التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)) وهذه (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)) وآيات آل عمران (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)) وفي آيات سورة آل عمران [٩٣ و ٩٤] شاهد قوي حاسم.

ولقد اتهم القرآن الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب بتحريف ما عندهم من كتب لنفس الدافع على ما جاء في آيات عديدة منها آيات البقرة هذه (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦)) ومنها آية سورة النساء هذه (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [٤٦] وآية سورة المائدة [١٤] التي مرت قبل قليل. فجاءت هذه الجملة لتدمغهم بالإضافة إلى ذلك بإخفاء كثير مما عندهم وإنكاره أيضا لنفس الدافع. ولقد كان إيمان الذين آمنوا منهم فاضحا لهم في العملين معا ومصداقا لما قرره القرآن من ذلك بطبيعة الحال.

وقد يكون في هذا وذاك من ناحية ما تأييد لما فتئنا ننبه عليه من أن ما جاء في القرآن من تقريرات إيمانية وقصص متصلة بتاريخ وعقائد أهل الكتاب ولم يرد في أسفار أهل الكتاب المتداولة اليوم هو من جملة ما كان في أيديهم وما كانوا يخفونه أو يحرفونه بسبيل الإنكار والمكابرة. وقد ظلّ هذا دأب الذين لم يؤمنوا بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم عدت عليه العوادي أو أبيد نتيجة لذلك فلم يصل إلى زمننا. وفي أسفار العهد القديم المتداولة اليوم دلائل عديدة على أنه كان هناك أسفار

٨١

أخرى لم تصل إلينا على ما ذكرناه وسميناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [١٥٧] من سورة الأعراف. فيكون في ذلك دلالة من كتبهم التي يتداولونها ويقدسونها على ما قلناه.

وإذا كان كثيرا مما تقدم نتيجة إلى اليهود فإنه وبخاصة الآيات التي نحن في صددها ثم آيات القصص والأعراف يصدق على النصارى أيضا. وآيات سورة المائدة [٨٢ و ٨٣] التي أوردناها تنطوي بخاصة على موقف فريق من النصارى بصراحة. ومع ذلك ففي تعليقنا على كلمة الإنجيل في سياق آية الأعراف [١٥٧] أوردنا كثيرا من الشواهد التي نحن في صددها على كون النصارى أيضا كانوا يخفون ويبعدون ويحرفون كثيرا من أسفار وقراطيس نتيجة لما كان بينهم من خلاف وشقاق ونزاع. وكان كل فريق منهم يتهم الفريق الآخر بتحريف ما في يده من كتب وقراطيس (١) وكان عدد الأناجيل كبيرا جدا حتى ليصل في بعض الروايات إلى عشرين وبعضها إلى أكثر فاختفى معظمها أو باد أو أبيد. وكان ذلك قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والنص القرآني صريح بأن ذلك كان قد امتد إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإذ أن طوائف كثيرة لم تؤمن بالنبي وظلّت على خلاف وشقاق فيما بينهم أيضا بعده فيكون ذلك قد امتد إلى ما بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)) [١٧]

__________________

(١) انظر كتاب دليل الحيارى للإمام ابن قيم الجوزية والجزء الثالث من تاريخ سورية للدبس وكتابنا القرآن والمبشّرون. وقد عقد رشيد رضا في تفسيره في سياق هذه الآية فصلا طويلا على تاريخ الأناجيل وما طرأ عليها من تحريفات. وفعل مثل ذلك في سياق تفسير الآيات المماثلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وآل عمران والنساء فليرجع إليها من أراد التوسع والاطلاع أيضا.

٨٢

تعليق على الآية

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ...) إلخ

عبارة الآية واضحة. وفيها بيان لأحد انحرافات النصارى وتقرير كون الذين يقولون إن الله هو المسيح ابن مريم كفارا بالله عزوجل. وسؤال في معرض التحدي موجّه إلى العقول والقلوب معا عما إذا كان أحد يستطيع أن يمنع الله عزوجل أن يهلك المسيح وأمّه ومن في الأرض جميعا. فهو صاحب ملك السموات والأرض وما بينهما خالق كلّ شيء والقادر على كل شيء.

ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية لنزول هذه الآية أيضا. ويتبادر لنا أنها متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وأنها هي الأخرى جاءت استطرادية لتشير إلى أحد انحرافات النصارى التي ارتكسوا فيها بقولهم إن الله هو المسيح نفسه بسبب عدم إدراكهم ما جاء به عيسى عليه‌السلام الذي أدى إلى ما أدى إليه من دبيب الخلاف والانقسامات والعداوة والبغضاء بينهم.

والآية صريحة بأن النصارى كانوا حينما نزلت يعتقدون أن الله تعالى هو المسيح. والمشهور الذي تفيده سلسلة آيات سورة مريم [١٦ ـ ٢٦] التي سبق تفسيرها أنهم كانوا وما يزالون يعتقدون أنه ابن الله. ومن المشهور أيضا أنهم كانوا وما يزالون يعتقدون أن المسيح هو أحد الأقانيم الثلاثة لله الواحد. وهذا قد يستفاد من آية سورة النساء [١٧١] ومن آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد. غير أن ما نقلناه عن إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم من قصة بشارة الملك لمريم بالمسيح كغلام لها وحبلها به وولادته ورسالته يستتبع أن الله تعالى الذي هو عندهم أقنوم الأب كان شيئا آخر بشكل ما غير المسيح أقنوم الابن حينما حبلت به مريم ثم وضعته إنسانا ونشأ وعاش في الدنيا كذلك.

ولقد حكت الأناجيل على ما أوردناه في سياق سورة مريم أقوال المسيح التي منها أن أباه الذي في السموات هو الذي أرسله وأنه يفعل ويقول ما يأمره به حيث تستحكم العبارة القرآنية هنا في عقيدة النصارى بأن الله هو المسيح استحكاما

٨٣

مفحما قويا. ولا سيما إنه كان بين النصارى من يعتقد أن المسيح لا يتساوى على أي حال في ألوهيته مع الله وأن طبيعته اللاهوتية والناسوتية ممتزجة بحيث لا يكون إلها كاملا ولا إنسانا كاملا. وكان هؤلاء أكثرية نصارى بلاد الشام ومصر والعراق في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعروفين باليعقوبيين والنسطوريين بالإضافة إلى مذاهب النصارى الأخرى فيه على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة مريم.

هذا والمتبادر أن الفقرة الأخيرة هي في صدد الردّ على ما في جعل ولادة المسيح الإعجازية سببا للاعتقاد بألوهيته أو نبوّته أو جزئية إلهيته له أو دليلا عليه من حجة قاصرة في سبيل الإفحام أيضا.

ولقد نبهنا في سياق وتفسير آيات النساء [١٧١ و ١٧٢] إلى مزاعم بعضهم بكون الأقانيم هي صفات الله مثل صفات (الحيّ القيّوم العالم) التي وصف بها الله في القرآن ونبهنا على ما في هذا من تهافت ومغايرة لما جاء في الأناجيل نفسها فنكتفي هنا بهذه الإشارة.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)) [١٨].

تعليق على الآية

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ...) إلخ

عبارة الآية واضحة كذلك. وفيها حكاية لما كان يدعيه اليهود والنصارى من أنهم أولياء الله وذوو الحظوة عنده. وردّ إنكاري فيه تحدّ وإفحام. فالله يعذبهم كما يعذب غيرهم ولو كانوا كما يدعون لما كان ذلك. وإنهم لبشر كسائر البشر معرضون لغضب الله ورضائه وفاق أعمالهم. وإليه مصيرهم فيجزيهم عليها.

وقد روى الطبري أن جماعة من اليهود أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلّموه وكلّمهم

٨٤

ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا ما تخوّفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحبّاؤه فأنزل الله الآية وتابعه المفسرون الآخرون في رواية الرواية.

ويلحظ أن الآية قد حكت قولا مشتركا منسوبا إلى اليهود والنصارى معا مما يسوغ القول أكثر أنها استمرار للسياق الاستطرادي. وأن أسلوبها وضمير الجمع المخاطب فيها من قبيل حكاية الحال والجواب عليها مما هو مألوف في النظم القرآني. وقد مرت منه أمثلة كثيرة. ولا يمنع هذا أن يكون هذا القول صدر من بعض اليهود في موقف ما وأن يكون صدر كذلك من بعض النصارى أيضا فاقتضت حكمة التنزيل حكايته في هذا السياق.

والمتبادر أن هذا القول الذي كان يصدر عن اليهود والنصارى كان يصدر في معرض التبجح بأنهم على هدى من الله وبأنهم مستغنون عن دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهداه ردا على مخاطبتهم وتوجيه الدعوة إليهم بتصديق الرسالة المحمدية. وأسلوب الردّ قوي مفحم وبخاصة في هتافه بهم بأنهم ليسوا إلّا أناسا كسائر الناس فيهم قابلية الهدى والضلال والصلاح والخطأ.

ولقد حكت آيات عديدة في سورة البقرة وآل عمران والجمعة تبجحات اليهود بأنهم أولياء الله من دون الناس وبأن الدار الآخرة خالصة لهم وبأنهم لن تمسّهم النار إلّا أياما معدودات كما حكت آيات أخرى في سورة البقرة تبجحات النصارى واليهود معا بأنه لن يدخل الجنة إلّا من كان على دينهم وأن من أراد الهدى فعليه أن يكون على دينهم. وتكرر الحكاية يدل على تكرر المواقف بطبيعة الحال.

والقول المحكي وإن كان مطلقا فالمتبادر أنه قول الذين كانوا يصرّون على رفض الإجابة إلى الدعوة المحمدية ويقفون منها موقف العناد منهم. وقد ارعوى كثير منهم فآمنوا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل الله عليه وتابعوه على ما ذكرته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة.

ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار وينعتون الله بربّ إسرائيل وينسبون إليه الوعود المتنوعة بالعناية بهم ورعايتهم في مختلف الظروف على

٨٥

ما يستفاد من أسفار العهد القديم المتداولة المكتوبة بأقلام متأخرة بعد موسى عليه‌السلام والتي تأثرت كتابتها بأحداثهم وعقدهم على ما نبهنا عليه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [١٥٧] من سورة الأعراف. ولقد كان النصارى يقرأون في الأناجيل المكتوبة بدورها بأقلام متأخرة بعد عيسى عليه‌السلام أن الذين يؤمنون بعيسى وتعاليمه يدعون أبناء الله وأن المسيح كان ينعت الله بأنه أبوهم الذي في السموات. فالمتبادر أن هذا وذاك أيضا مما كان يحفز الذين ظلوا مناوئين للرسالة المحمدية من الطائفتين إلى ذلك التبجح ويتخذونه ذريعة للمناوأة. فردّت عليهم الآية بالردّ القوي المفحم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)) [١٩].

(١) أن تقولوا : لئلا تقولوا.

تعليق على الآية

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ...) إلخ

عبارة الآية واضحة كذلك. وفيها عودة إلى توجيه الخطاب إلى أهل الكتاب مع تعليل جديد. فقد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم على فترة وانقطاع من مجيء الرسل ليجدد عهد الله ويبين لهم حدوده. ويدعوهم إلى السير في نطاق ذلك حتى لا يبقى لهم حجة في البقاء على ما هم فيه من انحراف وشذوذ وانقسام. وحتى لا يقولوا إنه لم يأتهم بشير ونذير يبيّن لهم ما هم عليه من خطأ وضلال.

والجملة الأخيرة في مقامها ذات مفهوم جديد. فالله قدير على كل شيء. ولا يحدّ قدرته شيء. وهو الذي أرسل الرسل الأولين الذين يعترفون بهم. وليس بدعا على قدرته أن يرسل رسولا من جديد.

ولقد روى الطبري أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا

٨٦

لليهود : اتقوا الله فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته. فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا : ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله الآية.

ويلحظ أن الآية موجهة إلى أهل الكتاب مثل الآية [١٥] المقاربة لها في الصيغة ، حيث يتبادر أكثر أن تكون استمرارا في السياق الاستطرادي وجزءا منه. وهذا لا يمنع أن يكون الجماعة المذكورون في الرواية قد قالوا لجماعة اليهود ما قالوا وأن جماعة اليهود قد ردّوا عليهم بما ردّوا في موقف ما.

وأسلوب الآية قوي في صدد الدعوة المحمدية وتوجيهها إلى أهل الكتاب. وفيه صراحة تدعم صراحة الآية [١٥] في شمول الدعوة لأهل الكتاب فضلا عن غيرهم.

وعلى ضوء ما جاء في الآيتين [١٥ ـ ١٦] يصحّ القول إنهما في صدد تقرير أن حكمة الله تعالى قد اقتضت إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فترة انقطاع الرسل بالنور والكتاب المبين ليبيّن للناس وبخاصة لأهل الكتاب حدود ويحلّ مشاكلهم ويصحح انحرافاتهم ويستجيب إلى حاجاتهم ويجمعهم جميعا تحت لواء الدين الحق الذي أرسله الله به.

والآية قد جمعت تعابير (الرسول) و (البشير) و (النذير) معا على معنى أن مهمة الرسول هي التبشير والإنذار. وفي هذا ردّ على ما قاله بعض المستشرقين اعتباطا من أن القرآن كان يفرّق بين معاني النذير والرسول وأنّه مرّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فترة كان يتحاشى فيها أن يقول بأنه رسول ويكتفي بالقول إنه نذير ومنذر مع أن هذا غير صحيح أيضا لأن القرآن وصف النبي بالرسول منذ وقت مبكر في مكة وفي أوائل ما نزل من السور (الآية ١٥ من سورة المزمل) ثم تكرر وصفه بالرسالة في آيات كثيرة أخرى مكية ولأن في القرآن المكي آيات كثيرة تفيد أن التبشير والإنذار هما مهمة الرسول.

هذا ، والسلسلة التي تبتدئ بالآية [١٢] مصبوبة كلّها على كون مفهوم (أهل الكتاب) هم اليهود والنصارى. وفي هذا تدعيم لما قلناه في آخر تفسير الآية [٥].

٨٧

ولقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون هذا الرسول البشير النذير الذي هو خاتم النبيين كما جاء في الآية [٤٠] من سورة الأحزاب. وأن يكون هذا الدين هو جماع الهدى والحق ليكون دين الإنسانية جميعا ويظهر على الدين كلّه كما جاء في آية سورة الفتح [٢٨] والصف [٩] فشاءت حكمته تبعا لذلك أن يكون كاملا تاما مستجيبا لكل حاجات البشر وحالا لكلّ مشاكلهم على اختلاف مستوياتها وأنواعها كما جاء في الآية الثالثة من هذه السورة وآيات سورة النحل [٨٩] والأنعام [٣٨] والأعراف [١٥٧]. وكان في ذلك كلّه أعظم شرف للجنس العربي في دور عروبته الصريحة لأنه منه وكتابه بلغته. وقد حمل بذلك أعظم وأشرف رسالة ومسؤولية إنسانية خالدة. ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون هلّا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (١) ولقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (٢).

وهذا الحديث يساق في سياق الآيات التي نحن في صددها التي تهتف بأهل الكتاب الذين يستفاد من السياق السابق أن المقصود بهم اليهود والنصارى وأنه قد جاءهم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذيرا وبشيرا على فترة من الرسل لئلّا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير وينبغي أن لا يكون هذا الحديث والحالة هذه حاجبا للحقيقة القرآنية المقررة في آيات كثيرة بأن مصير غيرهم من جميع النحل والملل والفئات الذين يسمعون بالنبي ولا يؤمنون به هو نفس المصير.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٠٥.

(٢) التاج ج ١ ص ٢٠.

٨٨

الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)) [٢٠ ـ ٢٦]

(١) وجعلكم ملوكا : أكثر المفسرين على أن هذا التعبير قد قصد به ما تيسر لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من الحرية وملك النفس بعد العبودية لفرعون مصر. وأوردوا حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه «من كان له بيت وخادم فهو ملك» وقد يوجّه هذا إطلاق العبارة على جميع بني إسرائيل.

(٢) من الذين يخافون : هنا محذوف مقدر أي يخافون الله.

(٣) أنعم الله عليهما : وهنا أيضا محذوف مقدر أي شملهما الله بنعمة الهدى والتقوى والتثبيت والاعتماد على الله.

تعليق على الآية

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ

إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ...)

والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين.

وردّ على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقرّ بأن الله تعالى

كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد. وما كتبه عليهم

من شتات وذلّة وتسليط وغضب بسبب انحرافاتهم

احتوت الآيات تذكيرا بموقف بني إسرائيل من موسى عليه‌السلام حينما

٨٩

أخرجهم من مصر وأرادهم على الدخول إلى الأرض المقدسة. وما كان من جبنهم وخوفهم من قوة سكانها وجبروتهم. وما كان من دعوة موسى عليهم. وقضاء الله عليهم بالتيه أربعين سنة. ووصفهم بالفاسقين. وعبارتها واضحة.

ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الاستطرادي. فقد ذكر فيه ما أخذه الله من مواثيق من اليهود والنصارى وما كان من نقضهم لها إجمالا. ثم أخذ يذكر فيه بعض بيانات متصلة بمعنى النقض والانحراف. وقد ذكر شذوذ النصارى في عقيدتهم بالمسيح. فجاء هذا الفصل ليذكر بعض مواقف بني إسرائيل وشذوذهم أيضا.

وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها هذا الحادث في القرآن وهو مذكور في الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد بشيء من التفصيل. وما ذكر هنا متطابق إجمالا لما ورد في هذا السفر. وقد جاء مقتضبا لأنه جاء في معرض التذكير والعظة وضرب المثل ولإبراز موقف الجبن والعناد والتعجيز الذي وقفه بنو إسرائيل من أمر الله ورسوله جريا على الأسلوب القصصي في القرآن.

وخلاصة ما جاء في الإصحاحين المذكورين أن الله أمر موسى بإرسال وفد فيه شخص من كلّ سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ليتجسّس حالة الأرض المقدسة. فذهبوا وعادوا يقولون إنها أرض تدرّ لبنا وعسلا وحملوا معهم قطفا عظيما من العنب للدلالة على ذلك ثم قالوا ولكن سكانها أقوياء ومنهم عمالقة من جبابرة بني عناق. ومدنهم حصينة. وقد رأينا أنفسنا كالجراد أمامهم. ففزع بنو إسرائيل وهاجوا على موسى وقالوا لنقم علينا رئيسا ونعد إلى مصر. وانفرد عنهم يوشع وكالب من الوفد فحاولا أن يهوّنا الأمر على بني إسرائيل ويبثّا فيهم الشجاعة فسخطوا عليهما وكادوا أن يرجموهما. فغضب الربّ عليهم وأقسم أن لا يدخل الأرض المقدسة الرجال الموجودون وأن يميتهم في البرية باستثناء عبديه يوشع وكالب. وهكذا ظلوا يتيهون في صحراء سيناء وأطرافها إلى أن فني الذين تمردوا على أمر الله.

٩٠

وفي كتب التفسير (١) بيانات كثيرة منها ما هو مطابق مع ما جاء في سفر العدد ومنها ما لا يتطابق ومشوب بالمبالغة. ومن ذلك مثلا أن واحدا من الجبارين اسمه عوج الذي تذكر بعض الروايات (٢) أن طوله كان ٣٣٣٣ ذراعا حمل الاثني عشر مندوبا بيده وعلى رأسه حملة حطب وانطلق بهم إلى امرأته فقال لها انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها وقال لها ألا أطحنهم برجلي فقالت بل خلّ عنهم حتى يخبروا بما رأوا. والبيانات التي يوردها المفسرون معزوة إلى رواة الأخبار في الصدر الإسلامي الأول حيث يدل هذا على أن العرب في زمن النبي كانوا على علم إجمالا بهذا الحادث عن طريق اليهود كما هو المتبادر.

ولقد وقف المفسرون عند جملة (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) فرووا عن ابن عباس وغيره أن الجملة تعني ما اختصوا به من تظليل الغمام وتنزيل المنّ والسلوى وتفجير عيون الماء من الحجر بضربة عصا موسى. وقالوا إلى هذا إن كلمة (الْعالَمِينَ) إنما تعني العالمين في ذلك الزمن وليس كل زمن لأن الله تعالى آتى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النعم والكرامة ما لم يؤت بني إسرائيل. والمتبادر أن هذا التأويل هو الأوجه وهو حقّ وصواب.

ولقد وقفوا كذلك عند جملة (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) وقالوا إنها لا تعني الملك بمعناه الشهير بدليل أن الكلمة شاملة لجميع بني إسرائيل. ولو أريد ذلك لجاءت الجملة (وجعل منكم أو فيكم ملوكا) كما جاءت الجملة التي قبلها وإنما عنت ما تيسّر لهم من حرية وملك نفس بعد الاستعباد الطويل في مصر. ورووا إلى هذا عن أنس بن عياض أنه سمع زيد بن أسلم يقول في تأويل الجملة لا أعلم إلّا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من كان له بيت وخادم فهو ملك» وأوردوا حكاية من هذا الباب جاء فيها أن عبد الله بن عمرو سأل شخصا شكى الفقر : هل لك بيت تسكنه وامرأة تأوي إليها. قال نعم. فقال له إنك لست فقيرا. فقال وإن لي خادما أيضا فقال له

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي إلخ.

(٢) في تفسير الطبري صور عديدة أخرى مماثلة لهذه الصورة أو بديلة عنها أيضا.

٩١

إنك من الملوك. وفي كل هذا وجاهة وسداد.

ولقد وقفوا عند كلمة (الْمُقَدَّسَةَ) فرووا عن أهل التأويل أنها بمعنى المباركة أو المطهرة من الشرك أو أن الله قدّسها وباركها لأن حكمته شاءت أن تكون مهبط وحيه ومخرج أنبيائه. وأنها جميع بلاد الشام أو منطقة الطور. أو فلسطين والأردن.

وتأويل المقدسة بالمباركة متسق مع نصوص القرآن حيث جاء في آية سورة الأعراف [١٣٧] جملة (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) وفي الآية الأولى من سورة الإسراء (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) وفي آية سورة الأنبياء [٧١](وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها). ونصّ آية الإسراء بخاصة يفيد أن المقصود هو أرض فلسطين التي كان المسجد الأقصى فيها كما هو المتبادر .. ولقد نعتت هذه الأرض في الأسفار المتداولة بأرض كنعان نسبة إلى القوم الذين كانوا يعمرونها كما جاء ذلك في الإصحاح (١٢) من سفر التكوين في سياق ذكر هجرة إبراهيم وامرأته ولوط ابن أخيه. ثم ذكرت بهذا النعت مرارا في هذا السفر وفي الأسفار الأخرى ، وفي سفر التكوين خبر تجلّي الله لإبراهيم ووعده له بأن تكون هذه الأرض ثم بلاد أخرى بعدها لنسله. ثم تجلّي الله لإسحاق ويعقوب وتوكيد وعده لهما. ويتخذ اليهود عبارات أسفارهم سندا لدعواهم في ملك فلسطين وما حولها شمالا وشرقا وجنوبا حتى تصل هذه الدعوى من (النيل إلى الفرات) أبديا ويتخذون عبارات القرآن وبخاصة في هذه الآيات وآية الأعراف [١٣٧] وسيلة إلى إقناع المسلمين بذلك.

والأسفار التي يستندون إليها كتبت متأخرة عن موسى فضلا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين سبقوا موسى بمئات السنين وتأثرت بالأحداث التي جرت لبني إسرائيل والتي تملّكوا نتيجة لها أرض كنعان وبعض أنحاء مما جاورها شرقا

٩٢

وشمالا على ما ذكرناه في سياق تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ولم تخلص لهم قط. وظل سكانها الأولون يسكنون معهم ثم بعد تشردوا عنها عن أنحاء الأرض كما هو مسجّل في أسفارهم. بحيث يصحّ القول بجزم إن تلك الدعوى لم تتحقق لهم في أي وقت ليكون لهم حقّ استئنافها. فضلا عن أن ذلك التملك كان بالقوة وإراقة الدماء ونهب الأموال ولا يمكن أن يكون العدوان مانحا لأي حق. وهذا إذا قصر الكلام على وجهة نظرهم. وبالنسبة للنصوص القرآنية فإن وجهة نظر المؤولين والمفسرين هي أن ما ورد في الآيات التي نحن في صددها وفي آية الأعراف لا يفيد تأبيدا ولا استمرارا وأنه بمثابة إيذان لموقف رباني إزاءهم مقابل موقف لهم. وبالنسبة لما مضى من الزمن والظروف وحسب. وقد تغير موقفهم بموقف الله منهم كما حكت ذلك آيات كثيرة على ما ذكرناه في تعليقنا على آية سورة الأعراف المذكورة ونصّ هذه الآية يفيد أن الله أورثهم الأرض بما صبروا. ولقد حكت أسفارهم إنذارات ربانية رهيبة لهم إذا انحرفوا عن حدود الله بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم والطبيعة عليهم. ولقد انحرفوا عن وصايا الله وحدوده. على ما ذكرته آيات القرآن وأسفارهم معا (١) ففقدوا منحة الله وذلك السند القرآني. وحق عليهم الشتات والدمار والذلة والمسكنة وتسليط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة مما سجلته آيات القرآن وأسفارهم معا وشرحناه في تعليقنا على آية الأعراف المذكورة بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن عبارات الآيات هنا هي حكاية لقصة وردت في الأسفار المتداولة في أيدي اليهود. بقصد العبرة والموعظة (٢). وأن من الواجب على المسلمين أن ينتبهوا إلى تضليل اليهود ودعاياتهم الكاذبة ويحذروها

__________________

(١) انظر الإصحاح ٢٦ من سفر الأحبار واقرأ أسفار القضاة والملوك وأخبار الأيام وارميا وحزقيال وانظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم وبخاصة ص ٨٢ ـ ٩٥ و ١٣٥ ـ ١٩٥ و ٢٧٢ ـ ٣١٧ وآيات البقرة [٤٠ ـ ١٤٦] وآل عمران [٧١ ـ ١٢٠] والنساء [٤٣ ـ ٥٦] والأعراف [١٦٢ ـ ١٦٩].

(٢) انظر الإصحاحات ١٤ و ١٥ من سفر العدد.

٩٣

وأن يعتقدوا أن ذلك الوعد القرآني قد مضى وانقضى وأن ما كتبه الله عليهم من ذلة ومسكنة وغضب وعذاب هو حقّ ومانع لكل إمكان لخلافه. وأن ما قد تيسّر لهم من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر هو عابر لامتحان المسلمين وحسب وأن الله محقق وعده وتقريره فيهم.

ولقد نبّه المفسرون إلى ماضي ما حكته الآيات من فرض الله تعالى التيه أربعين سنة على بني إسرائيل من عبرة اجتماعية. وهي كون الجيل الذي عاش حياة المسكنة والاستعباد في مصر قد فقد قوة الإقدام على النضال فقضت حكمة الله أن يبقى في الصحراء حتى يموت وينشأ جيل جديد ويكون قد عاش تلك الحياة. وهو تنبيه وجيه يصحّ أن يساق في معرض ما احتواه القرآن من عبر وحكم اجتماعية. وفيه من جهة وفي الفصل القرآني الذي نحن في صدده بعامة من جهة أخرى تلقين مستمر المدى للمسلمين بتجنب الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل وحكاه القرآن حكاية متطابقة لما في أسفارهم من أمر الله ورسوله.

ولقد روى المفسرون ورواة الأحاديث موقفا يدلّ على ما كان لذلك التلقين من أثر في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث رووا أن المقداد بن الأسود وبعض أصحاب رسول الله حينما استشارهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مناجزة قريش في يوم بدر أو في يوم الحديبية على اختلاف الروايات «لا نقول لك كما قال قوم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا ولكنّا نقاتل عن يمينك وشمالك وبين يديك وخلفك وفي رواية بل نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون» فأشرق وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان لهذا الموقف أثر كبير في ما تمّ للمسلمين تحت رايته من فتح ونصر في ذلك اليوم (١).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٩٠ و ٣٦٦ وتفسير الآيات في الطبري وابن كثير وغيرهما وقد روى البخاري الحديث الذي فيه قول المقداد في سياق غزوة بدر. والذي نرجحه أن يكون ذلك في سياق غزوة الحديبية. وأن يكون التباس في الرواية لأن آيات المائدة لم تكن نزلت والله أعلم قبل وقعة بدر.

٩٤

يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)) [٢٧ ـ ٣٢]

(١) إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك : تبوء بمعنى تعود أو تحمل وأوجه التأويلات للجملة (إني لا أبسط يدي إليك لمقاتلتك وأفضل أن تحمل وحدك إثم قتلك إياي ثم إثم معصيتك التي لم يقبل الله قربانك بسببها).

(٢) فطوعت : بمعنى أساغت ورضيت وسوّلت وزينت.

(٣) يبحث : يحفر وينبش.

(٤) سوأة : هنا كناية عن الجثة بعد الموت.

(٥) أو فساد في الأرض : معطوفة على (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي من قتل نفسا بقصد البغي والفساد في الأرض.

(٦) ومن أحياها : ومن حافظ على حياة النفس.

تعليق على الآية

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ)

والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور

عبارة الآيات واضحة. وقد أمرت أولاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلاوة نبأ ابني آدم اللذين

٩٥

قرّبا لله قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبله من الآخر. واستمرت هي والآيات الأربع التالية في سرد بقية النبأ وما كان من حوار بين الأخوين وما كان من إقدام أحدهما على قتل الآخر وندمه وخسرانه. أما الآية السادسة فجاءت معقبة على النبأ مؤذنة بما كتبه الله على بني إسرائيل نتيجة لذلك. ومنددة بهم لأنهم برغم ما أرسله إليهم من رسل بالبينات لم يرعووا وكانوا مسرفين في الأرض بغيا وفسادا.

ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. وإنما قال الطبري في سياق تفسيرها إن الله تعالى أمر رسوله بتلاوة هذه القصة على اليهود الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم عليه وعلى أصحابه ليعرّفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر وسوء مغبة الجور ونقض العهد وجزاء الناكث وثواب الوافي حيث يفيد هذا أن ضمير (عَلَيْهِمْ) عائد إلى بني إسرائيل الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة. وتابعه في صرف الضمير إلى اليهود ابن كثير. وقد صرفه الخازن إلى قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون لهم في ذلك عبرة. وصرفه الزمخشري إلى أهل الكتاب إطلاقا. وصرفه السيد رشيد رضا إلى المستمعين إطلاقا من كتابيين وغير كتابيين. ونحن نرجح كلام الطبري بقرينة الآية الأخيرة التعقيبية التي فيها تنديد باليهود. ونرجح في الوقت نفسه أنها متصلة بالسياق السابق ومعطوفة عليه. وأنها استهدفت بخاصة استئناف التنديد ببني إسرائيل الذين لم يرعووا عن انحرافهم برغم ما كان من تحذير الله لهم وإرساله رسله بالبينات إليهم.

ولقد تعددت روايات المفسرين (١) في تأويل (ابْنَيْ آدَمَ) حيث روى الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل كما روى عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل وليسا ولدي آدم من صلبه وروى في الوقت نفسه عن ابن عباس أنهما رجلان من بني آدم. وقد قال بعد أن استعرض الروايات إن القول الأول هو أولى الأقوال عنده بالصواب وهو ما عليه جمهور المؤولين والمفسّرين أيضا.

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

٩٦

وفي الإصحاح الرابع من سفر التكوين المتداول وهو أول أسفار العهد القديم قصة قتل قابيل لأخيه هابيل وهما الولدان الأولان لآدم. وكان قابيل البكر منهما. والقصة تتلى تلاوة تذكير على بني إسرائيل الذين كان سفر التكوين متداولا عندهم. حيث يبدو من ذلك صواب تصويب الطبري وجمهور المؤولين والمفسرين وكون القصة القرآنية هي نفس القصة. ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود جاء فيه «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سنّ القتل» حيث يؤيد هذا الحديث ذلك أيضا.

وبين النصّ القرآني وما جاء في الإصحاح المذكور توافق في الجوهر. وملخص ما جاء فيه «أن قابيل كان يحرث الأرض وهابيل كان راعي غنم. وأن كلا منهما قدم للربّ تقدمة فتقبل الله تقدمة هابيل دون قابيل فشق ذلك على قابيل وقال لأخيه لنخرج إلى الصحراء فلما خرجا وثب عليه فقتله. وسأل الربّ قابيل ماذا صنع بأخيه وأين هو فأنكر فقال له إن دمه يصرخ إليّ من الأرض. ثم لعنه وأنذره بأن يبقى شاردا على وجه الأرض ولا تعطيه الأرض قوتها فخرج فأقام في أرض نوا شرقي عدن) وليس في الإصحاح الحوار الذي حكته الآيات إلّا قصة الغراب. ونعتقد أن هذا مما كان واردا في قراطيس أخرى ومتداولا في أوساط الكتابيين.

ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره بيانات مفصلة ومتنوعة على هامش هذه الآيات فيها قصة اختلاف الأخوين على تبادل أختيهما التوأمتين لتكون كل واحدة منهما زوجة للآخر واقتراح أبيهما بتقريب كل منهما قربانا إلى الله على سبيل الاحتكام إليه وتقبّل الله قربان هابيل بإنزاله نارا أكلته دون قربان قابيل وتعليم إبليس لقابيل كيفية قتله لأخيه. وإرسال الله غرابين قتل أحدهما الآخر ودفن القاتل القتيل ليكون تعليما لقابيل بدفن أخيه الذي قتله. وأغرب بعضهم فذكر شدة توجّع آدم على قتل ابنه وإنشاده شعرا عربيّا فصيحا بذلك. حيث يدل كل هذا على كل حال أن القصة وما جاء في الآيات مما ليس في سفر التكوين المتداول مما كان

٩٧

متداولا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعم ما قلناه قبل.

والأسلوب القرآني للقصة يدل بوضوح على أنها إنما جاءت للعظة والتذكير وهو الهدف الجوهري الذي استهدفه القرآن دائما في قصصه. وقد استهدفت آيات القصة فيما استهدفته كما هو المتبادر بيان كون الله عزوجل الذي يعلم نوايا الناس في أعمالهم وسلوكهم إنما يتقبل من المتقين ذوي النوايا الحسنة والرغبات الصادقة ويشملهم برضائه ، ثم بيان ما ترتب على حادث عدوان الأخ على أخيه بغيا من حكم رباني عام كتبه على بني إسرائيل بأن الذي يقتل نفسا بغير حق وبقصد الفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. ومن عفا عن دم نفس وحماها فكأنما أحيا الناس جميعا. ثم التنديد ببني إسرائيل على عدم ارعوائهم وارتداعهم عن الإسراف في البغي والفساد برغم ما أرسله الله إليهم من رسله بالبينات.

ويتضح من إنعام النظر في هذه الأهداف أنها عامة الشمول لمختلف الأمم وفي مختلف الظروف. وهي والحالة هذه شاملة لبني إسرائيل ولغيرهم وبخاصة للمسلمين الذين يجب عليهم اتخاذ ما جاء في القرآن من عظات وتلقينات هديا لهم ونبراسا. ولقد روى ابن كثير أن سائلا سأل الحسن البصري من علماء التابعين هل هذه الآية لنا كما هي لبني إسرائيل؟ فقال : إي والذي لا إله غيره. وما جعل الله دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا.

وينطوي في جملة (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) عظات اجتماعية بالغة. فالنفس الواحدة تمثل النوع في جملته. ومستحلّ دمها مثل مستحلّ دم كل نفس أو جميع النفوس. وكذلك الأمر في احترام وحماية دم النفس الواحدة. وفيها تقرير لوحدة البشرية وإيجاب حرص كل إنسان على حياة المجموع واجتنابه ضرر كل فرد. وإيجاب التكافل والتضامن بين البشر في كل ذلك كما قال السيد رشيد رضا. وفيها بالإضافة إلى ذلك تعظيم دماء البشر على بعضهم وتعظيم عقوبة المجترئ عليها وتعظيم ثواب من يحترمها ويحميها كما قال الطبري.

٩٨

واختصاص بني إسرائيل بالكلام في الآية التعقيبية التي جاءت فيها تلك الجملة ليس من شأنه أن يغطي على تلقينها الشامل المستمر لغير بني إسرائيل وبخاصة للمسلمين في كل ظرف ومكان.

والمتبادر أن هذا الاختصاص هو متصل بسياق الآيات الذي احتوى تنديدا ببني إسرائيل حيث هدف إلى استئناف التنديد بهم بسبب استمرارهم على إسرافهم وبغيهم إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برغم ما جاءهم من الله من رسل وأنذروا به من نذر.

وقد لا يكون في الأسفار المتداولة اليوم جملة مماثلة للجملة التي جاءت في الآية السادسة بأن الله كتبها على بني إسرائيل. غير أن هذا ليس من شأنه أن ينقض ما جاء في القرآن من ذلك. لأن بني إسرائيل قد حرفوا وبدلوا وأخفوا وأضاعوا كثيرا مما جاءهم وبخاصة في سفر الوصايا المبلغة من الله تعالى لموسى والذي كتبه موسى وسلّمه للكهنة من اللاويين على ما ذكرناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ومع ذلك ففي أسفار العهد القديم العائدة إلى عهد موسى عليه‌السلام أو بعده تشريعات وإنذارات مشددة ورهيبة بشأن الانحرافات الدينية والاجتماعية والأخلاقية ، على ما ذكرناه قبل.

هذا ويلحظ أن السياق الطويل الذي بدأ من الآية (٤) في صدد أهل الكتاب واليهود والنصارى لم يذكر من شذوذ النصارى إلا إشارة إلى نسيانهم حظّا مما ذكروا به ثم إلى عقيدتهم بألوهية المسيح في حين جاء الكلام مسهبا وشديدا بالنسبة لليهود. وهذا ما تكرر في القرآن ونرى في هذا قرينة على صورة كل من الفريقين في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يبدو منها أنه لم يكن من النصارى مواقف عملية وخلقية مزعجة وخبيثة بعكس اليهود. وهذه الصورة ترى خلال ما جاء في القرآن عن النصارى واليهود بصورة عامة باستثناء ما جاء في بعض آيات سورة التوبة مما سوف نعلق عليه في مناسبته.

وقد يكون في ذكر اليهود بالأسلوب الذي ذكروا فيه قرينة على أن هذه الآيات قد نزلت قبل جلاء جميع اليهود عن المدينة وعلى الأقل قبل وقعة جلاء بني

٩٩

قريظة آخر من نكّل بهم منهم. وقد يكون في الآية التالية قرينة أخرى على ذلك. والله تعالى أعلم.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وأوردناه قبل في صدد القتال والفتن بين المسلمين مما هو متناسب مع مدى الآيات التي نحن في صددها. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة قال «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار. قيل فهذا القاتل فما بال المقتول. قال إنه أراد قتل صاحبه» (١) وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سعد جاء فيه «قال سعد يا رسول الله أرأيت إن دخل عليّ بيتي وبسط يده ليقتلني. قال كن كابن آدم القائل (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) (٢) ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة برواية الإمام أحمد جاء فيها إن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان «أشهد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي قلت يا رسول الله أفرأيت أن دخل عليّ بيتي فبسط يده ليقتلني فقال كن كابن آدم وتلا (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨)) (٣). ونصوص الأحاديث النبوية تفيد أنها في صدد ما قد يقع بين المسلمين من فتن واقتتال. ومن الواجب أن ننبّه في هذه المناسبة أن القرآن والسنّة قرّرا حقّ المرء بالدفاع عن

__________________

(١) هذا النصّ منقول عن التاج ج ٥ ص ٢٧٥ والجملة الأخيرة منه في نصّ ابن كثير هكذا (إنه كان حريصا على قتل صاحبه).

(٢) التاج ج ٥ ص ٢٧٥.

(٣) الشطر الأول من هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذه الصيغة «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي. من تشرّف لها تستشرفه. فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به» التاج ج ٥ ص ٢٧٥.

١٠٠