التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات إلّا ما رواه البغوي عن الكلبي من أن الآية [١٠] نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل الله. وذبّ عن رسول الله. وقد روى المفسّر حديثا بطرقه عن ابن عمر قال : «كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو بكر رضي الله عنه وعليه عباءة قد خلّها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل فقال ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها في صدره بخلال؟ فقال أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال فإن الله عزوجل يقول اقرأ عليه‌السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط. فقال رسول الله يا أبا بكر إن الله عزوجل يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت في فقرك أم ساخط. فقال أبو بكر أأسخط على ربّي. إني عن ربّي راض. إني عن ربي راض» وفحوى الروايات لا يتضمّن مناسبة خاصة لنزول الآية كما هو واضح. والحديث بعد لم يرد في الصحاح.

ومع عظم احترامنا للصدّيق رضي الله عنه وتضحياته واعتقادنا بأنه أهل لكل ثناء ورضاء ربانيين فالذي نستلهمه من روح الآيات وفحواها أن ما احتوته الآية المذكورة يشمل أكثر من شخص واحد. وأنها تعني الطبقة السابقة إلى الإيمان والبذل من مهاجرين وأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين سجّل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة هذه : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [١٠٠]. ونرجح أنها نزلت في مناسبة موقف مرجح من المواقف التي كان يقفها بعض المسلمين المستجدين وخاصة بين مرضى القلوب ويظهرون فيها ترددا في البذل في سبيل الله وتباطؤا في الجهاد وتقصيرا في الإخلاص والطاعة والتفاني الواجب عليهم نحو الله ورسوله مما حكته آيات كثيرة في سور عديدة سابقة مثل آيات سورة البقرة [٢٦٤ ـ ٢٦٧] والنساء [٧١ ـ ٨٧ و ٩٥ ـ ١٠٠ و ١١٤ ـ ١١٥ و ١٤٠ ـ ١٤٧ ...] وآيات من هذه السورة تأتي بعد فأوحى الله تعالى فيه إلى نبيّه بهذه الآيات لتحتوي ما احتوته من إنكار وتذكير وتنويه وعتاب وحثّ وتنديد وتنبيه بعد المقدمة السابقة

٣٠١

التي احتوت ما احتوته من بيان عظمة الله تعالى وقدرته ومطلق تصرفه في الكون بما في ذلك نفوس الناس وأموالهم.

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس قال : «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم» (١). حيث ينطوي في هذا الحديث صورة ما من الصور التي شاءت حكمة التنزيل المقايسة بها بين الإنفاق والقتال قبل الفتح وبعده وتأييد ما لما قلناه. مع التنبيه على أننا ننزّه خالد بن الوليد رضي الله عنه عن صفة النفاق ومرض القلب. وكل ما هناك أنه قد أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة وأن الموقف المروي عنه إن صح فإنه نتيجة جدته في الإسلام وحسب (٢). ولقد جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في

__________________

(١) روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أبي سعيد فيه شيء من ذلك قال : «كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبّه خالد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسبّوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» التاج ج ٣ ص ٢٧٢. ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد التمار «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم فقلنا من هم يا رسول الله أقريش؟ قال لا هم أرق أفئدة وألين قلوبا وأشار بيده إلى اليمن فقال هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية فقلنا يا رسول الله هم خير منا قال والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل ذهب ينفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه ثم جمع أصابعه ومدّ خنصره وقال ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى» وروح الأحاديث يلهم أنها في صدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وهناك أحاديث أخرى في فضلهم أيضا أوردناها في سياق سورة الفتح السابقة لهذه السورة. انظر التاج ج ٣ ص ٢٧٠ وما بعدها.

(٢) مما رواه ابن هشام (ج ٣ ص ٣١٩) أن كلا من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد خرجا بعد قليل من صلح الحديبية يريد الوفود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدخول في الإسلام. وقد التقيا في الطريق فسأل عمرو خالدا إلى أين فقال له إلى المدينة فأسلم فإن الرجل نبي وحتى متى. فقال له وأنا كذلك قد خرجت لهذا. والمأثور أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمّاه سيف الله. انظر (أشهر مشاهير الإسلام ج ١ ص ١٤٩ تأليف رفيق العظم).

٣٠٢

المدينة مسلما باختياره وعن قناعة (١). ورسخ في الإسلام مع الأيام حتى صار من أقوى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمانا وإخلاصا وجهادا.

ومهما يكن من أمر فإن الآيات احتوت صورا من صور السيرة النبوية في العهد المدني ولو لم تكن بارزة الخطوط. وإن أسلوبها ومضمونها وروحها معا تلهم أنها استهدفت تقرير تقصير المخاطبين وترددهم في الإخلاص التام في الإيمان والطاعة والاستجابة والإنفاق. وقصد التنديد بهم. والتنبيه على أنهم لا عذر لهم في ذلك ولا سيما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ظهرانيهم يتلو عليهم آيات الله ويبلغهم وحيه. وقد احتوت أسلوبا من أساليب معالجة الموقف وتهذيب أخلاق المسلمين وتنقيتها وتطهيرها ودعوة قوية إلى الإنفاق والجهاد وتصديق رسول الله والفناء فيه. كما احتوت في الوقت نفسه تنويها بالرعيل الأول السابقين وما كان منهم من تفان وإخلاص وتضحيات وبذل في أصعب الظروف وأخطر المواقف هو بمثابة تسجيل لذلك وأسباب لما قرره الله تعالى من رضائه عنهم في الآية [١٠٠] من سورة التوبة التي سبقت الإشارة إليها. ولقد احتوت الآيات التي أوردنا أرقامها قبل قليل وغيرها مثل آيات سورة البقرة [٢٠٤ ـ ٢٠٦] وآل عمران [١٣٨ ـ ١٦٨] والنور [٤٧ ـ ٥٤] والمجادلة [٨ ـ ٩] والصف [٢ ـ ٣] صورا أوضح يمكن أن تتضح بها تلك الصور. وجميعها قد مرّ تفسيرها وشرحها. وفي سورة التوبة آيات أخرى فيها مثل هذه الصور بل آيات فيها تصنيف رائع لواقع الجماعات الإسلامية في أواخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما سوف نشرحه في مناسباتها.

ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين (٢) عن التابعين من أهل التأويل في جملة : (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) حيث قال بعضهم : إنها تعني العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم والذي ذكره في آية سورة الأعراف هذه : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا ...) [١٧٢]. وحيث قال بعضهم إنها تعني ما أودع الله فيهم من عقول

__________________

(١) انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي.

(٢) انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي.

٣٠٣

ونصب لهم من أدلة فصار كل عاقل راشد بمثابة معاهد لله على الإيمان به بما وهبه من عقل ورشد. ومن هذه الأقوال ما ساقه بعض المفسرين قولا لهم (١).

ويتبادر لنا أن الأوجه أن تكون كما ذكرنا قبل في صدد تذكيرهم بمبايعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام حيث يكونون بذلك قد أعطوا الله عزوجل ميثاقا على الإيمان والإخلاص والتضحية والبذل والجهاد والطاعة في المعروف. والله أعلم.

ومع أن هناك من قال إن الفتح المذكور في الآية [١٠] هو فتح الحديبية ـ وقد سماه الله فتحا في سورة الفتح ـ فإن معظم أهل التأويل والمفسرين متفقون على أنه فتح مكة (٢). وحديث الإمام أحمد ثم حديث أبي سعيد اللذان نقلناهما عن ابن كثير مما يؤيد ذلك لأن خالد بن الوليد كان في يوم الحديبية مشركا محاربا للنبي والمسلمين. وهذا فضلا عن أن هناك وقائع عديدة بعد الحديبية قاتل فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون وبذلوا جهودا ونفقات عظيمة في سبيلها كما أن الزحف على مكة اقتضى حشدا كبيرا وجهدا بالغا ونفقات جسيمة (٣).

هذا ، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى كما هو المتبادر يثير في قلوب المسلمين في كل وقت الإخلاص واليقين. ويحفزهم إلى التضحية. بالمال والنفس والتسابق في ذلك. وبخاصة في الأزمات والشدائد التي تكون مثل هذه التضحية فيها أشدّ لزاما. ولقد شاءت حكمة التنزيل مع ذلك أن تنوه بالذين يفعلون ذلك في غير الأزمات والشدائد أيضا حيث ينطوي في هذا تلقين بليغ بوجوب البذل والتضحية في كل وقت ومال واستحقاق من يفعل ذلك الحسنى من الله عزوجل.

وجملة : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) رائعة المدى في هتافها بأصحاب الأموال بأنهم ليسوا إلا وكلاء لله تعالى وخلفاءه فيها. وبأن عليهم أن

__________________

(١) انظر الكتب السابقة الذكر.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٥٢ وما بعدها.

٣٠٤

يطيعوا الله مالكها الأصلي فينفقوا في سبيله على كل ما أمرهم الإنفاق عليه من نصرة دينه ومساعدة المحتاجين من خلقه. وهو هنا قد يجعل ولي أمر المؤمنين والمحتاجين من المسلمين أقوى صوتا في مطالبة أصحاب الأموال بالإنفاق في سبيل الله والمحتاجين.

استطراد إلى خبر فتح مكة وما جرى

في سياقه من أحداث وما كان له من أثر

والمناسبة سانحة للاستطراد إلى خبر فتح مكة فنقول إن هذا الفتح الذي تمّ بعد سنين من صلح الحديبية على جلالة شأنه وخطورته لم يرد فيه في القرآن إلا الإشارة الخاطفة التي تقرر أنه كان واقعا في الآية [١٠] من هذه السورة ومثلها وفي مداها في سورة النصر. ثم إشارة تدل على أن مكة قد دخلت في حوزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين وسلطانهم في آية سورة التوبة هذه : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ...) [٣].

وهذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ...) [٢٨]. وكل ما يرد للبال في هذا الصدد أن حكمة التنزيل لم تر في هذا الفتح من مواضع العبرة والعظة والتعليم والتسكين والتنديد والتنويه ما يستلزم قرآنا وهي المواضع التي استهدفتها الفصول التي أشير فيها إلى وقائع الجهاد والفتح على ما شرحناه في سياق وقائع بدر وأحد والأحزاب والحديبية وبني قريظة وبني النضير في سور الأنفال وآل عمران والأحزاب والفتح والحشر.

وملخص ما ذكرته الروايات عن هذا الفتح (١) أنه قد تمّ في الثلث الأخير من شهر رمضان من السنة الهجرية الثامنة. وأن السبب المباشر له نقض قبيلة بني بكر

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والطبرسي وابن كثير والخازن لسورة النصر وانظر سيرة ابن هشام ج ٤ ص ٣ ـ ١٦٧ وابن سعد ج ٣ ص ١٨١ ـ ١٩٨ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٢٣ ـ ٣٤٤.

٣٠٥

التي كانت داخلة في عهد قريش في ميثاق صلح الحديبية وغارتها على قبيلة بني خزاعة التي كانت داخلة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين وقتلها بعض أفرادها بمساعدة وتشجيع بعض القرشيين. وقد ذهب وفد خزاعي إلى المدينة وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما وقع عليهم وناشدوه النصرة فوعدهم خيرا. وأدركت قريش أن عملها نقض للعهد فسارع أبو سفيان إلى المدينة ليوثق العهد. فكلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرد عليه فطلب من أبي بكر التوسط فأبى ثم من عمر فأبى ثم أتى علي بن أبي طالب وفاطمة فأبيا فجاء إلى باب المسجد يائسا وهتف (أيّها الناس إني قد أجرت بين الناس) ثم عاد ولما تمّ ما أراده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حشد وإعداد زحف على رأس جيش بلغت عدته نحو عشرة آلاف من مسلمي المدينة والقبائل مثل أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم وفزارة. وكان الزحف لعشر ليال خلون من رمضان.

ولما علم المكيّون بمسيره استنفروا حلفاءهم من هوازن وثقيف وبني بكر والأحابيش. ووصل زحف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة قبل أن يصل القسم الأقوى من الحلفاء أي هوازن وثقيف. فرأى أهل مكة أن لا قبل لهم بما جاءهم واستسلموا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكمه ولم يقع إلّا اشتباك جزئي في ناحية من أنحاء مكة مع فريق من القوة الزاحفة وأسفر عن بعض القتلى. ولما علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك أرسل أمرا بالكفّ فكان. ولقد خرج أبو سفيان قبيل الإسلام ليتحسس الأخبار فلقي عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العباس وكان قد أسلم وظل في مكة يكتم إسلامه بموافقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله : ما وراءك؟ فقال له : هذا رسول الله في عشرة آلاف فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك. ثم قال له : أنت في جواري وأردفه وراءه وذهب به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم على يديه. وكرّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر مناديا ينادي «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن» كما أمر من ينادي «من دخل الحرم فهو آمن ومن أغلق بابه عليه فهو آمن». ولقد رأى أبو سفيان ما لا قبل له به وما لم يخطر بباله حتى لقد قال للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فأجابه : ويحك هي نبوة الله ونصره. وكان سعد بن عبادة أحد زعماء الخزرج من قواد بعض الأجنحة وحملة الرايات فلما دخل مكة أخذ يهتف (اليوم يوم الملحمة. اليوم تستحلّ الحرمة) فأخبر عمر بن الخطاب النبي بهتافه

٣٠٦

وقال له : ما نأمن أن تكون له في قريش صولة. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا أن يدركه فيأخذ الراية منه فيكون هو الذي يدخل بها. ولما دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة عمد توّا إلى الكعبة فطهرها من الأصنام. وكان في جوفها وحولها نحو ٣٦٠ صنما ، ووجد على جدرانها صورا لإبراهيم وهو يستقسم الأزلام ، وصورا لعيسى والملائكة فأمر بطمسها. وفي ثاني يوم احتشد الناس حول الكعبة فخطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم خطبة بدأها بقوله : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له. صدق وعده. ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده». ثم قال : «ألا كلّ مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش. إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم. فأجابوا : خيرا أخ كريم وابن أخ كريم فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء».

وأخذ أهل مكة يقبلون بعد ذلك على مبايعة النبي ويعلنون إسلامهم. وأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد لهدم العزّى وعمرو بن العاص لهدم سواع وسعيد بن زيد لهدم مناة في أطراف مكة. وعدا خزاعي على مشرك من هذيل في أثناء ذلك فقتله فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا فقال : «أيها الناس. إنّ الله حبس عن مكة الفيل. وسلّط عليها رسوله والمؤمنين. ألا وإنها لم تحلّ لأحد من قبلي ولا تحلّ لأحد من بعدي. وإنما حلّت لي ساعة من نهار ثم رجعت كحرمتها بالأمس فليبلّغ الشاهد منكم الغائب. ولا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا. ثم قال : يا معشر خزاعة. ارفعوا أيديكم عن القتل. لقد قتلتم قتيلا. ولسوف أؤدي ديته. فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين إن شاءوا فدم قاتله وإن شاءوا فعقله».

ولقد كان تصرّف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومواقفه في أثناء الفتح رائعة عظيمة استهدف بها تأنيس الناس بالإسلام وتوطيد كلمة الله وحرماته مع توطيد الأخوة والمساواة الإسلامية والإنسانية معا.

٣٠٧

ولقد كان من بركات صلح الحديبية أن ازدادت قوة النبي والمسلمين واتسعت دائرة الإسلام وتمكن النبي من خضد شوكة اليهود في مستعمراتهم خارج المدينة. ولقد كان ضعف قريش يزداد موازيا لازدياد قوة النبي واتساع دائرة الإسلام فكان هذا الزحف العظيم الذي زحف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأسه بعد سنتين من ذلك الصلح ، بعد أن زحفت قريش وحلفاؤها في السنة الخامسة على المدينة بزحف مماثل فكان ما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الأحزاب التي أشير إليها في سورة الأحزاب.

ولقد انهدم بفتح مكة السدّ الذي كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإسلام وبين سائر العرب فتدفق سيل وفودهم بعده على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب. ودخل معظم اليمن في دين الله وسلطانه بالإضافة إلى معظم شمال الجزيرة وشرقها وسار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأس ثلاثين ألفا نحو مشارف الشام فيما سمي في تاريخ السيرة بغزوة تبوك ، فوطّد هيبة السلطان الإسلامي في هذه المشارف وأخذ الإسلام ينتشر بين قبائلها وكانت هذه الغزوة من خطوات حركة الفتح الكبرى التي تمّت بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد أخذ الأنصار يتساءولون عما إذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد نصره الله على قريش ويسّر له فتح مكة أم القرى ـ يعود ثانية إلى المدينة أم يبقى في مكة ويتخذها مقرا له فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجمع زعماءهم وقال لهم «معاذ الله. المحيا محياكم. والممات مماتكم» حيث سجّل بهذا الموقف تقديره العظيم لما كان من نصرهم له وإيوائهم لأصحابه المهاجرين ولما كان للهجرة إلى المدينة من بركات عظمى كان هذا الفتح من بعضها.

وقد عيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتى من فتيان مكة اسمه عتّاب بن أسيد واليا. وكان في اختياره دون المسنين من رجال مكة الحكمة والسداد. وكان من بني أمية فأراد مع ذلك أن يتألف قلوبهم. ومن طريف ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيّن لهذا الوالي درهما كل يوم لنفقته فقام خطيبا وقال : «يا أيّها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم.

٣٠٨

فقد رزقني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم درهما كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد». ويبدو أن الفتى لم يكن من الأغنياء. ولعلّ هذا من أسباب اختياره.

ومما روته الروايات أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتل أشخاص ولو كانوا معلقين بستار الكعبة لما كان من شدة كفرهم وأذاهم. منهم عبد الله بن خطل الذي عدا على مولى له فقتله بدون حقّ ثم ارتدّ والتحق بالمشركين. والحويرث بن نقيذ الذي كان اعتدى على بنتي رسول الله حينما هاجرتا من مكة للالتحاق بأبيهما فتحسّس راحلتيهما وأسقطهما إلى الأرض ومقيس بن صبابة الذي قتل أنصاريا وارتدّ ولحق بالمشركين وعبد الله بن سعد أخا عثمان بن عفّان في الرضاعة الذي كان كاتبا لرسول الله فافترى على الله ورسوله وارتدّ ولحق بالمشركين وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل اللذان كانا شديدي الخصومة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة. وقد نفذ أمر رسول الله بالثلاثة الأولين. وشفع عثمان بن عفان بأخيه لدى رسول الله وقال إنه ندم وعاد إلى الإسلام فقبل شفاعته (١). وفرّ صفوان وعكرمة من مكة فلم يظفر بهما واستشفع فيهما بعض المسلمين على أن يأتيا ويسلما فقبل النبي الشفاعة فجاءا وأسلما.

وروت الروايات فيما روت أن رجلين من بني مخزوم استجارا بأم هانىء عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد علي أن يقتلهما فأغلقت الباب ثم ذهبت إلى رسول الله فأخبرته. فقال قد أجرنا من أجرت وأمّنا من أمّنت. فجاء الرجلان وأسلما.

وفي الكتب الخمسة أحاديث ورد فيها شيء من ما روته الروايات من الأحداث والصور. في بعضها مغايرة لما جاء في الروايات وفي بعضها صور أخرى. من ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس قال : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف على رأس ثمان سنين ونصف من

__________________

(١) مما روته الرواية أن النبي صمت فترة بعد استشفاع عثمان بأخيه ثم قبل الشفاعة وقال لمن حوله لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه فقال له رجل هلا أو مأت إليّ يا رسول الله فقال له إن النبي لا يقتل بالإشارة. فأوردنا الرواية والله أعلم بصحتها.

٣٠٩

مقدمه المدينة فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا» (١). وحديث رواه البخاري عن عروة بن الزبير قال : «لما سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح وبلغ قريشا خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مرّ الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان ما هذه. لكأنها نيران عرفة. فقال بديل بن ورقاء هي نيران بني عمرو فقال أبو سفيان بنو عمرو أقلّ من ذلك فرآهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم فأخذوهم إلى رسول الله فأسلم أبو سفيان (٢). فلما سار قال للعباس احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل تمرّ كتيبة بعد كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال يا عباس من هذه قال هذه غفار قال مالي ولغفار ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك ثم مرت سعد بن هزيم فقال مثل ذلك ومرّت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال من هذه يا عباس قال هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة. معه الراية. فقال سعد يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة التي تستحلّ الكعبة فقال أبو سفيان يا عباس هذا يوم الذمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله وأصحابه وراية النبي مع الزبير بن العوام فلما مرّ رسول الله بأبي سفيان قال ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة قال ما قال قال كذا وكذا فقال كذب سعد. ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة. وأمر رسول الله أن تركز رايته بالحجون. وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء. ودخل النبي من كدا فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان حبيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهري» (٣) وحديث رواه البخاري عن أسامة أنه قال يوم الفتح «يا رسول الله أين تنزل غدا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهل ترك لنا عقيل من منزل ثم قال لا يرث المؤمن الكافر ولا يرث

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٨٣.

(٢) لا يذكر الحديث ما كان من أمر ومصير حكيم وبديل. ولا تذكر الروايات أنهما قتلا. فإما أن يكونا أسلما مع أبي سفيان أو أسرا ثم أسلما بعد.

(٣) التاج ج ٤ ص ٣٨٣ ـ ٣٨٥.

٣١٠

الكافر المؤمن. قيل للزهري ومن ورث أبا طالب. قال ورثه عقيل وطالب» (١).

وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال : «كنا مع رسول الله يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي فقال يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فدعوتهم فجاؤوا يهرولون فقال يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش قالوا نعم. قال انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال موعدكم الصفا. فما أشرف لهم أحد يومئذ إلا أناموه. وصعد رسول الله الصفا فجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش. لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن ألقى السلاح فهو آمن. ومن أغلق بابه فهو آمن. فقالت الأنصار أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ونزل الوحي على رسول الله. قال قلتم أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ألا فما اسمي إذا. أنا محمد عبد الله ورسوله. هاجرت إلى الله وإليكم ، فالمحيا محياكم والممات مماتكم. قالوا والله ما قلنا ذلك إلا ضنّا بالله ورسوله قال فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم» (٢). وحديث رواه الشيخان عن عبد الله قال : «دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب. فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحقّ وزهق الباطل. جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد» (٣). وحديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم مكة أبي أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت وفيها صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قاتلهم الله. لقد علموا ما استقسما بها قط. ثم دخل البيت فكبّر في نواحيه وخرج ولم يصلّ فيه» (٤). وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر : «أن

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٨٣ ـ ٣٨٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

٣١١

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد ومعه بلال وعثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد فأمره أن يأتي بمفتاح البيت فدخل رسول الله ومعه أسامة وبلال وعثمان فمكث فيه نهارا طويلا ثم خرج فاستبق الناس فكان ابن عمر أول من دخل فوجد بلالا وراء الباب قائما فسأله أين صلى النبي فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه قال ونسيت أن أسأله كم صلى» (١) وحديث رواه الترمذي بسند صحيح عن الحارث بن مالك قال : «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يوم فتح مكة لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة» (٢). وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي شريح العدوي جاء فيه : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام في الغد من يوم الفتح فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن مكة حرّمها الله ولم يحرمها الناس. فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فيها فقولوا له إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب» (٣).

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)) [١١].

عبارة الآية واضحة. وليس هناك رواية خاصة بنزولها. ونرجح أنها نزلت مع الآيات السابقة لأن صلتها بها وثيقة. فإن لم تكن نزلت منها فيكون والله أعلم نزلت عقبها والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة. وبسبيل توكيد ما احتوته هذه الآيات من حثّ على البذل والهتاف بأصحاب الأموال بأن أموالهم وإن كانت هي لله وهم عليها خلفاء فإن الله تعالى ليعدّ بذلها بمثابة قرض يقرضونه له يضاعف لهم عليه الأجر الكريم.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٨٣ ـ ٣٨٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

٣١٢

وفي هذا ما فيه من روعة وتلقين مستمر المدى. وقد تكرر فحوى الآية لتجدد المناسبات التي اقتضتها. وقد نبهنا على مداها في سياق تفسير سورة المزمل التي جاءت فيها لأول مرة بما يغني عن التكرار.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)) [١٢ ـ ١٥].

(١) انظرونا : بمعنى انتظرونا.

(٢) نقتبس : نأخذ قبسا من نوركم نشعل به مشاعلنا.

في الآيات : حكاية لما سوف يكون عليه أمر المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة حيث يسعى النور بين يدي الأوّلين وعن أيمانهم فتضاء بذلك طريقهم ضوءا قويا ويهتف لهم بالبشرى بالخلود بالجنّات وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم. وحيث ينادي المنافقون المؤمنين ملتمسين انتظارهم لاقتباس نور من نورهم ليسيروا فيه فيقال لهم ارجعوا وابحثوا عن نور من مكان آخر ثم يضرب بين الفريقين بسور في إحدى ناحيته الرحمة والنعيم للمؤمنين وفي إحداهما العذاب الشديد للمنافقين. وحيث ينادي المنافقون المؤمنين مرة أخرى قائلين لهم ألم نكن معكم ومنكم في الدنيا؟ فيقولون لهم نعم ولكن قلوبكم كانت فاسدة وكنتم مرتكسين في الريبة والشك تتربصون سير الأمور. وقد غرّتكم الأماني التي كنتم تتمنوها وغركم الشيطان والغرور بالله عزوجل فظننتم أنكم لن تحشروا ولن يحاسبكم الله. فكان مصيركم ما ترونه الآن من حكم الله وقضائه. وحيث يقال لهم

٣١٣

إنه لن يؤخذ منكم ولا من الكافرين فدية ولن ينصركم ناصر. وستكون النار هي مثواكم ومولاكم وبئست هي من مثوى ومولى.

ولقد قال بعض أهل التأويل من الصدر الأول على ما ذكره الطبري وغيره إن كلمة (وَبِأَيْمانِهِمْ) في الآية الأولى عنت كتب الأعمال التي تعطى للمؤمنين بأيديهم اليمنى على ما ذكر في آيات أخرى كما قال بعضهم إنها مع كلمة (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) عنت أن النور يكون مضيئا ساطعا للمؤمنين من جميع جوانبهم. وقد يكون هذا القول هو الأوجه الأكثر اتساقا مع فحوى الآية. وهو ما أخذنا به في شرح الآيات السابقة.

ولقد ذكر الطبري والبغوي عزوا إلى ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار أن السور المذكور في الآية الثانية هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب والظاهر هو الموقع المعروف بوادي جهنم كما يسميه اليهود. وهذا قول غريب بعيد عن فحوى الآيات التي تحكي ما سوف يكون الأمر عليه يوم القيامة.

وقد توقف الطبري فيه وقال إن أولى الأقوال بالصواب أنه سور سوف يقوم حاجزا بين أهل الجنّة وأهل النار يوم القيامة. وهو الوجيه والصواب. والله أعلم.

تعليق على الآية

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ...) إلخ

والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد. وكلمة (يَوْمَ) التي بدأت بها متصلة بالجملة السابقة لها مباشرة كأنما تقول إن هذا اليوم هو الذي يضاعف الله فيه للذين يقرضونه قرضا حسنا الأجر الكريم.

وأسلوب الآيات أسلوب تنويه وتطمين وبشرى للمخلصين المؤمنين وتنديد

٣١٤

وتقريع وإنذار للمنافقين. وفيها قرائن على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة من أنها بسبيل الإشارة إلى مواقف مزعجة من مرضى القلوب والمستجدين. ففي تلك الآيات تنديد وعتب وتعجب ونفي لعذر المترددين والمقصرين وفي هذه الآيات حكاية لما سوف يرد به على المنافقين حينما يستغيثون بالمؤمنين ويعتبون عليهم لتخليهم عنهم.

والردّ قوي لاذع متناسب مع ما تستحقه طبقة المنافقين على مواقفها الخبيثة التي فيها كيد وتشكيك وإزعاج ودس وتقصير وتثبيط وتربص وفيه تلقين مستمر المدى. فمثل هذه الطبقة لا ينعدم في المجتمعات. فيجب أن تقابل من المخلصين بالنفرة والإنكار والاشمئزاز والتنديد والتخلي والتكذيب والفضيحة. فضلا عن استحقاقها من الله تعالى الخزي والعذاب في الآخرة.

وذكر المنافقات مع المنافقين قد تكرر في آيات أخرى في سور مدنيّة سابقة. ونبهنا على ما في اختصاصهن بالذكر من دلالة على نشاط المرأة العربية ومساهمتها في أعمال النفاق الخبيثة. وذكرهن في هذه السورة التي نزلت بعد الفتح المكي يدل على أن المرأة ظلت تقوم بنشاطها إلى جانب الرجل في تلك الأعمال إلى أواخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم فقال له رجل يا نبيّ الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين أمة نوح إلى أمتك فقال أعرفهم محجلون من أثر الوضوء. ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم» والحديث لم يرد في الصحاح. وإذا صحّ فإنه ينطوي فيه بالإضافة إلى الخبر الغيبي عن مشاهد الآخرة بشرى نبوية تطمينية من مقاصدها التنويه بما كان من نعمة الله على المسلمين بالهدى والحث على صالح

٣١٥

العمل لإحراز خير الدرجات عند الله في الآخرة.

ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة في سياق هذه الآيات حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك وإن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلّا موضع قدميه» وروي أن عبد الله بن مسعود قال : «يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد أخرى» وهذان الحديثان لم يردا في الصحاح. فإن صحا فإنه يبدو من خلالهما إشارة إلى ما هو طبيعي من تفاوت درجات المؤمنين ونورهم وقد انطويا على حثّ على صالح الأعمال وقوة الإخلاص ليكون النور ساطعا وهاجا.

ولقد جاء في الآية [٨] من سورة التحريم التي سبق تفسيرها جملة مشابهة لبعض ما جاء في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها مع فرق في الأسلوب ذي مغزى ففي آية التحريم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)) وليس في الآية التي نحن في صددها هذا الدعاء ، وإنما بشرى بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهار ...

وقد يكون في هذا الاختلاف ما عنته الأحاديث من اختلاف الدرجات. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاء كل منهما بالأسلوب الذي جاءت به حسب المناسبة أو الظرف الذي نزلت فيه وسياق كل منهما قد يوحي أن الظرف أو المناسبة مختلفان. والله تعالى أعلم.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦)). [١٦]

٣١٦

عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت سؤالا استنكاريا ينطوي على معنى التنديد عما إذا كان لم يحن الوقت الذي تخشع فيه قلوب المؤمنين لذكر الله ويخضعون للحقّ الذي أنزله الله على رسوله. وأن يحذروا من أن يكونوا كمن سبقهم من أهل الكتاب الذين قست قلوبهم بمرور الزمن فانحرف كثير منهم عن جادة الحق وتمردوا على أوامر الله تعالى وكانوا فاسقين.

تعليق على الآية

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ...) إلخ.

وما فيها من تلقين وعظة

لم يرو الطبري روايات خاصة في سبب نزول هذه الآية. ولكن البغوي روى ثلاث روايات (١). واحدة عن الكلبي تذكر أن الآية الأولى نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي أن يحدثهم عمّا في التوراة من عجائب فأنزل الله (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) [الحديد : ١٦]. وثانية معزوة إلى ابن مسعود تذكر أنه قال ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين (٢). وثالثة معزوة إلى ابن عباس تذكر أنه قال إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.

والروايات الثلاث غريبة. فالأولى تذكر أن الآية في حق المنافقين في المدينة ثم تذكر نزول آيتين في مناسبة نزولها ونزولهما قبلها في المدينة أيضا. الآيتان من

__________________

(١) أورد الخازن وابن كثير والطبرسي هذه الروايات أيضا. وهم متأخرون عن البغوي بمدة طويلة.

(٢) هذا الحديث من مرويات مسلم في فصل التفسير انظر التاج ج ٤ ص ٢٢٧.

٣١٧

سورتين مكيّتين وأولاهما الآية [٣] من سورة يوسف وثانيهما الآية [٢٣] من سورة الزمر (١). والرواية الثانية تقتضي أن تكون الآية مكيّة لأن عبد الله بن مسعود أسلم في بدء الدعوة في مكة. والعهد المكي استمر ثلاث عشرة سنة. والآية مدنيّة في سياق مدني الطابع والمدى. وهذا فضلا عما كان عليه الرعيل الأول في مكة الذين منهم ابن مسعود من استغراق في ذكر الله تعالى وعبادته وإيمان شديد بما أنزل الله. كما وصفتهم آيات مكيّة عديدة مثل آيات سورة الذاريات [١٧ ـ ١٩] وسورة المعارج [٢٢ ـ ٣٥] وسورة الزمر [٢٣] وسورة الفرقان [٦٣ ـ ٦٤] وسورة المؤمنون [١ ـ ١٠] وسورة الرعد [٢٠ ـ ٢٤]. والرواية الثالثة تقتضي أن تكون نزلت في السنة الأولى بعد الهجرة. وباستثناء المنافقين فقد كان المؤمنون مخلصين كل الإخلاص ومستغرقين كل الاستغراق. ولم يكن مضى على المنافقين مدة تتحمل مخاطبتهم بالأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى.

والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومعقبة عليها. فالآيات السابقة مباشرة انطوت على مقايسة بين حالة المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة ، وتنديد ضمني بالمنافقين المرتابين المتربصين المغترين بالأماني وإنذار لهم. والآيات التي قبل هذه الآيات انطوت على عتاب لبعض المسلمين على عدم قوة إخلاصهم ويقينهم وعدم إنفاقهم في سبيل الله. وتساؤل عمن يقرض الله فيضاعف له الأجر فجاءت هذه الآيات تهتف بالفريق المقصر المرتاب المتباخل عما إذا لم يحن وقت إخلاصه وخشوع قلبه لذكر الله وما أنزل من الحق حتى لا يكون كأهل الكتاب الذين قست قلوبهم بمرور الزمن مع توكيد التنويه بالفريق المخلص المتفاني.

وترتيب السورة وذكرها الفتح يعنيان أنها نزلت في السنة الهجرية الثامنة أو التاسعة وأن معظم القرآن كان قد نزل. وهذا وقت يتحمل ذلك الهتاف بالنسبة

__________________

(١) روى المصحف الذي اعتمدناه أن آية سورة يوسف مدنيّة. وقد فندنا الرواية في سياق تفسير سورة يوسف. وليس هناك خلاف في مكيّة آية الزمر.

٣١٨

للمقصرين المرتابين الواقفين مواقف غير مستحبة من الذين عاهدوا الله ورسوله على الإسلام مما حكته الآيات الكثيرة التي نزلت قبلها والتي أوردنا أرقامها وسورها قبل قليل. ولقد ذكرنا في ذيل الصفحة السابقة أن الرواية الثانية من مرويات مسلم عن ابن مسعود. وأحاديث مسلم من الصحاح. ولكن هذا ليس من شأنه أن يمنع الاستبعاد والاستغراب بل والشك أيضا. هذا ، وتحذير المؤمنين في الآية الأولى من أن يكونوا كأهل الكتاب مستمد على ما هو المتبادر من واقع أهل الكتاب بانحرافهم ونزاعهم وتحريفهم لكتب الله وبعدهم وتمردهم عن أوامر الله وشرائعه ونسيانهم كثيرا مما أنزل الله على أنبيائهم مما حكته آيات كثيرة في سور المائدة والنساء وآل عمران والبقرة.

وهو تحذير مستحكم لأن هذا الواقع كان تحت نظر المسلمين ومشاهداتهم ومسموعاتهم وكان موضع انتقادهم بل موضع انتقاد العرب قبل الإسلام على ما انطوى فى بعض الآيات منها آية فاطر هذه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [٤٢]. وآية الأنعام (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [١٥٧].

ومع ما لمحناه من خصوصية الظرف الذي نزلت فيه الآية وصلتها بأحوال بعض فئات المسلمين في العهد النبوي المدني فإن الهتاف الذي فيها يظل واردا داويا مستمر المدى موجها إلى جميع المسلمين في كل ظرف ومكان كلّما انحرفوا أو انحرفت منهم فئة عن كتاب الله وسنّة رسوله. مذكرا إياهم بما فيهما من المثال الذي يشاهدونه من أهل الكتاب الذين ظلوا منحرفين عن رسالات رسلهم وكتب الله المنزلة عليهم. مهيبا بهم ألا يكونوا مثلهم لئلا تفسد قلوبهم وأن يخشعوا لذكر الله وما أنزل الله على رسوله من الحق وما صدر عن رسول الله من الحكمة ليكون في ذلك هدى لهم إلى سبيل الخير والسعادة والنجاح في الدنيا والآخرة.

٣١٩

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)) [١٧].

عبارة الآية واضحة. وقد وجّه الخطاب فيها إلى مخاطبين قريبين لتلفت نظرهم إلى قدرة الله تعالى على إحياء الأرض حتى بعد موتها. وتنبههم إلى أنه تعالى إنما يضرب لهم الأمثال في آيات لعلّهم يدركون مغزاها ومرماها وينتفعون من عبرها ومواعظها.

ولا يروي المفسرون في نزول الآية رواية خاصة. والراجح أن الخطاب فيها موجّه إلى المخاطبين في الآيات التي قبلها وهم المؤمنون وأنها متصلة بهذه الآيات.

ولقد قال الزمخشري في تأويلها : قيل هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وإنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض. وروى الخازن عن ابن عباس في تأويلها قوله إن الله يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها لينة محببة ويحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة كما هو شأن المطر بالنسبة للأرض. وشيء من هذا قاله مفسرون آخرون. والمتبادر على ضوء هذا التأويل الوجيه أن في الآية معنى تعقيبيا على الآية السابقة لها مباشرة يهدف إلى فتح الأمل في الذين أوشكوا أن تقسو قلوبهم كما قست قلوب أهل الكفار من قبلهم برحمة الله ليتلاقوا أمرهم بالارعواء عن غفلتهم والاتعاظ بما أنزل الله لهم من الآيات البينات المبينات.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)) [١٨ ـ ١٩].

(١) المصدقين والمصدقات : المتصدقين والمتصدقات.

(٢) الصديقون : هناك من قال إن الكلمة تعني لغويا كثيري الصدق والتصديق. وأنها عنت السابقين الأولين لكثرة وشدة تصديقهم لرسول الله. وقد

٣٢٠