التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا فلم يأكل فقير إلّا غني ولا مبتل إلّا عوفي ، وبقيت على هيئتها ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.

وننبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه‌السلام حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثنتي عشرة قفة أو سبعة سلال (١). وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل ـ من ملحقات الأناجيل التي سمّي مجموعها العهد الجديد ـ قصة فيها شيء مقارب جاء فيها «إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا فجاع ووقع عليه انجذاب فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلّى على الأرض وكان فيه من كل ذوات الأربع ودوابّ الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات ثم رفع الوعاء إلى السماء» (٢). غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في

__________________

(١) انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩.

(٢) النص منقول من النسخة الكاثوليكية.

٢٦١

القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بدّ من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه‌السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول إنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعلّ من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة القلب. وهو ما ذكر منه صورة عن إبراهيم عليه‌السلام على ما شرحناه في سياق الآية [٢٦٠] من سورة البقرة. ثم الإنذار للذين يرتابون ويكفرون بعد ذلك بالله وآياته. وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى للمسلمين أيضا. والله تعالى أعلم.

(وثانيا) إن الجمهور على أن المقطع التذكيري الأول هو مما سوف يخاطب الله تعالى عيسى عليه‌السلام به يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل. أما المقطع الثاني الذي فيه سؤال الله لعيسى وجواب عيسى عليه فهناك من قال إنه هو أيضا سيكون يوم القيامة. وهناك من قال إنه كان يوم رفع الله عيسى عليه‌السلام إليه. وأصحاب القول الأول أولوا جملة (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) بأنها إشارة إلى ذلك اليوم الذي سوف يأتي. وأصحاب القول الثاني أولوها بأنها تنبيه تنويهي باليوم بمعنى هذا هو اليوم الذي ينفع الصادقين صدقهم. وليس هناك أثر نبوي ليكون حاسما. وقد صوّب الطبري القول الأول. ويتبادر لنا أن القول الثاني هو الأوجه لأن الكلام سياق واحد وأسلوب واحد. فالمقطع التذكيري الأول بدأ بجملة (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى) والمقطع الثاني الذي فيه السؤال والجواب بدأ بنفس الجملة.

ونقول في صدد الحوار الذي حكته الآيات بين الله تعالى وعيسى عليه‌السلام إن الإيمان بذلك واجب. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أن من الحكمة في ذكره بالأسلوب الذي جاء به هو ما قلناه قبل التنديد بعقيدة النصارى في عيسى وأمه. وتبرئة عيسى من مسؤولية ذلك وتقرير حقيقة ما قاله للناس. وتقرير كون كل

٢٦٢

ما خالف ذلك فيما أيدي النصارى من أناجيل وأسفار وما هم عليه من عقائد هو مخالف لما أمر الله عيسى عليه‌السلام أن يقوله أو لما قاله.

والجمهور على أن كلمة (نَفْسِكَ) بالنسبة إلى الله التي حكيت على لسان عيسى هي في مقام الذات الإلهية وهو الصواب. وهو ما تكرر كثيرا في السور السابقة في هذا المعنى على ما نبهنا عليه.

أما جملة (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) فالمتبادر أنها أسلوبية للمقابلة ، وبسبيل التقرير بلسان عيسى بأن الله تعالى هو وحده الذي يعلم حقا بالنفوس وخلجات الصدور. وأنه هو وبالتالي سائر عباد الله لا يعلمون من أمر الله ومغيباته شيئا بقدرتهم والله تعالى أعلم.

ونقول في صدد مدى ما ورد في الآيتين [١١٦ و ١١٧] من سؤال الله تعالى لعيسى عليه‌السلام عما إذا كان قال للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وتنصّله من ذلك إن الطوائف النصرانية تسمّي مريم أمّ الله وأمّ الربّ وتتعبّد لها كما تتعبّد لعيسى عليه‌السلام على اعتبار أنه إله. أو الله. حيث ينطوي في هذا مصداق الخبر القرآني كما هو واضح. وجواب عيسى عليه‌السلام المحكي بأنه لم يقل لهم إلا ما أمره أن يقوله وهو (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) متسق مع عبارات كثيرة وردت في الأناجيل المتداولة المعترف بها مما أوردنا نماذج منها في سياق تفسير سورة مريم. وأسلوب تنصّله المحكي قوي محكم. وموجّه إلى العقول والقلوب معا ويتبادر لنا أن هذا من أهداف الآيات لتدعيم ما قرره القرآن من نبوّة عيسى وعبوديته لله ومن وضع الأمر في شأنه في نصابه الحق. ثم لتدعيم دعوة النصارى إلى الارعواء وترك ما هم عليه من غلوّ وانحراف والرجوع إلى عقيدة وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن كل شائبة وتعدد وكون عيسى رسولا من رسل الله وحسب دعا مثلهم إلى عبادة الله ربّه وربّ جميع الناس.

وتعبير (مِنْ دُونِ اللهِ) المحكي عن لسان عيسى لا يقتضي أن يكون قال لهم اتخذوني إلها لكم بدلا من الله. ويصحّ أن يكون قصد بها (مع الله) وبهذا يزول

٢٦٣

ما قد يورده النصارى من أن عيسى لم يقل ما جاء في القرآن بحرفيته. على أن في القرآن شواهد على أن جملة (مِنْ دُونِ اللهِ) لا تعني بدلا من الله أو مكان الله. فآية سورة الزمر هذه (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [٣]. وآية سورة يونس هذه (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)) صريحتان بأن الذين يعبدون من دون الله ويتخذون أولياء من دون الله لا ينكرون الله ويؤمنون به وإنما عبدوا من دون الله واتخذوا أولياء من دون الله مع الله وللاستشفاع بهم لديه.

هذا ، وهناك حديث يرويه الشيخان في سياق الآية [١١٧] عن ابن عباس قال «خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ثم قرأ (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤] ثم قال ألا وإنّ أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم. ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا ربّ أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فيقال إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (١).

وهذا خبر عن مشاهد الآخرة عن رسول الله فيوقف عنده ويؤمن به كما هو شأن أمثاله من أخبار المشاهد الأخروية في القرآن والأحاديث الصحيحة. والحكمة الملموحة في الحديث بالإضافة إلى ذلك الخبر الأخروي هي التأسي بكلام عيسى المحكي في الآية بسبيل التنصّل مثله مما قد يرتكس فيه بعض أمته من بعده من انحراف وشذوذ ، وإنذار لأمته بذلك بقصد حملهم على خوف الله وتقواه واجتناب الشذوذ والانحراف. والله أعلم.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١١١.

٢٦٤

والآية [١١٩] تنطوي على تنويه بالصادقين وبشرى لهم. وإطلاقها يفيد أنها في صدد كل صادق في إيمانه مستقيم على طريق الحقّ السوي. فهذا الصدق في هذا النطاق هو الكفيل بنجاة أصحابه يوم القيامة. وبنيل رضاء الله عنهم ورضائهم عنه عزوجل بما يكون لهم منه من تكريم.

وطابع الختام بارز على الآية الأخيرة. مما تكرر مثله في خواتم سور عديدة.

ولقد وقف ابن كثير عند الآية [١١٨] فقال إن لها شأنا عظيما ونبأ عجيبا. ثم أخذ يورد بعض أحاديث نبوية في سياقها. منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذرّ بصيغتين هذه إحداهما «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها وهي (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)) فلما أصبح قلت يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها قال إني سألت ربي عزوجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا» ومنها حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول عيسى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)) ، فرفع يديه فقال اللهمّ أمتي وبكى فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد ، وربّك أعلم ، فاسأله ما يبكيه فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قال. فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك» وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. ولا يمنع هذا صحتها. وفيها صورة من صور تأسي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمواقف وأقوال بعض الأنبياء في مناجاة الله عزوجل وصورة من صور عبادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشفقته بأمّته. ومشهد من المشاهد الروحانية التي طمأنه فيها الله تعالى بأنه سيرضيه في أمته ولا يسوءه. وفيها في النهاية تطمين وبشرى لمن لا يشرك بالله شيئا من أهل هذه الأمة. والله تعالى أعلم.

٢٦٥

سورة الممتحنة

في السورة نهي عن موالاة الكفار الأعداء المعتدين مهما ربطت بينهم وبين المسلمين أرحام. ودعوة للتأسي بإبراهيم والمؤمنين معه في موقفهم من قومهم الكافرين. وتأميل باهتداء الكفار. وتقرير بأن النهي لا يتناول المسالمين بحيث لا حرج على المسلمين من موادة هؤلاء والبرّ بهم. وإنما يتناول الأعداء المؤذين والمتظاهرين معهم على الإسلام والمسلمين. وأمر بعدم إرجاع المسلمات المهاجرات إلى الكفار. وتحريم بقاء المسلمين مرتبطين بزوجاتهم الكافرات. وأمر بمبايعة المسلمات وأخذ العهد عليهن استقلالا. وانطوى في السورة صور عديدة من السيرة النبوية. وتلقينات جليلة المدى.

وهي فصلان مستقلان في الموضوع متناسبان في الظروف. وإذا صحت الروايات التي سوف نوردها بعد فإن الأمر بمبايعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنساء المسلمات يكون قد نزل بعد الفتح المكي. وعلى كل حال فالذي نرجحه أنها من السور التي ألفت تأليفا في وقت متأخر بعد نزول ما اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول.

والمصحف الذي اعتمدنا عليه وكذلك روايات ترتيب النزول الأخرى (١) تذكر أن هذه السورة نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الفتح التي احتوت إشارة إلى رحلة الحديبية وصلحها بسور عديدة. في حين أن مضامينها والروايات الواردة في صددها تسوغ القول ـ بقوة ـ بأنها نزلت بعد ذلك الصلح ، بل وبين يدي فتح

__________________

(١) انظر روايات ترتيب نزول السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩.

٢٦٦

مكة الذي كان بعد ذلك الصلح بسنتين. وهذا ما جعلنا نخالف روايات الترتيب فيها كما فعلنا في بعض السور ونؤخرها إلى ما بعد سورة الفتح التي نزلت عقب ذلك الصلح مباشرة ثم إلى ما بعد سورة المائدة التي نزل فصلها الأول كذلك عقبه على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين. وبذلك يتم التساوق في ترتيب النزول في نطاق ما هو معروف من صحيح الوقائع. والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦)) [١ ـ ٦].

(١) إن يثقفوكم : هنا بمعنى إن يلقوكم ويظفروا بكم.

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

(١) نداء للمؤمنين فيه نهي عن اتخاذ الكفار أولياء ونصراء وعن فعل ما فيه مودة ومحبة وفائدة لهم. وتعليلا لهذا النهي : فهم أعداء الله تعالى وأعداؤهم.

٢٦٧

كفروا بما جاءهم من عند الله من الحقّ وآذوهم وآذوا رسول الله واضطروهم إلى الخروج من وطنهم بدون ذنب بسبب إيمانهم بالله وحده.

(٢) وتنبيها لهم بأن فعل ما فيه مودة للكفار وبخاصة بصورة سرّية متناقض مع الإخلاص في الإيمان إذا كانوا حقّا مخلصين فيه وإذا كانوا حقّا قد هاجروا من وطنهم ابتغاء وجه الله وجهادا في سبيله.

(٣) وإنذارا بأن الله يعلم ما يخفون وما يعلنون وبأن من يوادّ الكفار منهم يكون قد ضلّ عن السبيل الحقّ وانحرف عن واجب الإخلاص.

(٤) وتذكيرا لهم بشدة حقد الكفار عليهم : فهم لو لقوهم وظفروا بهم لعاملوهم معاملة الأعداء الألداء ولبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالشرّ والأذى. وإنهم ليودّون أن يكفروا بعد إيمانهم.

(٥) وتقريرا بأنه لن تكون أية فائدة ونفع للأرحام والأولاد يوم القيامة وبأن الله تعالى سوف يفصل بينهم فيه حسب أعمالهم وهو البصير الرقيب على كل ما يفعلونه.

(٦) وضرب مثل لهم بموقف إبراهيم والذين آمنوا معه من قومهم : فقد أعلنوا جهرا ومواجهة براءتهم من قومهم وما يعبدونه من دون الله. وعالنوهم العداء والبغضاء إلى الأبد ما داموا كفارا ، مقررين إيمانهم بالله وحده وإسلام النفس إليه واعتمادهم عليه. معترفين بأنه هو مرجعهم. طالبين منه المعونة. ملتمسين منه أن لا يجعلهم موضع فتنة الكفار وأذاهم. وأن يغفر لهم هفواتهم وذنوبهم. وفي هذا الأسوة الحسنة للمؤمنين المخلصين حقّا الذين يرجون رضاء الله وحسن العاقبة في اليوم الآخر. أما الذين ينحرفون عنه فهم وشأنهم والله غني عنهم حميد للمخلصين الصادقين.

وقد احتوت الآية الرابعة استدراكا فيه حكاية لما وعد إبراهيم به أباه من استغفار الله له مع إعلانه أنه لا يملك له من الله شيئا.

٢٦٨

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...) إلخ

والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من روايات

وأقوال وما انطوى فيها من صور وتلقين

ولقد روى المفسرون (١) بطرق عديدة المناسبة التي نزلت فيها هذه الآيات. ورواها البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود أيضا فاخترنا إيراد نصّهم حيث جاء فيه (٢) عن علي بن أبي طالب أنه قال : «بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب قالت ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ أو لتلقينّ الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممّن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبيّ فقال ما هذا يا حاطب؟ قال لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأ من قريش ولم أكن من أنفسهم. وكان المهاجرون لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه قد صدقكم ، فقال عمر دعني يا رسول الله فأضرب عنقه. فقال إنه شهد بدرا وما يدريك لعلّ الله عزوجل اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت الآيات» وفي رواية أوردها الطبري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقولوا له إلّا خيرا».

ولقد روى البغوي في تعريف المرأة خبرا فيه صورة طريفة حيث روي أنها مولاة لبني عبد المطلب قدمت إلى المدينة فسألها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسلمة جئت؟ قالت : لا ، قال : أمهاجرة؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأهل

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والخازن والطبرسي.

(٢) التاج ج ٤ ص ٢٣٣.

٢٦٩

والعشيرة والموالي وقد ذهبتم فاحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فقال لها : وأين أنت من شباب مكة ـ وكانت مغنية نائحة ـ فقالت : ما طلب مني شيء بعد بدر. فحثّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها. فاغتنم حاطب عودتها فأعطاها مبلغا من المال وحملها الرسالة.

ومضمون الآيات واختصاصها المهاجرين بالخطاب يؤيدان صحة الرواية. غير أن أسلوبها يلهم أن النهي والتحذير والتنبيه موجه إلى جملة من المسلمين. وإذا كانت نزلت في مناسبة رسالة حاطب ـ وهذا قوي الرجحان لتعدد الروايات بطرق مختلفة وعدم الاختلاف فيها ـ فإن أسلوبها الشديد وما ورد في مواضع عديدة من السور المدنية من آيات فيها نهي عن اتخاذ الآباء والأبناء والعشيرة والإخوان أولياء وموادتهم ، وإنذار لمن يفعل ذلك كما جاء في آية سورة المجادلة هذه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ...). وآيات سورة التوبة هذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)). فكل هذا يسوغ القول بأنه كان يعتلج من حين لآخر في نفوس بعض المهاجرين أزمات نفسية بسبب ما صار إليه الأمر من العداء والبغضاء والدماء والتناكر الشديد بينهم وبين أهل مكة الذين تربط بينهم الأرحام والعصبيات والمصالح المتنوعة في ظرف كان للأرحام وعصبيتها أثر نافذ عميق في الحياة

٢٧٠

الاجتماعية. وأن هذا كان يسوق بعضهم إلى ما لا ينبغي من مواقف وعواطف وتصرفات فاقتضت حكمة التنزيل توجيه الخطاب إلى الجميع بما فيه من شدّة وإنذار وتنبيه. ولعل في الآيات التالية قرينة على هذا التوجيه على ما سوف نشرحه.

ولقد اختلفت الروايات التي رواها المفسرون (١) عن أهل الصدر الأول في ظروف إرسال الرسالة حيث روي أن حاطب أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسيير جيش نحو مكة بعد وقعة بدر بسنتين. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السفر إلى مكة للعمرة وهي السفرة التي أدت إلى صلح الحديبية. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غزو مكة لفتحها بعد هذا الصلح بسنتين. وفي المقطع الثاني من السورة قرينة تكاد تكون حاسمة على أنها نزلت بعد صلح الحديبية. وهذا ما يجعلنا نرجح الرواية الثالثة.

ولعل الرواية الأولى أو الثانية هما اللتان جعلتا رواة ترتيب لنزول يرتبون نزول السورة بعد سورة الأحزاب. والله أعلم.

والآيات كما هو ظاهر احتوت تعليلا لوصف الكفار بالأعداء والنهي عن موادتهم بما كان من كفرهم وبدئهم المسلمين بالأذى وإلجائهم إلى الخروج من وطنهم وإضمارهم لهم العداء والسوء وتمنّي ارتدادهم عن دينهم وكفرهم به. وهذا متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن ونبهنا عليه من كون موقف المسلمين العدائي نحو غيرهم هو موقف دفاع ومقابلة بالمثل وحسب. وقد انطوى فيها في الوقت ذاته مبدأ في غاية العدل والحق والتمشي مع طبائع الأمور دائما وهو عدم موادة المسلمين لأناس يبدأونهم بالعدوان والأذى ويضمرون لهم الشر والسوء وعدم جواز اطلاعهم على أسرارهم. ووجوب الوقوف منهم موقف الحذر والاستعداد وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل ظرف ومكان.

وفي التصرف الذي تصرفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحديث الذي قاله في حق أهل

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والنيسابوري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

٢٧١

بدر تلقين مستمر المدى كذلك بالإغضاء عن موقف قد يصدر من بعض الناس عن ضعف نفسي مهما كان خطير المدى والأثر إذا ما كان هناك يقين بأن صاحبه مخلص غير خائن ولا غادر وله مواقف تضحية وإخلاص سابقة مشهودة.

والأسوة التي دعت الآيات المسلمين إلى التأسي بها رائعة قوية الإحكام من ناحيتين. الأولى كونها عائدة إلى إبراهيم عليه‌السلام ، والذين آمنوا معه في ظرف يتداول سامعو القرآن من المسلمين أنه أحد آبائهم ويأمر القرآن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول إنّ ربّه هداه إلى صراط مستقيم دينا قيما ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين كما جاء في الآية [١٦١] من سورة الأنعام. والثانية شدة حسم الأسلوب الذي يعلن به إبراهيم عليه‌السلام والذين آمنوا معه لقومهم الكفار العداوة والبغضاء أبدا ما لم يؤمنوا بالله وحده. في ظرف تعتلج في نفوس بعض المسلمين أزمة من جراء ما بينهم وبين الكفار من قومهم من أرحام ووشائج ومصالح.

وأهل التأويل من التابعين متفقون على ما ذكره المفسرون (١) على أن جملة (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) هي استثناء للأسوة أي أن المسلمين لهم أسوة بإبراهيم والذين آمنوا معه إلّا قول إبراهيم هذا فليس لهم فيه أسوة. بل قد روى الطبري عن مجاهد أن المسلمين نهوا بهذه الآية عن الاستغفار للمشركين. ونحن نتوقف في التسليم بهذا التخريج والاستنتاج. ويتبادر لنا أن الاستدراك استطرادي لحكاية وعد إبراهيم عليه‌السلام وحسب. ولو كان فيه معنى النهي لما أمكن أن يستغفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعض المؤمنين لبعض أقاربهم المشركين وهو ما أشير إليه بأسلوب عتابي في آية سورة التوبة التي نزلت بعد هذه السورة وهي : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣)). ويظهر أنهم فعلوا ذلك اقتداء بإبراهيم عليه‌السلام الذي وعد أباه بالاستغفار على ما أخبر بذلك القرآن في آية سورة مريم هذه : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧)). فاقتضت

__________________

(١) انظر الكتب السابقة الذكر.

٢٧٢

حكمة التنزيل أن تنزل آية أخرى مع آية التوبة وهي : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)). فعدم التأسي وجب بناء على ذلك وليس بناء على الآية التي نحن في صددها كما يبدو ذلك بكل قوّة من آيتي سورة التوبة. والله أعلم.

ولأهل التأويل من التابعين تخريجان لجملة : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) على ما ذكره المفسرون. أحدهما أنها بمعنى (ربنا لا تصبنا ببلاء وعذاب لئلا يقولوا إنهم لو كانوا على حقّ لما أصابهم هذا البلاء والعذاب من الله) فيكون بذلك فتنة لهم تجعلهم يستمرون على كفرهم. وثانيهما بمعنى (ربنا لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك ويقولوا لو كانوا على حقّ لما غلبناهم) وكلا التخريجين وجيه.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)) [٧ ـ ٩].

تعليق على الآية

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ...) إلخ

والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين

عبارة الآيات واضحة. وقد انطوى في الآية الأولى تأميل للمؤمنين الذين وجّه الخطاب إليهم بأن يجعل الله بينهم وبين من عادوهم مودّة بعد العداء وتواصلا بعد الجفاء والقطيعة : فالله قدير على ذلك. وهو غفور رحيم يغلب غفرانه ورحمته في معاملة الناس. وفي الآيتين الثانية والثالثة تنبيه تقريري بأن الله لا ينهاهم عن البرّ والإقساط وحسن التعامل مع الذين لم يقاتلوهم ولم يعتدوا على حريتهم ولم

٢٧٣

يؤذوهم بسبب دينهم ولم يضطروهم إلى الجلاء عن وطنهم من الكفار. فإن الله يحبّ المقسطين الذين يعاملون غيرهم بالعدل والقسط إذا لم يصدر منهم مثل ذلك. وإنما ينهاهم عن موالاة وموادّة الذين قاتلوهم بسبب دينهم واعتدوا على حريتهم وآذوهم واضطروهم إلى الجلاء عن وطنهم أو ساعدوا على ذلك. فمن تولى هؤلاء فهو آثم ظالم لنفسه منحرف عن أمر الله تعالى.

وقد روى ابن كثير عن مقاتل أن الآية الأولى نزلت في أبي سفيان حيث تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنته أم حبيبة فكان ذلك مودّة بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعزا الطبري إلى أهل التأويل من التابعين أن الله تعالى أخبر بالآية بما سوف يكون من إسلام كثير منهم ومن قيام حالة سلم بين بعضهم وبين المسلمين. أما في صدد الآيتين الثانية والثالثة فقد روي عن أهل التأويل من التابعين أقوال وروايات عديدة (١). منها أنه عني بهما المسلمون الذين ظلوا في مكة أو حيث هم. ولم يهاجروا إلى المدينة. ومنها أنه عني بهما قبيلتا خزاعة ومدلج اللتان صالحتا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا تقاتلاه ولا تعينا عليه. ومنها أنه عني بهما مشركو مكة الذين لم يقاتلوا المسلمين ولم يؤذوهم. ومنها أنه عني بهما من لم يؤذ المسلمين ويقاتلهم من المشركين عامة. ومنها ما جاء في حديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير قال : إن أمّ أسماء بنت أبي بكر قتيلة ـ وكان أبو بكر قد تزوجها في الجاهلية وطلقها ولم تسلم ـ قدمت على ابنتها في المدينة ومعها هدية لها فقالت لها لا تدخلي حتى يأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكرت ذلك لعائشة فذكرته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله الآيتين (٢).

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

(٢) هذه الرواية وردت في حديث رواه الشيخان عن أسماء وليس فيه ذكر لنزول الآيتين بمناسبة ذلك حيث جاء في الحديث «قالت أسماء قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أبيها فاستفتيت رسول الله فقلت إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها. قال نعم صلي أمك» التاج ج ٥ ص ٤ و ٥. وعهد قريش هو صلح الحديبية الذي انعقد بين النبي وبينهم. وهذا الحديث يدعم ترجيحنا نزول السورة بعد صلح الحديبية بالإضافة إلى المقطع الثاني من السورة الذي يدعمه كما قلنا.

٢٧٤

وقد فنّد ابن كثير رواية صلة أبي سفيان بالآية الأولى. وهو على حقّ. لأن أبا سفيان كان كافرا عدوا يقود جيش قريش لقتال المسلمين حين نزلت الآية. وكان زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببنته قد تمّ وهي في الحبشة حيث هاجرت مع زوجها فمات عنها وخطبها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي في الحبشة وعقد له عليها وقدمت رأسا إلى المدينة على ما ذكرته الروايات (١).

والروايات إلى هذا تقتضي أن تكون الآيات الثلاث نزلت متفرقة ، في حين أن الانسجام بينها قائم وقوي أولا. وأن الصلة بينها وبين سابقاتها سياقا وموضوعا ملموحة بقوة ثانيا. حيث اكتفي باستعمال ضمير الجمع المخاطب على اعتبار أن صفة المخاطب واضحة في الآيات السابقة وهي مهاجر والمسلمين. وحيث اكتفي بتعبير (منهم) للدلالة على أهل مكة الكفار الذين كانوا موضوع الحديث في الآيات السابقة. وفي الآيتين الثانية والثالثة دلالة أخرى على ذلك في تعبير (الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ). ويتبادر لنا بناء على ذلك ومن روح الآيات وبخاصة الأولى أن الآيات السابقة قد أثرت تأثيرها المطلوب في نفوس المهاجرين ، وحزّت في الوقت نفسه في قلوبهم ، وأيأستهم أو كادت من أقاربهم وذوي أرحامهم الكفار. ولعل بعضهم فاتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمر أو سأله عما إذا كان النهي شاملا لجميع أهل مكة الباغي منهم والمسالم على السواء فاقتضت حكمة التنزيل إيحاء الآيات للتنفيس والتأميل من جهة. وللتفريق بين الباغي والمسالم ووضع الأمر في نصابه الحق من جهة أخرى. ومن الممكن في الوقت نفسه أن يلمح فيها ـ وبخاصة في أولاها ـ بشرى تطمينية بين يدي ما اعتزمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزو مكة ـ والآيات قد نزلت بين يدي هذا العزم على ما رجحناه استلهاما من الآيات والروايات ـ من

__________________

(١) انظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٢٣ بل هناك خبر طريف ورائع وهو أن أبا سفيان جاء إلى المدينة بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة ليوثق ذلك الصلح فدخل إلى ابنته فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طوته عنه فقال يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت بل هو فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنت رجل مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (انظر ابن هشام ج ٤ ص ١٢ ، ١٣).

٢٧٥

شأنها أن تشرح صدر المسلمين المهاجرين للغزوة وتهيىء نفوسهم لها وتبعث فيهم الإقدام والشوق والأمل بحسن النتائج ، وانضواء كثير من الأقارب والأصدقاء إلى الإسلام ، وانقلاب العداء والجفاء إلى مودة واجتماع. كما يمكن أن يلمح في الآيتين الثانية والثالثة أنه كان بين أهل مكة أناس لم يشتركوا في أذى المسلمين والتآمر عليهم مما هو طبيعي جدّا.

وهذا الشرح لا يمنع أن تكون رواية قدوم أم أسماء المدينة واستفتاء ابنتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صحيحة فكان في الآيات فتوى لها أيضا.

هذا من الوجهة الزمنية المتصلة بالسيرة النبوية. أما من النواحي العامة فالآية الأولى متسقة مع الأسلوب القرآني في جعل الباب مفتوحا أمام غير المسلمين سواء أكانوا أعداء محاربين أم غير ذلك للمسالمة والموادة والتوبة والإنابة والارعواء عن الغلو والمواقف المنبثقة من الغرض والمآرب والمكابرة والاستكبار أو الجهل مما مرّ منه في السور السابقة أمثلة كثيرة جدا نبهنا عليها في مناسباتها فلا ضرورة لتمثيل جديد. وفي عبارة الآية تلقين من شأنه أن يجعل أفق المسلمين واسعا وصدرهم رحبا ويحملهم على النظر في الأمور من أكثر من ناحية. ويبثّ فيهم أمل السلام والخير والاستبشار. ويجتث منهم العداء والحقد الشديدين. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. والآيتان الثانية والثالثة متسقتان بدورهما مع المبدأ القرآني العام الذي نبهنا عليه ونوهنا به في مناسبات سابقة عديدة والذي يقرر معاملة العداء للعدو المعتدي وحسب ويجعل ذلك مقابلة للعدوان وليس بدءا. أما الذين يوادون المسلمين ويكفون عنهم ألسنتهم وأيديهم من غير المسلمين فلا يعتبرون أعداء ولا مانع من برّهم والإقساط إليهم. بل إن أسلوب الآية الثانية ينطوي على الحثّ والتشويق على ذلك.

وفي الآيتين إلى هذا تقرير وتنظيم للمناسبات بين المسلمين وغيرهم أولا. وفرض لوجود طبقة بين مشركي العرب وكفار الكتابيين يمكن تسميتها بالمسالمين ثانيا. وهي على ما يتبادر لنا غير طبقة المعاهدين الذين يقوم بينهم وبين المسلمين

٢٧٦

ميثاق صلح وسلام دون خضوع وجزية وبعد عداء وقتال أو بدون قتال مثل ما صارت الحالة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش نتيجة صلح الحديبية وقبائل أخرى مما ذكرته الروايات (١). وهي كذلك غير طبقة الذين يدخلون في ذمة المسلمين وحكمهم وحمايتهم ويؤدون إليهم الجزية سواء أكان ذلك نتيجة قتال أم لا. مثل ما كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصارى نجران والمدن اليهودية والنصرانية في مشارف الشام مما ذكرته الروايات كذلك (٢). أي الطبقة التي تكفّ ألسنتها وأيديها عن المسلمين ودينهم وتقف منهم موقف الحياد والمسالمة أو المودة بدون ميثاق مكتوب. وفيهما دلالة على عدم وجاهة القول بعدم قبول شيء غير الإسلام أو القتل من مشركي العرب. وبعدم قبول شيء غير الإسلام أو الجزية من أهل الكتاب. وعلى عدم وجاهة القول بإيجاب محاربة غير المسلمين مع إطلاق القول حتى يسلموا. فالقتال والعداء كما قررنا وذكرنا في مناسبات عديدة سابقة استلهاما من آيات عديدة صريحة أو ملهمة إنما شرعا بالنسبة للبادئين بقتال المسلمين وأذيتهم وفتنتهم أو الصادين عن سبيل الله ودينه أو من يساعد على ذلك ثم لمن ينكث عهده مع المسلمين ويتحول من موقف المعاهد إلى موقف العدو. ومع هؤلاء ينتهي الأمر بالإسلام أو المعاهدة أو الجزية فقط. وطبيعي أنه ليس كل غير مسلم يكون قد آذى المسلمين وقاتلهم واعتدى عليهم وصدّ عن سبيل الله حيث لا يمكن إلّا أن يكون فئات كثيرة في كل ظرف ومكان لم تفعل ذلك ولم تساعد عليه. فهؤلاء يباح البرّ والإقساط معهم بل يستحسنان. وهذا تشريع عام محكم ومستمر وشامل وفيه من الروعة والجلال ما يغني عن الإطناب. ومما يزيد في روعته وجلاله أن الآيات مطلقة لا تشترط بدءا من غير المسلمين في البر والإقساط والموادة. فيكفي من غير المسلم أن يكون مسالما غير مؤذ بلسانه أو يده مباشرة أو غير مباشرة ليكون موضع برّ المسلم ومودته وقسطه. والأمثلة على ذلك كثيرة في السيرة النبوية وعن الخلفاء الراشدين. فلم يقاتلوا ولم يأمروا بقتال غير الأعداء الذين يقاتلونهم وتركوا وأمروا

__________________

(١) ابن سعد ج ٣ ص ١٣٩ ـ ١٥٠.

(٢) ابن سعد ج ٢ ص ٤١ وما بعدها وج ٣ ص ٧٠.

٢٧٧

بترك من لا يقاتلهم ومن يكفّ عنهم لسانه ويده ، ومن هو غير أهل للقتال من شيوخ ونساء وصبيان ورهبان (١). ولقد قال بعض المفسرين وعزا بعضهم إلى بعض أهل التأويل من التابعين أن الآية الأولى منسوخة بخاصة بالنسبة لمشركي العرب بآية سورة التوبة هذه : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)). ونحن لا نعتقد ذلك وسياق هذه الآية السابق واللاحق لها لا يدعمه على ما سوف نشرحه في مناسبته. ولقد أورد الطبري هذا القول أيضا ثم فنده بقوله : «وأولى الأقوال بالصواب قول من قال عني بذلك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرّوهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم. وقد عمّ الله عزوجل جميع من كان ذلك صفته فلم يخصص به بعضا دون بعض ، ولا معنى لقول من قال إن ذلك منسوخ. لأن برّ المؤمن لأهل الحرب (٢) ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح» وفي هذا كل الحق والصواب إن شاء الله. والله أعلم.

ولقد تحقق ما توقعته الآية الأولى وأمّلت المسلمين به فدخل معظم قريش ثم معظم العرب في دين الله في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانقلب ما كان من عداء بينهم وبين المسلمين إلى مودّة وإخاء فكان ذلك من معجزات القرآن الباهرة.

ولقد ترد ملاحظة على الفرق في التعبير في الآيات. ففي الآية الثانية استعمل

__________________

(١) انظر ابن سعد ج ٣ ص ١٣٢ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٨٧.

(٢) أهل الحرب اصطلاح فقهي كان مطلقا في العصور الإسلامية الأولى على أهل البلاد التي أهلها كفار. ولم يكن الإطلاق سليما إلا في حالة أن يكون بينهم وبين المسلمين حالة حرب وعداء. ويتبادر لنا أنه أطلق لأن البلاد التي كانت مجاورة لبلاد المسلمين كانت في حالة حرب مع المسلمين إما في حالة حرب قائمة أو في حالة حرب متوقفة بهدنة. وكلام الطبري هو في صدد من يكونون غير محاربين للمسلمين ولا متآمرين عليهم من أهل هذه البلاد.

٢٧٨

(البرّ والإقساط) وفي الآية الثالثة استعمل (التولّي). ومع التسليم بما بين التولّي والبرّ من فرق فإن الآيات وروحها وروح آيات أوائل السورة معا تلهم أن القصد من التولّي هنا هو فعل ما ليس فيه مصلحة وخير للمسلمين أو ما فيه ضرر وخطر. وهذا يشمل التحالف كما يشمل التعاون والتحذير والتواصل والتراسل والتوادّ.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)) [١٠ ـ ١١].

(١) فامتحنوهن : اختبروا صحة دعواهن الإسلام.

(٢) وآتوهم ما أنفقوا : الضمير راجع إلى الكفار أزواج اللائي جئن إلى المدينة مهاجرات مؤمنات. والجمهور على أن جملة (ما أَنْفَقُوا) تعني مهور النساء.

(٣) عصم : القصد منها عقود الزوجية.

(٤) الكوافر : جمع كافرة.

(٥) وإن فاتكم : بمعنى إن ضاع عليكم أو ذهب منكم أو فرّ من عندكم.

(٦) فعاقبتم : فكان لكم عقبى بالنصر وحصلتم على غنائم من أعدائكم.

الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين. وقد تضمنت :

(١) أمرا بامتحان من يأتين إليهم مؤمنات مهاجرات واختبار صحة دعواهن الإيمان أو التوثّق منها.

٢٧٩

(٢) ونهيا عن إعادتهنّ إلى الكفر إذا ثبتت صحة دعواهنّ لأنهنّ يكنّ قد أصبحن محرّمات على الكفار وأصبح الكفار محرّمين عليهنّ.

(٣) وأمرا بالتعويض على أزواجهم الكفار ما أنفقوه عليهن.

(٤) وإباحة لهم أن يتزوجوا باللائي جئن مؤمنات مهاجرات.

(٥) ونهيا لهم عن الاستمرار في التمسك بأنكحة زوجاتهم اللاتي بقين على كفرهن وتخلفن عنهم مع تقرير حق الأزواج بمطالبة ذويهن الكفار بما أنفقوا عليهن وحقّ الأزواج الكفار بالمطالبة بما أنفقوه على زوجاتهم اللاتي أسلمن وهاجرن.

(٦) وتقريرا لحق الأزواج المسلمين الذين تلتحق زوجاتهم بذويهن في دار الكفر باستيفاء ما أنفقوه عليهن من الغنائم التي قد تقع في أيدي المسلمين من أموال الكفار حينما يتيسر لهم ذلك.

(٧) وتنبيها إلى أن هذه الأحكام هي أحكام الله التي يجب السير في نطاقها وهو العليم بمقتضيات الأمور الذي يقرر ما فيه الحكمة والصواب.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ...) إلخ

والآية التي بعدها وما ينطوي فيهما من أحكام وصور وتلقين

ولقد روى المفسرون (١) أن الآية الأولى نزلت في نسوة جئن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرات مؤمنات من مكة بعد صلح الحديبية. ومنهم من روى أنهن جئن وهو في الحديبية بعد أن تمّ الاتفاق بينه وبين قريش وقبل أن يرجع إلى المدينة ، ومنهم من ذكر أسماء اختلفت باختلاف الروايات مثل سبيعة بنت الحارث الأسلمية زوجة من بني مخزوم أو زوجة صيفي الراهب أو أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت عاتقا ـ غير متزوجة ـ أو أميمة بنت بشر إحدى نساء بني أمية بن زيد بن أوس الله كانت عند ثابت بن الدحداحة ، فجاء ذووهن أو أزواجهن في طلبهن استنادا إلى

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي.

٢٨٠