التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

المرجو قبضه وتأجيل غير المرجو إلى أن يقبض.

٧ ـ ليس في الخيل والبراذين والحمير زكاة إذا كانت للاستعمال وتجب عليها إذا كانت للتجارة حيث تكون كالإبل والبقر والغنم المعدة للتجارة (١).

٨ ـ النصاب في الحنطة والشعير والتمر والزبيب خمسة أوسق. وليس فيما دون ذلك صدقة. والوسق ١٥ مدا والمدّ ملء إناء ماء يكفي الوضوء أو وزن رطلين أي نحو ٤٠٠ غرام (٢). وفي النصاب وما فوقه العشر في ما يسقى بماء المطر والعيون. ونصف العشر فيما يسقى بماء الآبار والسواقي والنواضح (٣). أي أن زكاة هذه المواد أربعة أضعاف زكاة النقد.

٩ ـ العنب والبلح والقطاني كالحمص والعدس والعسل والزيتون والخضار مما اختلف في وجوب الصدقة فيه لاختلاف الأحاديث في ذلك حيث ذكرت في بعض الأحاديث وأغفلت في بعضها. وقال بعضهم إذا بيعت تحسب كسلعة تجارية وتؤدى صدقتها إذا بلغت نصاب النقدين. خلافا للحنطة والشعير والتمر والزبيب التي يجب أداء صدقتها إذا ما بلغت النصاب. ولو كانت لطعام صاحبها (٤).

١٠ ـ وقد اختلف في وجوب أداء صدقة غلة الأرض إن كان صاحبها مدينا فقال بعضهم بوجوبها وقال بعضهم بعدم وجوبها وتوسط بعضهم بإسقاط قيمة الدين فإن بقي نصاب تؤدى زكاته (٥). وهو الأوجه. والله أعلم.

١١ ـ وأقوال العلماء القدماء على أن قيمة أدوات حرفة الصانع لا تدخل في تقويم ما يجب على صاحب الحرفة من زكاة ما يملكه من عروض ونقد في نهاية الحول.

غير أن الظروف الحاضرة غيرت الصورة بعض الشيء حيث صار هناك معامل

__________________

(١) كتاب الأموال ص ٤٦٨ وما بعدها.

(٢) المصدر نفسه ص ٤٦٣ وما بعدها.

(٣) المصدر نفسه ص ٤٦٨ وما بعدها.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٤٨١

ومصانع ودور صناعة ومهن تقدر قيمتها بمبالغ كبيرة. وقد أوجب بعض العلماء المعاصرين تقويمها وأداء الزكاة عن قيمتها. واعتبرها بعضهم مالا مجمدا كالأرض وأوجب الزكاة على ما تدره من ربح بعد طرح أجور العمال وأكلاف مواد العمل إذا بلغ النصاب أو زاد عنه. وهذا القول هو صورة من صور القول القديم. فصاحب المهنة لا يدفع زكاة قيمة أدوات مهنته ولكنه يدفع ما يربحه من هذه الأدوات إذا بلغ النصاب أو زاد عنه. وهذا القول هو صورة من صور القول القديم. فصاحب المهنة لا يدفع زكاة قيمة أدوات مهنته ولكنه يدفع ما يريحه من هذه الأدوات إذا بلغ ربحه النصاب أو زاد وحال عليه الحول وكان زائدا عن حاجة معيشته أثناء السنة. ومع ذلك فقد يكون أوجه من القول بأن على صاحب المصنع الكبير تقويم قيمة مصنعه وأداء الزكاة عنها. لأنه يقتضي أن يدفع زكاة قيمة مصنعه سنويا مضافا إليها ما زاد عن حاجته من أرباحه. فيكون قد دفع مضاعفا ودفع زكاة مال مجمد يستنفده الدفع في بضع سنين أيضا والله تعالى أعلم. بل ولعل القول الثاني أوجه من باب أولى أيضا لأن الأرض ثابتة ومستمرة الإغلال في حين أن المصنع معرض للاستهلاك مع الوقت ومحتاج إلى نفقة الترميم والإصلاح مستمرة أيضا مع شيء من التعديل. فزكاة غلة الأرض تؤدى حين حصادها وهذا مستند إلى نص قرآني وهو آية الأنعام هذه : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [١٤١] بقطع النظر عن حيلولة الحول. ونفقة حياة صاحبها. ثم إن زكاة الأرض التي تسقى بها والسواقي والآبار والنواضح تكون نصف زكاة الأرض التي تسقى بماء المطر والضخ بدون كلفة. ويلحظ أن زكاة غلة الأرض تبلغ نحو أربعة أضعاف زكاة النقد والعروض التجارية. والحكمة المتبادرة من ذلك هي أن الأرض لا يدفع عنها زكاة مع أنها ذات قيمة كبيرة لأنها مجمدة فاقتضت الحكمة أن تكون زكاة غلتها مضاعفة بالنسبة المذكورة وأن تدفع يوم حصادها وجنيها بقطع النظر عن حيلولة العام والله أعلم.

١٣ ـ وفي العصر الحديث صورة جديدة لم تكن في القديم وهي أسهم الشركات المساهمة التي يشتريها ويتداولها الناس ويأخذون ربحها حسب نتائج

٤٨٢

وحسابات إدارة الشركات. ومع ما قد يرد على البال من فرق بين هذه وبين المصانع والعقارات المعدة للإيجار فإن الأسهم في يد صاحبها مجمدة.

والجمهور على أن دور السكن لا يؤخذ عن قيمتها زكاة ولكن صار يقوم عمارات متنوعة معدة للإيجار وبيوت للسكن وفنادق وحمامات ومخازن ودكاكين وأندية ومقاهي إلخ .. وهذه ذات قيمة كبيرة. ولكن الأموال مجمدة فيها وإذا أخذ زكاة قيمتها يكون جنفا على أصحابها لأن هذه الزكاة قد تبلغ نصف الريع أو ربعه ولذلك يتبادر لنا أيضا أن أسلوب غلة الأرض ينطبق على هذه أيضا فيكون زكاة هذه العمارات مستوجبا على ريعها. ويكون مضاعفة مثل غلة الأرض وريع المعامل والمصانع. ولما كانت هذه العمارات تحتاج إلى إصلاح وتجديد فتكون زكاتها مثل زكاة غلة الأرض التي تسقى بماء الآبار والضخ والله أعلم.

وقد يقال إن قياس المعامل والعمارات المعدة للإيجار على الأرض فيه تجوز لأن الأرض دائمة والمعامل والعمارات قد تزول غير أنه يتبادر لنا أن هذه العمارات والمعامل قد تدوم عشرات بل مئات السنين واستثناؤها من التعويض أكبر من نسبة النقد من جنف عن مورد الزكاة ومصارفها ولذلك لا نزال نرى أن مضاعفة زكاة ريعها يظل وجيها والله تعالى أعلم. على كل حال وربحها محدود لا يتجاوز العشرة في المائة من قيمتها. على أحسن الحالات. فيكون في إيجاب زكاتها حسب قيمتها مضاعفة لقيمة الزكاة وإجحافا لصاحبها الذي قد لا يكون له مورد آخر. ويتبادر لنا أن الزكاة الواجبة عليها هي زكاة ربحها حسب النصاب الشرعي بكامله دون المناصفة. لأن المناصفة جعلت لغلات الأرض التي تسقى بالآبار والنضح وقيس عليها المصانع والعقارات المعدة للإيجار لأنها في حاجة إلى ترميم. وهذا وذاك ليس واردا بالنسبة لإسهام الشركات والله تعالى أعلم.

١٤ ـ وهناك صورة أخرى. وهي ما يتقاضاه أرباب الوظائف الحكومية وغير الحكومية من مرتبات وما يحصل عليه أصحاب المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين من أجور. ومن هذه وتلك ما يكون كبير المقدار. ويتبادر

٤٨٣

لنا أن ما يبقى في يدهم في آخر كل سنة خالصا لهم تجب عليه الزكاة إذا بلغ النصاب أو زاد. والله تعالى أعلم.

وهناك أحاديث عديدة في عدم التضييق والتشديد على الناس في مقاضاة الزكاة الواجبة عليهم. وفي إيجاب التزام الحق على الجباة. منها حديث رواه الإمام أبو عبيد وأبو داود أيضا عن رافع بن خديج عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته» (١) وحديث رواه الإمام مالك ورواه الخمسة أيضا عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين بعث معاذا إلى اليمن «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله. فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات عن كل يوم وليلة. فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة أموالهم. فإن أقروا بذلك فخذ منهم واتق كرائم أموالهم. وإياك ودعوة المظلوم فإنه ليس لها دون الله حجاب» (٢). وحديث رواه الإمام أبو عبيد عن عروة عن أبيه قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدقا فقال لا تأخذ من حزازات أنفس الناس شيئا. خذ الشارف والبكر وذا العيب» (٣) وفي كتاب الأموال أحاديث صحابية تحتوي صورا تطبيقية فيها التزام لوصايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحكيمة.

ولقد أوردنا ما ورد من أحاديث نبوية في صدد وجوب أداء الزكاة وفي إنذار الذين لا يؤدونها في سياق تفسير الآية [٣٤] من السورة. فنكتفي بهذه الإشارة لنربط بين تلك الأحاديث وبين بحث الزكاة.

وختاما نقول إن فحوى الآية متسق في هدفه التشريعي مع المبادئ القرآنية العامة في إيجابها على القادرين مساعدة المحتاجين والإنفاق في سبيل الله ووجوه البرّ والصالح العام من جهة ، وفي عدم هذه الجهات هنا بالتطوع والتبرع من جهة ثانية ، وفي جعل هذا الواجب مما يدخل في واجبات السلطان الإسلامي وجزءا من سياسة الدولة المالية والاجتماعية من جهة ثالثة. وفي هذا من المدى والروعة

__________________

(١) كتاب الأموال ص ٤٠١ والتاج ج ٢ ص ٢٦.

(٢) كتاب الأموال والتاج ج ٢ ص ٣ و ٤.

(٣) كتاب الأموال ٤٠٢ ـ ٤٠٦.

٤٨٤

وخصائص التشريع القرآني ما فيه مما نبهنا عليه في سياق آيات الغنائم في سورة الأنفال والفيء في سورة الحشر.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)) [٦١].

(١) هو أذن : كناية عن وصف رسول الله بأنه يصغي ويسمع لكل ما يقال له ويصدقه.

في هذه الآية :

١ ـ صورة أخرى للمنافقين حيث إنهم كانوا يؤذون النبي بأقوالهم ويصفونه بأنه يصغي لكل ما يقال له ويصدقه.

٢ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالردّ عليهم وإنذارهم. فإذا كان هو أذنا كما قالوا فإنه أذن خير للمسلمين المخلصين وليس أذن شرّ. وإنه لمؤمن بالله ومعتمد عليه وحده. وإنه لمؤمن للمسلمين المخلصين وراكن إليهم وحسن الظن فيهم. وإنه في خلقه هذا لرحمة للمسلمين المخلصين في إيمانهم ونياتهم. وإن الذين يؤذون رسول الله بأي نوع من الأذى قولا وفعلا وجهرا وسرّا مستحقون لعذاب الله الأليم.

تعليق على الآية

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ...)

وما فيها من تلقين وصور

وقد روى الطبري وغيره (١) أن بعض المنافقين كانوا في مجالسهم الخاصة

__________________

(١) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير.

٤٨٥

يقدحون في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا حذر بعضهم بعضا من وصول خبر هذه المجالس إليه قالوا إنه أذن سهل الإقناع فننكر ونحلف له فيصدق ويقنع. وإلى هذه الرواية قال البغوي إن الآية نزلت في نبتل بن الحارث من المنافقين وكان مشوه الخلقة حتى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عنه على ما جاء في رواية البغوي «من أحبّ أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل» وكان ينمّ حديث النبي إلى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال : «إنما محمد أذن. فمن حدثه صدقه فنقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف بالله فيصدقنا». وكل من الروايتين محتملة ومتسقة مع الآية إجمالا. وإن كان مما يتبادر لنا أن الآية يمكن أن تفيد أن المنافقين إنما كانوا يعيبون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كونه سريع الاستماع والتصديق لكل ما ينقل إليه مع تقريرها حقيقة أمرهم في تعمد القدح به وإيذائه.

على أن الذي نرجحه أن الآية لم تنزل لحدتها ولمناسبة ما ورد في إحدى الروايتين. وأنها جزء من السلسلة واستمرار في السياق. وعطفها على ما سبقها واستعمال ضمير الجمع الغائب والعائد إلى من هم موضوع الكلام في الآيات السابقة قرائن على ذلك. ويسوغ القول والحالة هذه أن الصورة كانت قديمة معروفة عن المنافقين فذكرت في سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاقهم ومواقفهم التي اقتضت حكمة التنزيل وحيها أثناء غزوة تبوك للتنديد بتثاقلهم وتخلفهم عن الغزوة. والله أعلم.

والردّ الذي احتوته الآية انطوى على ثناء رباني بليغ على أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما تحلّى به من صفات كريمة محببة. وجاء الردّ بسبب ذلك قويا محكما في الوقت نفسه : فالنبي إذن خير لهم. وليس ظنان سوء بالمؤمنين المخلصين. وإنه ليراهم خليقين بالاعتماد والثقة والتصديق ولا سيما أنه يؤمن بالله ويجعل اعتماده عليه ولا يبالي ما وراء ذلك. وقد صار بهذا رحمة للمؤمنين. لأن إساءة الظن وكثرة الشك بدون موجب وخاصة في المخلصين من مفسدات الأمور ومعقدات النفوس. وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك في سورة الحجرات على ما مرّ تفسيره. ومما لا ريب فيه أن في هذه الصفة على هذا البيان مستمد إلهام قوي لمن يتولى قيادة الأمة.

٤٨٦

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)) [٦٢ ـ ٦٣].

عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا حكاية حلف المنافقين ليرضوا المؤمنين وردّا عليهم بأنهم لو كانوا صادقين لكان الأوجب عليهم أن يرضوا الله ورسوله ، وإنذارا لمن يحادد الله ورسوله بالخزي العظيم والعذاب المخلّد.

تعليق على الآية

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ...)

والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين

روى المفسرون (١) عن قتادة أن جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت وقعوا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا إن كان ما يقول محمّد حقا فنحن شرّ من الحمير. وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس فغضب الغلام وقال والله إن ما يقوله محمد حقّ وأنتم شرّ من الحمير ثم أتى رسول الله فأخبره. فدعا لهم فسألهم فحلفوا له أن عامرا كاذب وحلف عامر أنهم هم الكاذبون. وصدّقهم النبيّ فجعل عامر يدعو ويقول اللهمّ صدّق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله الآيتين. وهناك رواية أخرى عن مقاتل يرويها المفسرون (٢) أيضا تذكر أن الآيتين نزلتا في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله أتوه يعتذرون ويحلفون فأنزلهما الله.

وفي السياق ما يفيد أن هذه السلسلة نزلت أثناء غزوة تبوك بحيث تكون الرواية الثانية غير محتملة الصحة. والرواية الأولى متسقة مع الآيتين ومحتملة الصحة. غير أن الذي يتبادر لنا على ضوء السياق أن الآيتين متصلتان بالصورة التي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.

(٢) المصدر نفسه.

٤٨٧

احتوتها الآية السابقة وبمشهد من المشاهد كان فيه بعض المؤمنين والمنافقين وجرى فيه أخذ ورد وعتاب ونقاش حول ما كان يقع من المنافقين من القدح والعيب في حقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجالسهم الخاصة حاول المنافقون فيه التنصل والتبرّؤ مما عوتبوا عليه إرضاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والغاضبين لكرامته من المؤمنين المخلصين.

ومع ما قلناه فإننا نرجّح أن الآيتين لم تنزلا لمناسبة جديدة وليستا منفصلتين عن السياق. والمشهد الذي احتوتاه كان قديما فذكر في سياق سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاق المنافقين ومواقفهم. وعطف الآيتين على ما قبلهما وضمير الجمع الغائب من القرائن على ذلك.

وفي المشهد المحكي صورة أخرى لما صار إليه موقف المنافقين من تطور إلى الخوف والرياء والرغبة في كسب رضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين المخلصين. وفيه صورة تتكرر في ظروف استعلاء أصحاب الحق والمجاهدين في سبيله. وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى بالتحذير من الانخداع بالمنافقين الذين لم يثبتوا إخلاصهم وصدق دعواهم في المواقف والظروف الهامة.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)) [٦٤ ـ ٦٦].

في الآيات :

١ ـ إشارة إلى ما كان يحذر منه المنافقون من نزول قرآن فيهم يفضح حقائق قلوبهم وأسرار مجالسهم.

٢ ـ وأمر للنبي بتوعدهم بأن الله محقق ما يتوقعون ويحذرون رغما عما يبدو في طي كلامهم من استخفاف واستهزاء.

٤٨٨

٣ ـ وإشارة أخرى إلى ما كانوا يعتذرون به حينما يعاتبون على ما يقع في مجالسهم حيث كانوا يقولون إنما كنّا نلهو ونمزح.

٤ ـ وسؤال استنكاري على سبيل التنديد عما إذا كان يصحّ لمؤمن مخلص أن يلهو ويخوض ويمزح ويستهزىء بالله وآياته ورسوله.

٥ ـ وإيذان لهم على سبيل الإنذار بأن اعتذارهم غير مجد لهم. فقد كفروا بعد إيمان. وإذا كان من الجائز أن يعفو الله عن بعضهم لاحتمال توبته فإنه معذب بعضهم حتما لأنهم مجرمون ومصرّون على إجرامهم.

تعليق على الآية

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ...)

والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين

وقد روى المفسرون (١) روايات عديدة في صدد نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت في جماعة من المنافقين كمنوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق عودته من تبوك ليوقعوه عن دابته في هاوية. فعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمرهم وعاتبهم فأنكروا واعتذروا. ومنها أن بعض المنافقين كانوا في أثناء السفر إلى تبوك يقدحون في النبي ويستهزئون بما كان يعد من نصر الله له على الروم ويقولون أيحسب أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا. والله كأننا بهم غدا مقرّنين بالجبال فعلم النبي بأقوالهم فأوقف الركب وعاتبهم فأنكروا واعتذروا ومنهم من تاب وحسن إيمانه. ومنها أن رجلا من المنافقين استغاب القرّاء من أصحاب رسول الله أثناء غزوة تبوك وقال إنهم أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء فكذّبه أحد المخلصين ثم ذهب ليخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به فوجد القرآن قد سبقه. ومما رواه المفسرون أن المنافقين كانوا يقولون حينما يجتمعون لاستغابة النبي والمخلصين لعلّ الله لا يفشي سرّنا. ومما رواه المفسرون في سياق الرواية الأولى أن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقترحوا

__________________

(١) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.

٤٨٩

قتل الجماعة المتآمرة فقال : «أكره أن تقول العرب لما ظفر محمّد وأصحابه أقبل يقتلهم» بل يكفيناهم الله بالدبيلة (١). وهناك رواية تذكر أن الاستهزاء كان من ابن أبيّ بن سلول في المدينة وأن النبي عاتبه فأخذ يعتذر له ويقول إنما كنا نخوض ونمزح يا رسول الله. وقد ذكر هذا المفسّر اسم الشخص الذي تاب وكان مظهر عفو الله وهو مخشي بن حمير الأشجعي وروي أنه كان يقول : «اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها ، تقشعرّ الجلود وتجب القلوب منها. اللهمّ اجعل وفاتي قتلا في سبيلك. لا يقول أحد أنا غسلت. أنا كفنت. أنا دفنت» وأنه أصيب يوم اليمامة.

وليس شيء من الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة والذي يتبادر لنا أن فحوى الآية الأولى وروحها تلهم أن الآيات في صدد مجلس من مجالس المنافقين استغابوا فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وقالوا ما حكته الآية الأولى من حذرهم على سبيل الهزء والتفكّه. وعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمرهم فعاتبهم فاعتذروا. ومنهم من تاب وحسن إيمانه ومنهم من ظلّ مرتكسا في الكفر والنفاق. وقد يكون هذا المجلس أثناء غزوة تبوك فجاءت الآيات منسجمة مع السلسلة السابقة واللاحقة. وإن كنّا نرجح أنها لم تنزل مستقلة عن ما سبقها وأنها جزء من السلسلة وأن المجلس كان سابقا فتضمنت الآيات حكايته والتذكير به في جملة ما حكى وذكر به من مواقفهم وأخلاقهم في سياق التنديد بهم على تثاقلهم عن الغزوة. وتكون الآيات والحالة هذه قد نزلت أثناء الغزوة وإن صحّ هذا الترجيح وهو ما نرجوه تكون الرواية التي ذكر فيها اسم ابن أبي بن سلول هي المحتملة وكان هذا من المتخلّفين والله أعلم.

والمشهد الذي حكته الآيات مما يمكن أن يكون من ذوي القلوب المريضة في كل ظرف. وبخاصة في الظروف العصيبة. والآيات والحالة هذه تنطوي على تلقين لذوي الشأن بوجوب الوقوف من هذه الفئة موقف اليقظة والشدة وعدم الانخداع بما يبدونه من أعذار كاذبة إلا إذا تحقق صدق اعتذارهم وتوبتهم.

__________________

(١) فسّر البغوي الدبيلة بأنها سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم.

٤٩٠

ونقف عند رواية البغوي التي تضمنت جواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اقتراح قتل المتآمرين من المنافقين لنقول إن مثل هذا الجواب صدر أيضا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حقّ عبد الله بن أبي بن سلول كبير منافقي المدينة أيضا على ما شرحناه في تفسير سورة (المنافقون) حيث يتأكد في هذا ما نبهنا عليه من الحكمة التي انطوت في سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موقفه من المنافقين وعدم البطش والتنكيل فيهم.

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)) [٦٧ ـ ٧٠].

(١) بخلاقهم : بنصيبهم.

(٢) وخضتم كالذي خاضوا : بمعنى وفعلتم ما فعلوه من خوض وسعي في الباطل والفساد.

تعليق على الآية

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ...)

والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور ودلالات

عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر

٤٩١

أنها استمرار في السياق وجزء من السلسلة. وقد جاءت معقبة على الآيات السابقة التي احتوت ما احتوته من مشاهد مواقف المنافقين ومكائدهم وسوء أدبهم ونواياهم بسبيل تقرير أخلاقهم بصورة عامة وكونهم عصبة واحدة متضامنة نساء ورجالا في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بما في أيديهم ونسيانهم الله وحسابه ، وإنذارهم مع تهوين أمرهم وتقرير كونهم ليسوا بدعا في الأمم لا في كثرة المال والولد. ولا في متاع الدنيا والتمكن منها. ولا في ما كان منهم من كيد وخبث ومكر وكفر وخوض وتكذيب. ولقد حلّ بسابقيهم من أمثالهم الذين كانوا أشد منهم قوّة وأكثر أموالا وأولادا غضب الله وليسوا ليعجزوه. فقد حبطت أعمالهم وخسروا في الدنيا والآخرة ولهم النار مع الكفار خالدين فيها. وعليهم اللعنة.

وأسلوب الآيات قوي حاسم في كل ما جاءت بسبيله من جهة وموثق من جهة أخرى لكون الآيات جميعها منذ الآية [٤٢] بل منذ الآية [٣٧] سلسلة متصلة الأجزاء للتنديد بالمنافقين وتقريعهم والتذكير بأخلاقهم ومكائدهم ومواقفهم التي كانت تبدر منهم قبل غزوة بدر في مناسبة الموقف الذي وقفوه من الدعوة إلى غزوة تبوك وتهرّبهم منها. ولعلّ ذكر المنافقات في الآيات تدعيم لما قررناه من حيث إنه لم يرو أحد من المنافقات من كان خرج مع من خرج من المنافقين في غزوة تبوك. وإنما أشركن بالذكر لأنهن كن يشاركن المنافقين في الدور الخبيث الذي كانوا يقومون به في المدينة. ولقد تكرر ذكر المنافقات مع المنافقين في أكثر من موضع حيث يدعم هذا ما قلناه في المناسبات السابقة من الدلالة على شخصية المرأة العربية وبروزها في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو على الأقل على وجود شخصيات نسائية بارزة. وهذه الدلالة منطوية في ما تكرر ذكره من المؤمنات المخلصات في مواضع عديدة أيضا.

ويحسن أن ننبّه في مناسبة الآية [٧٠] إلى أسلوب من أساليب النظم القرآني. فأخبار الأمم السابقة ورسلهم في السور المكيّة كانت تقصّ بشيء من التفصيل. وإذا اقتضت حكمة التنزيل أن تذكر اقتضابا كانت العبارة القرآنية تتضمن

٤٩٢

مع ذلك شيئا ما عنها وعنهم. أما في السور المدنيّة فاكتفى بالتذكير الخاطف كما جاء في هذه الآية وفي بعض سور أخرى مثل الحديد والتغابن.

ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة رواه بشيء من الخلاف في الألفاظ والترتيب الشيخان عن أبي سعيد رأينا الأفضل إيراده جاء فيه قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضبّ لا تبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال : فمن؟ وفي رواية قيل يا رسول الله كفارس والروم. قال ومن الناس إلّا أولئك» (١). وأورد المفسرون الذين أوردوا صيغة أبي هريرة قوله «اقرأوا إذا شئتم (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إلى آخر الآية». ويلحظ أن الآيات هي في صدد المنافقين السامعين والتذكير بأن في الأمم السابقة من كان على شاكلتهم فأحبط الله أعمالهم وجعل النار دار خلود لهم وأن هذا ما سوف يكون شأن هؤلاء المنافقين بحيث يكون إيراد الحديث الذي فيه خطاب للمسلمين عامة يتحمّل التوقف. ومع ذلك ففي الحديث على كل حكمة ومعجزة. حيث انطوى على تحذير المسلمين وتنبيههم حتى لا يسيروا في كل طريق سار فيه اليهود والنصارى أو الروم والفرس مما ليس فيه فائدة أو فيه مخالفة لمبادىء الإسلام وآدابه وحيث تحقق تنبيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كان من فئات كثيرة من مثل ذلك.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)) [٧١ ـ ٧٢]

__________________

(١) انظر التاج ج ١ ص ٣٦ ـ ٣٧.

٤٩٣

تعليق على الآية

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)

والآية التالية لها. وما فيهما من دلالة وتلقين. وبخاصة

في صدد توطيد شخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي.

وبعض ما ورد في سياقهما من أحاديث نبوية عن الجنة ورضوان الله

عبارة الآيتين واضحة أيضا. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددهما. والمتبادر أنهما جاءتا استطراديتين للتنويه بالمؤمنين المخلصين وتبشيرهم مقابل ما سبقهما من التنديد بالمنافقين وإنذارهم : فالمؤمنون المخلصون من الرجال والنساء متضامنون متناصرون على كل ما فيه الخير والحقّ فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله وسيكونون بسبب ذلك موضع رحمة الله القوي الحكيم. وقد وعدهم بالخلود في مساكن طيبة من جنّات عدن فضلا عن رضوان الله الذي يفوق في مداه ومعناه نعيم الجنّات.

وعلى هذا فالآيتان ليستا منفصلتين عن السياق والسلسلة. ومثل هذا الاستطراد للمقابلة مألوف في النظم القرآني مما مرّ منه أمثلة عديدة. وورود الآيتين في مقامهما يوثق ما قلناه من وحدة السلسلة وانسجام آياتها وترابطها.

وذكر المؤمنات في هذا المقام يؤكد الدلالة التي نبّهنا عليها قبل قليل في صدد بروز المرأة العربية ونشاطها في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومشاركتها في ما كان من أحداث متنوعة في مجال الدعوة الإسلامية العظيم.

وفي ذكر المؤمنات مع المؤمنين في الآيات معنى آخر نوّهنا به في مناسبات عديدة سابقة وجاءت الآيتان لتدعمه وتؤكده بقوة. وهو توطيد القرآن الكريم لشخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي. ومساواتها معه في المكانة الاجتماعية والسياسية والأهلية للتكاليف الإسلامية على أنواعها وبخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضامن والتناصر مع الرجل في كل ما يعود على المجتمع بالصلاح والخير مما هو ذو خطورة عظمى امتاز به القرآن وترشحت به

٤٩٤

الشريعة الإسلامية للشمول والخلود. وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن على ما نبهنا عليه في مقدمتها. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل قد شاءت بذكر المؤمنات بهذا الأسلوب القوي في آخر سور القرآن توكيد توطيد مركز المرأة وشخصيتها في المجتمع الإسلامي سياسيا واجتماعيا على قدم المساواة مع الرجل ليكون هذا الأمر محكما وحاسما. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.

ولقد أورد المفسرون في سياق هاتين الآيتين أحاديث نبوية عديدة في وصف الجنة والمساكن الطيبة ورضوان الله ، وفي بعضها حثّ على الأعمال الصالحة وترغيب فيها. من ذلك حديث رواه ابن ماجه عن أسامة بن زيد قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا هل مشمّر إلى الجنة. فإنّ الجنة لا حظر لها ، هي وربّ الكعبة نور يتلألأ. وريحانة تهتزّ. وقصر مشيد ونهر مطرد. وثمرة نضيجة. وزوجة حسناء جميلة. وحلل كثيرة. ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة. وحبرة ونعمة. في محلة عالية بهية. قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمّرون لها. قال : قولوا إن شاء الله. فقال القوم إن شاء الله» (١). ومنها حديث رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها. فقام أعرابي فقال : يا رسول الله لمن هي؟ فقال : لمن طيّب الكلام وأطعم الطعام. وأدام الصيام. وصلى بالليل والناس نيام» (٢).

ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة. يا أهل الجنة. فيقولون لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك. فيقول هل رضيتم؟ فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربّ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا ربّ وأيّ شيء أفضل من ذلك فيقول أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (٣). ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي أيضا عن عبد الله بن قيس قال :

__________________

(١) من تفسير ابن كثير في سياق الآيات.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) من ابن كثير وقد ورد نصّه في التاج ج ٥ ص ٣٨٤.

٤٩٥

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما. وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما. وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» (١). ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الإمام أحمد قال : «قلنا يا رسول الله حدّثنا عن الجنة ما بناؤها قال لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك. وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت. وترابها الزعفران. من يدخلها ينعم لا ييأس. ويخلد لا يموت ولا تبلى ثيابه. ولا يفنى شبابه» (٢).

وليست هذه الأحاديث كل ما ورد في هذا الباب فهناك أحاديث كثيرة من بابها أوردها المفسرون أو وردت في كتب الحديث فاكتفينا بما أوردناه. ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما جاء في القرآن وثبت عن رسول الله من المشاهد الأخروية ونعيمها واجب. وأنه في نطاق قدرة الله وأنه لا بدّ من حكمة من ذكره بالأسلوب الذي ورد به. وفحوى الآيات والأحاديث يلهم أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين ، والترغيب والحثّ على صالح الأعمال ابتغاء رضا الله ورضوانه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)) [٧٣]

عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددها. والمتبادر أنها بمثابة وصل بين أجزاء وموضوع السلسلة بعد الآيتين السابقتين اللتين جاءتا للاستطراد والمقابلة.

والمتبادر كذلك أن هدف الآية المباشر هو تلقين الموقف الذي يجب أن يقفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المنافقين بعد سرد مواقفهم ومكائدهم وأخلاقهم ولا سيما أن

__________________

(١) من ابن كثير وقد ورد نصّه في التاج ج ٥ ص ٣٨٣.

(٢) من ابن كثير ، وهناك أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه. انظر تفسير الطبري وانظر التاج ج ٥ ص ٣٦٤ وما بعدها.

٤٩٦

السلسلة في صددهم. أما ذكر الكافرين معهم فالمتبادر أنه من قبيل التعميم. ولقد ذكرت الآية [٦٧] من السورة التي مرّت قبل قليل مصير الفريقين معا فيكون في ذكرهما معا في هذه الآية توكيد الآخر ، ولقد ورد نصّ هذه الآية في سورة التحريم التي سبق تفسيرها. ويظهر أن مناسبة السياق والكلام اقتضت إيحاءها ثانية هنا.

ولقد روى الطبري في سياق الآية روايتين متعارضتين واحدة عن ابن مسعود جاء فيها أن في الآية أمرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجاهدة المنافقين بنحو ما يجاهد به المشركين والكفار ، وأخرى عن ابن عباس والضحاك والحسن تفيد التفريق في المعاملة فتكون مجاهدة الكفار بالقتال والسيف والمنافقين بالإغلاظ لهم بالكلام والحدود. وقال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب هو ما قاله ابن مسعود ، فإن قاله قائل فكيف تركهم رسول الله مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم قيل إن الله تعالى إنما أمر بقتال من أظهر كلمة الكفر منهم ثم أقام على إظهاره. وأما من إذا اطلع عليه منهم أن تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها فأنكرها ورجع عنها وقال إني مسلم فإن حكم الله في كلّ من أظهر الإسلام بلسانه أن يحقن بذلك دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك.

ولقد جاء نصّ هذه الآية في سورة التحريم وهي الآية [٩] وقد علقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد آخر. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارها لتجدد المناسبة. ولقد علقنا على موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المنافقين في سياق تفسير بعض آيات سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأحزاب والمنافقون بما يغني عن تعليق جديد آخر أيضا .. وإن كان من شيء نزيده على ما قلنا سابقا هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظل إلى آخر حياته لا يعتبر المنافقين أعداء محاربين ولم يقاتلهم ولم يأمر بقتلهم حيث يلهم هذا أنه اعتبر الآيات الواردة بذلك من قبيل الإذن وليس من قبيل الإلزام. وأن ما كان من موقفه منهم هو ما رأى فيه الخير والمصلحة للإسلام والمسلمين.

ومهما يكن من أمر فهذه الآية كمثيلاتها وعلى ضوء موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنطوي

٤٩٧

على تلقين قوي مستمر المدى بوجوب الوقوف من المنافقين وذوي القلوب المريضة في تصرفاتهم الدينية والاجتماعية والوطنية الشاذة المنحرفة عن الحق القويم موقف الشدة والتنكيل في حدود مصلحة الإسلام والمسلمين.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)) [٧٤].

في الآية :

١ ـ حكاية لما كان المنافقون يحلفون عليه بالله من كونهم لم يقولوا ما نسب إليهم من الأقوال الخبيثة الدالة على كفرهم وعدم إخلاصهم.

٢ ـ وتكذيب رباني لهم بتوكيد كونهم قد قالوا ما به الكفر وكفروا بعد إيمانهم. وزادوا على ذلك فحاولوا محاولات عدوان أحبطها الله فلم ينالوا منها مأربا.

٣ ـ وتقرير كون مواقفهم الخبيثة الجاحدة ناشئة من طبيعة نكران الجميل والحسد المجبولة عليها نفوسهم. إذ لم يكن موجب لنقمتهم وغيظهم إلّا ما عاد عليهم من الخير والنفع والفضل من الله ورسوله مما يستوجب الشكر بدل النقمة والكفر.

٤ ـ وإنذار رادع ودعوة جديدة لهم : فباب التوبة مفتوح لهم فإن يتوبوا يكن خيرا لهم وإن يصروا على موقفهم ويعرضوا فقد استحقوا عذاب الله الشديد في الدنيا والآخرة معا ولن يجدوا لهم في الأرض وليّا ولا نصيرا يدفع عنهم العذاب.

تعليق على الآية

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ..) وما فيها من صور وتلقين

ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها أن شخصا اسمه الجلاس قال إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شرّ من الحمير. فنقلها

٤٩٨

ابن زوجته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعاتبه فحلف بأنه ما قال فنزلت الآية مكذبة له. ومنها أن الذي نقلها إلى النبي شخص آخر وكان صديقا للجلاس فقال للنبي خفت إن كتمتها أن تصيبني قارعة أو ينزل فيّ قرآن وإن الجلاس تاب بعد نزول الآية وحسن إيمانه. ومنها أن قائل ذلك القول رجل غير الجلاس فانبرى له رجل مؤمن فقال له إن ما قاله حقّ ولأنت شرّ من حمار ، فهمّ المنافق مع بعض أصحابه بقتله فلما عاتبهم النبي حلفوا له ما قالوا وما فعلوا وأن الرجل القائل كان فقيرا فأغناه الله حيث قتل له مولى فأعطاه رسول الله ديته. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول كبير المنافقين حيث قال : ما مثلنا ومثل محمد إلّا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك. ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وكان ذلك في أثناء غزوة من غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنها أنها نزلت في حق الذين استغابوا النبي أثناء غزوة تبوك وتآمروا على قتله. ومنها أن جملة (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) عنت تفكير بعضهم بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففشلوا أو عنت ما قاله ابن أبي بن سلول. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة.

وبعض هذه الروايات روي في مناسبة سابقة في هذه السورة وفي سورة (المنافقون) وعلى كل حال ففي الآية صورة من صور المنافقين ومواقفهم وأقوالهم ومسارعتهم إلى التنصّل وحلف الأيمان من جهة. وقد استهدفت التنديد بهم وفضحهم وإنذارهم وتلقين وجوب الوقوف منهم موقف الشدة من جهة أخرى. ويتبادر لنا إلى هذا أن الآية غير منفصلة عن السياق والتسلسل. وكل ما في الأمر أنها احتوت هذه الصورة على سبيل التذكير بأخلاقهم ومواقفهم في معرض التنديد. ومن المحتمل أن يكون الحادث وقع في أثناء غزوة تبوك فكانت المناسبة قائمة لذكره في السلسلة كما أن من المحتمل أن يكون وقع قبله فذكر على سبيل التذكير.

ولقد تكررت حكاية مواقف مماثلة من المنافقين مما يدل على أن هذه المواقف كانت تتكرر منهم فاستحقوا ما احتوته هذه الآية وأمثالها من التنديد والإنذار.

والفقرة الأخيرة قد تلهم أن المنافقين أخذوا في التناقص وعزلوا عن

٤٩٩

المجتمع الإسلامي حتى أصبحوا لا يجدون وليا ولا نصيرا. وهذا تطور واضح في مركزهم وفي استعلاء كلمة الله ورسوله.

والدعوة إلى التوبة ونصيحتهم بها حتى في مثل الظرف التطوري الذي صاروا فيه مما هو متسق مع الدعوة والنصيحة القرآنيتين المتكررتين في كل مناسبة وبالنسبة للمنافقين والكفار على السواء ، ومؤكد لما نبهنا عليه في المناسبات العديدة السابقة بكون الهدف الجوهري للتنزيل القرآني والشريعة الإسلامية إنما هو إصلاح البشرية وإنقاذ الناس من الضلال والفساد والأخلاق المنكرة.

ولقد ذكرنا قبل أن المفسرين رووا أن جملة (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) عنت شخصا كان فقيرا فصار غنيا بسبب دية حصل عليها بحكم رسول الله. ويتبادر لنا أنها أشمل مدى وقصد من حادثة شخص واحد. وإن ما تلهمه هو أن عهد رسول الله في المدينة قد صار إلى جانب بركته الروحية الفياضة سببا من أسباب الغنى والثروة للناس عامة ومن الجملة المنافقين. وهذا مما يتسق مع الروايات وبخاصة بعد أن أخذ سلطان الإسلام يتوطد ودعوته تنتشر وعاصمته المدينة المنورة ـ يثرب تزدحم بالناس من كل صوب لمختلف البواعث ، والحركة الاقتصادية تقوى نتيجة لذلك.

والتقريع فيها قوي يكشف عن ناحية من نواحي نفوس المنافقين ومقابلتهم الفضل بالجحود. ويكشف في الوقت نفسه عن طبيعة خبثاء الطوية لؤماء الطبع. وهي الحسد للمنعم والكيد للمتفضل والنقمة على مغدق الخير وسببه. وفي ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الطبيعة ووجوب الاحتراز منها. وتقرير كونها من صفات المنافقين وذوي القلوب المريضة.

ويلحظ أن الآية أكدت أن المنافقين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم. ومع ذلك فحكمة الله اقتضت أن يظل باب التوبة مفتوحا لهم. وليس هناك أي خبر صحيح يذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاتلهم أو قتلهم مما فيه تدعيم لما قلناه في سياق تفسير الآية السابقة لهذه الآيات. وتوافق مع الذي علّق به الطبري وأوردناه في سياق آية

٥٠٠