التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها (١) إلى الناس اللهمّ اشهد ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام فصلّى الظهر ثم أقام فصلّى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب حتى أتى الموقف (٢) فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس. وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله (٣) ويقول أي يشير بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة كلّما أتى حبلا من الحبال (٤) أرخى لها قليلا حتى تصعد إلى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول الله حتى طلع الفجر وصلّاه حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبّره وهلّله ووحّده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن العباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ، فلما دفع رسول الله مرّت به ظعن (٥) يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع النبي يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحوّل رسول الله يده إلى الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه حتى أتى بطن محسر (٦) فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف (٧) رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم

__________________

(١) أي يردها إليهم.

(٢) هو جوار الصخرات في أسفل جبل الرحمة في عرفات.

(٣) مقدمه.

(٤) الحبل بمعنى التلّ الخفيف.

(٥) جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج.

(٦) موضع قبل منى بعد عرفات.

(٧) حب الفول.

٥٨١

ركب رسول الله فأفاض إلى البيت وصلّى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلو لا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم (١) فناولوه دلوا فشرب منه».

وروى الشيخان وأحمد عن ابن عباس حديثا فيه بعض أقوال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة وداعه جاء فيه : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب الناس يوم النحر فقال يا أيها الناس أيّ يوم هذا قالوا يوم حرام. قال فأيّ بلد هذا قالوا بلد حرام. قال فأيّ شهر هذا قالوا شهر حرام قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال اللهمّ هل بلّغت اللهمّ هل بلّغت فليبلّغ الشاهد الغائب. لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. قال ابن عباس فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته» (٢). وفي رواية «وقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النحر بين الجمرات في حجّته التي حجّ بها وقال هذا يوم الحجّ الأكبر. وطفق يقول اللهمّ اشهد. وودّع الناس فقالوا هذه حجّة الوداع» (٣).

وفي كل من سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد (٤) فصل طويل مسلسل الرواة إلى أحد أصحاب رسول الله أو تابعيهم متطابق مع هذا الحديث مع بعض زيادات مهمة فيها تعليم وتشريع وتهذيب. فمما جاء في فضله في طبقات ابن سعد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما شاهد الكعبة عند قدومه إلى مكة قال : «اللهمّ زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من عظّمه ممن حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما وبرّا» وأنه وقف بالهضاب في عرفات وقال : «كل عرفة موقف إلا بطن عرفة». وحينما جاء إلى المزدلفة قال : «كل المزدلفة موقف إلا بطن محسر»

__________________

(١) كانت وظيفة السقاية بيد العباس بن عبد المطلب والمتبادر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خشي أن يعتبر المسلمون ذلك سنّة لهم أيضا.

(٢) التاج ج ٢ ص ١٣٥ و ١٣٦.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) الجزء الرابع من سيرة ابن هشام ص ٢٧٢ ـ ٢٧٧ والجزء الثالث من ابن سعد ص ٢٢٥ ـ ٢٤٠.

٥٨٢

وأنه بعد نحر الهدي حلق رأسه وأخذ شاربه وعارضيه وقلّم أظفاره وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن ثم أصاب الطيب ولبس القميص ونادى مناديه «إن أيام منى هي أيام أكل وشرب» ثم أقام ثلاث ليال في مكة وقال : إنما هن ثلاث يقيمهن المهاجر بعد الصدر. ثم ودّع البيت وانصرف راجعا إلى المدينة. وروي في الفصل جواب لأنس بن مالك على سؤال عمّا إذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهلّ بالعمرة والحجّ معا أم أفرد؟ فقال إنه أهلّ بهما معا. وهذا هو المستفاد من الحديث الطويل السابق. ومما ورد في الفصل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل للمسلمين الخيار بالإفراد بين العمرة والحجّ أو القران بينهما. وقال لمن سألوه : من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة. وتمتّعوا بالعمرة إلى الحج. وأنه دخل الكعبة بعد أن خلع نعليه ولما عاد إلى أهله قال لعائشة فعلت أمرا ليتني لم أفعله دخلت البيت ولعلّ الرجل من أمتي لا يقدر على أن يدخله فينصرف وفي نفسه حزازة. إنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالدخول. وقال حين وقف في عرفات «الحجّ عرفات أو يوم عرفة. من أدرك ليلة جمع (١) قبل الصبح فقد تمّ حجّه» وقال في موقف آخر «أيام منى ثلاثة فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه. وإنها ليست أيام صيام إنما هي أيام أكل وشرب وذكر» ومما روي من أقواله في خطبة الوداع «إن الله قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا يجوز لوارث وصية. ألا وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر. ألا ومن ادّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. يا أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشي مجدع إذا أقام فيكم كتاب الله. أرقّاءكم أرقّاءكم. أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون. وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم. ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعلّ بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» وقال لبعض المسلمين حين رآه يتشدد في اختيار الجمرات «إيّاكم والغلوّ في الدين إنما أهلك من كان قبلكم. بالغلوّ في الدين».

__________________

(١) ليلة العيد.

٥٨٣

ومما رواه ابن هشام من زيادة في خطبته : «أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا. ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم. فاحذروه على دينكم. أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادى ورجب. أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه. أيها الناس لتعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين أخوة. فلا يحلّ لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه. فلا تظلمن أنفسكم. ألا إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا. أمرا بينا. كتاب الله وسنّة نبيه. وهتف في آخر خطبته اللهمّ هل بلّغت فهتف الناس نعم فقال اللهمّ فاشهد» ومما رواه ابن هشام وفيه تعليم لمناسك الحج أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج لخمس بقين من ذي القعدة. وأن عائشة رضي الله عنها حاضت وبكت وقالت والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا فقال لا تقولن ذلك فإنك تقضين كلّ ما يقضى الحج. إلا أنك لا تطوفين بالبيت (١). وإن النبي حلّ كل من كان لا هدي له معه وحل نساءه بعمرة. ولم يحلّ هو معهم وقال إني أهديت ولبّدت فلا أحلّ حتى أنحر هديي وأن هدي رسول الله كان من البقر وقد نحره يوم النحر. وأن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه رجع من بعثه الذي بعثه به إلى اليمن أثناء الحجّ فأمره النبي أن يطوف ويحل كما فعل أصحابه. فقال له إني أهللت يا رسول الله كما أهللت فأعاد عليه القول فقال يا رسول الله إني قلت حين أحرمت اللهمّ إني أهلّ بما أهلّ به نبيك وعبدك ورسولك. فقال فهل معك من هدي قال لا فأشركه رسول الله في هديه وثبت على إحرامه. وإن رسول الله قال حين وقف على المرتفع الذي

__________________

(١) روى ابن هشام أنها أدت العمرة قضاء بعد طهرها.

٥٨٤

وقف عليه هذا الموقف ثم قال وكل عرفة موقف. وقال حين وقف على هضبة صبيحة المزدلفة هذا الموقف ثم قال وكل المزدلفة موقف. ولما نحر بالمنحر بمنى قال هذا المنحر وكل منى منحر.

وهكذا كانت هذه الحجّة المباركة من أعظم مشاهد الرسالة المحمدية وتتويجا رائعا لها.

نبذة في مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووفاته

ولحظاته الأخيرة وصفته

وأما وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كانت على أشهر الروايات (١) في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة عن ثلاث وستين سنة (٢). ولا تذكر الروايات المرض الذي مات به. وكل ما جاء فيها أنه ألمّت به حمّى رافقها صداع. وأن العباس عمّه رضي الله عنه ظنّ أنها ذات الجنب ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ما كان الله ليقذفني بهذا الداء. ولم يطل مرضه إلّا نحو أسبوعين. ولما شعر بثقل وجعه استأذن من نسائه بالانتقال إلى بيت عائشة تحقيقا لفكرة العدل بينهن فأذنّ له حيث مات في بيتها ودفن فيه وهو المكان المدفون فيه إلى اليوم على التحقيق صلوات الله وسلامه عليه.

ومما رواه ابن هشام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في جوف الليل مع أبي مويهبة مولاه

__________________

(١) انظر ابن هشام ج ٤ ص ٣١٩ ـ ٣٤٥ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٣٠ ـ ٤٤٤ وكل من المؤلفين يسند رواياته إلى راو بعد راو إلى أحد أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) هناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال : «بعث رسول الله لأربعين سنة فمكث في مكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فهاجر إليها فأقام عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة». وحديث رواه مسلم عن أنس قال : «قبض رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة». وحديث رواه مسلم والترمذي عن عائشة قالت «توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة». ومع ذلك فهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس قال : «توفي رسول الله وهو ابن خمس وستين سنة» انظر التاج ج ٥ ص ٢٢٩.

٥٨٥

وقال له إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر. ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والآخرة شرّ من الأولى ثم قال يا أبا مويهبة. إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فقال أبو مويهبة بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة قال لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة. ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدأ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه. ولقد خرج في بعض مرضه عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فصلّى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر من الصلاة عليهم. ثم قال : يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا فإنّ الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها فأحسنوا إلى محسنيهم وتجاوزوا عن مسيئيهم. ثم قال أيها الناس : إن عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وما عنده فاختار ما عنده ، ففهمها أبو بكر فبكى وقال بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال على رسلك يا أبا بكر ثم قال انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدّوها إلّا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحدا كان أفضل من الصحبة عندي يدا منه. وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده (١). ولما اشتد برسول الله الوجع وجاء بلال يدعوه إلى الصلاة فقال مروا من يصلي بالناس فخرج فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبا فقلت قم يا عمر فصلّ بالناس فقام فلما كبّر سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوته وكان رجلا مجهرا فقال فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون. يأبى الله ذلك والمسلمون. ثم بعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلّى عمر الصلاة فصلّى بالناس. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد هيأ جيشا وعين لقيادته أسامة بن زيد ليذهب إلى مؤتة في البلقاء لينتقم لجيش ذهب بقيادة أبي أسامة في

__________________

(١) ورد معظم ما أوردناه من خطبة رسول الله وبكاء أبي بكر وكلامه وردّ النبي عليه في حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد وأوردناه في سياق تفسير الآية [٤٠] من سورة التوبة. انظر التاج ج ٣ ص ٢٧٣.

٥٨٦

السنة السابعة الهجرية واستشهد أبوه مع عدد من المسلمين فاستبطأ حركة سير الجيش وسمع أن بعض الناس ينتقدون قيادة أسامة لأنه لا يزال فتى يافعا. فخرج مرة أخرى عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أيها الناس أنفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق بالإمارة. وإن كان أبوه لخليقا بها ووصف له بعضهم دواء يسقونه إياه وهو غائب عن وعيه من الحمّى فقال عمّه لألدنّه (أي لأسقينه الدواء بالقوة) فلدّوه فلما أفاق قال من صنع بي هذا قالوا عمك. فقال العباس هذا دواء أتى به نساء جئن من الحبشة. قال ولم فعلتم ذلك؟ فقال عمّه خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب. فقال إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفني به. لا يبق في البيت أحد إلّا لدّ إلّا عمي فلدّوا عقوبة لهم بما صنعوا به. وفي يوم الاثنين الذي قبض فيه خرج إلى الناس وهم يصلّون الصبح بإمامة أبي بكر فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم حين رأوه فرحا به فتبسم صلوات الله عليه فرحا من هيئتهم في صلاتهم. وتفرجوا له (أوسعوا له) فأشار أن اثبتوا. وشعر أبو بكر بالحركة فعرف أنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد أن يتأخر له فأشار له أن يبقى ثم صلى جالسا إلى جانبه وقال أنس راوي هذا إنه لم ير رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة وقد أقبل على الناس يكلمهم بصوت مرتفع فقال : «يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. وإني والله ما تمسكون علي بشيء. إني لم أحلّ إلّا ما أحلّ القرآن. ولم أحرّم إلّا ما حرّم القرآن» وقد اطمأن أبو بكر واستأذنه بالذهاب إلى بيته في محلة السنح قائلا له إني أراك بفضل الله ونعمته قد أصبحت بخير فأذن له. غير أن الضحاء لم يكد يشتد حتى توفاه الله.

ومما رواه ابن هشام متسلسلا إلى عائشة أنها قالت «كان آخر عهد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. وآخر كلمة سمعتها منه لما حضرته الوفاة قوله «بل الرفيق الأعلى» قالت ففهمت أن الله تعالى خيّره فاختاره لأنه كان يقول إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيّره. وما كان إلّا أن يختار الله علينا. وكان آخر ما فعله أنه رأى عود أراك في يد قريب لعائشة فنظر إليه فعرفت أنه يحبّ أن يستنّ فمضغته

٥٨٧

له حتى لان ثم أعطته إياه فاستنّ كأشد ما رأته يستنّ بسواك قط (١). ومما رواه ابن هشام مسلسلا إلى عبد الله بن عباس أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله في وجعه فسأله الناس كيف أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أصبح بحمد الله بارئا فأخذ العباس بيده وقال له : أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب. فانطلق بنا إلى رسول الله فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه ولئن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس. فقال عليّ إني والله لا أفعل. والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعد. فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتد الضّحاء من ذلك اليوم. كان مما رواه ابن هشام أنه لما مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام عمر فقال إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي. وإن رسول الله ما مات. ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران. فقد غاب أربعين ليلة عن قومه ثم رجع إليهم بعد أن قيل مات. والله ليرجعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات. وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول

__________________

(١) رويت أحاديث صحيحة عديدة عن آخر لحظات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. منها حديث رواه مسلم عن عائشة قالت : «سمعت رسول الله يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها اللهمّ اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى» وحديث رواه مسلم كذلك عن عائشة قالت : «كنت أسمع أنه لن يموت نبي حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة فسمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحّة يقول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قالت فظننته خيّر حينئذ». وحديث رواه الشيخان عنها قالت : «كان رسول الله يقول وهو صحيح إنه لم يقبض نبيّ قط حتى يرى مقعده في الجنة ثم يخيّر. قالت فلما نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ثم قال اللهمّ الرفيق الأعلى قلت إذا لا يختارنا وعرفت الحديث الذي كان يذكره وهو صحيح فكان آخر كلمة تكلّم بها رسول الله اللهمّ الرفيق الأعلى» وحديث رواه البخاري عنها أيضا قالت : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء ويمسح بها وجهه ويقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده» الأحاديث من التاج ج ٣ ص ٢٦١.

٥٨٨

الله وهو مسجى في ناحية البيت عليه برد حبرة فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم قبّله وقال بأبي أنت وأمي. أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا. ثم ردّ البردة على وجهه ثم خرج وعمر يكلّم الناس فقال : على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلّا أن يتكلّم ، فأقبل على الناس فلما سمعوا كلامه أقبلوا عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا قول الله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)) [آل عمران]. فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ وأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم. قال أبو هريرة : قال عمر : فو الله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى عقرت ووقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مات. وقد تولى غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّ بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل بن عباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضوان الله عليهم. ولم يجردوه بتاتا بل أبقوا قميصه عليه وغسلوه من تحته. ثم كفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين (١) وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا. ثم وضع على سريره. وأدخل الناس عليه للصلاة أرسالا. فصلّى عليه الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء ثم الصبيان. ولم يؤمّ الناس أحد. واختلفوا في محل دفنه فقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما قبض نبي إلّا دفن حيث يقبض» فدفن في بيت عائشة وسط الليل ليلة الأربعاء. وقد تولّى دفنه عليّ بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وشقران مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضوان الله عليهم.

وما تقدم كلّه مقتبس من ابن هشام. وكثير منه وارد في تاريخ الطبري. وفي هذا بعض روايات لم ترد في ابن هشام. وهي مسلسلة الرواة إلى أحد أصحاب رسول الله. من ذلك عن عائشة والفضل بن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتد به الوجع

__________________

(١) نسبة إلى صحار بلدة في اليمن.

٥٨٩

فقال أهريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد عليهم فأقعدناه في مخضب ثم صببنا عليه الماء حتى قال حسبكم حسبكم ثم خرج وقد عصب رأسه وأخذ الفضل بن العباس بيده حتى جلس على المنبر وأمر بنداء الناس فاجتمعوا فقال أما بعد أيها الناس فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه. ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني. ألا وإن أحبّكم إليّ من أخذ مني حقا إن كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيّب الناس. وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مرارا. ثم نزل فصلى الظهر ورجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى فقام رجل فقال يا رسول الله إنّ لي عندك ثلاثة دراهم قال أعطه يا فضل ثم قال يا أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة فقام رجل فقال يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله. قال ولم غللتها؟ قال كنت إليها محتاجا ، قال خذها منه يا فضل. ثم قال أيها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له فقام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب إني لفاحش وإني لنؤوم فقال اللهمّ ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم إذا أراد. ثم قام رجل فقال والله يا رسول الله إني لكذاب وإني لمنافق. وما من شيء إلا قد جنيته فقام عمر بن الخطاب فقال فضحت نفسك أيها الرجل فقال النبي يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. اللهمّ ارزقه صدقا وإيمانا وصيّر أمره إلى خير. ومن ذلك عن عبد الله بن مسعود أن نبينا وحبيبنا نعى إلينا نفسه قبل موته بشهر فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة فنظر إلينا وشدد فدمعت عينه وقال مرحبا بكم رحمكم الله آواكم الله حفظكم الله رفعكم الله نفعكم الله وفقكم الله نصركم الله سلمكم الله قبلكم الله. أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأؤديكم إليه. إني لكم نذير وبشير لا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص : ٨٣]. وقال : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٦٠].

٥٩٠

فقلنا : متى أجلك؟ قال : قد دنا الفراق والمنقلب إلى الله إلى سدة المنتهى. قلنا : فمن يغسلك يا نبي الله؟ قال : أهلي الأدنى فالأدنى. قلنا : ففيم نكفنك؟ قال : في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض مصر أو حلة يمانية. قلنا : فمن يصلي عليك. قال : مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا ، فبكينا وبكى ، وقال : إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلّي عليّ جليسي وخليلي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة بأجمعها. ثم ادخلوا عليّ فوجا فوجا فصلّوا عليّ وسلّموا تسليما ولا تؤذوني بتزكية ولا برنّة ولا صيحة. وليبدأ بالصلاة عليّ رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد ، اقرأوا أنفسكم السلام فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة. قلنا : فمن يدخلك في قبرك يا نبي الله؟ قال : أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم. ومن ذلك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعه فقال : ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعدي أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي أن يتنازع عند نبي فقالوا : ما شأنه أهجر (يعني هل يهذي من شدة الوجع) استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال : دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه. وأوصى بثلاث قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم ، وسكت عن الثالثة عمدا أو قال فنسيتها».

أما صفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهناك روايات عديدة متقاربة بعضها مقتضب وبعضها مسهب وقد روى ابن سعد عن أبي هالة التميمي وصفا رواه عن ابن أخته الحسن بن علي الذي سأل خاله عن صفته وكان وصّافا فقال : (١) «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. أطول من المربوع وأقصر من المشذب (٢). عظيم الهامة رجل الشعر إن انفرقت عقيصته (٣) فرق وإلّا فلا ، يجاوز شعره شحمة

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٨٣ ـ ١٨٨.

(٢) الطويل النحيف.

(٣) ضفيرته.

٥٩١

أذنيه إذا هو وفّره (١) أزهر اللون. واسع الجبين. أزج الحواجب سوابغ في غير قرن. بينهما عرق يديره الغضب أقنى (٢) العرنين. له نور تعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم. كثّ اللحية. ضليع الفهم. مفلج الأسنان دقيق المسربة. كأن عنقه جيد دمية (٣). في صفاء الفضة. معتدل الخلق. بادنا متماسكا سواء البطن والصدر. عريض الصدر. بعيد ما بين المنكبين. ضخم الكراديس (٤). أنور المتجرد (٥). موصول ما بين اللبة (٦) والسرّة بشعر يجري كالخط. عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك. أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر. طويل الزندين. رحب الراحة سبط القصب. شثن الكفين والقدمين. سائل الأطراف. خمصان الأخمصين. مسيح القدمين ينبو عنهما الماء. إذا زال زال قلعا (٧). يخطو تكفؤا ويمشي هونا. ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب. وإذا التفت التفت جميعا. خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء. يعني جلّ نظره الملاحظة. يسبق أصحابه. يبدر من لقي بالسلام. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متواصلا للأحزان. دائم الفكرة. ليست له راحة. لا يتكلم في غير حاجة. طويل السكت يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه. ويتكلم بجوامع الكلم فصل لا فضول ولا تقصير. دمثا ليس بالجافي ولا المهين. يعظم النعمة وإن دقت. لا يذم منها شيئا. لا يذم ذواقا. ولا يمدحه. لا تغضبه الدنيا وما كان لها فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له. لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. إذا أشار أشار بكفه كلها. إذا تعجب قلبها. وإذا تحدث اتصل بها. يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى. وإذا غضب أعرض وأشاح. وإذا فرح غضّ طرفه. جلّ

__________________

(١) إذا لم يقصه.

(٢) طويل مع رقة الأرنبة وحدب في الوسط.

(٣) الصورة المبالغ في صنعها.

(٤) رؤوس العظام أو ملتقاها.

(٥) مشرق الجسد.

(٦) المنحر.

(٧) مثبتا.

٥٩٢

ضحكه التبسم. ويفتر عن مثل حبّ الغمام. وكان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءا لله وجزءا لأهله وجزءا لنفسه. ثم جزّأ جزءه بينه وبين الناس فيسرد ذلك على العامة بالخاصة. ولا يدّخر عنهم شيئا. يؤثر أهل الفضل ناديه. وقسمه على قدر فضلهم في الدين. وكان يقول : «ليبلغ الشاهد الغائب. وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته. فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت الله قدميه يوم القيامة». لا يذكر عنده إلّا ذلك ولا يقبل من أحد غيره. لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. يعطي كل جلسائه بنصيبه لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه. من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف. ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول. قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا في الحق عنده سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات. ولا تؤبن (١) فيه الحرم ولا تثنّى فلتاته (٢) متعادلين. يتفاضلون فيه بالتقوى. متواضعين يوقرون فيه الكبير. ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة. ويحفظون أو يحوطون الغريب. وكان دائم البشر سهل الخلق. ليّن الجانب. ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب يتغافل عما لا يشتهي. ولا يدنس منه ولا يجنب فيه. قد ترك نفسه من ثلاث : المراء ، والإكثار ومما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث. لا يذم أحدا ولا يعيره ، ولا يطلب عورته. ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه. إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير. فإذا سكت تكلموا. ولا يتنازعون عنده من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده. فكان يضحك مما يضحكون ويتعجب مما يتعجبون منه ويصبر للغريب على الجفوة في منطقة ومسألته ويقول : «إذا رأيتم طالب الحاجة بطلبها فأردفوه» ولا يقبل الثناء إلا من مكافىء ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام. وكان سكوته على

__________________

(١) لا تذكر فيه الحرم بقبيح.

(٢) الفلتات : الزلات أي لم تكن في مجلسه زلات فتحكى.

٥٩٣

أربع : على الحلم والحذر والتقرير والتفكير. فأما تقريره ففي تسوية النظر والاستماع من الناس. وأما تذكره أو تفكره ففيما يبقى ويفنى. وجمع الحلم والصبر وكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسنى ليقتدى به. وتركه القبيح ليتناهى عنه ، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته. والقيام فيما جمع لهم الدنيا والآخرة. صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة وتسليما دائمين متناسبين مع جلالة قدره وعظمة أخلاقه وبالغ جهده في سبيل تبليغ رسالة ربّه ونشر دينه.

هذا ، وبانتهاء هذا الجزء تنتهي أجزاء «التفسير الحديث» الاثنا عشر [والمقسمة إلى تسعة أجزاء في هذه الطبعة الجديدة].

وكان الفراغ منه يوم السبت الموافق الثالث من ذي الحجة لسنة ١٣٨٢ هجرية وفق تاريخ ٢٧ نيسان سنة ١٩٦٣ ميلادية مسيحية.

ونرى من واجبنا في هذه المناسبة أن نسجل شكرنا لدار إحياء الكتب العربية (عيسى البابي الحلبي وشركاه) ولسيادة مديرها الأستاذ محمد الحلبي على ما كان من حسن استعدادها وإقبالها على طبع أجزاء التفسير ونشاطها في سرعة إخراجها والعناية بها. كما نسجل شكرنا لفضيلة الأستاذ الشيخ الطاهر الزاوي المشرف على طبع أجزاء التفسير ولمن ساهم في طبعه من عمال المطبعة على ما كان منهم من جد كبير في إتقان الطبع وضبطه وخلو الأجزاء من الأغلاط المطبعية الهامة. سائلين الله عزوجل أن يجزيهم عن كتابه المجيد خير الجزاء.

وإننا لنختم هذا الجزء بما بدأنا به الجزء الأول باسم الله عزوجل وحمده على نعمته وتوفيقه بإتمام ما فتح علينا به وألهمنا إياه. مكررين دعاءنا بأن نكون قد وفقنا فيما كتبناه إلى السداد والصواب. وأن يشملنا بعفوه ورحمته. وأن يتجاوز عما وقعنا فيه من خطأ ونسيان. وأن يتقبل منا هذه الخدمة لكتابه المجيد خالصة لوجهه الكريم ، وأن ينفع به. وهو وليّ التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا به.

٥٩٤

«ورثة المرحوم محمد عزة دروزة المتوفى في دمشق ٢٨ شوال ١٤٠٤ الموافق ٢٦ تموز ١٩٨٤ يتوجهون بالشكر لله تعالى سبحانه على نعمته أن شرح صدر المجاهد الحاج الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي للنشر ، وفتح قلبه لخدمة كتاب الله سبحانه وتعالى متفضلا باستعداده تنفيذ وصية المرحوم الوالد لإعادة طباعة مؤلفه «التفسير الحديث» منقحا حيث كان المرحوم قد أنهى إعادة النظر من الطبعة الأولى وإدخال ما رآه واجب التعديل والتنقيح ، كما جاء في مقدمته للطبعة الحالية ، وذلك في يوم الخميس الموافق للخامس عشر من شهر محرم الحرام ١٣٨٦ والسادس من أيار ١٩٦٦ بحلة قشيبة وعناية فائقة. كما يجزى الشكر لفضيلة الدكتور محمد عبد الرحمن المرعشلي على تفضله بالوقوف والإشراف على التصحيح وضبط وتحرير أية أخطاء وبالشكر لصاحب المطبعة السيد صدقي كساسير والعاملين معه سائلين المولى عزوجل أن يجزيهم عن كتابه المجيد خير الجزاء».

[تم بتوفيق الله تعالى الجزء التاسع من كتاب التفسير الحديث

ويليه الجزء العاشر ويضم الفهارس العامة]

٥٩٥
٥٩٦

فهرس محتويات الجزء التاسع

٥٩٧
٥٩٨

تفسير سورة المائدة................................................................ ٧

تعليق على الآيتين الأوليين من السورة............................................. ١٢

ستعليق على الآية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ...).............................. ٣٨

تعليق على الآية (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ)..................................... ٣٨

تعليق على الآية (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا ...).................. ٤٢

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...).................... ٥٥

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ...)........................ ٦٩

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ...).................. ٧٠

تعليق على الآية (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ...)........................... ٧٣

تعليق على الآية (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ...)........................... ٧٦

تعليق على الآية (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ ...)........................... ٧٩

تعليق على الآية (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ...)..................... ٨٣

تعليق على الآية (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ ...)...................... ٨٤

تعليق على الآية (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى ...)............. ٨٦

تعليق على الآية (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ ...)............... ٨٩

تعليق على الآية (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ...)............................ ٩٥

تعليق على الآية (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ ...)............................ ١٠١

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ...)........................... ذ ١١٠

تعليق على الآية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ...)....................... ١١٦

٥٩٩

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ ...)................. ١٢٦

تعليق على الآية (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ...).......................... ١٣٢

تعليق على الآية (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ...)....................... ١٤٣

تعليق على الآية (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً ...)....................... ١٤٧

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ...)............ ١٥٤

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ...)................ ١٥٩

تعليق على الآية (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ...)........................ ١٦٨

تعليق على الآية (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا ...)................................... ١٧٢

تعليق على الآية (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ...)............................. ١٧٤

تعليق على الآية (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ...)......................... ١٧٨

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...)......................... ١٨٠

روايات الشيعة في صدد الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...)............. ١٨٤

تعليق على الآية (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ ...)...................... ١٨٧

تعليق على الآية (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ...)............................ ١٩٠

تعليق على الآية (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ...)........... ١٩١

تعليق على الآية (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ...).................... ١٩٤

تعليق على الآية (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ...)......................... ١٩٦

تعليق على الآية (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...)....................... ١٩٩

تعليق على الآية (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ...).............. ٢٠٢

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ...)..................... ٢٠٧

تعليق على الآية (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ...)....................... ٢١١

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...)................... ٢١٩

تعليق على الآية (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ...)............ ٢٢٨

تعليق على الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ...).......... ٢٣١

تعليق على الآية (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ...)................. ٢٣٦

٦٠٠