

(١) التبرّؤ من المشركين الناقضين للعهد والحثّ على قتالهم إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مع احترام عهد المعاهدين الأوفياء لعهودهم.

(٢) والتنبيه على أن المشركين نجس لا يجوز أن يدخلوا منطقة البيت الحرام بعد أن صار في حوزة الإسلام ولا أن يتولوا مسجدا ويعمروه أو يعمروا المسجد الحرام. وليس لهم في ذلك حقّ وميزة.

(٣) وحظر تولي الآباء والأقارب الكفار ومناصرتهم والتحالف معهم وإيجاب إيثار الله ورسوله والجهاد في سبيله عليهم وعلى جميع أعراض الدنيا إذا تعارض هذا مع ذاك.

(٤) وحثّ على قتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية ويخضعوا لسلطان الإسلام فيكون لهم ذلك مانعا.

(٥) وإقرار حرمة الأشهر الحرم الأربعة بأعيانها وتحريم النسيء والتلاعب في أوقاتها بسبيل التقديم والتأخير فيها وإخراج بعضها من الحرمة وجعل غيرها بديلا عنها.

٣٣٧

(٦) وحثّ واستنفار إلى غزوة أجمعت الروايات على أنها غزوة تبوك وتنديد بالمتثاقلين والمتخلّفين عنها بأعذار كاذبة ووصمهم بالنفاق.

(٧) وصور من مواقف المنافقين وأقوالهم ومكائدهم وسخريتهم وتثبيطهم وإخلافهم لوعودهم وعهودهم وتنديد باعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة وإنذارات قارعة لهم وإيجاب الوقوف منهم موقف الشدة والحزم.

(٨) وبيان لطبيعة الأعراب وشدة كفر الكافرين ونفاق المنافقين منهم بسببها مع التنويه بطبقة أخلصت في إيمانها وإسلامها وأعمالها منهم.

(٩) وتصنيف المنتسبين إلى الإسلام إلى مخلصين سابقين وتابعيهم بإحسان.

ومنافقين متسترين ، وخالطي عمل صالح بعمل سيىء. وأناس غير معروفة حقيقتهم على اليقين موكولين إلى الله. ومنافقين مجاهرين بالضرر والفساد.

(١٠) حظر الاستغفار للمشركين والصلاة عليهم.

(١١) ومشاهد عن إخلاص بعض فقراء المسلمين إزاء الدعوة إلى الجهاد وشدة ندم بعض المخلصين المتخلفين وتوبة الله عليهم.

(١٢) ومشاهد عن مواقف المنافقين عند نزول القرآن.

(١٣) وتشريع في صدد التناوب في الجهاد.

(١٤) وختام وصفي رائع لأخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشدة حرصه على المسلمين ورأفته ورحمته بهم.

وأكثر فصول السورة معقودة على غزوة تبوك وظروفها وأحداثها. وهناك رواية غريبة تذكر أنها نزلت دفعة واحدة (١). في حين أن مضامين فصولها تلهم بكل قوة أن منها ما نزل قبل غزوة تبوك بمدة ما. ومنها ما نزل أثناء هذه الغزوة ، ومنها ما نزل بعد العودة من هذه الغزوة. حيث يسوغ القول إن الرواية المذكورة غير معقولة وغير صحيحة. وإن فصول السورة قد رتبت في وقت متأخر من عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن تم نزول الفصول التي اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويها. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن آيتيها الأخيرتين مكيّتان. وهذه الرواية مروية

__________________

(١) انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والمنار.

٣٣٨

في تفسير المنار وفي الإتقان للسيوطي (١) عن ابن الفرس. وصاحب تفسير المنار يسوغ الرواية ويقول إن معنى الآيتين لا يظهر إلّا في دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام في مكة في أول زمن البعثة ، وهناك رواية أوردها ابن كثير تفيد أن الآيتين كانتا منسيتين فألحقتا بآخر السورة ارتجالا. وكانت هذه الرواية مما قوى تسويغ صاحب المنار. هذا في حين أن هناك روايات تذكر أن الآيتين هما آخر القرآن نزولا. وقد رجحنا أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما استلهاما من فحواهما. وسنزيد الأمر بيانا في سياق تفسير الآيات.

والمتواتر اليقيني أن مصحف عثمان الذي هو أصل المصاحف لم يفصل بين سورتي الأنفال وهذه السورة بالبسملة أسوة بسائر السور. وقد روى الترمذي (٢) حديثا عن ابن عباس جاء فيه : «قلت لعثمان رضي الله عنه ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين (٣) فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال. فقال عثمان كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها (٤) فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبين لنا أنها منها فلذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتها في السبعة الطوال». وهناك روايات أخرى في صدد ذلك. منها رواية عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه جوابا على سؤال سأله ابنه محمد مفادها أن هذه السورة نزلت بالسيف وأن البسملة أمان. ورواية عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان

__________________

(١) الإتقان ص ١٦.

(٢) التاج ج ٤ ص ١١٢ ، ١١٣.

(٣) يسمى ما قلّت آياته عن المائة من السور ولم تكن من القصار بالمثاني ، وما زادت آياته على المائة بالمئين.

(٤) أي فيها فصول مثلها من جهاد وعهد.

٣٣٩

يأمر في كل سورة بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم ولم يأمر بذلك في سورة التوبة وكانت نزلت في آخر القرآن فضمت إلى الأنفال لشبهها بها. ورواية ـ جاءت بصيغة قيل ـ تذكر أن الصحابة اختلفوا فيما إذا كانت سورتا الأنفال وبراءة واحدة أم سورتين ولم يتغلب رأي على رأي فتركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان. ولم يكتبوا البسملة تنبيها على قول من يقول إنهما سورة واحدة. وهناك رواية تذكر أن السورتين كانتا تسميان القرينتين لهذا السبب (١).

وباستثناء حديث الترمذي عن ابن عباس ليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والمتبادر أن رواية عدم وضع البسملة بسبب كونها نزلت في القتال غير سائغة لأن هناك سورا أخرى احتوت الأمر بالقتال. وتبقى الروايات الأخرى وهي محتملة. وقد يكون فيها إزالة لإشكال ورود سورة الأنفال التي تقلّ آياتها عن المائة بين السور الطوال في حين أن ترتيب سور القرآن سار على وضع الأطول فالأطول إجمالا. ولم يؤثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بوضع البسملة بينهما. وآياتهما معا تجعل سلكهما في سلك السور الطوال سائغا.

وهذه الروايات مع حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي تفيدنا مسألتين مهمتين في صدد تأليف وترتيب سور القرآن والمصحف والآيات ، الأولى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأمر بأن تكون كل سورة في قراطيس لحدتها مفتوحة للزيادة عليها. وكان وضع الآيات في السور بأمره. والثانية أن ترتيب السور واحدة وراء أخرى كما جاء في المصحف هو بأمره. ونرجح أن المسألة الأولى كانت بنوع خاص بالنسبة للسور المدنيّة. وأن السور المكيّة كان قد تم ترتيبها إما في مكة وإما بعد الهجرة بقليل. وكل ما هنالك أن بعض آيات مدنيّة أضيف إلى بعض هذه السور مثل الآية الأخيرة من كل من سورتي المزمل والشعراء والآيات [١٦٣ ـ ١٧٠] من سورة الأعراف للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل كثيرا أن تكون هذه الآيات نزلت في أوائل الهجرة. والله أعلم.

__________________

(١) انظر كتب تفسير البغوي والزمخشري والطبرسي والخازن والنسفي وابن كثير والنيسابوري ومن الغريب أن الطبري لم يتعرض لهذا البحث ورواياته!

٣٤٠