التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين حيث قاد النبي في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد ١٥ أو ١٦ ليلة من المدينة وعاد منها دون اشتباك لأن قبائلها فرت وتفرقت (١). ثم سيّر حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلّحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم (٢). ثم سيّر حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية (٣). ثم سيّر جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد (٤). ثم سيّر حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها (٥) حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.

ولما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك

__________________

(١) ابن سعد ج ٣ ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) المصدر نفسه ١٣١ ـ ١٣٢.

(٣) المصدر نفسه ص ١٣٢.

(٤) المصدر نفسه ص ١٧٤ ـ ١٧٧ وابن هشام ج ٣ ص ٤٢٧ ـ ٤٤٧.

(٥) ابن سعد ج ٣ ص ٧٧ ـ ٧٨.

٤٠١

وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحثّ والتبرير والتعليل وحسب. والروايات تذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام (١) فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عاد من تبوك فكّر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلّ يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يسير هذا الجيش فسيّره خليفته الأول أبو بكر ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام فسيّر الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.

ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر

__________________

(١) ابن سعد ج ٢ ص ٢١٨ ـ ٢٢١ وابن هشام ج ٤ ص ١٦٩ ـ ٢٢١ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٦١ ـ ٣٦٧ والبلاذري ص ٦٦ ـ ٦٩.

٤٠٢

والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحثّ والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير (أَهْلَ الْكِتابِ) في الآية الأولى وذكر اليهود مع النصارى في الآيات التالية لها قد قصد به التشريع العام ليشمل اليهود والنصارى في أي ظرف آخر غير الظرف الذي نزلت الآيات فيه. ولقد جاءت الآيات بأسلوب تشريعي مطلق مما فيه تأييد لذلك.

ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره (١) عن أهل التأويل من التابعين في تأويل جملة : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) وجملة : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ). فرووا في صدد الأولى أن معناها (لا يحرمون ما حرمه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم) كما رووا أن معناها (لا يحرمون ما حرّمه رسلهم وكتبهم). ورووا في صدد الثانية أن معناها (لا يطيعون الله حق الطاعة أو لا يطيعون طاعة أهل الحق) ، كما رووا أن معناها (لا يدينون بدين الإسلام). وبعض هذه الأقوال تقتضي أن يكون المسلمون قد أمروا بالآية الأولى بمقاتلة كل كتابي على الإطلاق لا يحرّم ما حرّم الله ورسوله محمد ولا يدين بالإسلام حتى يعطي الجزية للمسلمين. وهذا في اعتقادنا وحسب ما شرحناه في مناسبات سابقة يتناقض مع المبدأ العام المحكم الذي قررته آيات سورة النساء [٩٠ ـ ٩١] وبخاصة آيات سورة الممتحنة [٨ ـ ٩] والذي هو متسق مع المبادئ القرآنية الجهادية عامة على ما شرحناه في المناسبات السابقة. والذي لا يتسق عكسه مع طبائع الأمور بسبب وجود أمم بعيدة لا صلات بينها وبين المسلمين ولا صدام ولا خصام. وبسبب بعد احتمال أمر القرآن بقتال من يمكن أن يكون مسالما موادّا حسن السلوك والنيّة نحو المسلمين وبدليل ما أثر

__________________

(١) انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

٤٠٣

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفائه الراشدين من نهي عن قتال وقتل غير المحاربين كالنساء والأطفال والشيوخ والرهبان مما أوردنا نصوصه في تعليقنا المسهب في سورة الكافرون ومناسبات أخرى (١). وقد يكون من الأدلة على ذلك ورود حرف (من) التبعيضية في الآية. وروح الآية والأوصاف المذكورة فيها أولا وروح الآيات الأخرى ثانيا يسوغان الأخذ بالأقوال الأخرى وهي عدم تحريم ما حرّمه الله ورسله في الكتب السماوية التي نزلت على أنبياء أهل الكتاب وعدم طاعتهم لله حقّ الطاعة وعدم احترامهم حقوق غيرهم ودمائهم وأموالهم مما يدخل فيه العدوان على القوافل وإخافتها وسلب أموالها وقتل أفرادها إلخ. وقد يدعم هذا جملة : (لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) التي لا تصح على جميع أهل الكتاب الذين منهم من كان وما يزال يؤمن بالله واليوم الآخر بصورة ما. كذلك مما يدعمه ما ذكرته الآيات من إرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم مما يتسع لمعنى تعطيل الدعوة إلى دين الله والصدّ عنه. وهذا قد نسب بصراحة إلى أحبار اليهود ورهبان النصارى في الآيات مع نسبة أكل أموال الناس بالباطل. وهو من موجبات الجهاد الإسلامي ومبرراته على ما شرحناه في المناسبات السابقة. يضاف إلى ذلك كلّه قيام حالة الحرب بين المسلمين وسكان مشارف الشام والروم منذ السنة الخامسة بسبب عدوانهم بأساليب وصور متنوعة نشأت عنها تلك السلسلة من الحركات الحربية التي ذكرناها ثم تسيير خليفة النبي بعد وفاته الجيوش.

ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل كذلك في جملة : (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) حيث رووا أن معنى (عَنْ يَدٍ) هو أن تدفع الجزية نقدا لا نسيئة ومن قبل المستحقة عليهم وجاها كما يقول العرب أعطيته يدا بيد وكلمته فما بفم. كما رووا أن معناها القهر لأن العرب يقولون لكل معط لقاهر

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٣٢٧ ـ ٣٢٩ وكتاب الأموال للإمام أبي عبيد ص ٣٧ ـ ٣٩ وكتاب أبي بكر الصديق لعلي الطنطاوي ص ٣٢٦ ـ ٣٢٨ وسيرة أبي بكر وعمر في أشهر مشاهير الإسلام لرفيق العظم وكتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص ١١٨ وما بعدها ووصية أبي بكر في موطأ الإمام مالك.

٤٠٤

له شيئا طائعا أم كارها (إعطاء عن يد). وحيث رووا في صدد كلمة (صاغِرُونَ) أنها تعبير عن حالة الصغار التي يتلبس بها المعطي وأن الإعطاء هو الصغار كما رووا أنها في صدد إيجاب إعطاء الجزية من قبل أصحابها في حالة تلبس الهوان والذلة كأن يعطوها وهم واقفون لقابضها وهو جالس وكأن يدفعوا أو يلبّبوا أو يصفعوا حينما يعطونها. وقد استنكر الإمام النووي إهانة الكتابيين وصفعهم حين إعطائهم الجزية وقال إنها سيئة باطلة على ما رواه المفسر القاسمي.

والذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تعني حتى يخضعوا ويستسلموا للمسلمين ويرضوا بسلطانهم عليهم ، وفي هذا يتحقق هوانهم وصغارهم. ولقد روي أن عياض بن غنم رأى نبطا يعذبون في الجزية فقال للجابي إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله تبارك وتعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا» (١). وروي أن عمر أتي بمال كثير من الجزية فقال : إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا : لا. والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال بلا سوط ولا نوط. قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني (٢).

وروي أن عمر مرّ على قوم أقيموا في الشمس يصبّ فوق رؤوسهم الزيت وهو راجع من الشام فقال ما بال هؤلاء فقالوا عليهم الجزية لم يؤدوها. فهم يعذبون حتى يؤدوها فقال عمر فما يقولون ويعتذرون به. قالوا يقولون لا نجد ، قال فدعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإني سمعت رسول الله يقول : «لا تعذبوا الناس فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله يوم القيامة» وأمر بهم فخلّي سبيلهم (٣). ولقد قال الإمام أبو يوسف في كتابه (الخراج) الذي رفعه لهارون الرشيد عن شؤون المال والخراج إنه لا يجوز ضربهم في استيدائهم الجزية ولا يوقع عليهم في أبدانهم شيء من المكاره (٤). والصفع والتلبيب والإهانة من

__________________

(١) كتاب الأموال ص ٤٣.

(٢) المصدر نفسه وفسّر الناشر كلمة (نوط) بالتعليق وهو على ما يبدو نوع من التعذيب.

(٣) كتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص ٦٩ ـ ٧٢.

(٤) المصدر نفسه.

٤٠٥

التعذيب. وإذا كان عمر بن الخطاب وعياض بن غنم رضي الله عنهما وجدا تعذيب الذمّي على تأخّره في دفع الجزية منطبقا على نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تعذيب الناس وإنذاره وأنكراه. وإذا كان الإمام أبو يوسف يقول إنه لا يجوز بناء على ذلك ضرب الذمي وإحداث أي مكروه في بدنه في استيدائه الجزية. فمن باب أولى أن يكون ضربه وتعذيبه وإهانته وهو مقبل على دفعها منكرا غير جائز بل موضعا لإنكار أشد. وهو مما يقوي قول الإمام النووي رحمه‌الله ويدل على التسامي الإسلامي. ومن تمام هذا التسامي الحديث الذي رواه أبو يوسف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاء فيه : «من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه». والرواية التي رواها عن عمر بن الخطاب حين حضرته الوفاة حيث قال : «أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم» (١). وهذا يعني أن خلفاء رسول الله وكبار أصحابه الذين كانوا الأكثر اتصالا به والأفهم لمنهجه ولمدى التلقين القرآني قد فهموا أن الجزية تعني قبول دخول معطيها في ذمة المسلمين وسلطانهم وأن على المسلمين وسلطانهم الدفاع عنهم وضمان سلامتهم وحريتهم الدينية وغير الدينية ومنع الأذى عنهم. ولقد حدث حادث رائع عظيم المغزى دلّ على أن أصحاب رسول الله كانوا على هذا الهدى السامي حيث روى الإمام أبو يوسف أن أهل الذمة لما رأوا وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدو المسلمين وعونا للمسلمين على أعدائهم. وقد بعثوا رجالا من قبلهم يتحسسون أخبار الروم فرجعوا يخبرون أهل مدنهم بأن الروم قد جمعوا جمعا لم ير مثله فأتى رؤساء المدن الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم ـ وكان ذلك في بلاد الشام ـ فأخبروه فكتب وإلي كل مدينة إلى أبي عبيدة بذلك. وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو عبيدة إلى كل وال يأمرهم أن يردوا على أهل مدنهم ما جبي منهم من جزية وخراج وأن يقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وأنا لا نقدر الآن على ذلك. ونحن لكم على الشرط وما

__________________

(١) كتاب الأموال ص ٧١.

٤٠٦

كتبناه بيننا إن نصرنا الله عليهم. فلما فعلوا قال أهل المدن ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا شيئا (١). وينبغي أن لا يشك في صحة هذه الرواية إجمالا. فإنها لم تسق للدفاع عن المسلمين في ذلك الوقت الذي لم يكن للدفاع محلّ. والإمام أبو يوسف كتب كتابه قبل نهاية القرن الهجري الثاني وهو من أقدم الكتب التي وصلت إلينا إن لم يكن أقدمها.

ولقد أوّل ابن كثير جملة (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) بقوله : أي ذليلون حقيرون مهانون. وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اشترط عليهم بناء على ذلك تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم حيث روى رواية عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال : «كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططا للمسلمين وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من رأينا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشّا للمسلمين ولا نعلّم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه. وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا.

__________________

(١) كتاب الخراج ص ٨٠ ـ ٨١ وليس هذا الحادث هو الفريد فهناك حوادث مماثلة ونصوص عديدة يشترط قواد المسلمين على أنفسهم لأهل الذمة الدفاع والمنعة. انظر أمثلة عديدة في تفسير رشيد رضا في سياق تفسير الآيات.

٤٠٧

ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زيّنا حيثما كنا وأن نشدّ الزنانير على أوساطنا. وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلّا ضربا خفيفا. وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا بعوثا ولا نرفع أصواتنا. ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم». قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه «ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حلّ لكم منّا ما يحلّ من أهل المعاندة والشقاق». وتأويل ابن كثير رحمه‌الله للجملة بعيد عن روح الأحاديث المروية. والكتاب الذي يورده ويقول إن الأئمة الحفاظ قد رووه والذي كتبه نصارى مدينة لم يذكر اسمها عجيب غريب في بدايته ونهايته وفحواه وأسلوبه. فهو من حيث الأصل بعيد عن روح الأحاديث المروية. وليس هناك أي سبب محتمل لكتابة أهل المدينة النصرانية لهذا الكتاب إذا كان هناك عهد سابق بينهم وبين عمر. ولم يرو التاريخ أن عمر شهد فتح وتسليم مدينة ما غير مدينة بيت المقدس. وعبارة العهد الذي روي أنه كتبه لأهلها وفحواه مناقضان مناقضة صارخة لعبارة هذا الكتاب وفحواه كما ترى فيما يلي «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيّزها. ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من

٤٠٨

أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وبيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء سار مع الروم. ومن شاء رجع إلى أهله. فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان. وكتب وحضر سنة خمس عشرة» (١). وكلمات (ما كان للمسلمين من خطط ـ أي أحياء وحارات. وأسواق المسلمين ومنازلهم) قرائن لا تدحض على افتعال الكتاب لأنه لم يكن للمسلمين قبل الفتح خطط وأسواق ومنازل. وما كان يمكن أن يفرض ذلك سلفا لأن حركة الفتح لم تكن انتهت ولم تكن احتمالات الانتكاس والانتقاض مستحيلة. ولم يكن يعرف ما هو تصرف المسلمين بعد نهاية الفتح واستقراره. والغالب أن النصارى أظهروا في دور من أدوار الحكم الإسلامي مخامرة أو أقدموا على مغامرة كان لها وقع شديد وعميق في نفوس المسلمين وحكامهم فتشدد المسلمون معهم في المقابلة وألزموهم بما ذكره الكتاب ولعل بعضهم افتعله بسبيل ذلك. ولقد روت مصادر التاريخ الإسلامية والمسيحية القديمة (٢) أن الموارنة أو المردة والجراجمة ومن على مذهب الروم من النصارى (٣) ناصروا الروم حينما جاءت جيوش الفتح ثم استجابوا لتحريكاتهم في أثناء المنازعات التي نشبت بين الأمويين والهاشميين في القرون الهجرية الثلاثة الأولى اغتناما لفرصة انشغال المسلمين بأنفسهم ثم ناصروا الصليبيين في حركتهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ١٠٥.

(٢) انظر كتاب تاريخ الموازنة المفصل للمطران الدبس ص ٣٤ وما بعدها و ١٨٦ وما بعدها وفتوح البلدان للبلاذري ص ١٦٦ وما بعدها.

(٣) كان نصارى بلاد الشام ومصر والعراق على مذهبين مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح التي مداها أنه ليس إلها كاملا ولا إنسانا كاملا وأنه مزيج من الناسوتية واللاهوتية. ومذهب الطبيعة الثانية التي مؤداها أن المسيح إله كامل وإنسان كامل. وكان المذهب الأول مذهب غالبية أهل هذه البلاد والثاني مذهب الروم أصحاب السلطان.

٤٠٩

في القرن الخامس ثم في القرنين السادس والسابع الهجريين. فلعلّ ذلك مما أثار حنق المسلمين عليهم وجعلهم يلزمونهم بما جاء في الكتاب. ومن الحق أن ننبه على أن في كتاب الخراج لأبي يوسف (١) أقوالا فيها تساوق مع بعض ما جاء في الكتاب من إلزام للذميين بزي خاص وهيئة خاصة عزوا إلى عمر بن الخطاب. غير أن هذا لا يجعلنا نغير موقفنا وتوقفنا بناء على ما شرحناه من دلائل قوية. وكل ما في الأمر هو أن تكون مواقف بعض الذميين التي أثارت المسلمين كانت مبكرة فكان ذلك مؤديا إلى ردّ فعل مبكر والله تعالى أعلم.

ولقد روى الطبري وغيره (٢) أقوالا عديدة عن أهل التأويل كذلك في صدد الذين تقبل منهم الجزية ، حيث اعتبر بعضهم على ما يستفاد منها أن النص القرآني قاصر على أخذها من الكتابيين ومنع أخذها من غيرهم وقتاله إلى أن يتوب ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. ولم يجز بعضهم أخذها من الكتابي العربي وجعله في زمرة الغير الذي لا يقبل منه إلا الإسلام وقصر أخذها على الكتابي الأعجمي. ومنهم من أجاز أخذها من المشركين والوثنيين الأعاجم دون العرب بالإضافة إلى جواز أخذها من الكتابيين العرب والعجم. ومنهم من أجاز أخذها من جميع الكفار سواء أكانوا كتابيين أم مشركين أو وثنيين وعربا أم عجما. والذين قصروا إباحة أخذها على الكتابيين أجازوها من المجوس لورود آثار نبوية في ذلك حيث روي أن عمر بن الخطاب قال كيف نصنع بالمجوس فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب وأشهد أنه أخذها من مجوس هجر وشهد آخرون أنه أخذها من مجوس البحرين أيضا (٣). وقد رووا رواية عن علي بن أبي طالب فيها تعليل للحديث النبوي ومفادها أنهم كانوا أهل

__________________

(١) كتاب الخراج ص ٧٢.

(٢) انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

(٣) روى هذا الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج ص ٧٣ ـ ٧٥ ورواه الإمام أبو عبيد في كتاب الأموال ص ٣١ ، ٣٢. وانظر التاج ج ٤ ص ٣٤٧ أيضا فإن فيه حديثا رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذ الجزية من مجوس هجر وحديثا رواه الترمذي أنه أخذها من مجوس البحرين وأن عمر أخذها من بني فارس وأن عثمان أخذها من الفرس أو البربر.

٤١٠

كتاب. وقد أوردنا نصّ هذه الرواية في سياق تفسير الآية [٥] من سورة المائدة. والقول بعدم أخذ الجزية من كتابيي العرب ينقضه ما هو مروي بطرق وثيقة من أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجزية من نصارى نجران على ما شرحناه في سياق تفسير سورة آل عمران. والذي يتبادر لنا إلى هذا أن الأمر بقتال أهل الكتاب الموصوفين حتى يعطوا الجزية لا يعني حصر ذلك فيهم وأنه إنما جاء في سياق استنفار المسلمين إلى قتالهم وأن الرأي الذي يقول بجواز أخذها من الكفار إطلاقا عربا كانوا أم عجما وكتابيين كانوا أم مشركين ووثنيين وهو قول الإمام مالك هو الأوجه. ولقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى الحرب بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال وشريح بن عبد كلال أقيال ذي رعين ومعافر وهمدان في أنحاء اليمن يعرض عليهم الإسلام وإن أبوا فالجزية (١). وأنه كتب بمثل ذلك إلى أسد عمان من أهل البحرين (٢) وهؤلاء لم يكونوا أهل كتاب. وقد روي أنه حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أمره بأن يأخذ من كل حالم من المعافر دينارا أو عدله (٣). وهذا جزية أيضا. وهؤلاء عرب. ولم يرو أحد أنهم كتابيون. وفي حديث بريدة الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والذي أوردناه في سياق تفسير سورة الكافرون إجازة نبوية بأخذ الجزية من أعداء المسلمين المشركين إذا أبوا الإسلام (٤) وفي كل هذا دليل على صحة هذا القول ووجاهته.

ولقد اختلفت الروايات والأقوال في مقدار الجزية ومن يجب عليهم دفعها من أهلها. وليس هناك نصوص نبويّة وراشدية صريحة باتّة في ذلك. وإنما هناك روايات عمّا فرضه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث روي أنه فرض دينارا على كلّ حالم من المعافر (٥) وفرض على نصارى نجران ألفي حلّة في السنة (٦) وفرض على أهل جربا

__________________

(١) كتاب الأموال ص ٢٧.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) كتاب الأموال ص ٢٦.

(٤) انظر الحديث في التاج ج ٤ ص ٣٢٧.

(٥) كتاب الأموال ص ٢٦.

(٦) ابن سعد ج ٢ ص ١٢٠.

٤١١

وأذرح مائة دينار في السنة (١). وفرض على أهل مقنا ربع غزو لهم وربع ثمارهم (٢).

ولقد روى الإمام أبو عبيد أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق (الفضة) أربعين درهما مع أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. وروي أن عمر بعث عمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن حنيف إلى أهل الكوفة فوضعوا على كل رجل أربعة وعشرين درهما فأجاز عمر ذلك. وفي رواية أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين درهما. وأربعة وعشرين درهما. واثني عشر درهما. وقد روى الإمام نفسه أن ابن نجيح سأل مجاهدا لم وضع عمر على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع النبي على أهل اليمن؟ فقال : لليسار (٣). حيث يبدو من هذا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا يقدرون الجزية حسب حالة الناس المفروضة عليهم وطاقتهم. وقد روى الإمام أبو عبيد أن خلفاء المسلمين كانوا لا يرون الزيادة على ما وظف عمر بن الخطاب بل وكانوا يرون النقصان في ذلك إذا عجزوا عن الوظيفة. وفضلا عن ذلك فقد كانوا يعفون النساء والصبيان إطلاقا والعميان والزمنى والمقعدين والرهبان إذا لم يكن لهم مال. وكان الخلفاء يأمرون بالرفق بأصحابها وعدم الإصرار على أخذها منهم ذهبا وفضة ويأخذها بدلا من غلة الأرض والماشية وصناعة اليد على ما رواه الإمامان أبو يوسف وأبو عبيد (٤). بل كانوا يسقطونها عن العاجز عن أدائها ويرتبون لهؤلاء إذا طعنوا في السنّ مرتبات من بيت المال حيث روى الإمام أبو يوسف خبرا رائعا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء فيه أن عمر بن الخطاب مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل وهو شيخ كبير ضرير البصر فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي قال فما ألجأك إلى ما أرى قال أسأل الجزية والحاجة والسنّ ، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى

__________________

(١) ابن سعد ج ٢ ص ٥٥.

(٢) المصدر نفسه ص ٤١.

(٣) انظر هذه الأحاديث في كتاب الأموال ٣٩ ـ ٤١ وانظر التاج ج ٤ ص ٣٤٧.

(٤) انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص ٧٠ ـ ٧٢ وكتاب الأموال لأبي عبيد ص ٣٦ ـ ٤٧.

٤١٢

منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم إنما الصدقات للفقراء والمساكين وهذا من المساكين ووضع عنه الجزية وعن ضربائه (١). وحيث روى الإمام أبو عبيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى واليه بالبصرة أن لا يأخذ الجزية إلّا ممن أطاق حملها وأن يجري على من كبرت سنّه وضعفت قوته وولّت عنه المكاسب من أهل الذمة من بيت المال ما يصلحه لأنه بلغه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد فعل ذلك (٢). ومما ورد في موطأ مالك (٣) قوله «مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم ولا تؤخذ إلّا من الذين بلغوا الحلم. وليس على نخلهم وكرومهم ومواشيهم صدقة (أي زكاة) لأن الصدقة قد وضعت على المسلمين تطهيرا لهم وردّا على فقرائهم. وليس على أهل الكتاب سوى الجزية. إلّا أن يتجروا في بلاد المسلمين فيؤخذ منهم العشر فيما يدبرون من تجارات. ويعامل المجوس معاملتهم». والشاهد في هذا الكلام السنة التي استثنت النساء والصبيان من الجزية. مما هو متساوق مع المقتبسات السابقة. وفي كل هذا ما فيه من العدل والتسامح الإسلامي.

ولقد رويت سنن راشدية (٤) بالنهي عن إعنات دافعي الجزية وعدم التشدد في أخذها ذهبا وفضة وجواز أخذ عدلها سلعة ما من غلّة أو صنعة يد. وهذا متساوق مع ذلك العدل والتسامح.

ويلحظ أن القرآن لم يذكر مصارف الجزية. وقد تكون الحكمة في ذلك أن الآية لم ترد في معرض التشريع لمورد قد تحقق كما هو الشأن في الغنائم والفيء والزكاة. والجزية من حقّ بيت مال المسلمين. ولقد ذكرت مصارف حصة بيت المال من الغنائم والفيء في آيات سورة الأنفال [٤١] وسورة الحشر [٧] وهذه

__________________

(١) كتاب الخراج ص ٧٢.

(٢) كتاب الخراج لأبي يوسف ص ٧٢ وكتاب الأموال لأبي عبيد ص ٤٥.

(٣) الموطأ ج ١ ص ١٥٢ و ١٥٣.

(٤) كتاب الأموال ٤٣ ـ ٤٦ والخراج ٦٨ وما بعدها.

٤١٣

الحصة توزع على مجموعتين وهما المصالح العامة والمحتاجون. ومصارف الزكاة أيضا مثل ذلك على ما سوف يأتي شرحه في سياق الآية [٦٠] من هذه السورة. ويسوغ القول قياسا على ذلك أن مورد الجزية يصرف بدوره على المجموعتين. والله أعلم. ولقد عدّ الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام الجزية من الفيء (١). وفي هذا تأييد لما نقول.

والمتبادر أن تقرير مبدأ الصلح مع المحاربين الكفار على الجزية قد انطوى على تبرير غاية الجهاد الإسلامي وهي إخضاع المحارب وخضد شوكته حتى لا يكون قادرا على الإخلال بأمن المسلمين ومصالحهم وحريتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها. ونصّ الآية الأولى يلهم بقوة أنه ليس للسلطان الإسلامي أن يمتنع عن المصالحة على الجزية في حالة قهر المحارب وخضوعه واستسلامه وإعلان رغبته في الصلح واستعداده لأداء الجزية. وهذا متسق مع المبادئ القرآنية العامة أيضا. فالقتال شرّع لدفع العدوان والمقابلة من جهة وتأمين حرية الدعوة وأمن المسلمين ومصلحتهم وكرامتهم واحترام دينهم من جهة أخرى. فإذا ما أعلن المحارب خضوعه للسلطان الإسلامي وأصبح المسلمون في أمن على حريتهم ومصلحتهم وحرية الدعوة إلى دينهم واحترام دينهم دون أي عثرة ومناقضة فيكون المقصد قد حصل ولم يبق ما يسوغ تجاوزه. وآيات الأنفال هذه (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢)) صريحة في ذلك على ما شرحناه في سياق تفسيرها. ولقد روى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه «إنّكم لعلّكم تقاتلون قوما فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ويصالحونكم على صلح. فلا تأخذوا منهم فوق ذلك فإنّه لا يحلّ لكم» (٢) حيث يفيد أن إجابة المسلمين لطلب الصلح من المحارب على الجزية أمر واجب وطبيعي فضلا عن ما

__________________

(١) كتاب الأموال ص ١٨.

(٢) المصدر نفسه ص ١٤٣.

٤١٤

يفيده الحديث من حظر الطمع في أموالهم وابتزاز شيء منها فوق ما صالحوا عليه. ومن باب أولى أن يقال إن العدو إذا جنح للسلم بدون حرب على شرط الخضوع وأداء الجزية وجب مقابلته بالجنوح إليها. وقد صالح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طوائف عديدة على الجزية بدون حرب حينما طلبوا ذلك ، منهم نصارى نجران والمعافر وأكيدر دومة ويهود فدك وتيما والجربا ويوحنه بن رؤبة ملك أيلة ويهود بني جنبه والغريض وبني عاديا والمقنا وأذرح (١).

وقد يرد سؤال وهو هل يصح لولي أمر المسلمين أن يعقد صلحا مع عدو غير مسلم أو غير كتابي بدون جزية؟ فجوابا على هذا السؤال نقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقد صلحا بدون جزية مع أعداء محاربين وهو صلح الحديبية مع قريش. وفي آيات الأنفال [٦١ ، ٦٢] إجازة بالجنوح إلى السلم إذا جنح لها العدو. وليس هناك قرينة على أن ذلك كان منوطا بالجزية. وقد يصح أن يقال إن الآية [٢٩] التي نحن في صددها قد نزلت بعد ذلك. وإن المعقول أن يكون الأخير ناسخا أو معدلا للأول. غير أن المتبادر لنا أن روح آيات الأنفال وفحواها وسياقها تلهم أنها تشريع مستمر التلقين لاتساقه مع ظروف الحياة وطبائع الأمور. فهناك احتمالات دائمة لقيام ظروف لا تسمح للمسلمين بالاستمرار في قتال عدوهم إلى أن يخضع ويعطي الجزية. فمن الحقّ أن يستلهم ولي أمر المسلمين هذه الآيات في مثل هذه الظروف فيقابل جنوح العدو إلى السلم بالمثل ولو كان بدون جزية. والله تعالى أعلم.

ومع أن اعتقاد اليهود ببنوة العزير غير شائع الآن فإن نصّ الآية الثانية أي [٣٠] يدل دلالة قاطعة على أن اليهود أو بعضهم في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون بذلك. ولقد روى الطبري روايتين في ذلك. واحدة تذكر أن يهوديا اسمه فنحاص قال ذلك في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرى تذكر أن جماعة من اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٣٤٩ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٤١ ـ ٥٦ وج ٣ ص ١٥٢ ـ ١٦٣ و ٢١٨ ـ ٢٢١ وفتوح البلدان ص ٤١ و ٤٢ والخراج لأبي يوسف ص ٤٠ وما بعدها.

٤١٥

كيف تريد أن نتبعك وقد تركت قبلتنا ولا تزعم أن عزرا ابن الله. ثم روى الطبري عن ابن عباس رواية تذكر أن اليهود لما أهملوا أوامر الله وشرائعه نسخ التوراة من صدورهم ورفع التابوت من بينهم. وكان عزرا حبرا صالحا فصلّى وابتهل إلى الله حتى استجاب إليه وأعاد إلى صدره التوراة فبشر بذلك قومه وأخذ يمليها عليهم ثم أعاد الله التابوت. فقالوا ما فعل الله له هذا إلّا لأنه ابنه. وروى الطبري رواية أخرى عن السدي مختلفة عن رواية ابن عباس في التفصيل متفقة في الجوهر. وبين أسفار العهد القديم سفر باسم سفر عزرا ليس فيه شيء من ذلك وإنما نعت عزرا فيه بأنه كاتب ماهر في توراة موسى وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الربّ. وكان يعمل ويعلم في إسرائيل بالرسوم والأحكام. وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الروايات المروية عن ابن عباس والسدي مصدرها يهود المدينة وأنها كانت في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا. كما أن مما لا شك فيه أن قول اليهود كان يمثل واقعا مسموعا. وحكاية القرآن شاهد حاسم على ذلك.

وفي صدد جملة (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) روى الطبري عن أهل التأويل روايات عديدة. منها أنها للنصارى فقط. وفي مقام تقرير كونهم في قولهم إن المسيح ابن الله يشبهون اليهود الذين كفروا قبلهم وقالوا العزير ابن الله. ومنها أنها لليهود والنصارى معا في مقام تقرير كونهم في قولهم إن العزير ابن الله والمسيح ابن الله يشبهون الكفار من العرب وغيرهم الذين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله ويستشفون بهم لديه. ولو كان سند وثيق لكون عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله سابقة لعقيدتي اليهود والنصارى ببنوة العزير والمسيح لكان هذا وجيها. إلا أن يقال إن الجملة قد تعني ظروف نزولها حيث كان اليهود والنصارى في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون ذلك استمرارا للسابق. على أن اعتقاد الأمم التي كانت أقدم من عهود اليهودية والنصرانية بأنه كان للآلهة زوجات وأولاد من الحقائق التاريخية المعروفة حيث ثبت من الآثار المنقوشة أن أهل اليمن والعراق والشام ومصر واليونان القدماء كانوا يعتقدون بذلك. ونعتقد أن ذلك مما كان معروفا في عصر النبي وبيئته. والراجح أن مصدر ذلك اليهود والنصارى والله أعلم.

٤١٦

ولقد روى الطبري في سياق تفسير جملة (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) حديثا عن عدي بن حاتم قال : «أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة فقرأ هذه الآية (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فقلت : يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم. فقال : أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟ قلت : بلى. قال : فتلك عبادتهم» (١). وروى الطبري إلى هذا أقوالا معزوة إلى حذيفة وأبي البختري وابن عباس من هذا الباب أيضا. وعلى كل حال فإن الفقرة تتضمن تقريرا لواقع مشاهد بكون عامة اليهود والنصارى في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استمرارا لما قبله قد خضعوا لتأثير وسلطان أحبارهم ورهبانهم حتى صاروا كأنما هم قد اتخذوهم أربابا من دون الله يحرّمون ما يحرّمون ويحلّلون ما يحلّلون ويفعلون ما يأمرون به ولو كان مخالفا للشرائع المسجلة في كتبهم والمبلّغة عن أنبيائهم.

والآية [٣٣] وإن كانت تضمنت حكاية لمواقف اليهود والنصارى عامة من رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبيل إطفاء نور الله الذي جاء به بأفواههم فإن في الفقرة الأولى من الآية [٣٤] أي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ما يمكن أن يفيد أن تلك المواقف إنما كانت بتأثير الأحبار والرهبان على عامة بني ملتهم. وفي ذلك صورة من صور اتخاذ عامة اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله إلّا من استطاع أن يفلت من هذا التأثير ويهتدي بهدي الله وينضوي إلى دعوة رسوله.

__________________

(١) روى الترمذي حديثا قريبا لهذا عن عدي نصّه «أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) وقال أما إنهم لم يعبدوهم ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه» التاج ج ٤ ص ١١٥.

٤١٧

وقد تكون جملة (لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) مفسّرة لمواقف الأحبار والرهبان المناوئة للدعوة الإسلامية والصادرة لعامة اليهود والنصارى عن الانضواء إلى الإسلام حيث كانوا يستولون من بني ملتهم على أموال كثيرة بأساليب باطلة غير مشروعة وقد يكون ذلك بصورة رشاوى على تحليل الحرام وتحريم الحلال وبصورة نذور للأديرة والكنائس لا يلبثون أن يستحلوها لأنفسهم فكانوا يخشون ضياع هذه الموارد فضلا عن فقد ما كان لهم من جاه ونفوذ عظيمين. ولقد روى ابن هشام (١) عن ابن إسحق رواية لها مغزى قوي مؤيد لما نقول مفادها أن وفد نصارى نجران لما قدم على رسول الله واستمعوا له قال أسقفهم أبو حارثة لأخيه : والله إنه للنبي الذي كنّا ننتظر ، فقال له أخوه وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرّفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه فلو فعلت نزعوا منّا كل ما ترى.

ولقد كانت النصرانية سائدة في بلاد الشام والعراق ومصر فأخذ عامة النصارى يقبلون على الإسلام حتى شمل أكثريتهم الساحقة. وقد شاء بعضهم الاحتفاظ بدينه فكان له ما شاء. وظل هؤلاء منثورين أسرا منفردة وسط كتل إسلامية كثيفة في ظل سلطان المسلمين القوي. والذي نعتقده أن كثيرا من هؤلاء إن لم يكن أكثرهم هم من الرهبان والقسيسين الذين كانت الأديرة والكنائس وأملاكها وإيرادها مأكلة لهم فكان ذلك مما جعلهم يشذون عن الأكثرية الساحقة.

وفي جملة (لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) في حدّ ذاتها توكيد للنهي المتكرر في سور سابقة عن أكل الناس أموال بعضهم بالباطل وعن الصدّ عن سبيل الله وتعطيل شرائعه والتمرد على رسالاته كمبدأ من مبادئ الرسالة الإسلامية. وتوكيد للتنديد والإنذار اللذين انطويا في الآيات التي احتوت ذلك مما فيه توكيد للتلقين القرآني المستمر في هذا الأمر. وفي نسبة ذلك إلى الأحبار والرهبان بخاصة تشديد للتلقين من حيث كون صدور ذلك من رجال الدين ورؤساء الملّة الذين يجب أن يكونوا قدوة في الصلاح والتقوى أشد جرما وإثما عند الله تعالى.

__________________

(١) ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٤١٨

والآيتان [٣٢ و ٣٣] قد وردتا بأسلوب مقارب لما ورد في سورة الصف في سياق آيات ذكر السامعون فيها بمواقف اليهود الإزعاجية والمؤذية من موسى وعيسى عليهما‌السلام مع فارق واحد هو أن ذلك التذكير كان للعرب والتنديد كان بهم على الراجح في حين أنهما هنا في صدد الكتابيين مباشرة. وواضح أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارهما لمرة الثانية لبيان سوء مقاصد ونوايا ومواقف الكتابيين. والتنديد بهم والردّ عليهم بأن الله محبط لمكائدهم وبأنه يأبى إلّا أن يتم نوره ولو كرهوا. وبالطبع إنهما في حدّ ذاتهما قد احتوتا ذلك المعنى القوي الرائع الذي نوهنا به في تفسير سورة الصف بعموم الدين الإسلامي والتطمين الذي يبعث الثقة التامة في نفوس المسلمين بأن دينهم الذي ارتضاه الله لهم سيكون هو الدين الظاهر على سائر الأديان. فهو نور الله الذي لن يقدر أحد على إطفائه مهما حاول ومهما ظنّ نفسه قادرا على ذلك. وهو دين الحق الذي وعد الله تعالى بأن يظهره على الدين كلّه. ولو كره المشركون والكافرون. وسورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن حيث يتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بالآيتين لتكونا توكيدا حاسما وجديدا لوعد الله عزوجل في أواخر حياة الرسول وأواخر ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من القرآن. ولن يخلف الله وعده.

ولقد شرحنا مدى الآيتين في سياق تفسير سورة الصف. فنكتفي بهذه الإشارة دون الإعادة.

تعليق خاص على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ

أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) والآية التالية لها

وما ورد في صدد كنز الفضة والذهب وأداء الزكاة من أحاديث

وأقوال وما انطوى في ذلك من صور وتلقين وتمحيص ما روي من تأخر

فرض الزكاة واستطراد إلى حركة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه

وأسلوب الفقرة الثانية من الآية الأولى أي (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ

٤١٩

وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) عام كما هو ظاهر. غير أن وصف الرهبان والأحبار بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله في الفقرة الأولى من الآية قد يكون قرينة على أن الفقرة الثانية تعنيهم بالدرجة الأولى. فأكلهم أموال الناس بالباطل كان يؤدي إلى اكتنازهم الذهب والفضة. وصدّهم عن سبيل الله كان لاستبقاء الوسيلة إلى الاكتناز في يدهم وبذلك تكون الآية محكمة التنديد والإلزام ويكون الإنذار الرهيب المذكور فيها وفي الآية التالية لها موجها إليهم بالدرجة الأولى.

على أن أسلوبها العام يسوغ القول أنها احتوت في الوقت نفسه توجيها وإنذارا عامين على سبيل الاستطراد إلى كلّ من يكتنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود في الآية هم أهل الكتاب ولكنها في الوقت نفسه عامة وخاصة أي فيهم وفي المسلمين معا. وهذا متطابق مع ما قررناه آنفا.

ولقد روى المفسرون (١) أحاديث عديدة نبوية وصحابية في صدد ومعنى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) وفي إباحة اكتناز المال وذمّه فقد روى أبو داود والحاكم ومالك عن أم سلمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بلغ أن تؤدّى زكاته فزكّي فليس بكنز وفي رواية ما أدّي زكاته فليس بكنز» (٢). وقد أخرج الترمذي والحاكم حديثا آخر عن أبي هريرة مرفوعا جاء فيه : «إذا أدّيت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك» (٣). وروي عن ابن عمر أن الكنز هو كل مال لا تؤدى زكاته ولو كان غير مدفون وإن قلّ وأن كلّ مال تؤدى زكاته ليس كنزا ولو كان مدفونا وإن كثر. وروي مثل هذا عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر كذلك قوله لا أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله فيه. وروي عن

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري. والنصوص التي ننقلها هي من الطبري والبغوي وابن كثير.

(٢) التاج ج ٢ ص ٦.

(٣) تفسير القاسمي.

٤٢٠