التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيب هذه السورة قبل سورة النصر التي يجعلها آخر السور المدنيّة نزولا. وبعض روايات الترتيب يجعلها بعد سورة النصر. وبعضها يجعلها ثانية عشرة سورة مدنيّة نزولا وبعضها سادسة عشرة بل وبعضها سادسة (١) ومضامينها تلهم أن الروايات الثلاث الأخيرة لا يمكن أن تكون صحيحة. وقد أخذنا برواية المصحف الذي اعتمدناه لأن فحوى وروح سورة النصر يسوغان صحة رواية هذا المصحف بكونها آخر السور المدنيّة نزولا كما أن هناك أحاديث تؤيد ذلك على ما سوف نورده في سياقها.

وللسورة أسماء عديدة. المشهور منها اثنان وهما (التوبة) و (براءة). وهما مقتبسان من ألفاظ فيها كما هو شأن معظم السور. والباقي أطلق عليها بسبب ما فيها من دلالات فهي الفاضحة لأنها فضحت المنافقين ، وهي المبعثرة لأنها بعثرت أسرارهم ، وهي المقشقشة لأنها تقشقش أي تبرئ المسلمين من الكفر والنفاق ، وهي المدمدمة أي المهلكة ، وهي الحافرة لأنها حفرت قلوب المنافقين وكشفت ما يسترونه ، وهي المثيرة لأنها أثارت مخازيهم ، وهي العذاب لأنها نزلت بعذاب الكفار. وهذه الأسماء التي بلغت العشرة معزوة إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم (٢).

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)) [١ ـ ٢].

تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ومتناولهما

عبارة الآيتين واضحة. والخطاب في الآية الأولى موجّه إلى المسلمين يخبرون به بأن الله ورسوله يعلنان براءتهما من الذين عاهدوهم من المشركين

__________________

(١) انظر روايات ترتيب نزول السور في كتابنا سيرة الرسول. ج ٢ ص ٩.

(٢) انظر كتب التفسير السابقة. وأجمعها للأسماء تفسير الطبرسي.

٣٤١

وتنصلهما من عهدهم. وفي الثانية موجه إلى المشركين يؤذنون به بأن لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر بأمان. مع إنذارهم بأنهم غير معجزين لله وغير فالتين منه. وأنه مخزي الكافرين في أي حال.

وتوجيه الخطاب في الآية الأولى إلى المسلمين قد يبدو غريبا لأول وهلة. لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي كان يعقد العهود مع غير المسلمين. والمتبادر أن حكمة التنزيل لما اقتضت أن يقرن رسول الله مع الله عزوجل في إعلان البراءة والتنصل من هذه العهود جاءت العبارة القرآنية على النحو الذي جاءت عليه لأن العهود وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يعقدها فإنها كانت أيضا بين المسلمين والمشركين.

ولقد قال الطبري إن أهل التأويل ـ وقد ذكر في سياق كلامه ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي ومحمد بن كعب القرظي ـ اختلفوا في من برىء الله ورسوله إليه من العهد فقال بعضهم هم صنفان. أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل أربعة أشهر لأن الآيات نزلت في شوال الذي يعقبه الأشهر الحرم الثلاثة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وثانيهما كانت مدته أكثر من أربعة أشهر فقصرت على أربعة أشهر ليرتاء لنفسه ويعلم أنه على حرب إن لم يسلم. وقال بعضهم إن الآيات براءة من العهود مع المشركين عامة لأن الله تعالى علم سرائرهم وأنهم كانوا يخفون غير ما يظهرون من نية الغدر والعداء.

وهذه الأقوال تتعارض كما هو المتبادر مع استثنائين وردا في آيتين تردان بعد قليل أولهما لمن عاهدهم المسلمون ووفوا بعهودهم. وقد أمر المسلمون بإتمام عهدهم إلى مدتهم التي كانت على الأرجح أكثر من أربعة أشهر لأن حكمة الأمر إنما تكون في ذلك. وثانيهما لمن عاهدهم المسلمون عند المسجد الحرام واستقاموا على عهدهم. وقد أمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم دون تحديد وتوقيت. وهذا فضلا عن تعارضها مع تكرر إيجاب الوفاء بالعهود والعقود على المسلمين في سور عديدة مكيّة ومدنيّة.

ولقد لاحظ الطبري هذا. وعقب على الأقوال التي رواها قائلا إن أولى

٣٤٢

الأقوال بالصواب أن الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته دون الذين لم ينقضوا لأن الله أمر بإتمام العهد معهم وبالاستقامة لهم ما استقاموا عليه.

وفي تفسير البغوي رواية عن ابن إسحق ومجاهد تذكر أن الآيات نزلت قبل تبوك وأنها نزلت في أهل مكة. وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على وضع الحرب عشر سنين ودخلت خزاعة في عهد رسول الله وبنو بكر في عهد قريش ثم عدا بنو بكر على خزاعة فنالوا منها وأعانتهم قريش بالسلاح وحينئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة وناشد رسول الله النصر فقال له رسول الله لا نصرت إن لم أنصركم وتجهّز إلى مكة.

والرواية تقتضي أن تكون الآيات قد نزلت قبل فتح مكة في حين أن الآية التالية لها المنسجمة معها كلّ الانسجام تدل على أنّ الآيات نزلت بعد فتح مكة.

ولقد روى المفسر إلى روايته المذكورة رواية أخرى جاء فيها : «إنّ المفسرين ـ ويقصد أهل التفسير والتأويل في الصدر الأول ـ قالوا إنّ رسول الله لما خرج إلى تبوك أرجف المنافقون وأخذ المشركون ينقضون عهودهم فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل أو قصرها على أربعة أشهر كانت أكثر». وهذا متساوق مع ما ذهب إليه الطبري وصوّبه ، وهو أن الآيات نزلت في شأن الذين بدرت منهم بوادر نقض من المشركين. والرواية تفيد أن ذلك كان بعد فتح مكة لأن سفرة تبوك كانت بعد الفتح. وهو الحق والصواب اللذان يزول بهما وهم التعارض والتناقض.

وليس في كتب التفسير الأخرى شيء مهم آخر في صور الآيتين. فاكتفينا بما أورده الطبري والبغوي لأنهما من أقدم من وصل إلينا كتبهم ومعظم من أتى بعدهم من المفسرين نقلوا عنهم.

٣٤٣

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)) [٣].

تعليق على الآية

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ..) إلخ

وما روي في صدد إعلانها مع غيرها

يوم الحج الأكبر من روايات وتمحيصها

في الآية أمر بأن يعلن للناس يوم الحج الأكبر أن الله تعالى ورسوله بريئان من المشركين وبأن ينذر المشركون بأنهم إذا تابوا فهو خير لهم. وإن أعرضوا وتصامموا فليعلموا أنهم غير معجزين لله تعالى. وأمر بتبشير الكافرين عامة بعذاب الله الأليم.

والآية معطوفة على الآيتين السابقتين بحيث يصحّ القول إن المشركين فيها هم الذين ذكروا في الآيتين السابقتين. وتكرار جملة (غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) قرينة على ذلك.

وفي الآية دلالة قاطعة على أنها نزلت بعد فتح مكة. وفي هذا تأييد لما ذكره البغوي لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد زحف إلى تبوك بعد هذا الفتح بمدة غير طويلة.

والمستلهم من جملة (فَإِنْ تُبْتُمْ) أن إمهال المشركين الناقضين أربعة أشهر يسيحون في الأرض بأمان هو في الوقت نفسه مهلة لهم للتروي لعلّ ذلك يؤدي بهم إلى التوبة عن كفرهم وشركهم. وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.

ولقد رويت روايات عديدة في صدد إعلان هذه الآية وما قبلها وآيات عديدة أخرى بعدها أو إعلان أحكامها يوم الحج الأكبر (١).

منها أن التبليغ والإعلان كان لعشر آيات من صدر براءة ، ومنها أنه كان

__________________

(١) انظر الطبري والنسفي والنيسابوري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

٣٤٤

لثلاثين ، ومنها أنه كان لأربعين. ومنها أنه حينما نزلت الآيات العشر أو الثلاثون أو الأربعون الأولى من السورة أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ينادي في الناس بأربع مسائل وهي أن لا يطوف بالبيت عريان. وأن لا يحجّ مشرك. وأنه لا يدخل الجنة إلّا النفس المؤمنة. وأن كل عهد مؤجل إلى مدته وفي رواية إلى أربعة أشهر.

وفي الآيات الثلاثين أو الأربعين الأولى مواضيع متنوعة أخرى غير أمر المشركين وإعلانهم. وليس في الآيات العشر الأولى أمر حظر المسجد الحرام على المشركين. وإنما جاء هذا في الآية [٢٨] من السورة وهي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (١) ثم إن الآيات بعد هذه الآية هي في موضوع قتال أهل الكتاب ثم في موضوع النسيء وتحريمه والاستنفار إلى غزوة تبوك. ولو كانت نزلت حين إرسال النداء لكان من المعقول أن ينادى على الأقل بتحريم النسيء. وهو ما لم يقع. وهذا كله يسوغ التوقف في كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل الآيات الثلاثين أو الأربعين للتبليغ. وكل ما يمكن أن يكون أنه أرسل يبلغ بعض ما جاء في الآيات بعد نزول الشطر الذي فيه حظر المسجد الحرام على المشركين. والله أعلم.

ومن الروايات ما هو في صدد الذي قام بالتبليغ الرباني والنبوي. وهذه متعددة ومتضاربة أيضا. فمما رواه الطبري منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحبّ أن يحج في السنة التالية لفتح مكة أي في السنة التاسعة لأنه يحضر البيت مشركون ويطوفون عراة فأرسل أبا بكر ليحجّ بالناس وأن صدر براءة نزل بعد سفره فأرسله مع علي بن أبي طالب وأمره أن ينادي بالناس بالمسائل الأربع. ومنها أن أبا بكر لما رأى عليا مقبلا ليبلغ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجع فقال للنبي هل نزل فيّ شيء قال لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. ومنها أن الآيات لما نزلت قيل للنبي لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ، وروي في سياق ذلك أن أبا بكر سأل عليّا لما أقبل عليه أأميرا أم مأمورا؟ فقال له بل مأمور فأقام

__________________

(١) أي بعد السنة التاسعة الهجرية التي أعلن فيها ذلك على ما هو المتفق عليه.

٣٤٥

أبو بكر للناس الحجّ وقام علي فأذّن في الناس بالمسائل الأربع. ومنها أن النبيّ أرسلها مع أبي بكر حينما أمّره على الحجّ ثم أتبعه بعليّ فأخذها منه في الطريق فرجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له بأبي أنت وأمي أأنزل في شأني شيء قال لا ولكن لا يبلغ عني غيري إلا رجل منّي. وفي رواية إلّا أنا أو علي. وسأله ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض. قال بلى يا رسول الله. ومنها أن أبا بكر لما قضى يوم عرفة وخطب في الناس قال لعلي قم فأدّ رسالة رسول الله. ومنها عن أبي هريرة أنه كان مع عليّ حين بعثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي في الناس فكان إذا صحل صوته ـ أي صوت علي ـ نادى هو. وقد روى البخاري حديثا عن أبي هريرة جاء فيه : «بعثني أبو بكر في الحجة التي أمّره رسول الله عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس بمنى ألا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أردف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلي يؤذّن ببراءة فأذّن معنا في أهل منى يوم النحر ببراءة» (١) وروى الترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه : «بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا فبينا أبو بكر في الطريق سمع رغاء ناقة رسول الله القصواء فخرج فزعا فظنّ أنه رسول الله فإذا هو علي فدفع إليه كتاب رسول الله وأمر عليا أن ينادي بهؤلاء الكلمات. فانطلقا فحجّا فقام علي أيام التشريق فنادى «ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر. ولا يحجّنّ بعد العام مشرك. ولا يطوفنّ بالبيت عريان. ولا يدخل الجنة إلّا مؤمن. وكان علي ينادي فإذا عيي قام أبو بكر فنادى بها» (٢). وروى الترمذي حديثا آخر جاء فيه : «سئل علي بأي شيء بعثت في الحجّة. قال بعثت بأربع : أن لا يطوف بالبيت عريان. ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو إلى مدته. ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر. ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا» (٣). وروى ابن سعد الحديث الذي رواه البخاري

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١١٤ ـ ١١٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

٣٤٦

بدون جملة «ثم أردف النبيّ بعليّ إلخ» (١) وروى ابن كثير حديثا عن علي أخرجه الإمام أحمد جاء فيه : «لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليه فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي فقال يا رسول الله نزل في شيء. فقال لا ولكن جبريل جاءني فقال لن يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك» وروى حديثا آخر عن علي أيضا «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعثه ببراءة قال يا نبيّ الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال لا بدّ لي من أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت قال فإن كان ولا بدّ فسأذهب أنا قال انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك ثم وضع يده على فيه».

ونحن نخشى بل نرجح أن يكون الهوى الشيعي قد لعب دورا في بعض هذه الروايات وبخاصة في الروايات التي فيها «لا يبلّغ عني إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي أو إلّا أنا أو عليّ أو إلّا رجل مني» والتي فيها «جاءني جبريل ... إلخ» ثم الرواية التي تذكر «أن النبي بعد أن أعطى الآيات لأبي بكر أو كلّفه بالمهمة أرسل عليّا فأخذها منه في الطريق». ولا سيما أن الشيعة يعلقون أهمية عظمى على هذه الروايات وقد استخرجوا منها اختصاص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا بما هو من خصائصه النبوية وعدّوها دليلا على أنه والنبي شيء واحد وأنه وريثه في هذه الخصائص (٢).

ومن المحتمل أن يكون أهل السنّة رأوا في إناطة إمارة الحج بأبي بكر دليلا على خلافته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعده فأراد الشيعة أن يهوّنوا من هذا الدليل أو يبطلوه. ولعلّ بعض أهل السنّة لعبوا دورا في بعض الروايات بالمقابلة في رواية كون عليّ قال لأبي بكر إنه جاء مأمورا ولم يجىء أميرا ...

__________________

(١) ابن سعد ج ٣ ص ٢٢٢.

(٢) في تفسير رشيد رضا فصل طويل في مزاعم الشيعة وما يعلقونه على هذا الأمر من أهمية.

سواء في اختصاص النبي عليا بالتبليغ عنه أم في عدم تفويض ذلك لأبي بكر يؤيد ما قلناه من أن الهوى الشيعي الحزبي لعب دورا في بعض هذه الروايات.

٣٤٧

فليس يعقل قط أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن يرسل الآيات مع أبي بكر أو يكلفه بإعلان المسائل يبعث عليّا ليأخذها منه. وليس يعقل قط أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لا يبلّغ عني إلّا رجل مني أو إلّا من أهل بيتي في أمر لا صلة له بالاعتبارات الأسروية وإنما هو متصل بمهمته العظمى التي اختصه الله تعالى بها لخصائصه الذاتية التي عبّرت عنها جملة (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] وجملة (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤]. ولقد كان من المعقول أكثر لو فكّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل هذه الاعتبارات ـ وحاشاه ذلك ـ أن يرسل عليّا أميرا على الحجّ دون أبي بكر. وحديث البخاري عن أبي بكر الذي يعتبر أصحّ الأحاديث والروايات الواردة في هذا الصدد صريحة بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّف أبا بكر ببعض المسائل الواردة في الآيات ثم أرسل عليّا بمسألة أخرى رأى وجوب إعلانها أيضا. وأن الإعلان كان بإشراف أبي بكر وأمره وأن عليّا شارك أو ساعده فيه. وهذا هو الذي يعقل أن يكون وقع دون الحواشي والزوائد الواردة في الروايات الأخرى والله تعالى أعلم.

ولقد تعددت الأحاديث والأقوال التي يرويها المفسرون عن رسول الله وبعض أصحابه وتابعيهم في المقصود ب (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ). وبعض الأحاديث والأقوال تروى متناقضة عن نفس الأشخاص. فقد روي عن قيس بن مخرمة أن رسول الله خطب يوم عرفة فقال : «هذا يوم الحجّ الأكبر» وروي عن ابن عمر أن رسول الله وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال : «هذا يوم الحجّ الأكبر». وروى بعضهم عن علي أنه يوم عرفة. كما روى بعضهم عنه أنه يوم النحر. وروي عن عمر وابن الزبير أنه يوم عرفة. وعن عبد الله بن قيس والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة أنه يوم النحر. وإلى هذه الأقوال روي عن مجاهد أن قرن الحج مع العمرة هو الحج الأكبر تمييزا له عن الإفراد بين العمرة والحج الذي يسمى الحج الأصغر. وروي عنه في الوقت نفسه أن جميع أيام منى أو أيام الحج كلها هي يوم الحج الأكبر تمييزا لها عن العمرة لحدوثها في غير موسم الحج التي كانت تسمى الحج الأصغر. وهناك قول غريب عن الحارث بن نوفل أنه يوم حج رسول الله حجة الوداع حيث اجتمع في ذلك اليوم حجّ المسلمين وحجّ اليهود وحجّ

٣٤٨

النصارى. ولم يحدث هذا قبل ذلك ولا بعده.

والنصوص السابقة لم ترد في أي من الكتب الخمسة. وقد ورد في جامع الترمذي وهو من هذه الكتب حديث روي عن عليّ قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يوم الحجّ الأكبر فقال يوم النحر» (١). وقد صوب الطبري كون يوم الحج الأكبر هو يوم النحر. ولعلّه استند إلى هذا الحديث. ومع وجاهة ذلك فلسنا نرى فيه منعا لوجاهة أن يكون هذا اليوم هو يوم عرفة الذي ذكر في أحاديث نبوية وصحابية أخرى ، فالحجّ لا يتمّ إلا بالوقوف في عرفة على ما ورد في أحاديث صحيحة أوردناها في سياق آيات الحج في سورة البقرة (٢). وعرفة والحالة هذه تكون مجمع جميع الحجاج الأكبر والله تعالى أعلم.

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)). [٤ ـ ٥]

(١) انسلخ : بمعنى انقضى.

تعليق على الآية

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...)

والآية التالية لها. وتمحيص مدى ما ورد في شأن قتال المشركين

في هذه الآية إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة

عبارة الآيتين واضحة أيضا. وفي أولاهما استثناء وجّه الخطاب فيه إلى

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١١٤.

(٢) انظر التاج ج ٢ ص ١٢٨ وج ٤ ص ٥٣.

٣٤٩

المسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم ووفوا بعهدهم فلم ينقضوا ولم ينقصوهم شيئا ولم يظاهروا ويناصروا أحدا عليهم حيث يؤمرون بإتمام عهدهم إلى نهاية المدة المتفق عليها بينهم. فهذا هو من التقوى والله يحبّ المتقين. وفي ثانيتهما وجّه الخطاب إلى المسلمين يؤمرون فيه بقتال المشركين بعد انقضاء الأشهر الحرم حيث وجدوهم ومطاردتهم والترصد لهم في كل مكان. وبالكفّ عنهم إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. فإن الله غفور رحيم لعباده التائبين.

والآيتان كما هو ظاهر استمرار في السياق السابق وجزء منه. وقد روى الطبري عن قتادة أن المقصود من الاستثناء هم مشركو قريش الذين عاهدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديبية. وهذا غريب لأن صلح الحديبية قد انتقض في السنة الثامنة وأدى ذلك إلى زحف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكة وفتحها ودخول قريش في دين الله. في حين أن الآيات نزلت بعد فتح مكة على ما تدلّ عليه الآية [٣] بصراحة. وقد روى البغوي أنهم حيّ من كنانة يقال له بنو ضمرة لم ينقضوا العهد وكان بقي من مدتهم تسعة أشهر. وخبر موادعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبني ضمرة من كنانة قد ذكره ابن سعد ولم يذكر أنه كان موقوتا (١). وعلى كل حال فإن فحوى الآية الأولى التي فيها الاستثناء يدل على أنها في حقّ الذين بينهم وبين المسلمين عهد موقوت ولم يبد منهم نقض له بشكل ما. وقد يكون هناك من كان كذلك فعلا. وفي الاستثناء حكم مستمر المدى كما هو المتبادر.

والآية الأولى هذه تؤيد الرواية التي أوردناها قبلا بكون النداء يوم الحج الأكبر الذي نادى به أبو بكر وعلي هو «من كان له عهد فلأجله» وكون الإذن والإمهال أربعة أشهر هما بالنسبة لمن كان أجله أقل من أربعة أشهر دون الرواية الأخرى التي تقول إن النداء كان «من كانت مدته أقل من أربعة أشهر فله مهلة أربعة أشهر ومن كانت مدته أكثر فتقصر على أربعة أشهر».

وروح هذه الآية بل فحواها يؤيد كذلك الرواية التي رواها البغوي والقول

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٦.

٣٥٠

الذي قاله الطبري بأن المشركين المعاهدين الذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى من السورة هم الناقضون لعهدهم. وهذا يستتبع القول إن الذين أمر المسلمون بقتالهم في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صدد تفسيرهما عقب انقضاء الأشهر الحرم التي في نهايتها تنتهي مدة الأشهر الأربعة ـ لأن الآيات نزلت في شوال كما ذكرنا ـ هم هؤلاء الناقضون لأنهم موضوع السياق.

وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر.

ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم. وتوجب قتالهم إطلاقا. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم ، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلوّ ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادّين وبرّهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية ، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام وأن ينقض ما كان سمّى لهم من عهد وميثاق وأنها لم تبق لأحد من المشركين عهدا ولا ذمة. وقد روى المفسر نفسه قولا عن سفيان بن عيينة جمع فيه بين هذه الآية وآيات أخرى من هذه السور وغيرها ليست في صدد قتال المشركين سماها الأسياف وقال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث عليّ بن أبي طالب بها حين بعثه يؤذّن في الناس يوم الحج الأكبر منها هذه الآية وسمّاها سيفا في المشركين من العرب. ومنها آية التوبة هذه (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا

٣٥١

الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩) وسمّاها سيفا في قتال أهل الكتاب. ومنها هذه الآية من سورة التوبة أيضا (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)) وسمّاها سيفا في قتال المنافقين. ومنها هذه الآية في سورة الحجرات (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [٩] وسمّاها سيفا في قتال أهل البغي. ومن العجيب أن الطبري ذهب إلى أن هذه الآية تشمل المعاهدين حين انتهاء مدتهم أو إذا نقضوا العهد ومن لا عهد لهم إطلاقا دون تفريق مع أنه قرر في سياق آية الممتحنة هذه (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)) أنها محكمة وأن الله لا ينهى المسلمين عن البرّ والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أية ملّة كانوا. وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين!.

كل هذا والآية كما هو واضح من فحواها وسياقها هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب. بحيث يسوغ القول إن اعتبارها آية سيف وجعلها شاملة لكلّ مشرك إطلاقا تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى. وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات القرآنية المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحثّ على البرّ والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ومنها آية سورة النساء [٩٠] التي سنورد نصّها بعد قليل والتي تذكر أن الله لم يجعل للمسلمين سبيلا على من لا يقاتلهم ومن يعتزلهم ويلقي إليهم السلم. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم بدون تحديد وتوقيت. وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله (١).

__________________

(١) في تفسير المنار تعليق سديد على هذا الموضوع في سياق الآيتين متطابق في النتيجة مع ما قررناه.

٣٥٢

ولقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وأوردناه قبل أن عليّا أمر بأن ينادي فيما أمر به «من كان بينه وبين النبيّ عهد فهو إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر» ونحن نتوقف في أن يكون مدى الحديث هو الأمر بالقتال بعد انقضاء الأربعة أشهر عام ضد من لم يكن عهد من المشركين مطلقا ولو لم يكن عدوا معتديا بناء على ما شرحناه قبل. والله أعلم.

ولقد وقف الطبري عند الرواية التي تذكر أن الإعلان يوم الحجّ الأكبر كان فيه إمهال للمشركين أربعة أشهر. ورأى فيها تعارضا مع عبارة (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا ...) لأنه لم يكن بين الإعلان وبين نهاية الأشهر الحرم إلا خمسون يوما وقال إن في هذه الرواية وهما. وأورد صيغة أخرى للحديث المروي عن علي رواها من طرق متعددة وهي «أمرت بأربع. أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك. ولا يطوف رجل بالبيت عريانا. ولا يدخل الجنة إلّا كل نفس مسلمة. وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده» ومما قاله أن الآيات نزلت في شوال وبانتهاء الأشهر الحرم تكون مهلة الأشهر الأربعة المذكورة في الآية الثانية قد انتهت. والمتبادر أن فيما يسوقه الطبري صوابا وسدادا. لأن به وحده يزول وهم التعارض بين نصوص القرآن وبين بعض الأحاديث والروايات. والله تعالى أعلم.

وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام. أولاهما : أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم؟ وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب. ولم نطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد. ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق. وأن الأمر يتحمل شيئا من التوضيح : فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمين قبل العهد وقد وقع حرب وقتال بينهم ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديبية. وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء

٣٥٣

وقتال. وآية النساء هذه (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)). تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك. وفي روايات السيرة بعض الأمثلة حيث روى ابن سعد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وادع بني ضمرة من كنانة أن لا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدوا وكتب بينه وبينهم كتابا بذلك. ووادع هلال بن عويمر وسراقة المدلجي وقومه بمثل ذلك (١). وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر. وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال. وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة بالاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرينة على ما نقول إن شاء الله.

أما المسألة الثانية فهي ما تفيده الفقرة الأخيرة من الآية الثانية من كون تخلية سبيل المشركين والكفّ عن قتالهم بسبب نقضهم منوطين بتوبتهم عن الشرك وإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة. أي بدخولهم في الدين الإسلامي.

والذي يتبادر لنا في صدد هذه المسألة أن المشركين بعد أن نقضوا عهدهم وقاتلهم المسلمون فقدوا حق العهد ثانية. وصار من حق المسلمين أن يفرضوا الشرط الذي يضمن لهم الأمن والسلامة وهو توبتهم عن الشرك ودخولهم في الإسلام وقيام بواجباته التعبدية والمالية. ولا يعدّ هذا من قبيل الإكراه في الدين بقطع النظر عن أن الشرك يمثل مظاهر انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق كما يمثل نظاما جاهليا فيه التقاليد الجائرة والعادات المنكرة والعصبيات الممقوتة وأن الإسلام الذي يشترط عليهم

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٦. وانظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير لتفسير الآية [٩٠] من سورة النساء والآيات [٤ و ٧] من سورة التوبة.

٣٥٤

الدخول فيه يضمن لهم الخلاص من ذلك والارتفاع بهم إلى مستوى الكمال الإنساني عقلا وخلقا وعبادة وعقيدة وعملا. على أننا لسنا نرى في الآيات مع ذلك ما يمنع المسلمين أن يجددوا العهد مع الناكثين بعد الحرب ثانية إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك. وقد لا يكونون قادرين على متابعة الحرب أو على إخضاعهم بالقوة. والله تعالى أعلم.

وقد يكون في آية سورة البقرة هذه (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)) وآية سورة الأنفال هذه (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦)) دليل على ذلك. فإن الآيتين تفيدان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاهد الفريق الذي نبذ العهد مرة بعد مرة بالرغم من أنه كان ينقض العهد مرة بعد مرة أيضا. بل وفي آيات جاءت آية الأنفال المذكورة دعما لهذا الدليل حيث جاء فيها (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢)). وجملة (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) لافتة للنظر فهي لا ترى مانعا من الجنوح للسلم وتجديد العهد حتى ولو كان من المحتمل أن يكون جنوحهم إليها من قبيل الخداع. والله أعلم.

وجملة (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) تنطوي على تقرير التلازم بين اعتناق الإسلام وبين القيام بأركانه وواجباته العملية التي من أهمها إقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر كما جاء في الآية [٤٥] من سورة العنكبوت وإيتاء الزكاة التي يطهر المسلم بها نفسه وماله ويساعد بها المحتاجين من إخوانه ويؤيد بها الدعوة إلى سبيل الله ونشرها ويجاهد بها الصادقين عنها والمعتدين على أهلها. وهذا مما تكرر كثيرا جدا في السور المكيّة والمدنيّة بأساليب متنوعة تغني كثرتها عن التمثيل بحيث يصح القول إن عدم القيام بهما يجعل إسلام المسلم موضع شك. ولعل هذا هو ما جعل بعض العلماء يعتبرون تاركي الصلاة عمدا بخاصة مرتدين ويجوزون قتلهم عقوبة على ارتدادهم استنباطا من بعض الأحاديث أو

٣٥٥

استنادا إليها حيث روى مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي حديثا عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» (١). وروى الترمذي حديثا عن بريدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» (٢). وقولا رواه الترمذي عن عبد الله بن شقيق جاء فيه «كان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة» (٣) وحديثا رواه الطبري عن أنس ورد في تفسير الآية في تفسير المنار جاء فيه «من ترك الصلاة متعمّدا فقد كفر» وحديثا رواه أصحاب مساند الحديث الصحيح الخمسة عن عبد الله قال «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحلّ دم امرئ يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» (٤). والتارك لدينه هو المرتد. ولقد رأى المؤولون في هذا التلازم صواب عمل أبي بكر رضي الله عنه حينما قاتل الذين كان ارتدادهم قاصرا في ظاهره على الامتناع عن أداء الزكاة لبيت المال أيضا وقد روي في هذا الصدد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقّه وحسابه على الله» (٥)

__________________

(١) التاج ج ١ ص ١٢٤.

(٢) المصدر نفسه ص ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٣) المصدر نفسه ص ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٤) التاج ج ٣ ص ١٧.

(٥) روى هذا الحديث الخمسة عن أبي هريرة انظر التاج ج ٤ ص ٣٢٥ ـ ٣٢٦ وروى أصحاب السنن حديثا آخر عن أنس فيه زيادة مهمة وهذا نصّه «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلّوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» «التاج ج ٤ ص ٣٢٦. وروى الخمسة حديثا آخر عن ابن عمر مثل الحديث الذي رووه عن أبي هريرة مع زيادة مهمة وهذا نصّه «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله» التاج ج ١ ص ٢٩.

٣٥٦

فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حقّ المال. والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها فقال عمر فو الله ما هو إلّا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق (١).

ونقول استطرادا : إن الأحاديث النبوية ـ وهي من الصحاح ـ التي أوردناها في المتن وفي الذيل قد تثير إشكالا متصلا بالآيات التي نحن في صددها حيث يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله ... إلخ».

وحيث يتعارض ذلك إذا أخذ على إطلاقه وظاهره مع ما تلهمه آيات قرآنية عديدة من أنه لا إكراه في الدين ومن أن الله لا ينهى المسلمين عن موادة الذين لا يقاتلونهم في الدين والبرّ إليهم. ومن أن الله إنما أمر المسلمين بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم على ما قررناه قبل قليل هنا وفي مناسبات سابقة عديدة. ونقول في صدد هذا الإشكال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلّ من أن يناقض التقريرات القرآنية المحكمة. وأن المأثور المتواتر من سيرته وسيرة خلفائه الذين ساروا على هداه أنهم لم يقاتلوا إلّا الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين بدءا أو نكثا بعد عهد. ولهذا فإن الأولى أن يفرض أن الحديثين النبويين قد قصدا قتال المعتدي والناكث. فهذا هو المتساوق مع نصوص الآيات المحكمة التي لا يمكن أن ينقضها رسول الله. وهذا هو المؤيد بالمأثور المتواتر من السيرة النبوية. ولقد محّصنا هذا الموضوع ومدى هذه الأحاديث في سياق سورتي المزمل والكافرون بشيء من الإسهاب وانتهينا إلى أنه ليس من تعارض وتناقض. والله تعالى أعلم.

هذا ، ولقد روى الطبري عن الضحاك أن هذه الآية قد نسخت بآية سورة محمد التي فيها (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) وعن قتادة أن آية سورة محمد هي المنسوخة بآية سورة التوبة التي نحن في صددها. ويلحظ أن آية التوبة نزلت بعد آية محمد فإن كان نسخ فالمعقول أن يكون المتأخر ناسخا للمتقدم.

__________________

(١) هذا الحوار منقول من البغوي. والعناق : هي الأنثى من أولاد المعز.

٣٥٧

علما أن الطبري صوّب عدم النسخ وقال إنه ليس من تعارض بين الآيات. وهذا هو الأوجه. والله تعالى أعلم.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)) [٦].

(١) أبلغه : أوصله ، أو يسّر له الوصول.

(٢) مأمنه : المكان الذي يكون فيه آمنا على حياته.

تعليق على الآية

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ...) إلخ

وما روي في صددها ومدى ما فيها من تلقين ودلالات

عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه إذا ما أراد أحد من المشركين أن يأتي النبي وطلب منه الجوار والحماية فعليه أن يمنحهما له حتى يتسنّى له سماع كلام الله تعالى وعليه بعد ذلك أن ييسّر له البلوغ إلى المكان الذي يكون فيه آمنا على حياته. وتعليل لذلك بأن المشركين جاهلون ومن الحق على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتيح لهم فرصة العلم وسماع كلام الله وتدبره.

وقد روى الزمخشري عن سعيد بن جبير أن رجلا جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين نادى يوم الحجّ الأكبر فقال إن أراد الرجل منّا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال لا لأن الله تعالى يقول (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...) إلخ وهذه الرواية بهذه الصيغة لا تكون سبب نزول الآية. والآية بعد معطوفة على ما قبلها وجزء من السياق كما هو ظاهر حيث يتبادر لنا أن حكمة التنزيل أوحت بها في جملة السياق على سبيل الاستدراك والاستثناء في صدد حالة محتملة. وهذا لا يمنع احتمال نزولها بسبب حالة وقعت

٣٥٨

أو سؤال ورد ، ثم وضعت في السياق للتناسب. والله أعلم.

ونرى في الآية قرينة أخرى على صحة ما ذكرناه قبل من أن الآية السابقة لها ليست في صدد قتل وقتال كل مشرك إطلاقا إلى أن يكفّ عن الشرك ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. وعلى ما قررناه في مناسبات عديدة قريبة وسابقة من عدم إكراه أي مشرك غير عدو وغير محارب على الإسلام. ونرى فيها تلقينا مستمر المدى للمسلمين وأولياء أمورهم في كلّ وقت بوجوب منح الفرص لغيرهم ولو كانوا أعداء محاربين ليسمعوا منهم كلام الله ويستوعبوا منهم مبادئ وأهداف الإسلام وبوجوب قبول التجاء غيرهم إليهم وحمايتهم إذا ما كان قصدهم التعرّف على تلك المبادئ والأهداف. وضمان عودتهم إلى بلادهم آمنين.

ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية حديثا رواه البخاري والنسائي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أمّن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا» وحديثا آخر رواه الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة».

وفي الحديثين تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو واضح من تشديد ضدّ من ينحرف عن هذا التلقين. ولقد روى القاسمي عن الحاكم تنبيها وجيها في هذا الصدد. وهو أن الإجارة والتأمين منوطان بالتيقن من حسن القصد. وإن جملة (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) مما يدعم ذلك. وهذا يعني عدم الإجابة لطلب الجوار إذا غلب الظن بكبر الطالب وخداعه وسوء نيته. والله أعلم.

ولقد روى الطبري وغيره عن الضحاك والسدي أن الآية منسوخة بجملة (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في الآية السابقة لها. وعن ابن زيد أنها محكمة غير منسوخة. وليس هناك أثر نبوي. وورود الآية بعد الآية التي تأمر بقتل المشركين إلى أن يتوبوا قد يكون قرينة قوية على وجاهة القول الثاني حيث يمكن أن تكون الآية قد جاءت للاستدراك. والإجابة على تساؤل ما من بعض الكفار. وروحها يدعم ذلك أيضا. لأن القتال والقتل لم يكن غاية وإنما هو مقابلة للعدوان

٣٥٩

وعقوبة على النكث. والدعوة إلى الإسلام تظل قائمة لكل الناس في كل وقت. وهدف الآية إعطاء فرصة لكافر ما ولكافر عدوّ بخاصة ليسمع كلام الله لعلّه يستجيب ويؤمن. والآية السابقة للآية تأمر بالكفّ عن قتال المشركين الناكثين الأعداء إذا ما تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. والاستجابة للاستجارة وسيلة إلى ذلك. والله أعلم.

استطراد إلى مدى جملة

(كَلامَ اللهِ) ومسألة أزلية القرآن وحدوثه

ونرى أن نستطرد هنا بمناسبة جملة (كَلامَ اللهِ) في الآية إلى مدى هذه الجملة وما تفرع عنها من خلاف مذهبي فنقول إن هذه الجملة وردت في آيات أخرى مثل آية البقرة [٧٥] وآية سورة الفتح [١٥] غير أنها هنا عنت القرآن أكثر من هذه الآيات على الأرجح وعلى ما عليه جمهور المفسرين. ووصف القرآن بأنه (كَلامَ اللهِ) أدى إلى ذلك الخلاف حيث ذهب بعض علماء الكلام إلى أن الكلام الله متصل بذات الله وذات الله أزلية فيكون كلام الله أزليّا ، وما دام القرآن هو كلام الله فيكون بدوره أزليا. وحيث ذهب فريق آخر إلى كون القرآن ليس أزليا وإنما هو حادث. ولقد كان من جراء هذا الخلاف فتنة شديدة في زمن المأمون ثامن الخلفاء العباسيين وامتدت نحو عشرين عاما. واضطهد وعذّب فيها علماء كثيرون على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل وكان أحيانا يشتبك أنصار هؤلاء وهؤلاء في نزاع دام تزهق فيه مئات الأرواح. ولقد كان المعتزلة الذين يسمون أهل العدل والتوحيد من القائلين بالقول الثاني. وكان لهم مركز الوجاهة والنفوذ عند المأمون وجعلوه يقنع بقولهم وأرادوه على حمل الإمام أحمد بن حنبل ومن يقول بقوله أي القول الأول أن يرجعوا عن قولهم ويقولوا بالقول الثاني فأبوا.

وهذه المسألة متفرعة عبر مسألة أعمّ. وهي الخلاف على صفات الله تعالى بين أهل السنة والجماعة الذين كان الإمام أحمد من رؤوسهم وبين المعتزلة.

٣٦٠