تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

[١٠] (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي بعد المهاجرين والأنصار من المؤمنين إلى يوم القيامة (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا) في الإيمان (الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) حقدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أزل الحقد عن قلوبنا حتى لا نحقد مؤمنا (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فحقيق أن ترحمنا باستجابة دعائنا.

[١١] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر كابن أبيّ وأضرابه (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر (الَّذِينَ) بدل (إخوانهم) (كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم بنو النضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من وطنكم بإخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) مواساة (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) في خذلانكم (أَحَداً) كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) قاتلكم المسلمون (لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولون ، فقد قال ابن أبي لبني النضير هذا الكلام تقوية لهم على مقابلة المسلمين ، ثم حين قابلهم المسلمون وأخرجهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قراهم ظهر كذب ابن أبي فإنه لم يساعدهم بشيء.

[١٢] (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) فرضا (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) فرارا من الحرب (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أولئك المنافقون.

[١٣] (لَأَنْتُمْ) أيها المسلمون (أَشَدُّ رَهْبَةً) مرهوبية فيخافكم المنافقون (فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) فإنهم لا يخافون الله وإنما يخافونكم ولذا ينافقون (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون عظمة الله.

[١٤] (لا يُقاتِلُونَكُمْ) أي اليهود (جَمِيعاً) مجتمعين (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) لها حصون وجدران قوية (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) حتى يقوا أنفسهم من بأسكم (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) فإنهم شديد والاختلاف فيما بينهم (تَحْسَبُهُمْ) تظنهم أنهم (جَمِيعاً) أي مجتمعين في الآراء (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة ، لكل واحد آراء وأهواء (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) الرشد وإلا لاجتمعوا على الحق.

[١٥] مثلهم في سوء العاقبة (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) هم الكفار الذين اجتمعوا في بدر قبل غزوة بني النضير بزمان قريب فإن بينهما كان أقل من سنة (ذاقُوا وَبالَ) عقوبة (أَمْرِهِمْ) بقتل المسلمين إياهم وأسرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم في الآخرة.

[١٦] ومثل المنافقين (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) في أنه يغش الإنسان ثم يدعه ، كما فعل ابن أبيّ ببني النضير (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) فإني معك (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) كما قال الشيطان ذلك لأهل بدر وكذلك يتبرأ من تابعيه في الآخرة.

٥٦١

[١٧] (فَكانَ عاقِبَتَهُما) الغار والمغرور (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) بالكفر وبالنفاق.

[١٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ليوم القيامة بأن يراقب عمله حتى يكون قدم لآخرته أعمالا صالحة (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم على أعمالكم.

[١٩] (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) تركوا أوامره كترك الناسي (فَأَنْساهُمْ) الله (أَنْفُسَهُمْ) فأهملوها من سعادتها (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله.

[٢٠] (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) بثواب الله ، وأصحاب النار هم المبتلون في العقاب الشديد.

[٢١] (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) فإن ذرات الكون كلها شاعرة ، لكن بقسم آخر من الشعور لا مثل شعور الإنسان والحيوان (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) متشققا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وهذا توبيخ للإنسان كيف لا يخشع للقرآن (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيتعظون ، والمراد بتلك الأمثال ، هذا المثل وغيره مما ذكر في القرآن.

[٢٢] (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) ما ظهر للحواس (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

[٢٣] (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) الحق ومن سواه من الملوك إنما هم ملوك بالمجاز (الْقُدُّوسُ) المنزّه عما لا يليق به (السَّلامُ) السالم من كل نقص (الْمُؤْمِنُ) معطي الأمن (الْمُهَيْمِنُ) المسيطر على كل شيء بالعلم والرقابة (الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْجَبَّارُ) الذي يقهر الكون حسب إرادته (الْمُتَكَبِّرُ) ذو الكبرياء والعظمة (سُبْحانَ اللهِ) أنزهه تنزيها (عَمَّا يُشْرِكُونَ) معه فإنه لا شريك له.

[٢٤] (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) الموجد للكيفيات والخصوصيات ، فمثلا أن الله سبحانه يخلق خشبة ، ثم يبرءوها بأن يعطيها كيفية القص من زوائدها (الْمُصَوِّرُ) ثم يعطيها صورة الباب ـ مثلا ـ (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الحسنة كالغفور والرازق والمحيي ، وحسن الاسم باعتبار حسن المعنى الموجود في الله بذاته المدلول عليه بالاسم (يُسَبِّحُ) ينزه (لَهُ) تنزيها خاصا به تعالى (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في تدبيره.

٥٦٢

٦٠ : سورة الممتحنة

مدنية آياتها ثلاث عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فإنه لما أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتح مكة أمر الناس بالكتمان لكن (الحاطب) خالف وكتب كتابا إلى أهل مكة وقد عفا عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن أظهره الله على الكتاب ، واسترجعه ، فنزلت هذه السورة (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) كأهل مكة (أَوْلِياءَ) أصدقاء (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تفضون إليهم بما يدل على حبكم لهم (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ) أي كفروا وأخرجوا (الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة (أَنْ تُؤْمِنُوا) أي لأجل إيمانكم (بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ) وجواب الشرط محذوف دل عليه (لا تتخذوا) (خَرَجْتُمْ) من مكة (جِهاداً فِي سَبِيلِي) لأجل الجهاد في سبيل الإسلام (وَ) ل (ابْتِغاءَ) طلب (مَرْضاتِي) رضاي (تُسِرُّونَ) بدل (تلقون) من السّر ـ فإنه بعث الكتاب سرا ـ (إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) بالحب (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) فأجازيكم عليه (وَمَنْ يَفْعَلْهُ) اتخاذ الكافرين أولياء (مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ) وسط (السَّبِيلِ).

[٢] (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يظفر الكفار بكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) فلا ينفعكم إلقاء المودة (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) بما يسوءكم كالقتل والضرب والشتم (وَوَدُّوا) تمنوا (لَوْ تَكْفُرُونَ) بأن ترتدوا عن دينكم.

[٣] (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) قراباتكم (وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن كفرتم ، بل تبتلون بعذاب الله (يَفْصِلُ) الله (بَيْنَكُمْ) فيثيب المحق ويعاقب المبطل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم على ما عملتم.

[٤] (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ) قدوة (حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) بأن تقتدوا به (وَ) ب (الَّذِينَ) آمنوا (مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا) جمع بريء (مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام (كَفَرْنا بِكُمْ) بدينكم (وَبَدا) ظهر (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ) البغض والحقد (أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا) وتكونوا مثلنا مؤمنين (بِاللهِ وَحْدَهُ) دون شريك ، فاللازم أن يقتدي المسلم بإبراهيم عليه‌السلام في أن يكون هكذا مع الكافرين (إِلَّا) أي تأسوا بإبراهيم عليه‌السلام إلا في (قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) أي لعمه آزر (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) فإنه كان قبل النهي عن الاستغفار للمشركين (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إذا أراد الله عقابك لا يمكنني دفع ذلك عنك (رَبَّنا) مربوط بما قبل الاستثناء ، أي قولوا أيها المؤمنون (عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) اعتمدنا في أمرنا حتى لا يؤذينا المشركون (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) رجعنا عن ذنوبنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) نعتقد بأن صيرورتنا إليك فتجازينا.

[٥] (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب أو بتشكيك (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) في سلطانك (الْحَكِيمُ) في تدبيرك.

٥٦٣

[٦] (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) أيها المسلمون (فِيهِمْ) في إبراهيم عليه‌السلام والمؤمنين معه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) أي ثوابه (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) بأن يعتقد بالمعاد (وَمَنْ يَتَوَلَ) يعرض فلا يتأسى بهم (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) لا يضره التولي (الْحَمِيدُ) المحمود في أفعاله.

[٧] (عَسَى) لعل (اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) من الكفار (مَوَدَّةً) بأن يؤمنوا فيوادوكم ، لا أن تنافقوا فتوادوهم وهم كفار (وَاللهُ قَدِيرٌ) على أن يجعل بينكم مودة (وَاللهُ غَفُورٌ) لما سلف من ذنوبكم (رَحِيمٌ) بكم.

[٨] (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ) موادة الكفار (الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) لأجله (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) من بلادكم (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل من (عن الذين) أي لا ينهاكم الله عن برّهم والإحسان إليهم (وَتُقْسِطُوا) تعدلوا بالنسبة (إِلَيْهِمْ) أيها المسلمون (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) العادلين.

[٩] (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ) موادة الكفار (الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا) تعاونوا (عَلى إِخْراجِكُمْ) كمشركي مكة (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل من (الذين) (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) منكم (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم.

[١٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) المظهرات للإيمان (مُهاجِراتٍ) من دار الكفر (فَامْتَحِنُوهُنَ) اختبروهن بما يدل على موافقة قلوبهن للسانهن بأن خروجهن لأجل الإسلام لا لكره أزواجهن أو عشق أحد (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) باطنا وإنما عليكم الاختبار (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) بأن ظهر لكم دليل أو حلفن على صدقهن في إرادة الإيمان (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي أزواجهن (لا هُنَّ حِلٌ) حلال (لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ) أعطوا أزواجهن الكفار (ما أَنْفَقُوا) عليهن من المهور (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) لا حرج (أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مهورهن ، بأن تجعلوا لهن مهرا (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) جمع كافرة ، أي لا تبقوا على نكاح المرأة التي كفرت بعد إسلامها ـ والعصم جمع عصمة ، بمعنى ما اعتصمت به وهو العقد ـ بل فارقوها (وَ) إذا التحقت امرأة بالكفار بأن كفرت ف (سْئَلُوا) واطلبوا من الكفار (ما أَنْفَقْتُمْ) عليها من المهر (وَلْيَسْئَلُوا) أي الكفار منكم (ما أَنْفَقُوا) فيما إذا التحقت كافرة بكم بأن أسلمت فعليكم إعطاء مهور نسائهم المهاجرات (ذلِكُمْ) المذكور في الآية (حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يقتضيه الصلاح (حَكِيمٌ) في أحكامه وتدبيره.

[١١] (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) زوجاتكم و(من) بيان (شيء) (إِلَى الْكُفَّارِ) بأن ارتدت امرأة مسلمة وذهبت إلى الكفار (فَعاقَبْتُمْ) بأن أخذتم المرأة الكافرة التي أسلمت والتحقت بكم (فَآتُوا) أعطوا الكفار (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) بأن جاءت زوجاتهم إليكم (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي مهورهن ، فتدفعون مهر المسلمة المهاجرة عن زوجها الكافر ، إلى زوجها (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تخالفوا أمره (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

٥٦٤

[١٢] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) يردن البيعة بهذه الصورة (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) لا يجعلن شيئا شريكا لله سبحانه (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) فإنه كان من عادة الجاهلية قتل البنت وقتل الولد خوف الفقر (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) وهو أن يلحقن بأزواجهن غير أولادهن من اللقطاء ، أو غير أولادهم مما جاءت به من الزنا ، فهو بهتان وكذب افترته المرأة مربوطا بالولد الذي سقط من بطنها بين يديها ورجليها ، أو ربته بين يديها ورجليها من اللقطاء (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) مما تأمرهن به (فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) اطلب من الله غفران ما مضى من ذنوبهن (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[١٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا) لا تصادقوا (قَوْماً) من الكفار (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) لكفرهم (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) أي من ثوابها لعلمهم بأنهم على باطل ، كاليهود ، فإن بعض المسلمين الفقراء كانوا يتولونهم طمعا في النيل من خيراتهم (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) فقد يئس الكفار أن يحيى الميت.

٦١ : سورة الصف

مدنية آياتها أربع عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (سَبَّحَ لِلَّهِ) بلسان الحال أو بلسان المقال (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في تدبيره.

[٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) بأن تقولوا الخير ولا تعملون به.

[٣] (كَبُرَ) عظم (مَقْتاً) من حيث المقت (عِنْدَ اللهِ) أي غضب الله عليكم (أَنْ تَقُولُوا) فاعل (كبر) (ما لا تَفْعَلُونَ) نزلت فيمن تحسروا عن فوتهم ثواب بدر وقالوا نحارب في المستقبل فلما جاءت غزوة أحد فرّوا.

[٤] (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) مصطفين ، فإنه أكثر رهبة في نفس العدو وقوة في نفس المحارب (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ) بناء (مَرْصُوصٌ) ملصق بعضه ببعض في الشدة والمنعة.

[٥] (وَ) اذكر (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ) للتحقيق (تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا) مال قوم موسى عليه‌السلام عن الحق بأن استمروا في إيذائه (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) بأن تركهم حتى زاغت قلوبهم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن طاعة الله عنادا ، فإنه تعالى لا يلطف بهم الألطاف الخفية ، والإتيان بقصة موسى عليه‌السلام لشباهتها بأذية بعض المسلمين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فرارهم وبعض أعمالهم وأقوالهم.

٥٦٥

[٦] (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) لما تقدم (مِنَ التَّوْراةِ) بيان ل (ما) (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) رسولنا العظيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَلَمَّا جاءَهُمْ) أي عيسى عليه‌السلام ، أو أحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِالْبَيِّناتِ) بالأدلة الواضحة (قالُوا هذا) الذي جئتنا به من المعجزات (سِحْرٌ مُبِينٌ) واضح.

[٧] (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أظلم منه (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) بأن قال إن لله شريكا ، أو إن رسوله كاذب ، بأن جعل مكان الإجابة الافتراء (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) المعاندين فلا يلطف بهم الألطاف الخفية.

[٨] (يُرِيدُونَ) أي الكفار (لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) الإسلام (بِأَفْواهِهِمْ) الطاعنة في الإسلام (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) مظهره بإعلانه وتأييده ونشره (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) إتمامه.

[٩] (هُوَ) الله (الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) مع الدين الذي يهدي الناس (وَدِينِ الْحَقِ) عطف بيان ل (الهدى) (لِيُظْهِرَهُ) يعليه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي كل الأديان ، ويكون ذلك على نحوه الأتم في زمان الإمام المهدي (عج) (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ظهوره.

[١٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ) أرشدكم (عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم وهو عذاب الآخرة.

[١١] (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ) الإيمان والجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) في دنياكم وأخراكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم من أهل العلم لعلمتم أن ذلك خير لكم.

[١٢] فإن تفعلوا ذلك (يَغْفِرْ) الله (لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) السابقة (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ وَ) يدخلكم في (مَساكِنَ طَيِّبَةً) حسنة مستلذة (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) إقامة ، أي في جنة هي أبدية (ذلِكَ) الغفران وإدخال الجنة (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

[١٣] (وَ) يعطيكم بالإضافة إلى تلك النعمة الآجلة نعمة (أُخْرى) عاجلة (تُحِبُّونَها) أي تحبون أنتم هذه النعمة الأخرى وهي (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) ينصركم على أعدائكم (وَفَتْحٌ) لبلادهم (قَرِيبٌ) فتح مكة أو مطلق الفتوحات (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بكل خير.

[١٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) بنصرة دينه (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) تلاميذه الاثنا عشر (مَنْ أَنْصارِي) ينصرني منتهيا (إِلَى اللهِ) ومعناه العمل بما يقول للفوز بثوابه تعالى (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) فأخذوا يبلغون الناس الدين (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وصدقت بعيسى عليه‌السلام (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) فلم يؤمنوا (فَأَيَّدْنَا) نصرنا (الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) الكافرين (فَأَصْبَحُوا) أي المؤمنون منهم (ظاهِرِينَ) غالبين على الكفار.

٥٦٦

٦٢ : سورة الجمعة

مدينة آياتها إحدى عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (يُسَبِّحُ) جاء هنا بالمضارع دلالة على المستقبل ، وفي بعض السور بالماضي دلالة على الماضي (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) المنزّه عن كل نقص (الْعَزِيزِ) في سلطانه (الْحَكِيمِ) في تدبيره.

[٢] (هُوَ) الله (الَّذِي بَعَثَ) أرسل (فِي الْأُمِّيِّينَ) المنسوبين إلى أم القرى مكة أو منسوب إلى الأم لأنهم ما كانوا يقرءون ولا يكتبون (رَسُولاً مِنْهُمْ) من جنسهم (يَتْلُوا) يقرأ (عَلَيْهِمْ آياتِهِ) القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من الكفر والفسق (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) الشريعة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) قبل أن يأتيهم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) واضح.

[٣] (وَآخَرِينَ) عطف على (الأميين) (مِنْهُمْ) أي من جنس هؤلاء في الكفر والضلال (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) بعد لم يلحقوا بهؤلاء في الإيمان ، وينتظر لحوقهم ، والمراد بهم المؤمنون إلى يوم القيامة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

[٤] (ذلِكَ) الإرسال إلى الناس (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) كما أعطاه للأمة الإسلامية دون الأمم السابقين (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي يستحقر عند فضله كل فضل.

[٥] (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) كلّفوا حملها وهم لا يريدون الحمل والمراد كلفوا العمل بها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) تركوا العمل بها ـ وهم اليهود ـ (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) كتبا من العلم يتعب من حملها ولا ينتفع بها (بِئْسَ) المثل بالحمار (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) بأدلته ، وهم اليهود الذين كذبوا بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم عنادا ، فإنه تعالى لا يلطف بهم الألطاف الخفية.

[٦] (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أظهروا اليهودية (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) إذ كانوا يقولون نحن أحباء الله ، دون سوانا (فَتَمَنَّوُا) اطلبوا من الله (الْمَوْتَ) بنقلكم من دار البلية إلى دار الكرامة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم.

[٧] (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بسبب ما قدموا إلى آخرتهم من الكفر والمعاصي (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فيجازيهم على ظلمهم.

[٨] (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) بإعداد الوسائل لامتداد حياتكم خوفا من الآخرة (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) تلقونه لا محالة (ثُمَ) بعد الموت (تُرَدُّونَ) ترجعون (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) ما ظهر للحواس (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم لأجل أن يجازيكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

٥٦٧

[٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ) أذّن (لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا) امضوا مسرعين (إِلى ذِكْرِ اللهِ) الصلاة (وَذَرُوا) اتركوا (الْبَيْعَ ذلِكُمْ) السعي إلى الذكر وترك البيع (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم من أهل العلم لعلمتم إن ذلك خير لكم.

[١٠] (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) فرغ من أدائها (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) إباحة بعد حظر ، كل يذهب إلى محل عمله (وَابْتَغُوا) اطلبوا (مِنْ فَضْلِ اللهِ) بالتجارة والاكتساب (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) لئلا تشغلكم الدنيا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفوزون بثوابه.

[١١] (وَإِذا رَأَوْا) أي الذين حضروا لصلاة الجمعة (تِجارَةً) كسبا (أَوْ لَهْواً) ما يلهي كالطبل والغناء (انْفَضُّوا) تفرقوا مسرعين (إِلَيْها) إلى تلك التجارة أو اللهو (وَتَرَكُوكَ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قائِماً) واقفا تخطب ، فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب للجمعة إذ جاءت قافلة تجارية إلى المدينة فضربت الطبول للإعلام كما كانت عادتهم فخرج الحاضرون إلا جماعة منهم ، وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية موبخة لهم (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ) لعدم نفعه (وَمِنَ التِّجارَةِ) لأن نفعها زائل (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فتوكلوا عليه يرزقكم ولا تحرصوا على تحصيل الرزق بترك الواجبات.

٦٣ : سورة (المنافقون)

مدنية آياتها إحدى عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (إِذا جاءَكَ) يا رسول الله (الْمُنافِقُونَ) والمراد به عبد الله بن أبي (قالُوا) نفاقا (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) حقيقة (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في قولهم (نشهد) إذ يخالف قلبهم لسانهم.

[٢] (اتَّخَذُوا) أخذ المنافقون (أَيْمانَهُمْ) حلفهم (جُنَّةً) وقاية لحفظ مالهم ودمهم (فَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) منعوهم عن الإيمان (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ساء العمل عملهم.

[٣] (ذلِكَ) العمل السيّئ إنما صدر منهم بسبب أنهم (آمَنُوا) ظاهرا (ثُمَّ كَفَرُوا) باستمرارهم في النفاق ، أو المراد آمنوا حقيقة ثم لما رأوا أن الإيمان لا يوافق شهواتهم كفروا (فَطُبِعَ) طبع الله (عَلى قُلُوبِهِمْ) تمكن الكفر منهم حتى صار كالختم على قلوبهم (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) لا يفهمون الحق.

[٤] (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) بحسن منظرهم (وَإِنْ يَقُولُوا) يتكلموا (تَسْمَعْ) تصغ (لِقَوْلِهِمْ) لحسن منطقهم (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ) جمع خشبة (مُسَنَّدَةٌ) أسندت إلى الحائط ، لها ظاهر جميل لكنها فارغة لا تتمكن من القيام بنفسها ، فهم أشباح خالية عن العلم والإيمان (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) لجبنهم وحب أنفسهم فإذا حدثت صيحة في العسكر أو ما أشبه حسبوها أنها تقع عليهم وأن وبالها عائدة نحوهم فيخافون ويرتجفون ، وهذا شأن المنافق دائما (هُمُ الْعَدُوُّ) الحقيقي إذ الكافر يتمكن الإنسان من اجتنابه أما المنافق فيضر ولا يمكن عادة التجنب من آثاره السيئة (فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم بالهلاك (أَنَّى) إلى أين وكيف (يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الحق.

٥٦٨

[٥] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) للمنافقين (تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أكثروا تحريكها استهزاء (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون عن المجيء (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) يتكبرون عن الإتيان إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رجوعه من حرب بني المصطلق كان في منزل إذ تنازع أنصاري ومهاجري على الماء فقال ابن أبيّ : عند رجوعنا إلى المدينة نخرج الرسول والمهاجرين وتكلم بكلام سيئ ، فأتى زيد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بالخبر ، ولما سمع القوم قالوا لابن أبي اذهب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتذر منه لكنه أبى وأخيرا اضطر إلى أن يأتي ويطلب من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العذر وأنكر القصة ، فنزلت السورة مصدقة لما قاله زيد.

[٦] (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) على المنافقين (أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لإصرارهم على النفاق (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لا يلطف بالخارج عن أحكام الله عنادا.

[٧] (هُمُ) المنافقون (الَّذِينَ يَقُولُونَ) لإخوانهم (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي على فقراء المهاجرين (حَتَّى يَنْفَضُّوا) يتفرقوا من حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كالمطر من خزينة السماء ، والنبات من خزينة الأرض ، فالرزق بيده تعالى لا بأيديهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) لا يفهمون ذلك بل يزعمون أن الرزق بيد الناس.

[٨] (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ) ويقصدون بالأعز المنافقين أنفسهم (مِنْهَا) من المدينة (الْأَذَلَ) قاصدين بالأذل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المهاجرين (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) بل يزعمون أن العزة لهم.

[٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ) لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) الصلاة وغيرها (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) بأن اشتغل بماله وولده وترك ذكر الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا ثواب الله تعالى.

[١٠] (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) بعض ما رزقناكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) فلما يأتي يقول (رَبِّ لَوْ لا) هلّا (أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) زمانا قليلا (فَأَصَّدَّقَ) أتصدق بمالي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) في أعمالي.

[١١] (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) منتهى عمرها (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليه.

٥٦٩

٦٤ : سورة التغابن

مدنية آياتها ثماني عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) لأنه المتفضل بكل شيء (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من إيجاد وإعدام (قَدِيرٌ).

[٢] (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم حسب عقائدكم وأعمالكم.

[٣] (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بالحكمة لا لأجل اللهو (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) فإن صورة الإنسان جميلة جدا (وَإِلَيْهِ) إلى جزائه (الْمَصِيرُ) منتهى كل إنسان.

[٤] (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) تخفون من الأعمال والأقوال (وَما تُعْلِنُونَ) تظهرون (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بمضمرات القلوب الموجودة في الصدور.

[٥] (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيها الكفار (نَبَأُ) خبر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) كقوم نوح وصالح وشعيب ولوط وغيرهم (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) عاقبة أمورهم السيئة (وَلَهُمْ عَذابٌ) في الآخرة (أَلِيمٌ) مؤلم.

[٦] (ذلِكَ) الوبال والعذاب بسبب أنه كفروا بعد إتمام الحجة (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الحجج الواضحات (فَقالُوا أَبَشَرٌ) يقع على الواحد والجمع (يَهْدُونَنا) أي كيف يكون البشر رسولا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) أعرضوا عن اتباع الرسل (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أظهر غناه عن إيمانهم وطاعتهم (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) محمود في أفعاله.

[٧] (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) في الآخرة (قُلْ بَلى وَرَبِّي) قسما بربي (لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ) تخبرنّ لأجل الجزاء (بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ) البعث (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

[٨] (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ) القرآن (الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم عليه.

[٩] (يَوْمَ) إن البعث والإخبار والجزاء هو في يوم (يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) من أسماء القيامة لاجتماع الناس فيه (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) يأخذ فيه أهل الجنة منازل أهل النار ، إذ يبنى لكل إنسان منزلان : في الجنة والنار ، فيأخذ أهل الجنة منازل أهل النار ، وبالعكس ، فالتفاعل إنما هو من باب المزاوجة ، إذ لا غبن في طرف أهل الجنة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ) عملا (صالِحاً يُكَفِّرْ) يغفر (عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ) دخول الجنة (الْفَوْزُ) الوصول إلى المطلوب (الْعَظِيمُ).

٥٧٠

[١٠] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع.

[١١] (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإنها إن كانت من الله فواضح وإن كانت من غيره كالقتل فإن الله يخلي بين الإنسان وبين وصول المصيبة إليه حيث خلق الإنسان حرا مختارا. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يثبته على الصبر ، لأنه يعلم أنها بعين الله وأنه يثيبه عليها (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيجازيكم بأعمالكم.

[١٢] (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الإطاعة (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ) التبليغ (الْمُبِينُ) الظاهر ، ولا يضر التولي إلّا أنفسكم.

[١٣] (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يكلوا أمورهم إليه.

[١٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) أي بعضهم (عَدُوًّا لَكُمْ) يحملونكم على عصيان الله (فَاحْذَرُوهُمْ) خافوا منهم حتى لا يخدعوكم (وَإِنْ تَعْفُوا) عنهم بترك عقابهم (وَتَصْفَحُوا) بترك توبيخهم (وَتَغْفِرُوا) لهم ما فرط منهم مما جاز غفرانه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم (رَحِيمٌ) بهم.

[١٥] (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) امتحان لكم هل تعملون فيهما حسب أمر الله أم لا (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فلا يسبب المال والولد فوات ذلك الأجر.

[١٦] (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بقدر وسعكم وطاقتكم (وَاسْمَعُوا) أوامره (وَأَطِيعُوا) أحكامه (وَأَنْفِقُوا) في طاعته (خَيْراً) من المال فإنه عائد (لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ) يحفظ من (شُحَّ نَفْسِهِ) أي بخلها الكامن في النفس ، بأن تمكن من الإنفاق (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون.

[١٧] (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ) بأن تنفقوا في سبيله تعالى (قَرْضاً حَسَناً) بدون رياء ومنة وعصيان (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) أي يعطيكم إياه مضاعفا ، لكل واحد عشرة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) بسبب إقراضكم ف (إن الحسنات يذهبن السيئات) (١) (وَاللهُ شَكُورٌ) يشكر المحسن (حَلِيمٌ) لا يعجل بعقوبة من خالفه.

[١٨] (عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) ما حضر لدى الحواس (الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في تدبيره.

__________________

(١) سورة هود : ١١٤.

٥٧١

٦٥ : سورة الطلاق

مدنية آياتها اثنتي عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ) أردتم طلاق (النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَ) لوقت عدتهن ووقت العدة هو الطهر الذي لم يواقع المرأة فيه ، والعدة هي الأيام التي لا يجوز فيها أن تتزوج المرأة (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) اضبطوها (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) فلا تخالفوه فيما أمر (لا تُخْرِجُوهُنَ) مدة العدة (مِنْ بُيُوتِهِنَ) التي طلّقن فيها (وَلا يَخْرُجْنَ) هن بأنفسهن (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) معصية (مُبَيِّنَةٍ) ظاهرة كالزنا فتخرج لإجراء الحد ، وكإيذاء أهل الدار فتنقل إلى مكان آخر (وَتِلْكَ) الأحكام التي بينّاها (حُدُودُ اللهِ) أحكامه (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) بأن خالفها (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) حيث عرّضها على العقاب ، وإنما قلنا ببقائها في بيتها لأنك (لا تَدْرِي) العاقبة ف (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ) الطلاق (أَمْراً) بأن رغب الزوج فيها فأرجعها إلى نفسه.

[٢] (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) بأن قرب إتمام العدة (فَأَمْسِكُوهُنَ) بالرجوع إليهن (بِمَعْرُوفٍ) بحسن المعاشرة لا إمساكا للإضرار (أَوْ فارِقُوهُنَ) بأن اتركوهن حتى تنقضي عدتهن (بِمَعْرُوفٍ) لا بإضرار وخشونة (وَأَشْهِدُوا) عند الطلاق (ذَوَيْ عَدْلٍ) رجلين عادلين (مِنْكُمْ) أيها المسلمون (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ) أيها الشهود (لِلَّهِ) لوجهه تعالى ، فإذا طلب منكم أن تشهدوا فاشهدوا (ذلِكُمْ) المذكور من الأحكام و(كم) خطاب (يُوعَظُ بِهِ) بذلك (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ) بامتثال أوامره (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) خروجا من المشاكل.

[٣] (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) لا يخطر بباله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) يكل أموره إلى الله (فَهُوَ) فالله (حَسْبُهُ) كافيه (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) يبلغ ما يريده ولا يفوته أمر (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) مقدارا ، فإذا انتهى قدره صار إلى ما يخالفه.

[٤] (وَ) النساء (اللَّائِي) أي اللاتي (يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) أي الحيض (مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) شككتم بأن قطع الحيض عنها ليأس أو لعارض (فَعِدَّتُهُنَ) بعد الطلاق (ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) وهن في سن الحيض ، كذلك عدتهن ثلاثة أشهر (وَأُولاتُ) صاحبات (الْأَحْمالِ) المرأة الحامل إذا طلقت (أَجَلُهُنَ) مدة عدتهن (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) قريبا أو بعيدا (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) ييسّر أمره.

[٥] (ذلِكَ) الذي ذكر من الأحكام (أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) يغفرها (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) يعطيه أجرا عظيما في الآخرة.

٥٧٢

[٦] (أَسْكِنُوهُنَ) اسكنوا المطلقات أيها الأزواج (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) بعض مكان سكناكم (مِنْ وُجْدِكُمْ) وسعكم وطاقتكم (وَلا تُضآرُّوهُنَ) بإسكانهن ما لا يليق بهن (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) فتضطروهن إلى الخروج (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) سواء كانت بائنة أو رجعية (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا) تشاوروا لأجل السكنى والنفقة أيها الأزواج والمطلقات (بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) يقره العرف بدون التشديد والتعاسر (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) في إرضاع الولد ، بأن أرادت الزوجة أكثر من حقها ، أو أراد الزوج أن يعطي أقل من حقها ـ ولم يقبل الطرف الآخر ـ (فَسَتُرْضِعُ لَهُ) للولد امرأة (أُخْرى) غير الأم المطلقة.

[٧] (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ) والد الولد (مِنْ سَعَتِهِ) أجرة متعارفة (وَمَنْ قُدِرَ) ضيق (عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) على قدره ، فإن كل واحد مكلف بإعطاء أجرة أمثاله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا) بقدر (ما آتاها) أعطاها (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) فلا يضيق صدر الفقير حيث يرى ضيق أموره.

[٨] (وَكَأَيِّنْ) كم وهي للكثرة (مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ) طغت وتعدت (عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها) لأجل عذابها (حِساباً شَدِيداً) بعدم العفو ، عما نعفو عنه للمؤمن (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) منكرا بأن أنزلنا عليها العذاب الشديد.

[٩] (فَذاقَتْ وَبالَ) عقوبة (أَمْرِها) كفرها وعتوها (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) لا ربح فيه.

[١٠] (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) يوم القيامة بالإضافة إلى عذاب الدنيا (فَاتَّقُوا اللهَ) خافوا عذابه (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا أصحاب العقول (الَّذِينَ آمَنُوا) صفة (أولي الألباب) (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) تذكيرا للمؤمنين بهذه النعمة العظيمة.

[١١] (رَسُولاً) بدل من (ذكرا) فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكونه في كمال التذكير ، صار كأنه ذكر محض نحو : زيد عدل (يَتْلُوا) يقرأ (عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) موضحات للأمور (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي الذين هم في هذا الصدد (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمة الكفر (إِلَى النُّورِ) نور الإيمان الهادي إلى طريق السعادة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ) الله (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) أعطاه رزقا حسنا في الجنة.

[١٢] (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) سبع أرضين كل أرض حولها سماؤها وهي الكواكب السيارة أو غيرها (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ) أمر الله وحكمه (بَيْنَهُنَ) بين السماوات والأرضين إلى النبي والإمام عليهم‌السلام ، أو المراد مطلق أوامره التكوينية والتشريعية (لِتَعْلَمُوا) فعل ذلك لأن تعلموا (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) فله قدرة كاملة وعلم شامل ، إذ الخلق والأمر يقتضيان ذلك ودليلان على كمال العلم والقدرة.

٥٧٣

٦٦ : سورة التحريم

مدنية آياتها اثنتي عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) فقد ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلا بمارية فاطلعت بعض زوجاته ، فكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك وحرم على نفسه أن يخلو بمارية فنزلت السورة ، وقيل غير ذلك (تَبْتَغِي) تطلب بهذا التحريم (مَرْضاتَ) رضا (أَزْواجِكَ) أي زوجاتك (وَاللهُ غَفُورٌ) ما فعلت من التحريم (رَحِيمٌ) بك ، حيث أرشدك إلى نبذ التحريم ، ولا يخفى أنه ليس في الآيات دلالة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلف على عدم وطيها بل لعله قال : حرمت على نفسي ، مثل (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) (١) ، مضافا إلى أن عهده كان مشروطا كما سيأتي.

[٢] (قَدْ فَرَضَ) أوجب (اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ) حلّ (أَيْمانِكُمْ) عهدكم على أنفسكم فإن العهد على النفس إن لم يشتمل على الشروط المذكورة في الفقه لا يوجب تحليلا ولا تحريما (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) فهو أعرف بمصالحكم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بكل شيء (الْحَكِيمُ) في تدبيره.

[٣] (وَإِذْ) اذكر زمانا (أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال لها كلاما مخفيا ، بأن قال لحفصة : أسرّي قصة مارية فلا أقاربها بعد ذلك (فَلَمَّا نَبَّأَتْ) أخبرت الزوجة (بِهِ) بالحديث خلافا لكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنها أخبرت عائشة ، ولذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حلّ من عهده حيث كان عدم المقاربة مشروطا بأن تخفي حفصة القصة (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي أعلمه الله تعالى بأن حفصة أخبرت عائشة (عَرَّفَ) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبر حفصة (بَعْضَهُ) بعض ما ذكرته لعائشة (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) بأن لم يخبرها بجميع إفشائها له ، تكرما ، فإن عادة الكبار أن لا يتعرضوا لكل الحديث الذي يسيء الطرف المقابل أو أساءه ، بل يلمحون إليه تلميحا (فَلَمَّا نَبَّأَها) أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفصة (بِهِ) بإفشائها لحديثه معها (قالَتْ) حفصة ، متعجبة (مَنْ أَنْبَأَكَ) أخبرك يا رسول الله (هذا) بأني أفشيت حديثك إلى عائشة (قالَ) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي الله العالم بكل شيء والمطلع على الخفايا.

[٤] (إِنْ تَتُوبا) يا عائشة وحفصة من التعاون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يؤذيه (إِلَى اللهِ فَقَدْ) كانت التوبة لازمة إذ (صَغَتْ) مالت (قُلُوبُكُما) من مرضاة الله (وَإِنْ تَظاهَرا) تتعاونا (عَلَيْهِ) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يسوؤه فلا يضره تعاونكما إذ إن (اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) يلي أمره بما لا يصيبه مكروه (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) خيارهم ، وفي الرواية أن المراد به أمير المؤمنين علي عليه‌السلام (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ) بعد نصر الله وجبرئيل والمؤمنين (ظَهِيرٌ) ظهراء له وأعوان لدفع الإيذاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٥] (عَسى) لعل (رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ) مطيعات لله (تائِباتٍ) عن الذنب (عابِداتٍ) لله (سائِحاتٍ) صائمات (٢) (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً).

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٣.

(٢) السائح : الجاري ، وسمي الصائم بالسائح لجريه في الإمساك من المفطرات.

٥٧٤

[٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا) احفظوا (أَنْفُسَكُمْ) بترك المعاصي (وَأَهْلِيكُمْ) بالنصح والحفظ (ناراً) عن نار جهنم التي (وَقُودُهَا) حطب تلك النار (النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) فما ظنك بنار وقودها الحجارة والناس (عَلَيْها) خزنتها (مَلائِكَةٌ غِلاظٌ) القلوب لا يرحمون أهل النار (شِدادٌ) البطش (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) في تعذيب أهل النار فلا يقبلون الاستغاثة والضراعة ، كما في وسائط الدنيا.

[٧] فإذا عذبوا الكفرة يأخذون في الاعتذار فيقال لهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فإنه لا يلتفت إلى عذركم (إِنَّما تُجْزَوْنَ) جزاء (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا.

٥٧٥

[٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا) ارجعوا عن الآثام (إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) خالصا (عَسى) لعل إذا تبتم (رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ) يمحو (عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ) في (يَوْمَ لا يُخْزِي) لا يذل (اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) بل يعزهم ، ويذل الكفار والعصاة (نُورُهُمْ) فإن للمحشر ظلمات ، وللمؤمنين نور في وجوههم الساجدة لله وفي أيمانهم التي فيها صحائف حسناتهم (يَسْعى) يمتد شعاعه ويسير بسيرهم (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) بإدخالنا الجنة (وَاغْفِرْ لَنا) معاصينا (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من إتمام النور وغفران العصيان.

[٩] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالحرب (وَالْمُنافِقِينَ) بالكلام وما يردعهم (وَاغْلُظْ) كن غليظا شديدا (عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ) محلهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الذي يصير المنافقون إليه.

[١٠] (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) لبيان أنه كيف أنه يعاقب الكافر بكفره (لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) بالكفر (فَلَمْ يُغْنِيا) لم يفد نوح ولوط عليهما‌السلام (عَنْهُما) عن الزوجتين (مِنْ) عذاب (اللهِ شَيْئاً) فلم يتمكنا أن يدفعا عنهما ولو بعض العذاب ، فلا قربهما من النبي أفادهما ، ولا تمكن النبي من شفاعتهما (وَقِيلَ) لهما (ادْخُلَا النَّارَ) في عالم البرزخ ، قبل نار الآخرة (مَعَ الدَّاخِلِينَ) سائر الكفار والعصاة.

[١١] (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) لبيان أنه كيف يثاب المؤمن ولا يضره كفر من كان قريبا منه (لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) آسية بنت مزاحم حيث آمنت بموسى عليه‌السلام (إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ) من البناء (لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ) نفس (فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) السيئ (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) التابعين لفرعون ، فاستجاب الله لها ورأت محلها في الجنة وهي بعد في دار الدنيا.

[١٢] (وَ) امرأة أخرى ، لم يكن أحد من أطرافها كافرا ، فمثالان لقسمين من النساء (مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ) حفظت (فَرْجَها) من الحرام (فَنَفَخْنا فِيهِ) في الفرج بواسطة جبرئيل (مِنْ رُوحِنا) الروح المشرف بنسبته إلينا (١) (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) بما قال الله تعالى في شرائعه (وَكُتُبِهِ) كتب الأنبياء عليهم‌السلام (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) في جملة المطيعين لله ، ولذا اختارها الله واصطفاها.

__________________

(١) أي روح خلقناه وقد شرف بنسبته إلى الباري عزوجل.

٥٧٦

٦٧ : سورة الملك

مكية آياتها ثلاثون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (تَبارَكَ) دام وكثر خيره (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) تحت تصرفه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإحياء والإماتة وكل شيء يريده.

[٢] (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) بأن قدرهما ، أو خلقهما خلقا فيكون الموت مخلوقا أيضا (لِيَبْلُوَكُمْ) يختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) من الآخر فيجازيكم على أعمالكم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه (الْغَفُورُ) لمن يشاء.

[٣] (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) مطابقة بعضها فوق بعض (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) تناقض وعدم تناسب (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) أعده متكررا متأمّلا (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) صدوع وخلل.

[٤] (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) مرة بعد مرة (يَنْقَلِبْ) يرجع (إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) ذليلا لأنه لم ينل ما كان يترقبه من الخلل (وَهُوَ حَسِيرٌ) كليل من كثرة النظر.

[٥] (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) القريبة (بِمَصابِيحَ) الكواكب (وَجَعَلْناها) أي تلك المصابيح (رُجُوماً) شهبا ترجم (لِلشَّياطِينِ) فإن الشياطين إذا اقتربوا من الملأ الأعلى الاستراق السمع رموا بالشهب من جانب الكواكب (وَأَعْتَدْنا) هيّأنا (لَهُمْ) للشياطين (عَذابَ السَّعِيرِ) النار المستعرة الملتهبة.

[٦] (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هي.

[٧] (إِذا أُلْقُوا) أي الكفار (فِيها) في جهنم (سَمِعُوا لَها) للنار (شَهِيقاً) صوتا كصوت الحمار فيزيدهم هولا وتخويفا (وَهِيَ تَفُورُ) تغلي بهم كغلي القدر.

[٨] (تَكادُ) النار (تَمَيَّزُ) تتقطع (مِنَ الْغَيْظِ) الغضب على الكفار ، فإن النار الملتهبة يراها الإنسان كأنها تتقطّع (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها) في النار (فَوْجٌ) جماعة من الكفار (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) خزنة النار الموكلون بها (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) ينذركم من هذه النار.

[٩] (قالُوا) أي أهل النار : (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) مما تدعوننا إليه من الشرائع (إِنْ) ما (أَنْتُمْ) أيها المنذرون (إِلَّا فِي ضَلالٍ) انحراف (كَبِيرٍ) حيث تزعمون أنكم مرسلون من قبل الله.

[١٠] (وَقالُوا) أي أهل النار : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) كلام الرسل (أَوْ نَعْقِلُ) نستعمل عقولنا حتى نتّبعهم (ما كُنَّا فِي) جملة (أَصْحابِ السَّعِيرِ) النار الملتهبة.

[١١] (فَاعْتَرَفُوا) حين لا ينفع الاعتراف (بِذَنْبِهِمْ) وأنهم مذنبون (فَسُحْقاً) أي بعدا عن رحمة الله (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ).

[١٢] (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) في حال أنهم لم يروه تعالى (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) غفران لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) هو ثواب الله تعالى في الآخرة.

٥٧٧

[١٣] (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بضمائرها فكيف بما نطقتم به سرا أو جهرا.

[١٤] (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) فإن الخالق يعلم سر مخلوقه (وَهُوَ اللَّطِيفُ) النافذ علمه في الأشياء (الْخَبِيرُ) ببواطن الأمور.

[١٥] (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) ذليلة مسخرة لمنافع الناس (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) جوانبها وطرقها (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) رزق الله (وَإِلَيْهِ) إلى جزائه وحسابه (النُّشُورُ) الحياة بعد الموت.

[١٦] (أَأَمِنْتُمْ) أيها البشر من (مَنْ فِي السَّماءِ) أي الله فإن تقديره ينزل من السماء (أَنْ يَخْسِفَ) من في السماء (بِكُمُ الْأَرْضَ) بأن تبلعكم (فَإِذا هِيَ) الأرض (تَمُورُ) تضطرب بكم.

[١٧] (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) ريحا فيها صغار الحصى لأجل إهلاككم (فَسَتَعْلَمُونَ) حين ذاك (كَيْفَ نَذِيرِ) كيف كان إنذاري لكم صدقا.

[١٨] (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قبل هؤلاء الكفار (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) إنكاري عليهم بإنزال العذاب.

[١٩] (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ) في الهواء (صافَّاتٍ) باسطات أجنحتهن (وَيَقْبِضْنَ) أجنحتهن أحيانا للجري (ما يُمْسِكُهُنَ) ما يحفظهن من السقوط (إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) فهو يرى الطير ويحفظه.

[٢٠] (أم) استفهام (من) مبتدأ (هذَا) خبره (الَّذِي) صفة (هذا) (هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) أعوان لكم (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) يمنعكم من عذابه (إِنِ) ما (الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) يغرهم الشيطان بأن العذاب لا ينزل بكم.

[٢١] (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) أي الله (إِنْ أَمْسَكَ) ولم يعطكم (رِزْقَهُ) بسبب قحط ونحوه فمن يرزقكم (بَلْ لَجُّوا) أصروا (فِي عُتُوٍّ) عناد وطغيان (وَنُفُورٍ) عن الحق.

[٢٢] (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا) واقعا (عَلى وَجْهِهِ) كالذي يسحب على وجهه (أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) معتدلا (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فالكافر كالأول لأنه لا يعرف الحقائق ولا يهتدي إلى الطريق.

[٢٣] (قُلْ هُوَ) الله (الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) خلقكم (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) جمع فؤاد أي القلوب (قَلِيلاً ما) تأكيد للقلة (تَشْكُرُونَ) نعمه.

[٢٤] (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) خلقكم وأكثر نسلكم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تجمعون للجزاء.

[٢٥] (وَيَقُولُونَ) أي الكفار (مَتى هذَا الْوَعْدُ) بالعذاب الذي تعدون أنه يأخذ الكافرين (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أيها النبي والمؤمنون في وعدكم.

[٢٦] (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ) بوقته (عِنْدَ اللهِ) فإنه يعلم وقت العذاب (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ظاهر.

٥٧٨

[٢٧] (فَلَمَّا رَأَوْهُ) رأى الكفار العذاب (زُلْفَةً) اقترب منهم قربا (سِيئَتْ) قبحت واسودّت (وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) خوفا ، والمراد يوم بدر ، أو يوم القيامة ، أو وقت الموت (وَقِيلَ) قال خزنة جهنم أو عزرائيل ، أو من كان هناك عند الحرب (هذَا) العذاب هو (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) تطلبون وتستعجلون ، لقد أتاكم.

[٢٨] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين بأن أماتنا ، فلم نر عذاب الكفار في الدنيا (أَوْ رَحِمَنا) بأن أبقانا أحياء (فَمَنْ يُجِيرُ) يحفظ (الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم ، أي فهم معذبون لا محالة.

[٢٩] (قُلْ هُوَ) الذي أدعوكم إليه (الرَّحْمنُ) الذي يرحم جميع الناس (آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) في أمورنا (فَسَتَعْلَمُونَ) عند قيام الساعة (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) واضح ، أنحن أم أنتم.

[٣٠] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) غائرا في الأرض فلم يكن لكم ماء (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) ظاهر سهل المأخذ ، أفلا تشكرون الله على ذلك.

٦٨ : سورة القلم

مكية آياتها اثنتان وخمسون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (ن) رمز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالْقَلَمِ) قسما بالقلم (وَما يَسْطُرُونَ) يكتبون أي أصحاب الأقلام ، فإنه من آيات الله تصلح الحلف به.

[٢ ـ ٣] (ما أَنْتَ) يا رسول الله (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) التي أنعم عليك وهي النبوة (بِمَجْنُونٍ) فلست مجنونا بسبب النبوة كما يقول المعاندون. (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) جزاء كبيرا (غَيْرَ مَمْنُونٍ) غير مقطوع بل دائم.

[٤] (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) أي قمة الأخلاق الحسنة.

[٥] (فَسَتُبْصِرُ) أي ترى (وَيُبْصِرُونَ) يرون حين ظهر أمرك.

[٦] (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي الجنون ـ وهو مصدر ـ فإنهم كانوا يقولون إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجنون ، ولكن المجنون هو العاصي لله تعالى.

[٧] (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) فاستحق أن يسمى بالمجنون (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فهم في كمال العقل.

[٨] (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) في أقوالهم.

[٩] (وَدُّوا) تمنوا وأحبوا (لَوْ تُدْهِنُ) تلين لهم في دينك (فَيُدْهِنُونَ) يلينون لك أيضا.

[١٠] (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) كثير الحلف بالباطل (مَهِينٍ) حقير.

[١١] (هَمَّازٍ) عياب للناس (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يمشي بين الناس بالنميمة والإفساد.

[١٢] (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يمنع الناس عن عمل الخير (مُعْتَدٍ) مجاوز للحد (أَثِيمٍ) عاص لله تعالى.

[١٣] (عُتُلٍ) جاف غليظ (بَعْدَ ذلِكَ) الذي ذكر من أوصافه (زَنِيمٍ) دعيّ إذ لم يظهر له أب ، وقيل إن المراد به الوليد بن المغيرة.

[١٤] (أَنْ) لا تطعه لأنه (كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) فإنه كان يريد اتّباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له لما يتمتع به من مال وجاه بين الناس.

[١٥] (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ) هذه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أكاذيبهم وخرافاتهم.

٥٧٩

[١٦] (سَنَسِمُهُ) نعلمه بعلامة (عَلَى الْخُرْطُومِ) على أنفه ، وشبّه بالخرطوم لتكبّره وقد خطف أنفه بالسيف يوم بدر.

[١٧] (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) امتحنا هؤلاء الكفار بإرسال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) البستان ، فقد كان لرجل صالح بستان وكان يعطي الفقراء منه فلما مات قال بنوه نقطع ثمره صباحا حتى لا يحضر الفقراء فأصبحوا وقد أحرقت الثمار بالصاعقة (إِذْ أَقْسَمُوا) حلفوا أصحاب الجنة (لَيَصْرِمُنَّها) أي يقطعون ثمرها (مُصْبِحِينَ) أول دخولهم في الصباح.

[١٨] (وَلا يَسْتَثْنُونَ) سهما منها للفقراء.

[١٩] (فَطافَ) أحاط (عَلَيْها) على الجنة (طائِفٌ) والمراد به نار (مِنْ) قبل (رَبِّكَ وَ) الحال أن (هُمْ نائِمُونَ).

[٢٠] (فَأَصْبَحَتْ) الجنة (كَالصَّرِيمِ) كالمقطوع ثمره بلا ثمر أصلا.

[٢١] (فَتَنادَوْا) نادى بعضهم بعضا (مُصْبِحِينَ) في أول الصبح قائلين ب :

[٢٢] (أَنِ اغْدُوا) اخرجوا غدوة (عَلى حَرْثِكُمْ) ثمركم (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) تريدون الصرم والقطع.

[٢٣] (فَانْطَلَقُوا) ذهبوا إلى البستان (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) يتشاورون بينهم بكلام خافت قائلين :

[٢٤] (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) يدخلن البستان (الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ).

[٢٥] (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) منع (قادِرِينَ) أي زعموا أنهم قدروا على حرد الفقراء ومنعهم ف (على) متعلق ب (قادرين).

[٢٦] (فَلَمَّا رَأَوْها) الجنة وقد أحرقت (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) عن الحق.

[٢٧] (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) من ثمرها لما أردنا من منع حقها.

[٢٨] (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أعدلهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) قبلا (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) تنزّهون الله ولا تقصدون هذا القصد فإن من نزّهه سبحانه علم أنه لم يجر (١) في أمره بإعطاء الفقراء.

[٢٩] (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) ننزهه تنزيها (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) في عزمنا منع الفقراء.

[٣٠] (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) يلوم أحدهما الآخر.

[٣١] (قالُوا يا وَيْلَنا) يا سوء حالنا (إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) مجاوزين الحد.

[٣٢] (عَسى) لعل (رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) من هذه الجنة ، حيث تبنا عن ذنوبنا (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) نرغب إلى فضله.

[٣٣] (كَذلِكَ) هكذا (الْعَذابُ) في الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لعلموا أن عذاب الآخرة أكبر.

[٣٤] (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الآخرة (جَنَّاتِ) بساتين (النَّعِيمِ) ذات نعمة.

[٣٥] (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) في إعطاء الجزاء الحسن.

[٣٦] (ما لَكُمْ) أيها القائلون بتساوي الطائفتين (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) حكما بالباطل.

__________________

(١) من الجور ، أي لا يظلم أحدا حينما أمر بالإنفاق للفقراء.

٥٨٠