تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

[٧٥] (وَما لَكُمْ) استفهام إنكار (لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ) في سبيل إنقاذ (الْمُسْتَضْعَفِينَ) من أيدي المستغلين (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) جمع ولد (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) مكة (الظَّالِمِ أَهْلُها) فإن أهل مكة كانوا مشركين ظالمين (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (وَلِيًّا) يلي أمرنا (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على الظالمين ، أي قاتلوا في سبيل إنقاذ المسلمين المستضعفين من أهل مكة.

[٧٦] (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) لنصرة دينه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) لأجل تقوية الطغيان (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) أصدقاءه وهم الكفار (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ) أي مكره وخداعه (كانَ ضَعِيفاً) فلا بد وان تغلبوا عليهم.

[٧٧] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) أي بعض المسلمين حيث كانوا في مكة يستأذنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قتال الكفار فلا يأذن لهم ، فلما أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة بالقتال ، خافوا (قِيلَ) القائل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) لا تبسطوها بالقتل (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فإن التكليف في مكة كان صلاة وزكاة (فَلَمَّا كُتِبَ) أمروا في المدينة (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ) جماعة (مِنْهُمْ) أي من الذين كانوا يريدون القتال (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ) فإنهم يخافون أن يقتلوا على أيدي الكفار كما يخافون أن يموتوا بأمر الله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) اعتراض على حكم الله (لَوْ لا) هلّا (أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ) مدة (قَرِيبٍ) وذلك لاستزادة العمر وتبعيد المكروه حسب الإمكان (قُلْ) يا محمد لهم (مَتاعُ) أي ما يستمتع به (الدُّنْيا قَلِيلٌ) فما فائدة بقائكم (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) الكفر والعصيان (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) هو ما في شق النواة من الخيط الدقيق.

[٧٨] (أَيْنَما تَكُونُوا) في أي مكان كنتم (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ) حصون (مُشَيَّدَةٍ) قد شيدت وبنيت باستحكام ، إذا فما فائدة فراركم من الجهاد ، لحب البقاء فإنكم ميتون لا محالة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) أي المنافقين (حَسَنَةٌ) نعمة (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) نعمة وبلاء (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي من جهتك يا محمد (قُلْ) يا رسول الله لهم (كُلٌ) من الحسنة والسيئة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) صادر من الله فإن الله خطّط وحكم بهذه الأشياء ، وإن كان للإنسان مدخل في الأمور الاختيارية منها أيضا (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) ما شأن هؤلاء المنافقين (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) لا يقاربون فهم كلام صحيح ، كما لا يفهمون كون الله هو المقدّر لكل من الحسنة والسيئة.

[٧٩] (ما أَصابَكَ) أيها الإنسان (مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) تفضلا ، فلو لا فضله لم يعطك تلك النعمة (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) لأنك السبب في تلك السيئة ، وهذا لا ينافي الآية السابقة ، إذ مقدّر السيئة هو الله ولكن بسبب الإنسان ، فمثلا ان الإنسان إذا لم يتورع أكل الطعام الضار أصابه المرض بسبب نفسه وبإنزال الله المرض عليه (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) فإن شأنك الرسالة ولا ربط لك بما تصيبهم من السيئات (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) شاهدا على رسالتك.

١٠١

[٨٠] (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) لان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتكلم عن الله (وَمَنْ تَوَلَّى) أعرض عن أوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي منها أمره بالقتال (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تحفظ أعمالهم ، أي أنت لست مسؤولا عنهم.

[٨١] (وَيَقُولُونَ) أي المنافقون ، أمرك (طاعَةٌ) نطيعه (فَإِذا بَرَزُوا) خرجوا (مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ) أي دبّر ليلا (طائِفَةٌ مِنْهُمْ) وهم المنافقون (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) بان دبّروا مخالفتك (وَاللهُ يَكْتُبُ) في صحائف سيئاتهم (ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تهتم بشأنهم في مخالفة أمرك بالقتال (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فوّض أمرك إلى الله (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) حافظا.

[٨٢] (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يفكرون فيه حتى يعلموا انه كلام الله (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) في مطالبه وبلاغته ، إذ البشر لا يقدر على الاحتفاظ برأي ولا لهجة طيلة ثلاث وعشرين سنة.

[٨٣] (وَإِذا جاءَهُمْ) أي المنافقين (أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) أي أمر يوجب اطمئنان المسلمين وأمنهم ، أو خوفهم من أعدائهم (أَذاعُوا بِهِ) أي أفشوه ، وذلك خلاف الصلاح إذ ربّ أمن لا بد وأن يكتم فإن في إفشائه سبب اشتغال المسلمين بأعمالهم فيغتنم العدو تشتتهم ويباغتهم ، ورب خوف لا بد وان يكتم فإن في إفشائه سبب انسحاب المسلمين عن الإقدام (وَلَوْ رَدُّوهُ) أي ذكروا ذلك الأمر (إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) أصحاب الأمر الذين عينهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرجعا (لَعَلِمَهُ) علما يبين انه مما ينبغي كتمانه أو إفشائه (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) أي يستخرجون انه من أي قسم ، قسم الإفشاء أو قسم الكتمان (مِنْهُمْ) من أولي الأمر (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) يحفظكم عن الانحراف (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) منكم.

[٨٤] (فَقاتِلْ) يا رسول الله ، ولا يهمك إعراض المنافقين عن القتال (فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) فإنك مكلف بالذهاب إلى القتال (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) حثّهم على القتال (عَسَى اللهُ) لعله (أَنْ يَكُفَ) يمنع (بَأْسَ) أي شدة (الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) من الكفار (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) تعذيبا للكفار.

[٨٥] (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) كتحريضك الناس على القتال ، أي يتوسط لفعل أمر حسن (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أي من ثواب تلك الحسنة (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) أي لفعل أمر سيئ (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) نصيب من وزرها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) مقتدرا وحافظا.

[٨٦] (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) هي السلام أو مطلق البر (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) أي ردوا مثلها (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) يحاسبكم على أعمالكم.

١٠٢

[٨٧] (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي جمعا ينتهي للاجتماع في يوم المعاد (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في الحشر (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) فكلامه بجمعكم كلام صادق.

[٨٨] (فَما لَكُمْ) أيها المؤمنون (فِي) شأن (الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي أصبحتم فرقتين فرقة تقول بأنهم معذورون في تركهم القتال وفرقة تقول بأنهم مقصّرون (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) ردّهم (بِما كَسَبُوا) من ترك الحرب ، فإنه تعالى أظهر كفرهم بذلك ، فاللازم أن تقولوا كلكم بأنهم آثمون غير معذورين (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا) أن تحكموا بهداية (مَنْ أَضَلَّ اللهُ) بأن تركهم وشأنهم حتى ضلوا (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) إلى الخير.

[٨٩] (وَدُّوا) تمنوا وأحبوا هؤلاء المنافقون (لَوْ تَكْفُرُونَ) أيها المؤمنون (كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) في الكفر (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) لا تصادقوهم (حَتَّى يُهاجِرُوا) يخرجوا من دار الشرك (فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الهجرة (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا) خليلا (وَلا نَصِيراً) فإنهم لا ينصرونكم ، نزلت في جماعة أظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة نفاقا فاختلف المسلمون في إيمانهم وكفرهم.

[٩٠] (إِلَّا) استثناء من (خذوهم) (الَّذِينَ يَصِلُونَ) بالمعاهدة (إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ) أي بين ذلك القوم (مِيثاقٌ) أي معاهدة ، فإن انضمام هذا المنافق إلى المعاهد يوجب الكف عن قتاله (أَوْ جاؤُكُمْ) عطف على (يصلون) في حال كونهم قد (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أي ضاقت أنفسهم (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) فلا يريدون قتالكم ولا قتال قومهم الكفار ولذا تجنّبوا الانضمام معكم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) بتقوية قلوب هؤلاء الذين انضموا إلى قبيلة معاهدة أو حصرت صدورهم (لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) أيها المسلمون ولو فعل الله ذلك (فَلَقاتَلُوكُمْ) ولعل في هذه الجملة إشارة إلى قوة هؤلاء فينبغي اجتناب قتالهم (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) أي تنحوا عنكم (فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي سالموكم (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فلا يحق لكم قتالهم.

[٩١] (سَتَجِدُونَ) أيها المسلمون قوما (آخَرِينَ) من المنافقين (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) أي يأمنوا جانبكم وجانب قومهم الكفار (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) الشرك (أُرْكِسُوا فِيها) أي سقطوا فيها بأن كفروا ، وهم قوم جاءوا إلى المدينة فأظهروا الإسلام ، ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الكفر (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) أي لم يتنحوا عن محاربتكم (وَ) لم (يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) الاستسلام (وَ) لم (يَكُفُّوا) يمنعوا (أَيْدِيَهُمْ) بأن صاروا بصدد محاربتكم (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم (وَأُولئِكُمْ) أي أولئك المنافقون ، و(كم) خطاب (جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) حجة (مُبِيناً) واضحة ، لقتلكم إياهم ، لأنهم أظهروا عداوتهم.

١٠٣

[٩٢] (وَما كانَ) لا يجوز (لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أي قتل خطأ (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فعليه أن يعتق عبدا (مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ) مقدار من المال (مُسَلَّمَةٌ) يسلمها (إِلى أَهْلِهِ) أهل المقتول (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) بأن يتصدق أولياء المقتول الدية على القاتل (فَإِنْ كانَ) القتيل (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) من الكفار (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي المقتول كان مؤمنا فعلى القاتل تحرير (رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فقط ولا دية عليه لهم ، إذ لا يرث الكافر من المؤمن (وَإِنْ كانَ) القتيل (مِنْ قَوْمٍ) كفار (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) معاهدة عدم الاعتداء فعلى القاتل دية (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) لأن أهله الكفار في معاهدتكم (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الرقبة لان يعتقها كفارة فعليه صيام (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) متواليين (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) أي شرّع ذلك لأن يتوب الله عليه توبة (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

[٩٣] (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) مقابل قتل الخطأ (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) أي يبقى فيها أبدا ، إذا لم تدركه الشفاعة (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) أبعده الله عن رحمته (وَأَعَدَّ) هيّأ (لَهُ عَذاباً عَظِيماً).

[٩٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ) أي سافرتم (فِي سَبِيلِ اللهِ) لأجل الجهاد (فَتَبَيَّنُوا) أي اطلبوا بيان الأمر ، ولا تسرعوا في محاربة من لا تعلمون أنهم أسلموا أم لا (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) حيّاكم بتحية الإسلام (لَسْتَ مُؤْمِناً) فإن أحد الكفار أظهر الإسلام وكان له غنم فقتله أحد المسلمين بزعم أنه لم يسلم وأخذ أغنامه (تَبْتَغُونَ) أي تطلبون بقولكم (لست مؤمنا) (عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) هو ما في الدنيا من الثروة إذ لا ثبات له (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ) جمع مغنم ، تغنيكم عن عرض الحياة الدنيا ، فاطلبوها ولا تطلبوا عرض الحياة الدنيا (كَثِيرَةٌ كَذلِكَ) أي مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام (كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) فإن إسلامكم كان مجرد السلام والشهادتين (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بتقوية الإسلام في قلوبكم (فَتَبَيَّنُوا) تأملوا في حكمكم بالإسلام وعدم الإسلام (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

١٠٤

[٩٥] (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) عن الجهاد (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) أما من له ضرر كالعمى والزمانة ، فليس مكلف بالجهاد ، حتى يؤنّب بتركه (وَالْمُجاهِدُونَ) عطف على (القاعدون) (فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) أي درجة كبيرة (وَكُلًّا) أي كل واحد من المجاهد والقاعد ، الذي لم يكن قعوده مخالفة (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي الصفة الحسنة ، لأن كل واحد منهما مسلم قد عمل بشرائط الإسلام (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً).

[٩٦] (دَرَجاتٍ) بدل (أجرا) (مِنْهُ) أي من الله (وَمَغْفِرَةً) أي غفرانا لذنوبهم (وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

[٩٧] (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) أي أماتهم (الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي في حال كونهم ظلموا أنفسهم بترك أوامر الله ، وترك الهجرة (قالُوا) أي الملائكة لهم (فِيمَ) أي في ماذا من أمر دينكم (كُنْتُمْ) وهذا استفهام توبيخ (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ) عاجزين عن إقامة الدين (فِي الْأَرْضِ قالُوا) أي الملائكة لهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) بأن تخرجوا إلى أرض أخرى تتمكنوا من إقامة الدين فيها كما فعل المهاجرون إلى الحبشة والى المدينة المنورة (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ) مرجعهم (جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) أي محلا ومنزلا.

[٩٨] (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) حقيقة (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) العبيد أو الأولاد الذين بلغوا الرشد ، لكن يطلق عليهم الولد (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) أي لا يجدون أسباب الهجرة (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) أي لا يعرفون طريقا.

[٩٩] (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ) لعل (أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) لأنهم قاصرون ، وفي هذا دلالة على أن قصورهم مشوب بالتقصير أيضا (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً).

[١٠٠] (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بأن يترك وطنه إلى محل آخر (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً) متحولا ، أي محل التحول والتقلّب ، وأصله من الرغام بمعنى التراب (كَثِيراً وَسَعَةً) توسعة في الحركة والرزق (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ) يقصد إقامة أحكام الله (وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) في الطريق (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ) ثواب عمله (عَلَى اللهِ) أي لا يذهب تعبه باطلا (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

[١٠١] (وَإِذا ضَرَبْتُمْ) أي سافرتم (فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي حرج (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) بأن تصلوا الظهر والعصر والعشاء ركعتين فقط (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يصيبوكم بفتنة في الدين أو في المال ، وهذا شرط باعتبار الغالب في ذلك الوقت ، ولذا ليس له مفهوم ، مثل (وربائبكم اللاتي في حجوركم) (١) ، بل القصر مشروع في كل سفر (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) أي ظاهرا.

__________________

(١) سورة النساء : ٢٣.

١٠٥

[١٠٢] (وَإِذا كُنْتَ) يا رسول الله (فِيهِمْ) في أصحابك الخائفين الضاربين في الأرض (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) فأردت إقامة صلاة الجماعة (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) جماعة من أصحابك (مَعَكَ) في الجماعة (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) في حال الصلاة (فَإِذا سَجَدُوا) سجدة الركعة الأولى معك (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) أي وراء الجماعة الثانية الذين يأتون لإقامة الصلاة معك ، في الركعة الثانية (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) الركعة الأولى (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ) يقظتهم في أن لا يباغتهم العدو (وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ) تمنّى وأحب (الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) بان يجدوا منكم غرة في حال الصلاة (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ) يحملون ويهجمون ، ولذا أمرتم بهذه الكيفية من الصلاة ، لتكون جماعة منكم دائما في حالة حرب (مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ) لا حرج (عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً) أذية (مِنْ مَطَرٍ) بيان (أذى) (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) بأن لا تحملوها حال الصلاة لثقل السلاح وثقل اللباس حال المطر ، وضعف المريض عن حمل السلاح (وَ) لكن (خُذُوا حِذْرَكُمْ) ويقظتكم حال الصلاة (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) يهينهم ويذلهم.

[١٠٣] (فَإِذا قَضَيْتُمُ) أديتم (الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتسبيح وسائر أنواع الذكر (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي في حال القيام والقعود والاضطجاع (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) بأن زال الخوف من الكفار (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) كاملة بدون قصر (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً) أي مكتوبا مفروضا (مَوْقُوتاً) محدد الوقت.

[١٠٤] (وَلا تَهِنُوا) لا تضعفوا أيها المسلمون (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) في طلب الكفار لأجل قتالهم (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) يصيبكم الألم بسبب الجروح (فَإِنَّهُمْ) أي الكفار (يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) أنتم (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ) ثواب الله ونصره (ما لا يَرْجُونَ) أولئك الكفار (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فهو حين يأمركم بالجهاد فإنما هو لمصلحتكم.

[١٠٥] (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن (بِالْحَقِ) لا بالباطل (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) بما أعلمك الله في كتابه (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) أي لأجلهم وللدفاع عنهم (خَصِيماً) بأن تدافع عن الخائن وتكون على البريء لأجله.

١٠٦

[١٠٦] (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) اطلب غفرانه ، فإن (أبا طعمة) سرق شيئا فأتى قومه يبرئونه ويطلبون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون بجانبهم فنزلت الآيات إرشادا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

[١٠٧] (وَلا تُجادِلْ) يا رسول الله (عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ) أي يخونون (أَنْفُسَهُمْ) فإن كل معصية خيانة للنفس ، ك (أبي طعمة) ، بأن تكون في جانبه وتدافع عنه (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) مصرا على الخيانة (أَثِيماً) عاصيا.

[١٠٨] (يَسْتَخْفُونَ) أي يكتمون جرمهم ، كما كتم (أبو طعمة) وقومه سرقته (مِنَ النَّاسِ) حياء أو خوفا (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) إذ لو كتموا عن الله لزم أن لا يعصوا (وَهُوَ مَعَهُمْ) والحال أن الله معهم بالاطلاع (إِذْ يُبَيِّتُونَ) يدبرون بالليل (ما لا يَرْضى) الله (مِنَ الْقَوْلِ) فإن (أبا طعمة) وقومه دبروا الحلف الكاذب واتهام البريء وشهادة الزور ، لأجل إبراء (أبي طعمة) السارق (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) إحاطة علم وقدرة.

[١٠٩] (ها) للتنبيه (أَنْتُمْ) يا قوم أبي طعمة (هؤُلاءِ) هم الذين (جادَلْتُمْ) خاصمتم (عَنْهُمْ) دفاعا عن الخائنين (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي الحياة القريبة (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) استفهام للنفي ، أي فلا أحد يدافع عن الخائنين أمام الله (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) ليدافع عنهم ويحفظهم من عذاب الله.

[١١٠] (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) عصيانا يتعداه إلى غيره كالسرقة (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بعصيان لا يتعدى إلى غيره كترك الصلاة (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) يطلب غفرانه (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً).

[١١١] (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً) بأن يعمل المعصية (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) لان ضرر ذلك العصيان يرجع إلى نفسه (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بعمله (حَكِيماً) في عقابه.

[١١٢] (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) صغيرة (أَوْ إِثْماً) كبيرة (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) أي ينسب ذلك الإثم (بَرِيئاً) كما نسب أبو طعمة السرقة إلى شخص بريء (فَقَدِ احْتَمَلَ) تحمّل (بُهْتاناً) كذبا (وَإِثْماً مُبِيناً) أي ظاهرا فعليه عقابان.

[١١٣] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) يا رسول الله (وَرَحْمَتُهُ) بإرشادك إلى سرقة (أبي طعمة) وبراءة ذلك الرجل (لَهَمَّتْ) أي قصدت (طائِفَةٌ مِنْهُمْ) وهم قوم أبي طعمة (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن الحكم بالحق في باب السارق (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لان وبال ما هموا به يرجع إلى أنفسهم (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) بسبب كيدهم (وَ) كيف تضل والحال أنه (أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من العلم بأحوال الناس (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

١٠٧

[١١٤] (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) أي تناجيهم ، كما كان يناجي قوم (أبي طعمة) بعضهم من بعض لأجل تبرئة السارق (إِلَّا) نجوى (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) كأعمال البر (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) النجوى لأجل الخير (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ) أي يطلب رضا (اللهِ فَسَوْفَ) في الآخرة (نُؤْتِيهِ) نعطيه (أَجْراً عَظِيماً).

[١١٥] (وَمَنْ يُشاقِقِ) يخالف (الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ) ظهر (لَهُ الْهُدى) بأن خالف حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) فإن سبيل المؤمنين الأخذ بأقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) أي نخلي بينه وبين ما أراده من الضلال (وَنُصْلِهِ) نذيقه (جَهَنَّمَ وَساءَتْ) جهنم (مَصِيراً) له.

[١١٦] (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إذا مات المشرك على شركه (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) ما سوى الشرك من المعاصي (لِمَنْ يَشاءُ) ممن اقتضت المصلحة غفرانه (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَ) وتاه عن طريق الحق (ضَلالاً بَعِيداً) ابتعد بعدا كبيرا عن الطريق.

[١١٧] (إِنْ) بمعنى (ما) (يَدْعُونَ) هؤلاء المشركون (مِنْ دُونِهِ) دون الله (إِلَّا إِناثاً) أصناما مؤنثة كاللات والمناة والعزى (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً) لأنه أمرهم بعبادة الأصنام (مَرِيداً) عاتيا خارجا عن الطاعة.

[١١٨] (لَعَنَهُ اللهُ) جملة إنشائية ، أي اللهم العن الشيطان (وَقالَ) الشيطان (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً) أي قسما (مَفْرُوضاً) أي مقطوعا لنفسي بمعنى إضلالهم عن الطريق.

[١١٩] (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الحق (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) بالأماني الباطلة الموجبة لاتباع الهوى (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَ) يقطعن (آذانَ الْأَنْعامِ) فإنهم كانوا يقطعون آذان بعض الأنعام علامة لتحريمها ، والحال أنها كانت محلّلة في الشريعة (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) بالمثلة ونحوها (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) يتولاه في إطاعة أمره (مِنْ دُونِ اللهِ) بإيثار طاعة على طاعة الله (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) ظاهرا حيث خسر نفسه.

[١٢٠] (يَعِدُهُمْ) الشيطان بالوعود الكاذبة (وَيُمَنِّيهِمْ) بالأماني الباطلة (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي إيهام النفع والحال انه لا نفع فيه بل ضرر وخسران.

[١٢١] (أُولئِكَ) الذين اتخذوا الشيطان وليا (مَأْواهُمْ) محلهم (جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها) عن جهنم (مَحِيصاً) أي مخلصا ومهربا.

١٠٨

[١٢٢] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ) أي وعد الله ذلك وعدا (حَقًّا) أي ليس وعدا باطلا وكذبا (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) أي قولا ، وهذا استفهام إنكار.

[١٢٣] (لَيْسَ) تقدم الدنيا وثواب الآخرة يحصل (بِأَمانِيِّكُمْ) أيها المسلمون ، والأماني جمع أمنية (وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود والنصارى ، بل (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) عملا سيئا (يُجْزَ بِهِ) أي بذلك العمل ، كما أن من عمل حسنا يجز به (وَلا يَجِدْ لَهُ) أي لعامل السوء (مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) يلي شأنه حسب ما يحب (وَلا نَصِيراً) ينصره.

[١٢٤] (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي من هذا الجنس (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ) أي في حال كونه (مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) النقرة التي في ظهر النواة.

[١٢٥] (وَمَنْ أَحْسَنُ) استفهام للتقرير (دِيناً) أي طريقة (مِمَّنْ أَسْلَمَ) بأن استسلم إلى الله في كل أوامره (وَجْهَهُ) أي ذاته (لِلَّهِ وَ) الحال (هُوَ مُحْسِنٌ) في أعماله (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ) أي طريقة (إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي في حال كون إبراهيم عليه‌السلام مائلا عن الباطل إلى الحق (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) يحبه كما يحب الخليل خليله ، فهل هناك طريقة أحسن من طريقته.

[١٢٦] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) إحاطة علم وقدرة.

[١٢٧] (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أي يسألونك يا رسول الله عن الفتوى في باب أحكام النساء (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) أي يبين حكمهنّ (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) عطف على (يفتيكم) أي أن أحكام النساء تبين هاهنا ، وفي ما تقدم من القرآن في أول سورة النساء ، و(يتلى) بمعنى الماضي (فِي يَتامَى النِّساءِ) ظرف ل (يتلى) والمراد اليتيمات (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَ) لا تعطونهن (ما كُتِبَ لَهُنَ) من الميراث (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) فقد كان الرجل يضم اليتيمة إلى نفسه ، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل إرثها وإلّا عضلها ليرثها ويأكل حقوقها (وَ) في (الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) أي الأيتام فإنهم كانوا لا يورثونهم ، كما لا يورثون النساء (وَ) يفتيكم في (أَنْ تَقُومُوا) من القيام بالأمر (لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي بالعدل في أنفسهم وأموالهم (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) بيان (ما) فلا يضيع خيركم بالنسبة إلى الأيتام (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً).

١٠٩

[١٢٨] (وَإِنِ امْرَأَةٌ) هذا من جملة الأحكام التي يفتيكم بها الله ، كما سيأتي فتواه تعالى بالنسبة إلى الإرث في آخر السورة (خافَتْ مِنْ بَعْلِها) زوجها (نُشُوزاً) ترفعا عنها بمنع حقوقها (أَوْ إِعْراضاً) بأن يتركها أصلا (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي على الزوجين (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما) بأن تهب بعض حقوقها للإصلاح (صُلْحاً) بأي نوع كان من الصلح (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) لأنه يوجب بقاء الأسرة (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) البخل ، أي جعلت الأنفس مجبولة على البخل ، فالبخل حاضر عندها لا يفارقها ، فلا الرجل يسمح بإرضاء المرأة بالمال ، ولا المرأة تسمح ببعض مهرها لبقاء بيتها عامرة بالزوج (وَإِنْ تُحْسِنُوا) بالمعاشرة بالمعروف (وَتَتَّقُوا) عن المحرمات (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم بأعمالكم.

[١٢٩] (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) أيها الرجال (أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) بين زوجاتكم المتعددة عدلا بقول مطلق من حيث الميل القلبي ومن سائر اللوازم الجسدية (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) لان رغبات الإنسان ليست تحت اختياره ، إذا فالمأمور به من العدل هو ما تحت اختياركم (فَلا تَمِيلُوا) إلى إحداهنّ (كُلَّ الْمَيْلِ) بأن تتركوا بالنسبة إلى الأخرى حتى ما تقدرون عليه من العدل (فَتَذَرُوها) أي تدعون من لا رغبة قلبية لكم إليها (كَالْمُعَلَّقَةِ) أي كالمرأة المعلقة لا ذات زوج ولا بلا زوج ، بل لا بأس بميلكم إلى إحداهن إذا أديتم حق الأخرى ، ولا يخفى أن هذه الآية تلائم الآية الأخرى ، وهي قوله سبحانه : (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) (١) ، فإن تلك الآية لبيان وجوب العدل الميسور ، وهذه الآية لبيان انه فيما لا يمكن العدل بقول مطلق فعليكم العدل بالقدر الميسور ، فالآيتان هكذا : إذا لم يتمكن الرجل من العدالة أصلا فليأخذ واحدة ، وإن تمكن من العدالة الممكنة فليعدل ولا يترك إحداهما بدون نصيب لها من العدل (وَإِنْ تُصْلِحُوا) أمر العائلة بترك الميل الكلي (وَتَتَّقُوا) الله بأن تخافوه فلا تتعرضوا لعقابه في ترك الزوجة (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) لما ليس تحت اختياركم العرفي (رَحِيماً).

[١٣٠] (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي الزوجان بالطلاق ، حال ما صار بينهما شقاق (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) منهما (مِنْ سَعَتِهِ) يغني الزوج بزوجة أخرى ، والزوجة بزوج آخر (وَكانَ اللهُ واسِعاً) في إنفاقه وإغنائه (حَكِيماً).

[١٣١] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لسعة الله تعالى (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) السماوي كاليهود والنصارى (مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) أي وصيناكم (أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا) وتجحدوا الله ، أو لم تعملوا بأوامره (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يضره كفركم (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) محمودا في أفعاله.

[١٣٢] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) حافظا ومدبرا لخلقه فمن عمل بأوامره كفاه ما أراد.

[١٣٣] (إِنْ يَشَأْ) الله (يُذْهِبْكُمْ) يفنيكم (أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) بأن يخلق أناسا آخرين (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ) الإفناء والإيجاد (قَدِيراً) فلا يحتاج إليكم.

[١٣٤] (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) أي خيرها ، فليطلبه من عند الله تعالى (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فكل خير بيده (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

__________________

(١) سورة النساء : ٣.

١١٠

[١٣٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) دائمي القيام في كل الأمور (بِالْقِسْطِ) بالعدل (شُهَداءَ لِلَّهِ) بأن تشهدوا شهادة حق (وَلَوْ) كانت الشهادة (عَلى أَنْفُسِكُمْ) بأن تضركم الشهادة (أَوِ) الشهادة على (الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أقربائكم (إِنْ يَكُنْ) المشهود له أو المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي إنه عزوجل أولى بأن تراعوه فتشهدوا على الغني ، ولنفع الفقير ، بأن لا تتركوا الشهادة على الغني لأنه غني ، أو لنفع الفقير لعدم الاعتناء به (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) في أن تشهدوا باطلا ، أو تتركوا الشهادة الحقة ل (أَنْ تَعْدِلُوا) عن الحق (وَإِنْ تَلْوُوا) ألسنتكم عن الشهادة الصحيحة (أَوْ تُعْرِضُوا) بأن لا تشهدوا أصلا (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم على أعمالكم.

[١٣٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في الظاهر (آمَنُوا) إيمانا قلبيا واقعيا (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ) القرآن (الَّذِي نَزَّلَ) الله (عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ) الله (مِنْ قَبْلُ) أي جنس الكتب السماوية (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَ) عن طريق الحق (ضَلالاً بَعِيداً) فهو بعيد عن طريق الهداية والرشاد.

[١٣٧] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) كاليهود آمنوا بموسى عليه‌السلام ثم كفروا بعبادة العجل ثم آمنوا وتابوا ، ثم كفروا بعيسى عليه‌السلام ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو المراد المنافقون الذين تارة آمنوا وتارة كفروا وهكذا حتى ترسخ فيهم النفاق (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لأن أمرهم انتهى إلى الكفر (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) إلى الجنة ، أو لا يلطف بهم لطف الخاص.

[١٣٨] (بَشِّرِ) على سبيل الاستهزاء ، لان البشارة إنما تستعمل في الخير فقط (الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) مؤلما.

[١٣٩] (الَّذِينَ) صفة المنافقين (يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أصدقاء حقيقيين (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ) استفهام إنكار ، أي هل يطلب هؤلاء المنافقون (عِنْدَهُمُ) أي عند الكافرين (الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فلا يعز إلا أولياءه.

[١٤٠] (وَ) كيف تتخذون الكافرين أولياء وتجالسونهم والحال انه (قَدْ نَزَّلَ) الله (عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) القرآن (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) مع الكفار المستهزئين (حَتَّى يَخُوضُوا) أي يدخلوا (فِي حَدِيثٍ) كلام (غَيْرِهِ) غير الاستهزاء والكفر (إِنَّكُمْ إِذاً) إذا قعدتم إليهم (مِثْلُهُمْ) في كونكم في شقاق مع المسلمين (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً).

١١١

[١٤١] (الَّذِينَ) بدل من (الذين يتخذون) (يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أي ينتظرون وقع أمر بكم (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ) وتقدم ونصر (مِنَ اللهِ قالُوا) أي المنافقون (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) فأسهموا لنا من الغنائم (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) بأن غلب الكفار على المسلمين ، فكان لهم حظ في الغلبة (قالُوا) أي المنافقون (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) نستولي عليكم أيها الكفار (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنا منعناكم عن أن يصيبكم المؤمنون بمكروه بما أرشدناكم من أسرارهم ، فأعطونا حق عملنا لكم (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أيها المؤمنون والمنافقون (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيظهر نفاق هؤلاء وخلوصكم أنتم (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) أي طريقا للغلبة عليهم غلبة كاملة بالقوة والحجة ، فإنهم إن غلبوا بالقوة لن يغلبوا بالحجة.

[١٤٢] (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) يفعلون فعل المخادع فيظهرون الإيمان ويبطنون النفاق (وَهُوَ خادِعُهُمْ) يقبلهم مسلمين في الدنيا ويعاملهم معاملة الكافرين في الآخرة (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) في حالة الكسالة ، لأنهم لا يعتقدون بالصلاة (يُراؤُنَ النَّاسَ) أي يصلون صلاة ريائية (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) أذكار ظاهرة ريائية.

[١٤٣] (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) مترددين بين الإيمان والكفر (لا إِلى هؤُلاءِ) المؤمنين (وَلا إِلى هؤُلاءِ) الكافرين ، حيث ظاهرهم إيمان وباطنهم الكفر (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يتركه حتى يضل ، لأنه لم يقبل الهداية (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) إلى الهداية والحق.

[١٤٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أصدقاء كما يصنع المنافقون (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) بل اتخذوا المؤمنين أولياء لكم (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) حجة (مُبِيناً) واضحا ، إذ اتخاذ الكافرين أولياء يكون سببا لعذاب الله لكم بهذه الحجة الواضحة.

[١٤٥] (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ) الطبق (الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) في قعر جهنم لأنهم زادوا على الكفر الواقعي غش المسلمين وخيانتهم (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) ينصرهم بإخراجهم من النار.

[١٤٦] (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن النفاق (وَأَصْلَحُوا) حالهم (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) تمسكوا به (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) لا يريدون إلا وجهه بلا رياء (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) في عدادهم (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً).

[١٤٧] (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) استفهام إنكار ، أي أية فائدة تكون لله إذا عذّبكم (إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً) يشكر إيمانكم (عَلِيماً) بحالكم.

١١٢

[١٤٨] (لا يُحِبُّ اللهُ) أي يكره (الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) أن يجهر الإنسان ويظهر القول السيئ بالنسبة إلى شخص (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بأن يشكو المظلوم ظالمه (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) لكلامكم (عَلِيماً) بأحوالكم.

[١٤٩] (إِنْ تُبْدُوا) تظهروا (خَيْراً) عمل خير (أَوْ تُخْفُوهُ) بأن تأتوا بالخير خفية (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) بأن لا تقابلوه بالمثل ولا تعطوا جزاء المسيء (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا) يعفو عنكم (قَدِيراً) على كل شيء ومع ذلك يعفو عن المذنب.

[١٥٠] (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) الرسل كاليهود والنصارى (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) الإيمان التام (سَبِيلاً) طريقا جديدا لا إيمان محض ولا كفر محض.

[١٥١] (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) أي كفرا ثابتا ، إذ الكفر هو إنكار شيء من أصول الدين (وَأَعْتَدْنا) هيّأنا (لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) يهينهم ويذلهم.

[١٥٢] (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) من الرسل بل آمنوا بالكل (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) بالثواب (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

[١٥٣] (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) جملة كما نزلت التوراة جملة ، وهذا السؤال تعنتي ، إذ يكفي الكتاب المنزل تدريجا حجة وإعجازا (فَقَدْ سَأَلُوا) أهل الكتاب (مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) الذي طلبوا منك (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) حتى نشاهده علنا ، لا برؤية القلب (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) جاءت صاعقة وقتلتهم (بِظُلْمِهِمْ) أي بسبب ظلمهم بهذا السؤال (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلها (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) الأدلة الواضحات (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) أي اتخاذهم العجل (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) حجة ظاهرة.

[١٥٤] (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) بأن قطعت قطعة من الجبل ورفعت فوق رؤوسهم ، بالإعجاز (بِمِيثاقِهِمْ) أي بسبب أن يقبلوا التوراة فإذا لم يعطوا العهد وقع الجبل عليهم (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) وثيقا ، لكنهم نقضوه أيضا.

١١٣

[١٥٥] (فَبِما) أي بسبب (نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) بما في التوراة والإنجيل (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) تأكيد (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع (أغلف) أي في غلاف فلا تعي قولك يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) أي على قلوبهم ، وطبع الله أن يجعل عليه علامة تدل على عنادهم (بِكُفْرِهِمْ) أي بسبب كفرهم (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) منهم ، من لم يسلك العناد.

[١٥٦] (وَبِكُفْرِهِمْ) أي بسبب كفرهم (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) وهو رميها بالفاحشة.

[١٥٧] (وَقَوْلِهِمْ) افتخارا واجتراء على الله (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) بأن وقع شبه المسيح على رئيس اليهود فقتلوه ورفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في قتل المسيح عليه‌السلام هل قتل أم لا (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) تردد من قتله (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) أي لكنهم يتبعون الظن في قولهم قتل (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً).

[١٥٨] (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) إلى محل كرامته في السماء الرابعة (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغلب على ما أراد (حَكِيماً).

[١٥٩] (وَإِنْ) نفي ، أي ليس أحد (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أي بالمسيح عليه‌السلام (قَبْلَ مَوْتِهِ) حين ينزل إلى الدنيا في زمان الإمام المهدي (عج) (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ) المسيح عليه‌السلام (عَلَيْهِمْ) أي على أهل الكتاب (شَهِيداً) بأنهم آمنوا به أو لم يؤمنوا ، وفي معنى الآية احتمال آخر.

[١٦٠] (فَبِظُلْمٍ) أي بسبب ظلم (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) اليهود (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) كانت حلالا لهم قبل ذلك ، كلحوم الأنعام ، حرّمت مجازاة كما تقدم (وَبِصَدِّهِمْ) أي منعهم الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) أي صدا كثيرا.

[١٦١] (وَ) بسبب (أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) عن الأخذ (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) بالرشوة ونحوها (وَأَعْتَدْنا) أي هيّأنا (لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) دون من تاب وآمن (عَذاباً أَلِيماً) مؤلما.

[١٦٢] (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) الثابتون (فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) من اليهود (وَالْمُؤْمِنُونَ) أي سائر المؤمنين (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) إنما نصب (المقيمين) للإلفات ، ونصبه على المدح ، أي المؤمنون بك وبالكتب السابقة (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي معطونها (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قدّم أولا الإيمان بالأنبياء ثم الأيمان بالله والمعاد (أُولئِكَ) كل أولئك المتقدم وصفهم (سَنُؤْتِيهِمْ) سنعطيهم في الآخرة (أَجْراً عَظِيماً).

١١٤

[١٦٣] (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أولاد يعقوب عليه‌السلام الذين كانوا أنبياء (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا) أعطينا (داوُدَ زَبُوراً).

[١٦٤] (وَ) أرسلنا (رُسُلاً) آخرين (قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي قبل هذا المقام (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) بأن خلق الصوت فسمعه الكليم عليه‌السلام.

[١٦٥] (رُسُلاً) أرسلناهم (مُبَشِّرِينَ) بالثواب (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) بأن يقولوا لو أرسلت إلينا رسلا لاهتدينا (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).

[١٦٦] (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) إن لم يشهد الكفار وأهل الكتاب ، وشهادة الله إجراء المعاجز على يديه (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) أنه حق (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) فلم يكن ذلك نسيانا أو خطأ (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أيضا (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) لان شهادة الله بإجراء المعجز كافية في الإثبات.

[١٦٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بأن منعوا غيرهم عن الإيمان (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) عن الحق.

[١٦٨] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ذنوبهم (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) بعد أن عاندوا.

[١٦٩] (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي في جهنم (أَبَداً) دائما (وَكانَ ذلِكَ) الإدخال في النار خالدا (عَلَى اللهِ يَسِيراً).

[١٧٠] (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِ) فليس باطلا (مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) أي يكون الإيمان أحسن لكم (وَإِنْ تَكْفُرُوا) فلا يضر الله بل يضركم (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

١١٥

[١٧١] (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا) لا تجاوزوا الحد (فِي دِينِكُمْ) كما غلا اليهود في عزير عليه‌السلام والنصارى في المسيح عليه‌السلام (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) فإنه واحد لا شريك له (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وليس ابن الله ، بل هو (رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) الكلمة ما يلقيه الإنسان بواسطة الفم ، شبه بها المسيح عليه‌السلام لأن الله أوجده بأمره وقوله : (كن) (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) أي روح مخلوقة من قبل الله تعالى (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي آلهة ثلاثة : الله والمسيح ومريم (انْتَهُوا) عن القول بالتثليث ، يكن (خَيْراً لَكُمْ) في دنياكم وأخراكم (إِنَّمَا اللهُ) (إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ) أنزهه تنزيها (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فليس شيء شبيها له حتى يكون ولدا له (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فهو مستغن ، والغني لا يحتاج إلى اتخاذ الولد.

[١٧٢] (لَنْ يَسْتَنْكِفَ) أي لا يأنف (الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا) يستنكف (الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أن يكونوا عباد الله (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) يترفع عن العبادة (فَسَيَحْشُرُهُمْ) أي يجمعهم (إِلَيْهِ) أي إلى جزائه (جَمِيعاً) المستنكف وغير المستنكف.

[١٧٣] (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي يعطيهم جزاء أعمالهم (وَيَزِيدُهُمْ) أي زيادة على مقدار ثوابهم (مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ) الله (عَذاباً أَلِيماً) مؤلما (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) يتولى شؤونهم بالحسنى (وَلا نَصِيراً) ينصرهم من عذاب الله.

[١٧٤] (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ) دليل وحجة (مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً) يهدي الإنسان إلى دروب الحياة الحالكة (مُبِيناً) واضحا وهو القرآن.

[١٧٥] (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي تمسكوا به (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) زيادة على استحقاقهم (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً) إلى طريق (مُسْتَقِيماً).

١١٦

[١٧٦] (يَسْتَفْتُونَكَ) يا رسول الله ، أي يسألونك عن حكم الكلالة ، وهم اخوة الميت (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) يبين لكم حكمها (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) مات و (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ولا أبوان (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) والنصف الآخر يعطى إذا لم يكن وارث آخر (وَهُوَ) أي الأخ (يَرِثُها) يرث الأخت إن ماتت الأخت (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها) للأخت (وَلَدٌ) ولا أبوان (فَإِنْ كانَتَا) أي الأختان (اثْنَتَيْنِ) أو أكثر (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ) من التركة والباقي لهما ، إذا لم يكن له وارث آخر (مِمَّا تَرَكَ) الميت (وَإِنْ كانُوا) اخوة الميت (إِخْوَةً) ولو اثنين ذكرا وأنثى (رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) للأخت واحد وللأخ اثنان (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) الأحكام (أَنْ تَضِلُّوا) أي لئلا تضلوا عن الطريق المستقيم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

٥ : سورة المائدة

مدنية آياتها مائة وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي العقد الذي تعقدونه في بيع أو شراء أو ما أشبه ، والعقد الذي بينكم وبين الله ، ومنه تحليل الأنعام ، فلا تحرموها كأهل الجاهلية واليهود (أُحِلَّتْ) أي حلال (لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الأنعام هي الإبل والبقر والغنم وغيرها ، والبهيمة الحيوان الذي لا يتكلم (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي يقرأ عليكم انه محرم ، كما في آية (حرمت عليكم الميتة) (١) في حال كونكم (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أي لا تحلون الصيد في حال الإحرام (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من التحليل والتحريم حسب المصالح.

[٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) جمع شعيرة وهي الأمر المربوط بالله ، فلا تتعدوها ، بل قفوا عند أمر الله تحليلا وتحريما (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) فلا تقاتلوا فيه (وَلَا الْهَدْيَ) ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ، فلا تأخذوه وتتصرفوا فيه (وَلَا الْقَلائِدَ) هي الهدي الذي يجعل في عنقه قلادة إبان الحج (وَلَا آمِّينَ) قاصدين (الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي الحج بأن لا تصدوا الناس عن الحج ، في حال كون الآمين (يَبْتَغُونَ) يطلبون (فَضْلاً) ثوابهم (مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) رضاية منه تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ) عن الإحرام (فَاصْطادُوا) أي يجوز لكم الصيد ، أما في حال الإحرام فلا يجوز (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي شدة عداوتهم (أَنْ صَدُّوكُمْ) أي لأن منعوكم عام الحديبية (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) حيث أردتم زيارته (أَنْ تَعْتَدُوا) مفعول (لا يجرمنكم) ، أي لا يسبب ذلك تعديكم عليهم بالقتل والأسر والنهب (وَتَعاوَنُوا) يعين بعضكم بعضا (عَلَى الْبِرِّ) الأعمال الحسنة (وَالتَّقْوى) الاتقاء عن المعاصي (وَلا تَعاوَنُوا) لا يعين بعضكم بعضا (عَلَى الْإِثْمِ) المعصية (وَالْعُدْوانِ) التعدي والظلم (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فلا تخالفوه حتى تبتلوا بعقابه.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

١١٧

[٣] (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ما لم يذكّ من الحيوان (وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي الحيوان الذي لم يذكر اسم الله عليه حال ذبحه ، والضمير راجع إلى (ما) (وَالْمُنْخَنِقَةُ) الحيوان الذي مات بالخنق (وَالْمَوْقُوذَةُ) الحيوان الذي مات بشدة الضرب (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الذي مات بسبب السقوط من مكان عال (وَالنَّطِيحَةُ) الحيوان الذي نطحه حيوان آخر فمات (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) بأن افترسه السبع فمات (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أدركتم ذكاته من الحيوانات المذكورات ، ما عدا الخنزير (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) الأصنام ، أي ما سمّي عليه الصنم حين ذبحه (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا) أي حرام ما قسمتموه (بِالْأَزْلامِ) أي السهام ، وهذا حرام لكونه قمارا (ذلِكُمْ) المتناول للمذكورات (فِسْقٌ) خروج عن طاعة الله ومحرّم (الْيَوْمَ) وبعد قوة الإسلام ونصب الخليفة (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) من أن ينالوه بسوء لقوة الإسلام خصوصا بعد أن عيّن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخليفة القائم مقامه وهو الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام (فَلا تَخْشَوْهُمْ) أن يقهروكم (وَاخْشَوْنِ) فلا تخالفون أوامري (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وإكماله بنصب عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام في غدير خم ، بعد حجة الوداع (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بولاية عليّ عليه‌السلام (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) من بين الأديان ، فإنه قبل الكمال لم يكن رضا كاملا ، وإنما الرضا المطلق حصل بعد نصب الخليفة (١) (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) مجاعة ، بأن اضطر إلى أكل المحرمات التي ذكرت ، في حال كونه (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) أي غير متمايل (لِإِثْمٍ) بان لا يأكل تلذذا بل اضطرارا (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بعباده لذا يبيح للمضطر المحرمات.

[٤] (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) فإنهم بعد ما علموا المحرمات سألوا عن المحللات (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهي كل ما لم يأت عليه تحريم (وَ) أحل لكم صيد (ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) أي الحيوانات التي تجرح الصيد والمراد بها الكلاب إذا كانت معلّمة ، بأن علمها الإنسان ذلك (مُكَلِّبِينَ) أي حال كونكم صاحبي كلاب (تُعَلِّمُونَهُنَ) أي تعلمون الكلاب الاصطياد (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) من طرق التأديب ، فإن علم الإنسان إنما هو إلهام من الله (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) أي أخذن تلك الكلاب وقتلنه (عَلَيْكُمْ) أي لأجلكم (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي سمّوا الله عند إرسال الكلاب (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تنالوا محرماته (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فإن كل آت قريب.

[٥] (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ليس المراد الحرمة قبل هذا اليوم بل بيان هذا الحكم إنما كان في هذا اليوم (وَطَعامُ) أي الحبوب (٢) ، ولذا يقال بيّاع الطعام ، لبائعي الحبوب ، ولذا يعنونون الفقهاء مسألة (بيع الطعام) مريدين به الحبوب ، فالطعام منصرف إليها (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌ) حلال (لَكُمُ) والتخصيص بأهل الكتاب لأنهم محل ابتلاء المسلمين ، كما أن العكس أيضا كذلك وهو : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) فالتخصيص لما ذكر وإلا فطعام المسلم حلّ حتى لغير أهل الكتاب (وَ) أحل لكم (الْمُحْصَناتُ) أي النساء العفيفات بأن تتزوجوهن (مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)

__________________

(١) وهناك حكمة في جعل آية الولاية في هذا الموضع ، مذكورة في المفصلات.

(٢) أهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام ، عنوا به البر خاصة ، وقال الخليل : إن الطعام هو البر خاصة. راجع لسان العرب ج ١٢ ص ٣٦٤.

١١٨

اليهود والنصارى (إِذا آتَيْتُمُوهُنَ) أعطيتموهن (أُجُورَهُنَ) مهورهن في حال كونكم (مُحْصِنِينَ) أعفاء (غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي غير زانين ، بأن لا تزنوا معهن جهرا (وَلا مُتَّخِذِي) أي لا تتخذوا (أَخْدانٍ) تزنون بهن سرا ، والخدن الصديق يقال للذكر والأنثى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) بمقتضيات الإيمان من العمل بالأحكام ، والمراد بالكفر الكفر العملي (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) لم يستحق ثوابه (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أعمارهم ولم يحصلوا جزاء حسنا.

١١٩

[٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ) أردتم القيام (إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) المراد منتهى المغسول لا منتهى الغسل فلا يفيد العكس (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) بعض رؤوسكم (وَ) امسحوا (أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وهما قبتا القدمين (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) وأردتم الصلاة (فَاطَّهَّرُوا) اغتسلوا (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) جمع مريض ، بحيث يضركم الماء (أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) الموضع المنخفض من الأرض ، كنّي به عن الحدث (أَوْ لامَسْتُمُ) جامعتم (النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) للغسل (فَتَيَمَّمُوا) أي اقصدوا (صَعِيداً) أرضا (طَيِّباً) طاهرا (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) بعض وجوهكم (وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي من ذلك الصعيد ، بأن تضربوا اليد عليه ثم تمسحوا (ما يُرِيدُ اللهُ) في أمره بالطهارة ماء وتيمما (لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي يضيق عليكم (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الأقذار المعنوية والظاهرية (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بتشريعه ما يسبب نظافتكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه سبحانه.

[٧] (وَاذْكُرُوا) لأجل الشكر ، ولأجل العمل (نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام وسائر النعم (وَ) اذكروا (مِيثاقَهُ) عهده (الَّذِي واثَقَكُمْ) عاهدكم (بِهِ) عند مبايعتكم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره ونواهيه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بالخفيات التي في صدوركم من نواياكم الحسنة والسيئة.

[٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) دائمي القيام (لِلَّهِ) لأجله سبحانه (شُهَداءَ) تشهدون (بِالْقِسْطِ) بالعدل ، لا بشهادة الزور (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) يحملنّكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) عداوتهم لكم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) بالنسبة إليهم بأن تزيدوا في الانتقام منهم (اعْدِلُوا) فيهم وفي غيرهم (هُوَ) أي العدل (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أقرب إلى الخوف من الله (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فلا تجاوزوا حدوده.

[٩] (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

١٢٠