التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

الدين» (١) وحديث عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقّهوا» وعلّق البغوي على هذا الحديث تعليقا لا يخلو من الوجاهة حيث قال : «والفقه هو معرفة أحكام الدين وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية. ففرض العين مثل علم الطهارة والصلاة والصوم فعلى كلّ مكلّف معرفته. وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على واحد يجب عليه معرفتها ومعرفة علمها مثل الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه. وأما فرض الكفاية فهو أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا فإذا قعد أهل بلد عن تعلّمه عصوا جميعا. وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث». ومما ساقه في صدد ذلك حديث نبوي جاء فيه «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» وحديث عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» (٢). وحديث عن ابن عباس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد» (٣) وأردف هذا بقول للشافعي وهو «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة» (٤).

__________________

(١) هذا الحديث رواه الأربعة أيضا عن معاوية. وله تتمة وهي «وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» التاج ج ١ ص ٥٣.

(٢) روى هذا الحديث الترمذي وفي روايته هذه الزيادة ثم قال : «إنّ الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخير» التاج ج ١ ص ٥٦.

(٣) روى هذا أيضا الترمذي انظر المصدر نفسه.

(٤) ومن هذا الباب حديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء جاء فيه : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله له طريقا إلى الجنّة وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إنّ العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما. إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» التاج ج ١ ص ٥٤ و ٥٥ وعن أبي هريرة رواية الترمذي : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» وفي رواية «من طلب العلم كان كفّارة

٥٦١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)) [١٢٣].

عبارة الآية واضحة. وفيها حثّ للمسلمين على قتال الأقرب إليهم من الكفار والإغلاظ والشدة في معاملتهم وقتالهم. مع التطمين بأن الله مع الذين يتقونه ويلتزمون حدوده.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ...)

وما روي فيها من أقوال وما تضمنته من تلقين وتعليم

ولقد قال الطبري في صدد هذه الآية إن الله أمر المسلمين بقتال من وليهم من الكفار دون من بعد منهم. وكان الذين يلون المخاطبين في الآية يومئذ الروم لأنهم كانوا سكان الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق. أما بعد الفتوح فالمسلمون مأمورون أن يقاتل أهل كل ناحية من وليهم من الأعداء دون الأبعد ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام فإن اضطروا لزم عونهم ونصرهم. ولهذا تأول كل من تأول هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء. وروى بعد هذا عن ابن عمر أنه أجاب على سؤال عن قتال الديلم فقال عليك بالروم. وروي عن الحسن أنه أجاب على سؤال عن قتال الروم والديلم فقال الديلم (١). وروى عن ابن زيد في تأويل الآية قوله : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاتل كفار العرب حتى فرغ منهم فلما فرغ أمر بقتال أهل الكتاب». وقال الخازن عزوا إلى

__________________

لما مضى» المصدر نفسه ص ٥٥ ، ٥٦ وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» المصدر نفسه ص ٦٤ وروى مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» المصدر نفسه ص ٦٦.

(١) الراجح أن المقصود هم أهل بلاد فارس.

٥٦٢

بعض العلماء ـ بدون تسمية ـ إن الآية نزلت قبل نزول (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) فلما نزلت هذه صارت ناسخة للآية (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) ومضى الخازن قائلا : «إنّ المحققين من العلماء لا يرون وجها للنسخ لأن الله لما أمر المسلمين بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصوب والأصلح وهو أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد. وبهذا يحصل الغرض من قتال المشركين كافّة. لأن قتالهم دفعة واحدة لا يتصور. ولذلك قاتل رسول الله أولا قومه ثم انتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال أهل الكتاب الأقربين قريظة والنضير وخيبر وفدك. ثم انتقل إلى غزو الروم في الشام ، ثم كان فتح الشام في زمن الصحابة. ثم انتقلوا إلى العراق ، ثم إلى سائر الأمصار».

وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا زيادة هامة يحسن نقلها. ويلوح لنا أن معظم هذه الأقوال اجتهادي من جهة ومتأثر بالوقائع التي وقعت في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده من جهة أخرى فضلا عن ما فيها من ثغرات. لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاتل بني قريظة وبني النضير ومن قبلهم بني قينقاع ومن بعدهم خيبر وما حولها قبل أن يفرغ من قتال قومه فضلا عن فراغه من قتال سائر كفار العرب. وسار بنفسه إلى دومة الجندل وأرسل سرايا عديدة إلى مشارف الشام لقتال نصارى العرب في السنين الخامسة والسادسة والسابعة ثم سيّر جيشا بقيادة زيد بن حارثة لقتال الروم في أقصى بلاد الشام في السنة الثامنة قبل أن يفرغ من هذا وذاك على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [٢٩] من هذه السورة.

وواضح من هذا أن المؤولين والمفسرين تلقوا الآية مستقلة وأداروا الكلام على مداها بصورة عامة متأثرين ببعض الوقائع. ولم يلتفتوا أو يلمحوا ما بينها وبين مدى سابقتها من صلة. مع أن الصلة بينهما وثيقة فيما نرى. وبها يمكن تأويلها تأويلا متسقا مع السياق والواقع الذي نزلت الآية في ظروفه. فالمسلمون خارج المدينة أخذوا يتوافدون إليها بقصد الجهاد مع رسول الله ومصاحبته. فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية السابقة لتنبيههم إلى أنه لا حاجة إلى قدومهم جميعهم

٥٦٣

ويكفي أن يأتي من كل فرقة منهم طائفة ثم اقتضت هذه الحكمة الإيحاء بالآية التي نحن في صددها لتؤذن المسلمين من غير أهل المدينة بأن مما يكفيهم ويجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الأعداء الكفار دون حاجة إلى مجيئهم جميعا إلى المدينة. ومع أن معظم جزيرة العرب قد أرسلت وفودها بعد غزوة تبوك وقبيلها إلى المدينة وبايعت النبي على الإسلام على ما جاء في كتب السيرة القديمة (١) فإنه بقي شراذم متفرقة مناوئة. مثل بني حنيفة بقيادة زعيمهم مسيلمة في اليمامة الذي ادعى النبوة في آخر عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثل بني أسد بقيادة زعيمهم طلحة في نجد وجماعة الأسود العنسي في اليمن اللذين ادعيا النبوة كذلك في آخر عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكانت حالة الحرب قائمة في الوقت نفسه بين المسلمين ونصارى الشام والروم والغساسنة أصحاب السلطان والحكم فيها. ومن المحتمل أن يكون قد وفد على المدينة جماعات من هذه الأنحاء فنزلت الآية للإيعاز لهم بما هو الأولى والألزم والله تعالى أعلم.

وظروف نزول الآية وهدفها من جهة والمبادئ القرآنية الجهادية المحكمة من جهة أخرى تسوغ القول إن الكفار المقصودين في الآية هم الكفار الأعداء فحسب وليس كل الكفار إطلاقا وبدءا ولو لم يكونوا أعداء محاربين ومعتدين على الإسلام والمسلمين. وهذا متسق مع قول الطبري : «أنّ كلّ من تأوّل هذه الآية يرى أن معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء». والفرق واضح بين الكفار إطلاقا وبين الأعداء منهم.

والآية في حدّ ذاتها مطلقة العبارة والتوجيه وعليها طابع التعليم والتشريع للمسلمين في جميع ظروفهم أيضا. ولعلّ مما تعلّمه هو السير على ما هو الأولى من قواعد الحرب وهو عدم توزيع القوى وفائدة حشدها وتوجيهها إلى الأقرب فالأقرب من الأعداء. مع التنبيه على أن ذلك يجب أن يكون متمشيا مع مقتضيات المصلحة الإسلامية التي يقررها ولي أمر المسلمين ، وعلى وجاهة ما قاله الطبري

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد.

٥٦٤

من أن هذا يكون ما لم يضطر إليه أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام. فإن اضطروا لزم عونهم ونصرهم ، أي ولو كان ذلك في ناحية غير قريبة. والله أعلم.

وجملة (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) لا تفسر فيما يتبادر لنا بالقسوة في القتل والإبادة أو بذلك وحسب بل بمعنى إظهار العزيمة والحمية والتصميم والشدة التي ترهب الأعداء أيضا. ولعلّ الجملة التي انتهت بها الآية التي فيها الجملة ممّا يبرز هذا التنبيه. وفي تفسير البغوي ورشيد رضا والقاسمي ما يتساوق مع هذا القول. وفيه والحالة هذه تلقين مستمر المدى.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)) [١٢٤ ـ ١٢٦].

(١) سورة : نرجح أن معنى الكلمة في مقامها هو اللغوي الذي هو «جملة من آيات القرآن» وليس «السورة» التي صارت تطلق على سور القرآن الكاملة من بدء إلى نهاية.

في هذه الآيات :

١ ـ إشارة إلى موقف من مواقف المنافقين. حيث كان بعضهم إذا ما أوحى الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسورة قرآنية سألوا سؤال المستهزئ الجاحد عن من استفاد منها زيادة إيمان وهدى وعلم.

٢ ـ وردّ منطو على التنديد والإنذار للمنافقين والتنويه بالمخلصين : فالذين أخلصوا في إيمانهم يزيدهم ما ينزل من القرآن يقينا واستبشارا لأنهم يرون فيه تعليما وإرشادا وهدى. وأما المنافقون ذوو القلوب المريضة فيزدادون رجسا إلى

٥٦٥

رجسهم بما يزدادون من شكّ وتصميم على عدم الإخلاص والتصديق حتى يموتوا كفارا جاحدين.

٣ ـ وتساؤل على سبيل التنديد من جهة والتدليل على ازديادهم رجسا إلى رجس من جهة أخرى عما إذا كانوا لا يرون أنهم يختبرون ويبتلون في كل عام مرة أو مرتين فتظهر أمارات نفاقهم وجحودهم بالمواقف التي يقفونها والأقوال التي يقولونها ويفتضح أمرهم ويتعرضون نتيجة لذلك للتقريع والخزي ثم هم لا يرعوون ولا يتوبون عن مواقفهم ولا يتذكرون ما وقع لهم فيعودون إلى الارتكاس فيها والتعرض للفضيحة والخزي والتقريع مرة بعد أخرى.

تعليق على الآية

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ..)

والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين

الآيات فصل جديد ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وعبارتها مطلقة تلهم أن المقصودين بالتنديد هم المنافقون وأن الموقف الذي يندد بهم من أجله هو موقف متكرر دائم منهم عند نزول السور والجمل القرآنية. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت مكانها للتناسب الظرفي. ولعل بعض المنافقين تساءلوا تساءلهم المستهزئ الجاحد عقب نزول بعض الآيات السابقة فنزلت الآيات تفضحهم وتندد بهم وتنذرهم. ولا يبعدأن تكون الآية [١٢٢] التي احتوت تخفيفا بعد التشديد الذي سبقها كانت موضوع التساؤل. وورود الآيات عقبها قد يكون قرينة على ذلك. وإذا صحّ هذا فتكون للآيات صلة موضوعية بما سبقها أيضا. وعلى كل حال فالشدة التي جاءت في الآيات تلهم أن الموقف الذي وقفه المنافقون كان شديد الخبث والأثر.

والآيات من حيث هي تحتوي تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان والتهذيب الديني. فعلى المؤمن المخلص أن يتلقى كل ما أتى ويأتي من الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باستبشار وتصديق واعتقاد بأن فيه حكمة وهدى حتى ولو قصر ذهنه

٥٦٦

عن إدراك ما فيه من حكمة أو غلق فهمه عن استكناه مداه وأن لا يرتاب فيما لا يدركه ويفهمه فيزداد بذلك يقينا وتسليما لله ورسوله. وكل شك أو تردد في ذلك متناقض مع صدق الإيمان بالله ورسوله. وهو ما لا يصدر إلّا من كافر أو منافق.

والآيات والحالة هذه مستمرة الحكم والتلقين لكل مسلم في كل ظرف بالنسبة لما احتواه كتاب الله عزوجل ولما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سنّة قولية وفعلية.

ولقد تعددت تأويلات أهل التأويل التي أوردها الطبري عن ماهية افتتان المنافقين في السنة مرة أو مرتين. فمنها أن ذلك بالجوع والقحط والجدب. ومنها أن ذلك بالغزو والجهاد. ومنها أن ذلك بما يشيعه المشركون عن رسول الله من أكاذيب فيستبشرون بها ويظهر كذبها فيكون في ذلك فضيحة لهم.

ونرجو أن يكون الصواب في التأويل الذي أوردناه في شرح الآيات إن شاء الله.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)) [١٢٧].

تعليق على الآية

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ...)

وما فيها من صور وتلقين

في الآية صورة أخرى للمنافقين. حيث كانوا حينما يسمعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو سورة قرآنية نزلت عليه من جديد ينظر بعضهم إلى بعض نظر المستهزئ ويتغامزون على الانصراف من مجلسه خلسة دون أن يراهم أحد ثم انصرفوا. وقد انتهت الآية بالدعاء عليهم. فليزد الله قلوبهم عمى وضلالا. فهم قوم لا يفقهون مدى الجمل القرآنية وما فيها من هدى وحكمة.

ولم نطلع على رواية خاصة في نزول هذه الآية أيضا. والمتبادر أنها استمرار

٥٦٧

للآيات السابقة في حكاية مواقف المنافقين حين نزول السور القرآنية. وهي متصلة بها سياقا وموضوعا وربما مناسبة أيضا.

والصورة التي تحتويها الآية خبيثة كالأولى. وفيها وفي سابقتها دليل على عمق شك هذا الفريق وجحوده ونفاقه. ولما كان احتمال نزول هذه الآيات بعد غزوة تبوك قويّا وهو ما قد يلهمه ترتيبها واحتمال صدور الصور التي انطوت فيها قويّا كذلك بعد هذه الغزوة ففيها دلالة على أن هذه الفئة الفاسقة ظلت مستمرة في نفاقها وخبثها ومواقفها الجحودية والتشكيكية والتشويشية والاستهزائية إلى أواخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كانت أخذت تبالغ في الحذر والرياء والتظاهر في المسايرة والملاينة والتوكيد بإخلاصها بسبب ما صار إليه موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين من القوة والإسلام من الانتشار والتوطد.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)) [١٢٨ ـ ١٢٩].

(١) عزيز عليه : يصعب ويشق على نفسه.

(٢) ما عنتّم : ما شق عليكم وسبّب لكم العنت. أو ضلالكم على رأي بعض المفسرين.

وجّه الخطاب في الآية الأولى إلى السامعين والعرب عامة بأن الرسول الذي جاءهم هو منهم يشقّ عليه ضلالهم وما يصيبهم من أذى وعنت ويحرص كل الحرص على خيرهم وصالحهم. وهو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين المخلصين منهم.

ووجّه الخطاب في الآية الثانية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التطمين والتثبيت والاستدراك : فإذا أعرض بعض الناس عنه وعمّا يدعوهم إليه بعد ما بان لهم من شدة إشفاقه عليهم وحرصه على صالحهم وخيرهم وهدايتهم فليهتف بأن حسبي الله الذي لا إله إلا هو فهو كافيني وكاف عني وإني متوكل عليه وحده. فهو ربّ

٥٦٨

العرش العظيم والملك المتصرف في الأكوان مطلق التصرف.

ومع اختلاف التوجيه في الخطاب فالآيتان وحدة تامة كما هو المتبادر.

تعليق على الآية

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ..)

والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين

وما روي في صددهما من روايات ، وتمحيص

رواية مكيّتهما ومدنيّتهما ومسألة كونهما آخر القرآن نزولا

لقد كثرت الروايات والأقوال في صدد هاتين الآيتين ومداهما. فالمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أنهما مكيّتان. ولم نر في كتب التفسير تأييدا لهذه الرواية إلا في تفسير المنار عزوا إلى ابن أبي الفرس. وهذا ورد أيضا في كتب الإتقان عزوا إلى ابن الغرس (١).

ولعل أحد الاسمين مصحّف عن الثاني. ولا يذكر رشيد رضا ولا مؤلف الإتقان قبله صفة كلام ابن أبي الفرس وسنده إن كان لغيره. وقد رجح رشيد رضا مكيّة الآيتين معللا ذلك بأن معناهما لا يظهر إلا في دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام في مكة في أول البعثة. ومعنى كلام ابن أبي الفرس وترجيح رشيد رضا أن الآيتين وضعتا في آخر سورة براءة دون أن تكونا منها.

وهناك حديث يرويه المفسّرون في صدد وضع الآيتين في موضعهما عن عبد الله بن الزبير قال (٢) أتى الحارث بن خزيمة الأنصاري بهاتين الآيتين إلى عمر بن الخطاب فقال : «من معك على هذا (٣) قال لا أدري والله إني لأشهد أني سمعتهما من رسول الله ووعيتهما وحفظتهما فقال عمر إني لأشهد أني سمعتهما من

__________________

(١) الإتقان ج ١ ص ١٦.

(٢) النص من تفسير ابن كثير.

(٣) كان عمر الذي كان يشرف على جمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنهما لا يقبل من أحد ما يأتي به من قرآن إلّا إذا كان معه شاهدان على ما ذكرته الروايات.

٥٦٩

رسول الله. ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدتها. فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعوها في آخر براءة». وهذا الحديث ليس من الصحاح. ولا يفيد أن الآيتين مكيّتان أم مدنيتان. ويفيد أنهما كانتا منفردتين لم يكن معروفا وقت نزولهما ولا السياق والسورة التي كانتا فيها.

مقابل هذا هناك حديث عن أبي بن كعب أحد علماء وقرّاء القرآن من أصحاب رسول الله يرويه المفسّرون من طرق عديدة وبصيغ متقاربة. جاء في إحداها التي رواها عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير تفيد أن الآيتين مدنيّتان وآخر ما نزل من القرآن بل وقد تفيد بقوة أنهما كانتا في آخر سورة براءة وتقرءان بعد الآية التي قبلها وهذا نصها (١) : «إنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون وأبي يملي عليهم فلما انتهوا إلى الآية (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)) ظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأني بعدها آيتين ـ هما الآيتان اللتان نحن في صددهما ـ ثم قال هذا آخر ما نزل من القرآن» ، وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. وهناك حديث رواه البخاري فيه حكاية لتكليف أبي بكر وعمر إيّاه بجمع القرآن وتتبعه حيث جاء فيه : «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة براءة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره» (٢). والمهم في بحثنا هو العبارة الأخيرة التي قد تفيد أن زيدا كان يعرف أن الآيتين هما آخر سورة براءة.

وتعقيبا على ما تقدم نقول :

أولا : إنه ليس من الضروري أن لا يظهر معنى الآيتين إلّا في أوائل عهد مكة كما قال رشيد رضا. فإنه كان في العهد المدني مواقف من المنافقين والمشركين تتحمّل معناهما.

__________________

(١) النص من تفسير ابن كثير.

(٢) التاج ج ٤ ص ٢٨ و ٢٩.

٥٧٠

وثانيا : إننا نلمح بكل قوة أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق لهما الذي احتوى صورا لمواقف خبيثة للمنافقين فأوحى الله بهما معقّبتين على هذه المواقف لتذكر أولاهما الناس بالصفات العظيمة التي اتصف بها الرسول الذي جاءهم. ولتسلي ثانيتهما النبيّ حتى لا يغتمّ ولا يعبأ بمواقف المنافقين والمشركين وأن يقول إذا أصروا عليها وتولّوا (حسبي الله وعليه توكلت).

وما روي عن أبي من أن النبي أقرأه إياهما بعد الآيتين السابقتين لهما. وما روي عن زيد قوله إنهما آخر سورة براءة يدعمان ذلك. وإذا كان حديث أبي لم يرد في الصحاح فإنه يلتقي مع حديث زيد الذي رواه البخاري. وهذا يسوغ التوقف في الحديث المروي عن عبد الله بن الزبير في صدد وضعهما في آخر سورة براءة ارتجالا. وهناك دلائل قرآنية وأحاديث نبوية وصحابية كثيرة تفيد أن القرآن كان يدون أولا بأول ثم يسجل في قراطيس وتوضع آياته وفصوله التي كانت تنزل لحدة في السور بأمر رسول الله وأن سوره رتبت حسب ما هي الآن في المصحف في أواخر حياة النبي وبأمره. وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله مصاحف مرتبة حسب المصحف وأن أصحاب رسول الله كانوا يحفظون ويقرأون القرآن حسب ترتيب المصحف أيضا بحيث يقال في صدد ما جاء في حديث البخاري عن زيد إنما أريد تدوين مصحف إمام بعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون محفوظا عند الخليفة ومرجعا وأنه تتبع ما عند الناس في الرقاع وفي الصدور من قرآن زيادة في الحرص على ضبط هذا المصحف وقد لا يكون أحد غير أبي خيثمة كتب الآيتين في رقعة لحدتهما فكان ذلك مما عني في الحديث. والله تعالى أعلم.

ولما كنا نميل إلى اعتبار حديث أبي وصحته لاتساقه مع سياق الآيات ودعم حديث زيد الذي رواه البخاري له فإننا نميل إلى فهم قوله أن الآيتين هما آخر ما نزل من القرآن بكون سورة براءة من آخر ما نزل من القرآن فيكون آخرها كذلك. لأن هناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الصحاح نذكر آيات أخرى كآخر ما نزل من القرآن ومن ذلك آيات الربا والدين في سورة البقرة على ما ذكرناه في سياق تفسيرها. والله تعالى أعلم.

٥٧١

والآية الأولى من روائع آيات القرآن في الثناء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقرير ما اتصف به من كريم الصفات وعظيم الأخلاق وكبر القلب الذي امتلأ برّا وخيرا وحلما وإشفاقا ورأفة ورحمة وحرصا بالعرب والمؤمنين. ولعلّها من هذه الناحية أروع ما في القرآن وأدلّ ما فيه على عظمة خلق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكمال صفاته وكبر قلبه وعمق إخلاصه وشدة رغبته في هداية العرب وخيرهم وإنقاذهم. ولما كانت هذه الآية على الأرجح من آخر ما نزل من القرآن أو آخره فهي خاتمة رائعة بعيدة المدى والمغزى لكتاب الله المجيد الذي أنزله الله تعالى على رسوله العظيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومع أن كمال هذه الصفات الكريمة مما يمكن أن يكون مختصا بمن علم الله أنه أهل لرسالته العظمى فإن في الآية تلقينا لما يجب أن يكون عليه أولياء أمور المسلمين من صفات وأخلاق وحثا على الاقتداء بها ما داموا قد تولوا زمام هذه الأمور وقاموا مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها كما أن من شأنها أن تكون مقياسا لأهلية وصلاح وإخلاص أولياء أمور المسلمين ودعاتهم وقادتهم ودليلا عليها.

هذا ، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثانية حديثا عن أبي الدرداء رواه أبو داود أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمّه» (١). والصيغة بمثابة دعاء والتماس من الله عزوجل. وقد قال الله (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). وفيها على كلّ حال بعث لطمأنينة النفس وسكونها.

ولقد وقف المفسرون عند جملة (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) وأوردوا بعض الأحاديث والروايات في صدد شمول الصلات الرحمية والقبلية بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومختلف قبائل العرب أو بطون قريش. وما ينطوي في ذلك من شدة الباعث على حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هداية قومه. ولقد كتبنا تعليقا على هذا في سياق الآية [١١٣] من سورة النحل وأوردنا طائفة مما روي من أحاديث وروايات فنكتفي بهذا التنبيه.

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٩٨ و ٩٩.

٥٧٢

سورة النصر

فيها أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتسبيح بحمد الله واستغفاره إذا ما جاء نصر الله وفتحه ورأى الناس يدخلون في دينه.

والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها نزلت بعد سورة التوبة وبكلمة أخرى آخر السور المدنيّة نزولا. ومع أن روايات الترتيب الأخرى تذكر ترتيبها كسابعة السور المدنيّة نزولا أو كسادسة عشرة أو كثامنة عشرة (١) بل إن هناك رواية بأنها مكيّة (٢) فإن هناك روايات وأحاديث عديدة بطرق مختلفة تؤيد ترتيب المصحف الذي اعتمدناه. ففي فصل التفسير من صحيح البخاري في سياق هذه السورة حديث عن ابن عباس جاء فيه «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر إنه من قد علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلّا ليريهم. قال ما تقولون في قول الله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم. فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس فقلت لا. فما تقول. قلت هو أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه به قال إذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبّح بحمد ربك واستغفر. إنه كان توابا فقال عمر ما أعلم منها إلّا ما تقول» (٣). وقد روى الطبري في سياقها حديثا عن ابن عباس

__________________

(١) انظر جدول ترتيب نزول السور المدنيّة في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩.

(٢) انظر تفسير النيسابوري.

(٣) التاج ج ٤ ص ٢٦٧ والحديث من مرويات الترمذي وأحمد أيضا.

٥٧٣

جاء فيه «لما نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعيت إليّ نفسي كأني مقبوض في تلك السنة». وروى الطبري والبغوي أحاديث بطرق مختلفة عن ابن عباس بالمعنى نفسه بدون عزو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى الطبري عن الضحاك قوله كانت هذه السورة آية لموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروي مثل هذا عن مجاهد وعطاء أيضا. وقد ذكر الزمخشري أنها آخر السور نزولا وأنها نزلت في حجة الوداع في منى وذكر النيسابوري ـ مع ذكره القول إنها مكيّة ـ أنها نزلت في أواسط أيام التشريق (١) في منى في حجة الوداع وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعش بعدها إلّا سبعين يوما وأن السورة تسمى لذلك سورة التوديع وأن أكثر الصحابة متفقون على أنها دلت على نعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أخرجه البزار والبيهقي أنها نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيام التشريق فعرف أنه الوداع فأمر براحلته وخطب خطبته الشهيرة بخطبة الوداع.

ولقد روى الطبري بطرقه عن عائشة قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر قبل أن يموت من قوله سبحانك اللهمّ وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك. فقلت يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها قال قد جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخر السورة» وعن أم سلمة قالت : «كان رسول الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال سبحان الله وبحمده فقلت يا رسول الله إنك تكثر من سبحان الله وبحمده. لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت سبحان الله وبحمده قال : إني أمرت بها فقال (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخر السورة» والحديثان يؤيدان إذا صحّا كون السورة نزلت بين يدي موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضلا عما انطوى فيهما من صورة رائعة لعمق شعوره بواجبه نحو الله تسبيحا وحمدا واستغفارا.

وبناء على ذلك كلّه رجحنا ترتيب المصحف الذي اعتمدناه وجعلنا ترتيب هذه السورة بعد سورة التوبة وآخر السور المدنيّة.

__________________

(١) أيام عيد الأضحى.

٥٧٤

ونصّ السورة وروحها يؤيدان ذلك على ما سوف يأتي شرحه. أما القول إنها مكيّة فهو غريب ينقضه نصّها وروحها والروايات الكثيرة الأخرى التي أوردناها.

وما قلناه من أن السورة هي آخر السور نزولا لا يعني أن لا يكون نزل بعدها قرآن. وكل ما هناك أنه لم ينزل سور جديدة تامة. وأن ما يحتمل أن يكون من قرآن قد نزل بعدها قد ألحق بسور أخرى بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله أعلم.

وترجيح كون هذه السورة آخر السور نزولا وترجيح كون سورة الفاتحة أولى السور نزولا يدعمان بعضهما ويلهمان معجزة قرآنية ربانية. ففي سورة الفاتحة براعة استهلال للدعوة الإسلامية والقرآن وفي سورة النصر هتاف رباني بما تمّ من نصر الله للدعوة الإسلامية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣)) [١ الى ٣].

تعليق على آيات السورة

ومداها وما روي في صددها

عبارة الآيات واضحة. والخطاب فيها موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما عليه الجمهور بدون خلاف. وقد ذكرنا ما ورد في صدد نزولها في المقدمة فلا ضرورة للإعادة.

وواجب التسبيح لله وحمده واستغفاره أصلي غير منوط بوقت. وليس الذي هنا بسبيل ذلك كما هو المتبادر وإنما هو على سبيل تلقين توكيد وجوبه إذا ما أتمّ الله على نبيه نعمته ويسّر له الفتح والنصر وأقبل الناس على دين الله أفواجا.

وكل هذا خطير يستوجب مضاعفة ذلك الواجب من دون ريب ، والآيات

٥٧٥

بهذا الاعتبار تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين كجماعات بمقابلة نعم الله عزوجل بالشكر والحمد والاستغفار وبخاصة إذا كانت عامة متصلة بمصلحة المسلمين ونصرهم وتوطد أمرهم وانتشار دين الله وكلمته. ثم لكل مسلم إذا ما صار في ظرف من الظروف موضع رعاية الله وعنايته في تحقيق أمر خطير في دينه ودنياه.

وأسلوب الآيات توقيتي إذا صح التعبير ، أي أنه يوجب التسبيح والاستغفار حينما يجيء نصر الله وفتحه ويدخل الناس في دين الله أفواجا. غير أن روحها يلهم أن ذلك الواجب قد وجب وأن ذلك المجيء قد جاء. والروايات والأحاديث التي أوردناها في صدد نزولها تؤيد ذلك كما هو المتبادر.

ومعظم المفسرين على أن الفتح المذكور في السورة هو فتح مكة حتى إنهم جعلوا تفسيرها وسيلة لإيراد قصة هذا الفتح. ولقد تمّ هذا الفتح في رمضان في السنة الثامنة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الحديد في حين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى في أوائل السنة الحادية عشرة.

والروايات التي أوردناها في المقدمة ذكر فيها أن السورة قد نزلت قبل وفاته بمدة قصيرة أقل من ثلاثة أشهر وهذا يجعلنا نرجح أن يكون ما عنته الآيات ليس فتح مكة وحسب بل مجموعة الانتصارات والفتوحات الضخمة التي يسرها الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قبيل وفاته والتي بلغت ذروتها بفتح مكة الذي شرحنا قصته في سورة الحديد وبغزوة تبوك الكبرى التي شرحنا قصتها في سورة التوبة وبفتح الطائف التي ظلت مستعصية إلى السنة الهجرية التاسعة والتي لم تقتض حكمة التنزيل أن يشار إليها في القرآن ثم بسبيل الوفود التي أخذت تتدفق من جميع أنحاء جزيرة العرب على المدينة المنورة خلال السنتين التاسعة والعاشرة لمبايعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدخول في دين الله أفواجا واستمر تدفقها إلى قبيل وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم بتوطد سلطان النبي والإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية يمنها وتهامتها وحجازها وشرقها وشمالها مما ذكرنا بعض فصوله في سياق تفسير سورة التوبة ومما أطنبت به كتب السيرة

٥٧٦

والتاريخ القديمة (١) ، وإعلان كون المشركين نجسا وحظر دخولهم المسجد الحرام ، وحج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأس حشد عظيم من المسلمين روي أنه بلغ أربعين ألفا أو أكثر ـ وهذا رقم عظيم في ذلك الوقت ـ حتى هتف الله تعالى بالمؤمنين أو هتف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرددا هتاف الله ـ الذي نزل قبل هذا اليوم على ما محصناه في سياق أوائل سورة المائدة ـ (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [٣].

نبذة عن حجة الوداع النبوية

وحجة الوداع المشار إليها قد تمّت في أواخر السنة الهجرية العاشرة. فلقد فتح الله تعالى على رسوله مكة في رمضان في السنة الثامنة. ولم يكن الشرك قد اندحر بالمرة عن ربوعها. وكان المشركون ما يزالون يقومون بطقوس حجهم فيها. فلم تشأ حكمة الله ورسوله أن يحج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجته التامة والمشركون شركاء في حجه. ولما كانت مكة وما جاورها قد دخلت في سلطانه فقد عيّن وزيره الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحجّ في السنة التاسعة وأمره أن يعلن للملأ حظر دخول منطقة المسجد الحرام على المشركين وبراءة الله ورسوله منهم على ما شرحناه في سورة التوبة. فلما كانت السنة العاشرة خرج على رأس حشد عظيم من المسلمين من أهل المدينة وقبائلها ليحج بالناس حجة لا يشهدها إلّا المسلمون وهي التي عرفت بحجة الوداع لأنه مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها بمدة قصيرة ونزلت فيها هذه السورة التي احتوت نعيا له وسميت سورة التوديع بسبب ذلك. وقد وافاه إلى مكة حشود عظيمة أخرى من المسلمين من مختلف أنحاء الجزيرة فكان أعظم حجّ تمّ في عهده بل نعتقد أنه كان أعظم حجّ وقع إلى عهده. وإذا كان عدد الذين اشتركوا في غزوة تبوك بلغ ثلاثين ألفا كما ذكرنا في سياق سورة التوبة فلا مبالغة في تخمين

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٢٥ ـ ١٢١ وج ٣ ص ١٦٦ ـ ٢٤١ وابن هشام ج ٤ جميعه وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣١٥ وما بعدها وملخص ذلك في الجزء السادس من كتابنا تاريخ الجنس العربي.

٥٧٧

عدد الذين شهدوا هذا الحج بضعف هذا العدد وهو رقم عظيم جدّا في ذلك الوقت.

وخبر حجة الوداع ورد مطولا بطرق مختلفة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ القديمة مرويّا عن التابعين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد روى مسلم وأبو داود حديثا طويلا فيه وصف شائق لموكب الحجّ وكثير من أفعال وأقوال ومواقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التعليمية والتوضيحية والتشريعية والتهذيبية. فرأينا إيراده برمته. وهو مروي عن صاحب رسول الله جابر بن عبد الله في أيام شيخوخته جوابا على سؤال من أحد التابعين. وهذا نصه (١) «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ (٢) ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله ويعمل مثل عمله. وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس (٣) محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله كيف أصنع؟ قال : اغتسلي واستثفري (٤) بثوب وأحرمي. فصلّى رسول الله في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به. فأهلّ لبّيك اللهمّ لبّيك لبّيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وأهلّ الناس بهذا الذي يهلّون به فلم يردّ رسول الله عليهم شيئا منه. ولزم رسول الله تلبيته. قال جابر : لسنا ننوي إلّا الحج لسنا نعرف العمرة (٥) حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٤٠ ـ ١٤٥.

(٢) المحقق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زار الكعبة في السنة السابعة الهجرية بناء على اتفاقه مع قريش. ولم يكن وقت الزيارة وقت الحج.

(٣) زوجة أبي بكر الصديق.

(٤) بمعنى تحفظي من وسخ الدم.

(٥) هذا غريب لأن العمرة ذكرت في الآيتين [١٥٨ و ١٩٦] من سورة البقرة. والعمرة هي زيارة الكعبة والطواف حولها والأمر الرئيسي للحج هو الوقوف في عرفة فلعله أراد أن خروج الناس إنما كان للحج في الدرجة الأولى.

٥٧٨

أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه‌السلام فقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥] فجعل المقام بينه وبين البيت وكان يقرأ في الركعتين (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١)) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١)) ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [البقرة : ١٥٨] ابدأوا بما بدأ الله فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبّره وقال : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلّا الله وحده. أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات. ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل عليها كما فعل على الصفا. حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال : «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة ، فقام سراقة بن مالك فقال : يا رسول الله العامنا هذا أم لأبد؟ فشبّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال : دخلت العمرة في الحج ، مرتين. لا بل لأبد أبد» (١). وقدم عليّ من اليمن ببدن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد فاطمة ممن حلّ ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر عليها فقالت : إن أبي أمرني بهذا ، قال : فكان عليّ يقول بالعراق (٢) فذهبت إلى رسول الله محرّشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال : صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قلت : اللهمّ إني أهلّ بما أهلّ به رسولك قال : فإن معي الهدي فلا تحلّ. قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليّ من اليمن والذي أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة. قال : فحلّ الناس كلهم

__________________

(١) أراد على ما هو المتبادر عدم القرآن بين العمرة والحج حتى يستمتع بينهما على ما شرحناه في سياق آيات البقرة [١٩٦ ، ١٩٧] ومع ذلك فهناك حديث رواه الخمسة عن عائشة أن رسول الله أفرد للحج وفي رواية أهلّ بالحجّ مفردا (انظر التاج ج ٢ ص ١١٢).

(٢) حينما كان في العراق في أيام خلافته.

٥٧٩

وقصّروا إلّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية (١) توجّهوا إلى منى فأهلّوا بالحج وركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة (٢) فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تشكّ قريش إلّا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت تصنع في الجاهلية (٣) فأجاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له (٤) فأتى بطن الوادي (٥) فخطب الناس وقال : «إن دماءكم وأموالكم (٦) حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن سبيعة بن الحارث (٧) كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل (٨). وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلّه. اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح (٩). ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون؟ قالوا

__________________

(١) هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة.

(٢) موضع قبيل عرفات وليس منها.

(٣) كان هذا شأن فريق من قريش يسمّون الأحماس على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [١٩٩] من سورة البقرة.

(٤) وضع رحلها عليها ليركبها.

(٥) وادي عرفة على ما ذكره شارح الحديث.

(٦) في رواية ابن سعد زيادة وأعراضكم.

(٧) من بني عبد المطلب.

(٨) قبيلة كانت نازلة بين مكة والطائف.

(٩) المتبادر أن المقصد هو إدخال ناس عليهن لا يرضى أزواجهن عن دخولهن عليهن وحسب وليس هو الفاحشة لأن عقاب ذلك الرجم على ما شرحناه في سياق الآيات الأولى من سورة النور.

٥٨٠