التّفسير الحديث - ج ٩

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٩

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٤

عبد الله بن عمرو قال «سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الثمر المعلّق فقال من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجنّ فعليه القطع. ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة» (١).

٨ ـ ولقد فسّر شراح الحديث كلمة (العقوبة) في هذا الحديث بالتعزير حتى يرتدع السارق. ويكون في تعزيره عبرة لغيره. وقد أوجب العلماء بناء على ذلك تعزير سارق ما هو أدنى من النصاب من المال المحرز. وهذا حقّ. فالجريمة مهما تفهت لا يجوز أن تذهب بدون عقوبة.

غير أن حديث عبد الله بن عمرو الذي يسمح لذي الحاجة بأكل الثمر من البستان بدون عقوبة بفتح الباب للسؤال عن حكم السارق الذي يسرق عن عوز شديد لسدّ جوعه أو جوع عياله إذا ما ثبت ذلك لدى الحاكم. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدم قطع سارق سرق في عام قحط ليسدّ جوعه. ولقد حرم الله أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به واستثنى المضطر في حالة الجوع وخطره وعفا عنه. فهلا يصح أن يقال بجواز إعفاء مثل هذه الحالات الاضطرارية إذا ثبتت لدى الحاكم ولم تعد عند صاحبها حرفة. ولم تعد نطاق الاضطرار. ونحن نميل إلى الإيجاب استئناسا بالتلقين القرآني والنبوي والراشدي. ولا سيما إذا لاحظنا واقع أمر حكام المسلمين وأغنيائهم. فقد جعل القرآن للفقراء والمساكين والأرقاء والمعسرين أنصبة وحقا في كل مورد من موارد بيت المال من فيء وغنائم وصدقات ـ أي الزكاة ـ وأوجب على الحكام والأغنياء أداءها لهم بحيث لو فعلوا ذلك بحقّ لاكتفى كل ذي حاجة ولقضي على العوز والجوع ، فلم يقوموا بما أوجبه الله عليهم وبقي الفقراء والمساكين مرتكسين في أشدّ حالات البؤس والعوز والشقاء. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٠. والخبنة أي أن يملأ طرف ثوبه أو إزاره أو وعاء ما والجرين محل تخزين أو تجميع التمر.

١٢١

٩ ـ والعلماء متفقون على أن القطع هو عمل قضائي ينفذ بأمر ولي الأمر. وهم متفقون كذلك على أن السرقة تثبت بالاعتراف أو البينة. وهذا وذاك حقّ.

١٠ ـ وقطع اليد هو قطع الرسغ أي لا يصل إلى المرفق. وهناك حديث عن فضالة بن عبد الله رواه أصحاب السنن «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلّقت في عنقه» (١) وهذا يؤيد ذاك كما هو المتبادر.

١١ ـ وقد اختلف العلماء في تكرر القطع بتكرر الجرم. فهناك من قال بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في الثانية واليد اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ثم يعزر ويحبس. ورووا في تأييد ذلك حديثا نبويا عن أبي هريرة وعن أبي بكرة لم يرد في أي من الكتب الخمسة جاء فيه «إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» (٢) وقد قال المفسر البغوي الذي أورد هذا الحديث إن مالكا والشافعي أخذا به. وهناك من قال تقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في المرة الثانية فقط فإذا تكرر حبس وعزر. ولم يورد قائلو هذا القول سندا. وهناك من قال بالاكتفاء بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى فإذا تكرر حبس وعزر ويبدو من هذا أن أصحاب القولين الأولين لم يثبت عندهم الحديث الذي رواه البغوي. وأن أصحاب القول الثالث أخذوا بالآية التي تأمر بقطع يد السارق.

ويلحظ أن قطع الأيدي والأرجل من خلاف إنما جعل عقوبة للمحاربين المفسدين. وأن تعيين عقوبة خاصة للسارق هو بسبيل إبراز الفرق بين عقوبته وعقوبة المحارب المفسد بحيث يمكن أن يقال إنه لا يصح أن يقاس السارق العادي بالمحارب المفسد. وإن القول الثالث هو الأوجه إلّا أن يقال إن تكرار إقدام السارق على السرقة يجعله في حكم المحارب المفسد ثم يؤخذ بحديث البغوي. والله أعلم.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٠.

(٢) النصّ من تفسير البغوي.

١٢٢

١٢ ـ واختلف في ما إذا كان القطع يسقط الغرامة عن السارق. فقال بعضهم إنه يسقطها آخذا بظاهر الآية وإطلاقها. وقال بعضهم إنه لا يسقطها. وفي الفقرة (٧) حديث نبوي يقرر الغرامة على من أخذ من ثمر البستان في إزار أو وعاء فوق ما أكله ويقررها على من سرق دون ثمن المجنّ. وقد يكون في هذا الحديث ما يدعم القول الثاني حيث يبدو أن قائليه اعتبروا القطع عقوبة على الجناية واعتبروا المسروق حقا لصاحبه يجب ردّه إليه عينا إذا وجد أو قيمة. وهناك من توسط بين القولين فقال إذا وجد عين المسروق أو شيء منه وجب أخذه ورده إلى صاحبه. ونرى القول الثاني هو الأوجه إذا كان هناك إمكان لتنفيذه.

١٣ ـ واختلف في ما إذا كانت التوبة أو العفو قبل القدرة على السارق أو بعدها وقبل القطع يسقطان عنه القطع. فهناك من قال بالسقوط قبل رفع الأمر للحاكم والقدرة عليه قياسا على المحارب الذي آذنت الآية [٣٤] بقبول توبته إذا تاب قبل القدرة عليه. وهناك من قال بعدمه لأن الحدّ جزاء على الجناية والتوبة نحو الله من العمل نفسه المحظور دينا. ولقد رجحنا أن الآية [٣٤] هي في صدد الكافر من حيث الأصل. وأوردنا في سياقها ما هناك من خلاف بين الفقهاء في قبول توبة المحارب المسلم الذي طبق الفقهاء عليه الآية قبل القدرة عليه وعدمها. ورجحنا قول من قال إن على الإمام تنفيذ الحدود عليه ولو تاب قبل القدرة عليه إذا ما طالب أصحاب الحق الشخصي بحقهم قبله وأقاموا البينة وإن توبته هي دينية لمخالفته أوامر الله تعالى. بحيث يكون هذا هو الأوجه في المسألة التي نحن في صددها أيضا. وهناك حديثان أوردهما ابن كثير فيهما تدعيم ما لهذا التوجيه منهما حديث رواه الدار قطني عن أبي هريرة جاء فيه «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال ما أخاله سرق فقال السارق بلى يا رسول الله. قال اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به فقطع فأتي به فقال تب إلى الله فقال تبت إلى الله فقال تاب الله عليك» وحديث رواه ابن ماجه عن أبي ثعلبة الأنصاري قال «إن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهّرني. فأرسل إليهم فقالوا إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده وهو

١٢٣

يقول الحمد لله الذي طهّرني منك. أردت أن تدخلي جسدي النار» والشخصان على ما تلهمه روح الحديثين قد تابا قبل أن يرفع أمرهما إلى النبي ويعتقلهما بالسرقة. ومع ذلك فقد طبق عليهما الحدّ واعتبرت توبتهما دينية لله تعالى.

ولا يفوتنا أن ننوّه بما في الحديثين من صورة رائعة لما كان من تأثير القرآن والوعظ النبوي في أصحاب رسول لله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى الثانويين منهم ...

ومع ذلك فهناك حديث يرويه الإمام مالك جاء فيه «إن سارقا سرق رداء لصفوان بن أمية وهو متوسد في مسجد فلحق به فأمسكه وأخذه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر بقطع يده. فقال صفوان إني لم أرد هذا يا رسول الله. هو عليه صدقة فقال رسول الله فهلّا قبل أن تأتيني به» (١) حيث ينطوي في الحديث صورة أخرى لأحكام رسول الله يستفاد منها سواغ سقوط الحدّ عن السارق إذا أسقط المسروق منه حقه قبل رفع الأمر للحاكم.

١٤ ـ ولقد نبه الذين يقولون بسقوط الحدّ بالتوبة أو العفو على أن ذلك ليس من شأنه إسقاط الغرامة عن السارق. وهذا وجيه. ولعل الجملة القرآنية (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ) تنطوي على ذلك بالإضافة إلى معنى إصلاح النفس بالتوبة والندم.

هذا ، ومن الناس من ينتقد عقوبة قطع يد السارق غير أن من المشاهد المجرب أن كثيرا من اللصوص يقدمون على السرقة كأسهل وسيلة إلى حيازة المال والاستمتاع أكثر من أن تدفعهم الحاجة الشديدة وقد أصبحوا بسبب ما يلقونه من خفة العقوبات الحديثة محترفين لا يمتنعون عن معاودة مهنتهم المرة بعد المرة مستهترين بأمن الناس وأموالهم وغير مفكرين في البحث عن الكسب الحلال وكثير منهم قادرون على ذلك. فقطع أيدي أمثال هؤلاء قد يكون أقوى رادع لهم. وفيه عبرة قوية لغيرهم من دون ريب ؛ مع التذكير بملاحظاتنا في الفقرة الثامنة.

__________________

(١) الموطأ ج ٢ ص ٢٣٦.

١٢٤

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)) [٤١ ـ ٤٣].

(١) السحت : قيل إنه في الأصل بمعنى المحق والاستئصال. وقد ورد في القرآن بهذا المعنى في آية سورة طه هذه (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١)) ثم أطلق على الرشوة والمال الحرام لأنه يمحق آخذه ويستأصله.

في الآيات :

(١) تسرية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلا موجب لحزنه من المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون به في حين أن قلوبهم غير مؤمنة ويسارعون في إظهار الكفر والجحود والشكّ في أية مناسبة. ولا من اليهود الذين يسمعون ويصدقون ما ينقله إليهم غيرهم من الأكاذيب ويشجعون عليها ويحرّفون الكلام عن مقاصده الصحيحة ولا يأتون إلى النبي ليسمعوا منه شفاها ويوسوسون للناس فيشيرون عليهم بقبول حكم النبي إذا حكم بكيت وعدم قبوله إذا حكم بكيت.

(٢) وحملة على هؤلاء خاصة : فإن ما يفعلونه ناشىء عن خبث نفوسهم وسوء نواياهم. وإن الله لمخزيهم في الدنيا ولمعذّبهم عذابا عظيما في الآخرة.

١٢٥

وإنهم لسمّاعون للكذب راضون به مشجعون عليه. وإنهم لأكّالون للمال الحرام.

(٣) وتخيير للنبي إذا جاءوا إليه ليحكم بينهم. فله أن يقضي بينهم أو يعرض عنهم وليس عليه من بأس إذا هو أعرض عنهم ولم يقبل أن يحكم بينهم. أما إذا رضي بالقضاء بينهم فعليه القضاء بالعدل والقسط. فإن الله يحب المقسطين الذين لا ينحرفون عن الحق في أي حال.

(٤) وسؤال إنكاري على سبيل التعقيب والتقريع والتعجب عن تحكيم اليهود للنبي والتقاضي عنده وعندهم التوراة فيها حكم الله فيما يريدون أن يتقاضوا فيه.

وعن إعراضهم عنها. وتقرير بأنهم ـ وهذا حالهم ـ لا يمكن أن يعتبروا مؤمنين بما أنزل إليهم الله.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ...) إلخ

والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين

وأحكام بالنسبة لقضايا أهل الكتاب في ظل السلطان الإسلامي

قد تبدو الآيات فصلا جديدا. ومع ذلك فإن بينها وبين الفصول السابقة تناسبا ما من حيث احتواء هذه وتلك صورا من مواقف اليهود وأخلاقهم. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الفصول السابقة فوضع في مكانه للتناسب الظرفي والموضوعي. وإلّا فيكون وضعه للتناسب الموضوعي والله أعلم.

وقد روى الطبري روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات منها أنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي استشاره يهود بني قريظة في أمرهم حينما حاصرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشار إشارة فهموا منها أن النزول على حكم النبي معناه الذبح. ومنها أنها نزلت في مناسبة طلب رجل من اليهود من حليف مسلم له أن يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حكم قتيل قتله فإذا كان الحكم بالدية تقاضى عنده وإلّا فلا. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود حيث اجتمع اليهود حين قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٢٦

إلى المدينة وكان رجل محصن منهم قد زنى بامرأة محصنة فقالوا نسأل محمدا عن الحكم فإن حكم بالجلد والتحميم والتعزير يكون ملكا لا بأس علينا منه وإن حكم بالرجم يكون نبيا فنحذره من استلاب ما في أيدينا. فأتوه فطلب منهم أن يدلوه على أعلمهم في التوراة فذكروا له عبد الله بن صوريا ، فخلا به وناشده عما إذا كان يعلم أن حكم الزنا في التوراة الرجم فقال بلى. وإنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك. فأمر النبي برجمهما ولكن ابن صوريا جحد بعد ذلك ما قاله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنها أن النبي مرّ بيهودي محمم مجلود فدعا رجلا من علمائهم فقال أهكذا تجدون حدّ الزنا قال نعم قال فأنشدك بالذي أنزل التوراة أهكذا تجدونه فقال إن الحدّ كان الرجم ولكن الزنا كثر بين اليهود وصاروا يقيمون الحدّ على الضعيف دون القوي والشريف ثم اتفقوا على تبديل الرجم في التوراة بالجلد والتحميم (١) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر بالزاني فرجم.

وإلى هذه الروايات فقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) إلى جملة (الْمُقْسِطِينَ) نزلت في قضية قتيل من بني قريظة قتله بنو النضير. وكان بنو النضير يرون لأنفسهم فضلا على بني قريظة فإذا قتلوا منهم لم يقيدوا من أنفسهم وإنما دفعوا الدية وإذا قتل بنو قريظة منهم لا يقبلون إلا القود فأراد بنو قريظة أن يرفعوا الأمر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتحاكموا مع بني النضير عنده حتى يحكم لهم بالقود فقال رجل من المنافقين لبني النضير إن محمدا قد يحكم عليهم بالقود فاحذروا ولا تقبلوا المحاكمة عنده إلا إذا عرفتم أنه يقضي بالدية فأنزل الله الآية.

وقد أورد المفسرون ما أورده الطبري. وأورد ابن كثير بالإضافة إلى ذلك رواية رواها الإمام أحمد عن ابن عباس مشابهة للرواية الأخيرة ولكنها تعود إلى الجاهلية حيث ذكرت ما خلاصته كسبب لنزول الآية أن طائفتين من اليهود اقتتلتا في الجاهلية فقهرت إحداهما الأخرى فاتفقتا على أن القتيل من التي قهرت يودى بمائة وسق ومن المقهورة بخمسين. وبعد قدوم النبي قتلت الذليلة واحدا من

__________________

(١) فسّر الطبري التحميم بتسويد الوجه بالسخام.

١٢٧

العزيزة فطالبت هذه بالدية المضاعفة فأبت الأولى حتى كادت الحرب تقع بينهما ثم بدا لهما أن يتحاكما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدست الذليلة ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأى النبي فإذا كان حكم كما شاؤوا تحاكموا عنده وإلا نكصوا فأنزل الله الآية فيهم.

وجمهور المفسرين بما فيهم الطبري يرجحون نزول الآيات في مناسبة قضية الزنا. ومنهم من قال إن قضية الزنا وقضية القتل بين بني النضير وبني قريظة اجتمعتا معا فأنزل الله الآيات فيهما. وقد روى البخاري ومسلم وأهل السنن عن ابن عمر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بيهودي ويهودية زنيا فانطلق إلى يهود فقال ما تجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا نسوّد وجوههما ونحمّلهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فأتوا بها فقرؤوها حتى إذا جاءت آية الرجم سترها الذي يقرأ بيده وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام وهو مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم فأمر بهما رسول الله فرجما. قال ابن عمر كنت فيمن رجمهما. ورأيت الرجل يقي المرأة من الحجارة بنفسه» (١) وقد أورد ابن كثير هذا الحديث في سياق الآيات.

ونصّ الآيات صريح بأنها في صدد حادث ندّدت بسببه بفريق من المنافقين وفريق من اليهود وأنه كان هناك قضية يهودية أريد تحكيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها فكانت مشاورة في صدد ذلك بين الفريقين ثم مؤامرة على حكم النبي بقبوله إذا حكم كما يريدون وبرفضه إذا لم يحكم كذلك. وقد يتفق شيء من هذا مع الرواية التي تذكر أن يهوديا سأل حليفا له بالسؤال من النبي عن حكم قتيل قتله على أن يتحاكم عنده إذا كان حكمه بالدية دون القصاص كما يهوى. أو مع الروايات التي تذكر أن قسما من الآيات نزل في قتيل بني قريظة أو القتيل الذي قتلته القبيلة الذليلة من العزيزة من قبيلتي اليهود والآيات التالية لهذه الآيات تحتوي بيان ما كتبه الله تعالى على اليهود في التوراة من أحكام قتل النفس والدماء والجروح وليس فيها شيء عن حكم التوراة في الزنا بحيث يسوغ القول إن قضية الزنا ليس لها صلة بالآيات.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٤.

١٢٨

ولعلها أقحمت عليها لأنها وردت في حديث صحيح مع أن الحديث لا يذكر بأن لها صلة بالآيات أيضا. ونظم الآيات منسجم مع بعضه بحيث يبعد أن تكون نزلت متفرقة وفي مناسبات مختلفة. ولسنا نرى في رواية أبي لبابة التي انفرد بها الطبري صلة مفهومة بالآيات.

ونصّ الآيات يفيد أن الفريق المنافق قد نقل على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يقله أو أن الفريق اليهودي حرّف ما سمعه على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن الفريقين اشتركا معا في التهويش والتشويش وأنه كان لذلك أثر شديد محزن في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويلهم كذلك أن الحادث وقع في ظرف كان اليهود فيه ما يزالون في المدينة يدسّون ويتآمرون مع المنافقين. وإذا صحّ هذا فيكون هذا الفصل والفصول التي سبقته المحتوية على صور من مواقف اليهود وتاريخهم وواقعهم في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نزلت قبل صلح الحديبية الذي للفصول الأولى من السورة صلة به كما نبهنا على ذلك من قبل. ويكون في هذا دليل على ما ذكرناه في مقدمة السورة من أن في فصول السورة ما هو متقدم في النزول متأخر في الترتيب ، وما هو عكس ذلك ، وأنها ألّفت مؤخرا بعد أن تمّ نزول ما شاءت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول.

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحكم بالقسط بين اليهود في القضايا التي يحكمونه فيها ويريد أن يحكم فيها متسق كما هو واضح مع المبادئ القرآنية المتكررة في إيجاب العدل والقسط بخاصة مع المبدأ الذي شدد عليه في الآية الثامنة من هذه السورة وهو عدم التأثر ببغض قوم وجعله مؤثرا في العدل معهم. والروعة والتساوق يبدوان بارزين خاصة لأن الآيات حكت مواقف تهويش وشغب مقصودة وقفها اليهود. وهذا التلقين مستمر المدى كما هو واضح.

وفي الآيات تخيير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحكم بينهم إذا جاءوا إليه أو الإعراض عنهم. ولقد روى الطبري عن الشعبي وعطاء وابن جريج أن حكم الآية محكم وأن للحاكم المسلم الخيار في الحكم بين من يأتي إليه من غير المسلمين وعدم الحكم. كما روى عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة أن حكمها منسوخ بآيات

١٢٩

أخرى من هذه السورة تأتي بعد قليل فيها أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم. وأن القضاء الإسلامي هو المختص بالنظر في قضايا أهل الذمة والمعاهدين من غير المسلمين الذين يعيشون في نطاق السلطان الإسلامي.

وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب أن حكم الآية ثابت لم ينسخ ، وأن للحكام الخيار في الحكم وترك الحكم والنظر ، وأن جملة (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) في الآيات الآتية ليست للنسخ وإنما هي للأمر بالحكم بينهم بما أنزل الله إذا اختار أن يحكم بينهم. وقد روى البغوي عن ابن عباس قولا بالنسخ ومن الأئمة من أخذ بهذا. ومنهم من أخذ بذاك ولقد قال الخازن إن مذهب الشافعي على أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه ونحن نرى في هذا الصواب. والله أعلم.

ويتفرع على هذا مسألة أخرى وهي كيفية حلّ قضايا المعاهدين والذميين فيما بينهم إذا لم يرفعوها للقضاء الإسلامي. وقد روى الطبري قولا للزهري جاء فيه «مضت السنّة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم» وهذا القول متسق مع فحوى وروح الآية الأخيرة من الآيات كما هو المتبادر. حيث يفيد هذا أن للمعاهدين والذميين أن يرفعوا قضاياهم المدنية إلى رجال القضاء فيهم. وبكلمة أخرى يكون قضاؤهم هو المختص في قضاياهم إذا لم يرفعوها إلى حكام المسلمين. وهذا ما عليه الجمهور. وتظهر فيه روعة الشريعة الإسلامية في مراعاتها حرية العقيدة الدينية. فهي لا تكره أحدا على الإسلام. ولا تكره أحدا من الذين يخضعون للسلطان الإسلامي من غير المسلمين على التقاضي إلى قضائه. وفي الآيات التالية توجيه بإيجاب أن يكون قضاؤهم مستمدا من التوراة والإنجيل على ما سوف نشرحه بعد.

وجملة (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) قد تكون تضمنت قرينة على ما ضمناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [١٥٧] من سورة الأعراف بأن سفر الشريعة الذي كتبه موسى واحتوى تبليغات الله ووصاياه والذي

١٣٠

ذكر بعض أسفار ما بعد السبي أنه كان متداولا في أيدي اليهود قد ظلّ متداولا في أيديهم إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس هو الآن في التداول فيكون قد ضاع.

هذا ، ومع ما قاله المؤولون والمفسرون من أن معنى السحت هو المال الحرام إطلاقا فإن الطبري والبغوي وغيرهما نقلوا عن مجاهد والحسن وقتادة أن الكلمة في مقام ورودها بالنسبة لليهود قد عنت الرشوة التي كان قضاة اليهود يأخذونها ليحكموا لمن يدفعها إليهم بالباطل ضدّ خصومهم. ولا يخلو هذا من وجاهة مستلهمة من مقام الجملة ومدى الآيات والأسلوب الذي جاءت به قد يفيد أنه كان مستشريا بينهم على نطاق واسع وفي بعض أسفار العهد القديم وفي بعض الأناجيل تنديدات باليهود على ذلك. ولقد استطرد البغوي إلى إيراد الحديث الذي لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه الراشي والمرتشي وأوردناه في سياق الآية [١٨٨] من سورة البقرة فلم نر ضرورة لإعادة إيراده.

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)) [٤٤ ـ ٤٥].

(١) الربانيون : نسبة إلى الرب. وهي بمعنى رجال الله وعلماء كتابه.

(٢) الأحبار : الفقهاء أو القضاة ، والحبر هو العالم الفقيه.

(٣) والجروح قصاص : بمعنى إذا جرح إنسان إنسانا جرحا غير ما ورد في الآية فيقتصّ منه بجرح مماثل.

١٣١

تعليق على الآية

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ...) إلخ

والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام

وتمحيص قاعدة (شرع ما قبلنا شرع لنا) وما ورد

في صدد القصاص والجروح من أحاديث وأقوال

عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنت أولاهما :

(١) تقريرا بأن الله تعالى قد أنزل التوراة فيها هدى ونور. وأوجب على النبيين والربانيين والأحبار المنقادين المسلمين إليه أن يحكموا بين اليهود بموجب ما فيها من شرائع وأحكام حيث صاروا عليها بما نالوه من علم ووصلوا إليه من مرتبة حفاظا وشهداء. وأن لا يخافوا من أحد غير الله وأن لا يبيعوا آياته وأحكامه بالثمن البخس.

(٢) وإيذانا بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر به لا تصح منه دعوى الإيمان.

وقد تضمنت ثانيتهما :

(١) تقريرا بأن الله قد كتب على اليهود في التوراة قصاص النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن وقصاص الجروح الأخرى جروحا مماثلة لها.

(٢) وإيذانا بأن العفو جائز. وهو بمثابة صدقة يتقرب بها الذي يعفو إلى الله. وأن من يعفو عن شيء من حقه في القصاص يكون عفوه كفارة عن ذنوبه.

(٣) وإيذانا مكررا من الله بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم بانحرافه عن حدوده وشرائعه.

ولقد روى الطبري عن الزهري أن الآية الأولى نزلت في صدد مراجعة اليهود في قضية الزنا حينما رفعت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويلحظ أن الآية ليست وحدها وأنها

١٣٢

منسجمة مع الآية التي بعدها التي تذكر أحكام الدماء دون الزنا. ثم بما بعدها من الآيات التي تذكر الإنجيل ثم القرآن كسلسلة واحدة حيث يتبادر أكثر أنها استمرار للسياق السابق على سبيل البيان والاستطراد. ونرجح أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة أو عقبها مباشرة. وروحهما تلهم بقوة كما قلنا قبل أن القضية التي أراد اليهود التقاضي فيها عند النبي ونشأ عنها المشهد الذي احتوته الآيات السابقة هي قضية دم. وأنهما استهدفتا تقرير كون حكم الله في قضايا الدم واضح في التوراة وكون واجب علماء اليهود وحكامهم هو الحكم بها وعدم الانحراف عنها والرضاء بذلك إذا حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم بها. والتنديد بهم لمحاولتهم الانحراف عن أحكام الله وإهمالها.

والعبارة القرآنية صريحة بأن الأحكام التي فيها قد كتبت على اليهود في التوراة وقد تؤيد هذه العبارة والآيات السابقة كما قلنا أن سفر التوراة الذي سجل موسى عليه‌السلام فيه ما بلغه الله إياه من وصايا وأحكام كان موجودا في أيدي اليهود. وفي سفري الخروج والأحبار من الأسفار المتداولة اليوم التي تحكي كثيرا مما بلّغه الله تعالى لموسى من وصايا وأحكام أحكام مماثلة لما جاء في العبارة القرآنية مع مغايرة يسيرة حيث يمكن أن يقال إن كتّاب السفرين استقوا ما كتبوه من سفر توراة موسى. وقد ورد في الإصحاح (٢١) من سفر الخروج من جملة الأحكام المبلّغة لموسى (نفس بنفس وعين بعين وسن بسن ورجل برجل وكيّ بكيّ وجراحة بجراحة ورضّ برضّ) وورد في الإصحاح (٢٤) من سفر الأحبار تبليغا عن الله كذلك (من قتل إنسانا يقتل قتلا. أي إنسان أحدث عيبا في قريبه فليصنع به كما صنع الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن كالعيب الذي يحدثه في الإنسان يحدثه معه).

واستتباعا لما استلهمناه من الآيات السابقة بأن القرآن جعل لأهل الكتاب في السلطان الإسلامي أن يتقاضوا فيما بينهم وفق ما عندهم من شرائع يمكن القول إن الآيات التي نحن في صددها قد تكون انطوت على تلقين للسلطان الإسلامي بإجبار اليهود الذين يكونون في نطاق حكمه معاهدين وذميين على التقاضي وفقا لأحكام

١٣٣

التوراة إذا ما أرادوا التقاضي عند قضاتهم وأحبارهم وربانييهم.

وقد يقال وكيف يعرف السلطان الإسلامي أحكام التوراة وسفر التوراة الذي كتبه موسى عن الله مفقود. وهذا سؤال وجيه غير أن الأسفار التي تعود إلى حقبة موسى وهي الخروج والأحبار والعدد والتثنية احتوت كثيرا من الأحكام والتشريعات محكية عن موسى عن الله حيث يمكن أن يكون كتّابها استقوها من سفر التوراة قبل فقده مهما كان شابها تحريف وتبديل. ويتبادر هنا أن حكمة الله بعد أن اقتضت جعل اليهود مخيرين وأوجبت على أحبارهم وربانييهم أن يحكموا بينهم وفاقا لأحكام التوراة صار من السائغ أن يقال إنه لا مانع من ترك الأمر في تطبيق ما في أيديهم من أسفار فيها أحكام وتشريعات محكية عن موسى عن الله تعالى دون أحكام خارجة عن نطاقها والله تعالى أعلم.

هذا وفي كتب التفسير أقوال متنوعة في صدد ما في الآيتين من معان وأحكام وفي صدد تطبيق ذلك أو ما في بابه على المسلمين.

فأولا : في صدد جملة (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) روى الطبري عن السدي أنها تعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى عن قتادة حديثا مرفوعا جاء فيه «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول لما نزلت هذه الآية نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الكتاب». وروى إلى هذا عن الزهري وعكرمة أنها تعني النبيين جميعا ومنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب عندي أن الله أخبر أن التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء والأحبار لليهود. ونزيد على هذا أن روح الآيتين وفحواهما قويا الدلالة على أن المقصود هم أنبياء بني إسرائيل. وأن الآية بسبيل حكاية ما كان وما ينبغي أن يكون بالنسبة لليهود. والله أعلم.

وثانيا : في صدد جملة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وجملة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وجملة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) والجملتان الأخيرتان وردتا في آيات تأتي بعد هذه الآيات فقد روى الطبري عن البراء بن عازب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها كلها

١٣٤

في الكافرين. وعن أبي مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم أن المقصود بها أهل الكتاب أو الكفار أو المشركون. وعن الشعبي أن الجملة الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى. وعن الحسن أنها وإن كانت في اليهود والنصارى فهي واجبة علينا. وعن ابن عباس أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا فهو كافر وإن كان غير جاحد فهو ظالم وفاسق.

وحديث البراء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس من الصحاح والأقوال الأخرى اجتهادية. وقد قال الطبري إن أولاها بالصواب قول من قال إنها نزلت في أهل الكتاب لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات نزلت فيهم وهم المعنيون بها.

ومع ما في تصويب الطبري من وجاهة مستمدة من سياق الآيات فإن نظم الجمل يجعلها عامة الشمول لكل من لم يحكم بما أنزل الله. ويدخل في ذلك المسلمون أيضا كما هو المتبادر. ولقد روى الطبري عن ابن عباس وغيره أن الكفر والظلم والفسق في الجمل الثلاث هي كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وأنها ليست بمعنى خروج عن الملّة حيث يفيد هذا أن المؤولين في الصدر الأول اعتبروا الجمل مطلقة وخرجوها بهذا التخريج. وهو تخريج وجيه دون ريب.

ومهما يكن من أمر فإنه يتبادر لنا أولا أن الجملة جاءت في مقام تعظيم جريمة إهمال الحكم بما أنزل الله. وأعظم بذلك جريمة. وثانيا أن خروج من لم يحكم بما أنزل الله من الملّة منوط بأن يكون جاحدا لما أنزل الله مستحلا لمخالفته فإن لم يكن ذلك فيكون قد اقترف كبيرة دون أن يخرج من الملّة. وهذا متسق مع ما قاله ابن عباس وأوردناه قبل. وقد يصحّ أن يضاف إلى ذلك أن هذا أيضا يكون إذا كان الإهمال مقصورا ولم يكن للمهمل الذي يظهر إسلامه ولم يجحد ما أنزل الله تأويل أو تخريج لذلك الإهمال. والله تعالى أعلم.

وثالثا : في صدد جملة (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ). فقد روى الطبري عن عبد الله بن عمرو وجابر بن زيد من طرق عديدة أنها بمعنى أن عفو

١٣٥

المجروح عن جارحه هو كفارة عن ذنوبه. وروى أقوالا معزوة إلى ابن عباس ومجاهد أنها بمعنى أن عفو المجروح عن جارحه هو كفارة للجارح بمعنى مسقط للقصاص والدية عنه والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه. فالضمير ينبغي أن يعود إلى الأقرب وهو (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ). أو الذي يعفو وعفو المجني عليه مسقط لتبعة الجاني بطبيعة الحالة قصاصا كانت أم عقلا. فلا محلّ للقول الثاني من هذه الناحية. وهناك أحاديث نبوية تأتي بعد قليل فيها حثّ على العفو وبشرى للذين يعفون بغفران ذنوبهم وكون عفوهم كفارة لهم مما فيه تأييد للقول الأول.

ورابعا : في صدد ما إذا كانت الآية الثانية هي المستند لقصاص الأطراف والجروح في الإسلام على قاعدة (شرع ما قبلنا شرع لنا) أم لا. والمستفاد من أقوال المفسرين ولا سيما ابن كثير والخازن أن من الأصوليين والفقهاء من قال إن النبي يتعبد بشرائع الكتب السماوية السابقة وإن ما لم ينسخه القرآن والسنّة من هذه الشرائع هو شرع للمسلمين ، ووضعوا قاعدة (شرع ما قبلنا شرع لنا) وقالوا بالتبعية إن الآية هي مستند قصاص الأطراف والجروح في الإسلام. وهناك من أنكر ذلك وقال إن ما ورد في الآية هو إخبار بما كتب الله على بني إسرائيل وإن المسلمين مقيدون بما أوحى الله إلى النبي من تشريع خاص وبما صدر من النبي من تشريع خاص سواء أكان فيه إقرار ومطابقة لما في الكتب السماوية السابقة أم نسخ له.

والذي يتبادر لنا أن الرأي الثاني هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات وسياقها ومناسبتها وهدفها بل ومضمونها أيضا إذا ما أنعم النظر فيها. ويلفت النظر خاصة إلى جملة (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) وإلى جملة (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) حيث تدلان بصراحة على خصوصية الأحكام بالنسبة لليهود فقط. وفي نصوص الآيات التي تأتي بعد قليل دلائل قوية على وجاهة هذا الرأي أيضا على ما سوف نشرحه بعد. ومن الجدير بالذكر والتنبيه في هذا المقام أن في الأسفار الأربعة (الخروج والعدد والأحبار وتثنية الاشتراع) من أسفار العهد القديم نصوصا كثيرة بطقوس تعبدية وأحكام وتشريعات متنوعة بأسلوب يفيد أنها مما بلغه

١٣٦

الله لموسى. والراجح أنها أو أن كثيرا منها مستقى من سفر توراة موسى المفقود وليس في القرآن والحديث نصوص بنسخها منفردة أو جملة. ومع ذلك فلم يرد حديث ما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتخاذها طقوسا وشرائع وطرائق في الإسلام ولم يمارسها النبي والمسلمون في عهده فضلا عن ما بعده. ومثل هذا يقال في أمور متنوعة أخرى وردت على لسان عيسى عليه‌السلام في الأناجيل كأنها أوامر ربانية أو إلهام رباني.

ومع هذا فإن قصاص الأطراف والجروح في الإسلام متفق عليه عند أئمة الفقه الإسلامي. وقد ورد في ذلك أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة. فهناك حديث رواه الخمسة عن أنس «أن يهوديا رضّ رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل هذا بك. أفلان. أفلان؟ حتى سمّي اليهوديّ فأومأت برأسها فجيء باليهودي فاعترف فأمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرضّ رأسه بحجرين» (١). وحديث رواه البخاري وأبو داود عن أنس أيضا «أنّ ابنة النضر لطمت جارية فكسرت ثنيّتها فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر بالقصاص» (٢). وحديث رواه الشيخان عن أنس «أن أخت الربيع أمّ حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال القصاص القصاص ، فقالت أم الربيع يا رسول الله أيقتصّ من فلانة والله لا يقتصّ منها فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله ، قالت والله لا يقتصّ منها أبدا فما زالت حتى قبلوا الدية فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» (٣). وحديث أخرجه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أقدني فقال له حتى تبرأ ثم جاء إليه ثانية فقال أقدني فأقاده ثم جاء فقال يا رسول الله عرجت ، فقال له قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ثم نهى رسول الله عن أن يقتص من جرح

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٧ ـ ٨.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه وروى ابن كثير الحديث بصيغة أخرى ولكن جوهر الحديث واحد.

١٣٧

حتى يبرأ صاحبه» وقد صارت هذه الأحاديث ـ وربما كان هناك غيرها من بابها ـ مستندا لاتفاق أئمة الفقه على أن قصاص الجروح شرع إسلامي أيضا على ما يستفاد من كلام المفسرين وبخاصة ابن كثير والخازن.

والذي يتبادر لنا بناء على ما ذكرناه قبل أن ما جاء في هذه الأحاديث لا يعدّ دليلا على صحة قاعدة (شرع من قبلنا شرع لنا) وبالتبعية على أن شريعة التوراة هي شريعة لنا. وكل ما في الأمر أنه تشريع نبوي في أمور سكت عنها القرآن ويمكن أن يكون مستوحى من هذه الشريعة.

ومن الجدير بالذكر أن الطبري وهو من أقدم من وصل إلينا كتبهم في التفسير وهو من رجال القرن الثالث الذي كان بعض أئمة الفقه من رجاله أيضا لم يذكر هذه القاعدة ولم يذكر أن أئمة الفقه قد استندوا إليها في اتفاقهم على قصاص الأطراف والجروح. بل لم يذكر ذلك البغوي من رجال القرن الخامس. وأول من رأيناه يشير إلى شيء منها الزمخشري من رجال القرنين الخامس والسادس في سياق الآية [٤٨] من السورة حيث قال إن هناك من قال إن هذه الآية دليل على أننا لا نتعبّد بشرع ما قبلنا. حيث يفيد هذا أن هذه القاعدة حديثة نوعا في أصول الفقه الإسلامي. والله أعلم.

وخامسا : في صدد تنفيذ قصاص الجروح. وقد ذكر ابن كثير أن مالكا والشافعي وأحمد بن حنبل لا يرون على المجني عليه شيئا إذا اقتصّ من الجاني فمات. وأن هذا هو قول الجمهور من الصحابة والتابعين. وأن أبا حنيفة يذهب إلى أن الدية تلزم المجني عليه إذا مات الجاني من اقتصاصه استنادا إلى أقوال بعض علماء التابعين. وإلى هذا فقد ذكر هذا المفسر أن هناك من قال بسقوط دية الجرح من الدية الكاملة.

ويفيد هذا في الوقت نفسه أن أئمة الفقه الإسلامي متفقون على أن المجني عليه هو صاحب الحقّ بمباشرة القصاص من الجاني.

وقد يكون في الحديث المروي عن الرجل الذي ضربه رجل آخر في ركبته

١٣٨

وأقاده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ضاربه تأييد لذلك. ولقد كان هذا بتأييد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو رئيس الدولة والمسلمين حيث تكون القاعدة أن يجري هذا بتأييد وتمكين وإشراف وليّ الأمر والسلطان. بل يتبادر لنا أن ما روي كان متساوقا مع عادات ومفاهيم أهل بيئة النبي .. وأنه ما دام ذلك قد تمّ بتمكين النبي صاحب السلطان فإن للسلطان الإسلامي أن يجعل مباشرة القصاص بإشرافه وأن لا يدعه هملا قد يؤدي إلى ما ليس حقّا وما فيه تجاوز وظلم وضرر وجنف. ولقد فرع الفقهاء على هذا التشريع فاتفقوا على ما يستفاد من ابن كثير على أن الجراح التي يكون فيها مفصل هي التي يكون فيها القصاص كاليد والرجل والكفّ والقدم. أما الجراح التي تكون في العظم باستثناء السنّ فمنهم من أوجب فيه القصاص إذا لم يكن من ذلك خطر على حياة الجاني ومنهم من لم يوجبه استنادا إلى أقوال علماء التابعين. أما السنّ فهم متفقون على القصاص فيه.

وسادسا : في صدد الحثّ على العفو في الجروح :

ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في هذا الباب. منها حديث رواه الطبري عن أبي السفر قال (دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار فاندقت ثنيته فرفعه الأنصاري إلى معاوية فلما ألحّ عليه قال معاوية شأنك وصاحبك ، وكان أبو الدرداء عند معاوية. فقال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه لله إلّا رفعه الله درجة وحطّ عنه خطيئة به (١) فقال له الأنصاري أنت سمعته من رسول الله؟ قال سمعته أذناي ووعاه قلبي ، فخلى سبيله فقال معاوية مروا له بمال) والحديث أيضا يؤيد كون المباشرة في الاقتصاص للمجني عليه بتأييد السلطان. ومن ذلك حديث رواه الطبري عن ابن الصامت قال «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من جرح في جسده جراحة فتصدق بها كفر عنه ذنوبه بمثل ما تصدق به». ومن ذلك حديث رواه الطبري عن عدي بن ثابت قال «هتم رجل

__________________

(١) هذا الحديث ورد في التاج برواية الترمذي بهذا النص «عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من رجل يصاب بشيء في جسده فيتصدّق به إلّا رفعه الله به درجة وحطّ عنه به خطيئة» التاج ج ٣ ص ٣٢ ومعنى فيتصدق به يعفو عنه.

١٣٩

على عهد معاوية فأعطي دية فلم يقبل ثم أعطي ديتين فلم يقبل ثم أعطي ثلاثا فلم يقبل فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله قال فمن تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم تصدق إلى يوم ولد فتصدق الرجل».

وفي هذه الأحاديث التي وإن كانت لم ترد في الكتب الخمسة متساوقة مع الحديث الذي يرويه الترمذي تأييد لتأويل جملة (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) بأنها تعني أن الكفارة لمن يعفو. ومن الجائز أن تكون الجملة تعقيبا أو تنبيها قرآنيا مباشرا فأخذ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ذلك حديث رواه ابن ماجه وأورده ابن كثير جاء فيه «أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها فاستعدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر له بالدية فقال يا رسول الله أريد القصاص فقال له خذ الدية بارك الله لك فيها». وهناك حديث مهم في هذا الباب رواه أبو داود والنسائي عن أنس قال «ما رأيت رسول الله رفع إليه شيء فيه قصاص إلّا أمر بالعفو».

ففي هذه الأحاديث تلقين قوي بوجوب العدول عن القصاص في الجراحات والتسامح فيها.

وسابعا : في دية الجراحات :

ولقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث عديدة عن دية الجراحات. منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في دية الأصابع اليدين والرجلين سواء عشر من الإبل لكلّ إصبع» (١) وحديث رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في الأنف إذا جدع الدية كاملة وإن جدعت ثندؤته فنصف العقل وفي اليد إذا قطعت نصف العقل وفي الرجل نصف العقل. وفي المأمومة (وهي الشجة التي تصل إلى جلدة تسمى أم الدماغ) ثلث العقل والجائفة (وهي الشجة التي تصل إلى جوف الرأس والبطن والظهر ولم تقتل) مثل ذلك. وفي الأصابع في كلّ إصبع عشر من الإبل وفي

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٣.

١٤٠