تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

[٦٣] (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة (مِنْ رَبِّي) على توحيده وعلى رسالتي (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) نبوة (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) من يمنعني عن عذاب الله إن لم أبلغ رسالته (فَما تَزِيدُونَنِي) بما تقولون لي (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أن أنسبكم إلى الخسران ، فكلامكم لا يؤثر في عدم تبليغي بل يؤثر فيّ أن أقول أنكم خاسرون.

[٦٤] (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ) الإضافة للتشريف ، وقد كانت ناقة خرجت من الجبل عظيمة جدا (لَكُمْ آيَةً) علامة على صدقي (فَذَرُوها) اتركوها (تَأْكُلْ) من العشب (فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) لا تسيئوا إليها (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) عاجل.

[٦٥] (فَعَقَرُوها) جرحوها (فَقالَ) صالح عليه‌السلام لهم (تَمَتَّعُوا) عيشوا (فِي دارِكُمْ) بلدكم في الحياة (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) فقط (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) فيه فقد وعدني الله بذلك صدقا.

[٦٦] (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بعذاب القوم (نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) فلو لا الرحمة لم يهدهم الله حتى ينجهم (وَمِنْ خِزْيِ) عذاب (يَوْمِئِذٍ) يوم نزول العذاب (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ).

[٦٧] (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) من قوم صالح عليه‌السلام (الصَّيْحَةُ) فقد صاح بهم جبرئيل عليه‌السلام صيحة فهلكوا (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ميتين واقعين على وجوههم.

[٦٨] (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأنهم لم يقيموا في ديارهم (أَلا إِنَّ ثَمُودَ) (١) (كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً) عن رحمة الله (لِثَمُودَ).

[٦٩] (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا) الملائكة (إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) بشارة المولد (قالُوا) لإبراهيم عليه‌السلام (سَلاماً قالَ) إبراهيم عليه‌السلام في جوابهم (سَلامٌ فَما لَبِثَ) لم يتوقف (أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ) ولد البقر (حَنِيذٍ) أي مشوي لأجل ضيافتهم.

[٧٠] (فَلَمَّا رَأى) إبراهيم عليه‌السلام (أَيْدِيَهُمْ) أيدي الرسل (لا تَصِلُ إِلَيْهِ) لا يمدّون أيديهم إلى الأكل ، لأنهم كانوا ملائكة (نَكِرَهُمْ) أي أنكرهم واستغرب عدم أكلهم (وَأَوْجَسَ) أحس (مِنْهُمْ خِيفَةً) بأن خاف منهم أن يريدوا به سوء (قالُوا لا تَخَفْ) إنا لا نريد بك سوء (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) لنهلكهم.

[٧١] (وَامْرَأَتُهُ) زوجة إبراهيم عليه‌السلام سارة (قائِمَةٌ) تسمع كلامهم (فَضَحِكَتْ) من كلامهم (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) بأنها ستلده (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ) من بعده (يَعْقُوبَ).

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢٤١

[٧٢] (قالَتْ يا وَيْلَتى) يا عجبا (أَأَلِدُ) يكون لي ولد (وَأَنَا عَجُوزٌ) خرجت عن وقت الحمل (وَهذا بَعْلِي) زوجي (شَيْخاً) هرما لا يكون له ولد (إِنَّ هذا) أن يكون ولد لهرمين (لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).

[٧٣] (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) قدرته (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ) أي أنتم أهل للرحمة والبركة (أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ) فاعل ما يستوجب الحمد (مَجِيدٌ) ذو مجد ورفعة.

[٧٤] (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) الخوف الذي سيطر عليه من جهة عدم أكلهم (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) البشارة بالولد (يُجادِلُنا) أي أخذ يباحث ويتكلم مع الرسل (فِي) شأن (قَوْمِ لُوطٍ) وذلك لأجل أن يرفع العذاب عنهم.

[٧٥] (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ) كثير الدعاء (مُنِيبٌ) يرجع إلى الله في أموره.

[٧٦] قالت الملائكة : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بعذابهم (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) غير مدفوع عنهم.

[٧٧] (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا) الملائكة من عند إبراهيم عليه‌السلام (لُوطاً) إلى لوط عليه‌السلام لأجل هلاك قومه (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ) ساءه مجيئهم (ذَرْعاً) أي خلقا ، بأن ضاقت نفسه عنهم (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) شديد لأن الملائكة كانوا على شكل أولاد جميلين فخاف أن يطمع فيهم قومه.

[٧٨] (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ) يسرعون (إِلَيْهِ) إلى جانب لوط عليه‌السلام لأخذ ضيوفه (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) اللواط ولأجله جاءوا إلى الضيوف (قالَ) لوط عليه‌السلام (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي) تزوجوهن عوض الضيوف (هُنَّ أَطْهَرُ) أنظف من الذكور (لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) لا تفضحوني (فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) يمنعكم عن المنكر.

[٧٩] (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) حاجة (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) من إتيان الذكور.

[٨٠] (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) منعة لدفعكم عن ضيفي (أَوْ آوِي) أي أنضم (إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أي إلى عشيرة تمنعكم عن المنكر ، وجواب لو محذوف ، أي لمنعتكم.

[٨١] (قالُوا) الضيوف : (يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) ملائكته (لَنْ يَصِلُوا) القوم (إِلَيْكَ) بسوء فلا تهتم (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) سر مع عائلتك فرارا من القرية (بِقِطْعٍ) بظلمة (مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) لا ينظر أحد منكم إلى ورائه لئلا يهوله منظر العذاب (إِلَّا امْرَأَتَكَ) فإنها كانت كافرة فلا تأخذها معك (إِنَّهُ) أي الشأن (مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) من العذاب (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ) وقت عذابهم (الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) لبيان قرب عذابهم.

٢٤٢

[٨٢] (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بعذاب أهل القرية (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) بأن قلبناها (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) من الطين اليابسة (مَنْضُودٍ) نضّد وتتابع بعضه إثر بعض.

[٨٣] (مُسَوَّمَةً) معلمة للعذاب (عِنْدَ رَبِّكَ) أي بعلائمه لدى الله (وَما هِيَ) الحجارة (مِنَ الظَّالِمِينَ) ككفار مكة (بِبَعِيدٍ) وهذا تهديد لكل ظالم.

[٨٤] (وَ) أرسلنا (إِلى) قبيلة (مَدْيَنَ أَخاهُمْ) في القبيلة (شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) حيث كانوا يطففون الكيل والوزن (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) بسعة فلا تحتاجون إلى البخس (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) يحيط بكم فلا ينجو منكم أحد.

[٨٥] (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) بالعدل ، نهاهم عن البخس ثم أمرهم بالوفاء (وَلا تَبْخَسُوا) لا تنقصوا (النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) التي يشترونها (وَلا تَعْثَوْا) العثو : السعي للفساد (فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

[٨٦] (بَقِيَّتُ اللهِ) ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد إتمام الكيل والوزن (خَيْرٌ لَكُمْ) من البخس (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظكم وإنما أنا نذير.

[٨٧] (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام ، والاستفهام للاستهزاء (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) من البخس (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قالوا له ذلك على وجه الاستهزاء.

[٨٨] (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة (مِنْ) قبل (رَبِّي) بالتوحيد (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) حلالا ، تعريض لهم بأن رزقهم حرام لأنه من التطفيف ، وجواب (إن) محذوف ، أي فهل أعدل بعد ذلك عن عبادته وعن رزقه الحلال (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ) وأقصد (إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) فارتكبه (إِنْ) ما (أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) إصلاح عقيدتكم وعملكم (مَا اسْتَطَعْتُ) من الإصلاح (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أرجع في المعاد.

٢٤٣

[٨٩] (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) لا يسبّب لكم (شِقاقِي) خلافي (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الصيحة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) فاعتبروا بهم كيف عذبوا ، والمعنى أنكم حيث تريدون مخالفة أقوالي تقعون في العذاب كأولئك الأقوام ، فارحموا أنفسكم.

[٩٠] (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) ليغفر ذنبكم (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ارجعوا إليه بالأعمال الصالحة (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) محب للمتقين.

[٩١] (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) ما نفهم (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) كالتوحيد وحرمة البخس (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لا شأن لك (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) عشيرتك وحرمتهم (لَرَجَمْناكَ) بالحجارة (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) حتى تمنع عزتك عن الرجم.

[٩٢] (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) حتى تتركون رجمي لأجلهم لا لله (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) أي الله (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي وراء ظهركم (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) علما وقدرة فيجازيكم عليه.

[٩٣] (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) حالتكم التي أنتم عليها (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي ، أي كل يعمل عمله حتى نرى النتائج (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيّنا المخطئ (مَنْ) منا ومنكم (يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يفضحه (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) أنا في توحيدي ، أم أنتم في شرككم (وَارْتَقِبُوا) انتظروا (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) منتظر لنرى لمن العاقبة.

[٩٤] (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بالعذاب (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) صاح بهم جبرئيل عليه‌السلام فأهلكهم (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ميتين على وجوههم.

[٩٥] (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأنهم لم يقيموا في تلك الديار ، حيث انقطعت آثارهم (أَلا بُعْداً) عن الرحمة والنجاة (لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) لتشابه عذابهما.

[٩٦] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) دلائلنا (وَسُلْطانٍ) حجة معجزة (مُبِينٍ) واضح.

[٩٧] (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أشراف قومه (فَاتَّبَعُوا) الملأ (أَمْرَ فِرْعَوْنَ) بالكفر (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) بل هو غيّ وضلال.

٢٤٤

[٩٨] (يَقْدُمُ) يتقدم فرعون (قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ) هو الماء الذي يورد ، فشبه به النار (الْمَوْرُودُ) أي بئس المورد الذي وردوه.

[٩٩] (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لعنوا في الدنيا والآخرة (بِئْسَ) اللعن (الرِّفْدُ) العطاء (الْمَرْفُودُ) الذي يعطونه.

[١٠٠] (ذلِكَ) النبأ (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) أخبار البلاد (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها) من تلك القرى (قائِمٌ) معمّر (وَ) منها (حَصِيدٌ) خراب لم يعمّر.

[١٠١] (وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكهم (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث كفروا (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) لم تنفعهم لإنقاذهم من العذاب (الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي ولو قليلا (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) عذابه (وَما زادُوهُمْ) الآلهة (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) أي الخسران لأن عبادة الأصنام زادتهم عذابا.

[١٠٢] (وَكَذلِكَ) مثل أخذ هؤلاء (أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) عذّب أهلها (وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ) مؤلم (شَدِيدٌ) الألم.

[١٠٣] (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي قصصنا عليك (لَآيَةً) لعبرة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أما من لم يعتقد بالآخرة فهو يلهو ولا يعتبر بالآيات (ذلِكَ) يوم القيامة (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) للحساب (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) يشهده الناس والملائكة والجن.

[١٠٤] (وَما نُؤَخِّرُهُ) أي لا نؤخر يوم القيامة (إِلَّا لِأَجَلٍ) وقت (مَعْدُودٍ) قد عد وحوسب.

[١٠٥] (يَوْمَ يَأْتِ) الحساب والجزاء (لا تَكَلَّمُ) لا تتكلم (نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) بإذن الله (فَمِنْهُمْ شَقِيٌ) بسوء عمله (وَ) منهم (سَعِيدٌ) بحسن عمله.

[١٠٦] (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) إخراج النّفس بصوت (وَشَهِيقٌ) إدخال النّفس بصوت ، وفيها دلالة على شدة كرب الإنسان.

[١٠٧] (خالِدِينَ فِيها) في النار (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي جهتا العلو والسفل (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ممن يخرجهم عن العذاب (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا مانع منه.

[١٠٨] (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من أول الوقت ، وهم الفسّاق الذين يدخلون النار أولا ثم الجنة ، أو المراد إن الله قادر على إخراجهم من الجنة ، وهذا للتنبيه على قدرته تعالى وإن كان لا يخرجهم من الجنة (عَطاءً) يعطيهم الجنة عطاء (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) مقطوع.

٢٤٥

[١٠٩] (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) شك (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) من الأوثان ، لا تشك في أنها باطلة (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) فقد عبد آباؤهم الأصنام وهم يقلدونهم (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ) معطوهم (نَصِيبَهُمْ) حقهم (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) أي تاما بلا نقص.

[١١٠] (وَلَقَدْ آتَيْنا) أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) فبعض آمن وبعض كفر (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ) بتأخير الجزاء إلى يوم القيامة (سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) قالها الله سابقا ، لمصلحة في ذلك (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الحال بإهلاك المبطل (وَإِنَّهُمْ) الكافرين (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من الكتاب (مُرِيبٍ) موجب للريب ، فإن الشك يوجب ترددهم وتحيرهم.

[١١١] (وَإِنَّ كُلًّا) من المصدق والمكذب (لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) يعطيهم جزاء أعمالهم (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيهم عليه.

[١١٢] (فَاسْتَقِمْ) في الإرشاد (كَما أُمِرْتَ وَ) ليستقم (مَنْ تابَ) عن الكفر والعصيان (مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) لا تتعدوا الحدود (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يرى أعمالكم فيجازيكم عليها.

[١١٣] (وَلا تَرْكَنُوا) لا تميلوا أدنى ميل (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أي تأخذكم نار جهنم (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) يمنعون العذاب عنكم (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) لا ينصركم أحد.

[١١٤] (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أدّها (طَرَفَيِ النَّهارِ) الصبح والعصر (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) أول ساعات الليل القريبة من النهار (إِنَّ الْحَسَناتِ) كالصلوات الخمس (يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ) الذي ذكرناه باستقامتك ومن معك (ذِكْرى) موعظة (لِلذَّاكِرِينَ) الذين يتذكرون الله.

[١١٥] (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فيجازيهم بالحسنى.

[١١٦] (فَلَوْ لا) أي فهلا (كانَ مِنَ الْقُرُونِ) الأمم الماضية (مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) أصحاب بقية من العقل والإدراك (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) لكن قليلا ممن أنجيناهم من الكفر والعصيان كانوا ينهون (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا) ما أنعموا (فِيهِ) أي فيما أترفوا ، والمعنى أنهم اتبعوا الشهوات (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) عصاة.

[١١٧] (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) منه لها (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) أي والحال أن أهل القرى يصلحون أحوالهم.

٢٤٦

[١١٨] (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) بأن يجبرهم على الإيمان (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في الأديان.

[١١٩] (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) بأن لطف به لطفا خاصا فاهتدى (وَلِذلِكَ) للرحمة (خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) ثبت ما قاله عن علمه السابق (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ) الجن (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) من الكفار والعصاة ، فتملأ النار من هاتين الطائفتين.

[١٢٠] (وَكُلًّا) من كل نبأ (نَقُصُّ عَلَيْكَ) نخبرك (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) قلبك ، فإن قصص صبر الأنبياء السابقين عليهم‌السلام أمام أذى الكفار يوجب تقوية قلب المصلح أمام ما يلاقيه من الصعوبات (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) السورة ، أو القصص (الْحَقُ) فإنها ليست قصصا باطلة (وَمَوْعِظَةٌ) تعظ الجاهلين بها (وَذِكْرى) تذكير (لِلْمُؤْمِنِينَ).

[١٢١] (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) حالتكم (إِنَّا عامِلُونَ) على حالنا.

[١٢٢] (وَانْتَظِرُوا) عقوبة كفركم (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ثوابنا.

[١٢٣] (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فما غاب عن الحواس فيهما ، يعلمه الله تعالى (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فأمر الكفار يرجع إليه لجزائهم (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه كافيك (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) إنه عالم بهم فيجازيهم عليه.

١٢ : سورة يوسف

مكية آياتها مائة وإحدى عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الر) رمز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تِلْكَ) آيات هذه السور (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) الواضح ، لا غموض فيه.

[٢] (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أنزلنا الكتاب (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بلغة العرب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تفهمونه فتؤمنوا به.

[٣] (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا) بإيحائنا (إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي هذه السورة (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) الذين لا يعلمون قصة يوسف عليه‌السلام.

[٤] (إِذْ) بدل (أحسن) (قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) فقد رآهم يوسف عليه‌السلام قد سجدوا له.

٢٤٧

[٥] (قالَ) يعقوب عليه‌السلام : (يا بُنَيَ) تصغير ابن (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) لا تخبرهم بمنامك (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) فيحتالوا للخلاص منك ، فإن يعقوب علم أن الرؤيا تدل على عظمة يوسف عليه‌السلام مما يثير حقد إخوانه عليه (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر ، ومن عادته الإفساد بين الإخوة.

[٦] (وَكَذلِكَ) هكذا (يَجْتَبِيكَ) يختارك يا يوسف (رَبُّكَ) للنبوة والملوكية (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) تعبير الرؤيا (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعطائك جميع النعم (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) سائر أولاده لأن من بينهم ينبغ مثل يوسف عليه‌السلام ويكون أولادهم ملوكا وأنبياء (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) حيث جعلهما نبيين (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) بمن يصلح للرسالة (حَكِيمٌ) يضع الأشياء مواضعها.

[٧] (لَقَدْ كانَ فِي) قصة (يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ) دلائل قدرة الله (لِلسَّائِلِينَ) لمن سأل عن قصتهم.

[٨] (إِذْ قالُوا) الإخوة : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) من أمه وهو بنيامين (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ) الحال (نَحْنُ عُصْبَةٌ) جماعة أقوياء فلما ذا يحبه أبونا أكثر منا (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) واضح في تفضيله يوسف علينا.

[٩] قال بعضهم لبعض : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) بعيدة عن عين أبينا (يَخْلُ) أي ليبقى (لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) خاليا لكم بلا مشاركة يوسف (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد قتله أو طرحه (قَوْماً صالِحِينَ) تتوبون من هذه الجريمة.

[١٠] (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أحد الإخوة : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) قعر البئر حتى يغيب عن الأنظار (يَلْتَقِطْهُ) يأخذه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) الذين يسيرون أي المسافرين (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إن أردتم فعل شيء بالنسبة إلى يوسف.

[١١] ولما تمت المؤامرة جاءوا إلى أبيهم (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) لم تخاف منا عليه (وَإِنَّا لَهُ) ليوسف (لَناصِحُونَ) قائمون بمصالحه.

[١٢] (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) إلى الصحراء (يَرْتَعْ) يتنعم ويأكل من الرتعة بمعنى الخصب (وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يناله مكروه.

[١٣] (قالَ) يعقوب عليه‌السلام : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) فإني لا أتمكن من مفارقته (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) فإن الأرض كانت مذئبة (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) بأن تغفلوا عنه فيأكله الذئب.

[١٤] (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ) الحال (نَحْنُ عُصْبَةٌ) جماعة أقوياء (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) عجزة ضعفاء.

٢٤٨

[١٥] (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا) عزموا (أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) قعر البئر ، وجواب (لما) محذوف أي فعلوا ما أرادوه (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) إلى يوسف عليه‌السلام (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) لتخبرنهم بهذه المؤامرة بعد أن تصير ملكا (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لا يعلمون ما أوحينا إليه ، أو لا يعرفونه حينذاك.

[١٦] (وَجاؤُ) أي الإخوة (أَباهُمْ عِشاءً) أول ظلمة الليل (يَبْكُونَ) يظهرون البكاء.

[١٧] (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) نتسابق في العدو والركض (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) رحلنا ليحفظه (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ) مصدق (لَنا) لسوء ظنك بنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ).

[١٨] (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) لطخوا قميص يوسف عليه‌السلام بدم وجاءوا به إلى أبيهم و(دم كذب) أي ليس دم يوسف عليه‌السلام (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ) زيّنت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) لا جزع فيه (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى) دفع (ما تَصِفُونَ) من ابتلاء يوسف عليه‌السلام.

[١٩] (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) قافلة من المسافرين (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) من يرد الماء للاستقاء (فَأَدْلى) أرسل في البئر (دَلْوَهُ) فتعلق بها يوسف عليه‌السلام (قالَ) المستقي لما رأى يوسف عليه‌السلام : (يا) قوم (بُشْرى) البشارة (هذا غُلامٌ) ولد (وَأَسَرُّوهُ) أي أخفى الإخوة يوسف قائلين هذه (بِضاعَةً) أي عبد آبق لنا ، فإن الإخوة جاءوا ليروا مصير يوسف عليه‌السلام فرأوا أن القوم استخرجوه من البئر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) فلم يخف عليه ما فعله الإخوة.

[٢٠] (وَشَرَوْهُ) باعه الإخوة من القافلة (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) قليل (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) عبارة أخرى عن القلة (وَكانُوا فِيهِ) في يوسف عليه‌السلام (مِنَ الزَّاهِدِينَ) زهد خلاف رغب لأن الإخوة كانوا يريدون التخلص منه.

[٢١] (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ) أهل (مِصْرَ) المعروفة (لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) أي هيئي له محلا كريما (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) بأن نبيعه فنربح عليه (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) مكان الولد (وَكَذلِكَ) كما أخرجناه من البئر (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أرض مصر حيث عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) عطف على محذوف أي مكنا له ليعدل وليفسر للناس الرؤيا فيظهر مقامه (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي على ما يريده (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) إن الله غالب على أمره.

[٢٢] (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) منتهى اشتداد جسمه (آتَيْناهُ) أعطيناه الحكم بين الناس (حُكْماً وَعِلْماً) من قبيل علوم الأنبياء عليهم‌السلام (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) كما جزينا يوسف عليه‌السلام.

٢٤٩

[٢٣] (وَراوَدَتْهُ) أي طلبت المرأة المواقعة من يوسف عليه‌السلام (الَّتِي هُوَ) يوسف عليه‌السلام (فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) نفس يوسف عليه‌السلام كأنها أرادت اغتصاب نفس يوسف عليه‌السلام (وَغَلَّقَتِ) المرأة (الْأَبْوابَ) لئلا يفر (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي هلمّ إلي ، و(لك) خطاب (قالَ) يوسف عليه‌السلام (مَعاذَ اللهِ) أعوذ بالله أن أفعل (إِنَّهُ) إن الله (رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) محلي فكيف أعصي من أكرمني (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) لا يفوز (الظَّالِمُونَ) الذين يظلمون أنفسهم بالعصيان.

[٢٤] (وَلَقَدْ هَمَّتْ) المرأة قصدت (بِهِ) بيوسف عليه‌السلام للمواقعة (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) فلو لا أنه عليه‌السلام كان معصوما لهمّ بها لكن رؤية يوسف عليه‌السلام برهان الله وحجته منعته عن أن يقصد السوء بها (كَذلِكَ) أي هكذا أريناه البرهان وعصمناه (لِنَصْرِفَ عَنْهُ) عن يوسف عليه‌السلام (السُّوءَ) بالخيانة مع زوجة الملك (وَالْفَحْشاءَ) بالزنا (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصهم الله لطاعته.

[٢٥] (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) تسابقا إلى الباب ، يوسف عليه‌السلام للهرب وزليخا لتمسكه (وَقَدَّتْ) شقت زليخا (قَمِيصَهُ) ثوب يوسف عليه‌السلام (مِنْ دُبُرٍ) من ورائه (وَأَلْفَيا) وجدا يوسف وزليخا (سَيِّدَها) زوجها (لَدَى الْبابِ قالَتْ) زليخا مبادرة لأجل رفع التهمة عن نفسها : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) استفهام ، أي أي شيء جزاؤه (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) جزاء قصده الخيانة (أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بأن يضرب ضربا مؤلما.

[٢٦] (قالَ) يوسف عليه‌السلام : (هِيَ) زليخا (راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) بأن قصدت السوء (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) أهل المرأة (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ) شق (مِنْ قُبُلٍ) من الأمام (فَصَدَقَتْ) المرأة (وَهُوَ) يوسف عليه‌السلام (مِنَ الْكاذِبِينَ) لأنه علامة أنه قصد المرأة فدفعته بأن أخذت ثوبه لتدفعه فانشق من الأمام.

[٢٧] (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) من خلف (فَكَذَبَتْ) المرأة (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لأنه علامة أنه فر يوسف عليه‌السلام فجرّت ثوبه لكي تمسكه فانشق من الخلف.

[٢٨] (فَلَمَّا رَأى) الزوج (قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) وأن الحق مع يوسف عليه‌السلام (قالَ إِنَّهُ) إن هذا الصنع (مِنْ كَيْدِكُنَ) حيلتكن (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) لمهارتهن في الكيد.

[٢٩] ثم قال الزوج : يا (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الأمر واكتمه (وَ) يا زليخا (اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) لأنك الخاطئة (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) المذنبين.

[٣٠] (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) في مصر ، لما سمعن بالقصة (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) الملك (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) تدعو عبدها ليفجر بها (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) دخل حبه شغاف قلبها أي وسطه (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ) من الطريق الصحيح (مُبِينٍ) واضح.

٢٥٠

[٣١] (فَلَمَّا سَمِعَتْ) زليخا (بِمَكْرِهِنَ) باغتيابهن ، وسمي ذلك مكرا ، أنّهن اتخذن هذا الطريق وسيلة لرؤية يوسف عليه‌السلام (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ) هيأت (لَهُنَّ مُتَّكَأً) وسائد يتكئن عليها (وَآتَتْ) أعطت (كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) لأجل تقشير الفاكهة التي هيأتها لهن (وَقالَتِ) زليخا ليوسف عليه‌السلام (اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) ليرينّك (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) عظّمن جماله (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) بالسكين عوض الفاكهة ، لأنهن فقدن الشعور (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) تنزيها له عن المثيل ، لأن الإنسان إذا رأى شيئا عجيبا تذكّر الله فنزهه حمدا لما أبدع ما هذا الغلام (بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ) من الملائكة (كَرِيمٌ) ذو كرامة على الله حتى خلقه بهذا الجمال.

[٣٢] (قالَتْ) زليخا : (فَذلِكُنَ) أي هذا الفتى ، و(كنّ) خطاب لهنّ ، هو (الَّذِي لُمْتُنَّنِي) من الملائكة (فِيهِ) في حبه (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) طلبت منه المواقعة (فَاسْتَعْصَمَ) فامتنع (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) به (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) الأذلاء.

[٣٣] (قالَ) يوسف عليه‌السلام : يا (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فإن سائر النساء طمعن فيه أيضا (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) بأن لم تخلصني منهن بالعصمة والحفظ (أَصْبُ) أميل (إِلَيْهِنَ) ميل الشهوة (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) العصاة فإن العاصي جاهل.

[٣٤] (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) دعاءه (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعائه (الْعَلِيمُ) بحاله.

[٣٥] (ثُمَّ بَدا لَهُمْ) ظهر للملك وصحبه (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) الدلائل الدالة على براءة يوسف عليه‌السلام (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) إلى مدة ، قطعا لألسنة الناس.

[٣٦] (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ) مع يوسف عليه‌السلام (فَتَيانِ) شخصان آخران (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي) أرى نفسي في المنام (أَعْصِرُ خَمْراً) أي أصنع خمرا (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) يأتي الطير ويأكل من الخبز الذي فوق رأسي (نَبِّئْنا) أخبرنا يوسف عليه‌السلام (بِتَأْوِيلِهِ) بتعبير الرؤيا (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) لتعبير الرؤيا ، أو لأهل السجن.

[٣٧] (قالَ) يوسف عليه‌السلام : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) أي أخبركم بتأويل رؤياكم (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) قبل أن يؤتى لكم بالطعام (ذلِكُما) أي التأويل ، و(كما) خطاب (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بالوحي (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ) طريقة (قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وقد قال يوسف عليه‌السلام هذا الكلام تمهيدا لدعوة أهل السجن إلى الإيمان.

٢٥١

[٣٨] (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ) لا يصح (لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي نشرك به صنما أو غيره (ذلِكَ) الإيمان (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) بأن أرسلنا لإرشادهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) لهذا الفضل فلا يؤمنون.

[٣٩] (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أيها الملازمان لي في السجن (أَأَرْبابٌ) آلهة (مُتَفَرِّقُونَ) من خشب وحجر وحيوان (خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الذي يقهر ويغلب ، أما أصنامكم فإنها تغلب.

[٤٠] (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) دون الله (إِلَّا أَسْماءً) لا حقيقة لها ، إذ الأصنام ليست آلهة ، وإنما سميتموها آلهة (سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها) بعبادتها (مِنْ سُلْطانٍ) من دليل وحجة (إِنِ الْحُكْمُ) ما الحكم بين الناس حكما تكوينيا وتشريعيا (إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ) التوحيد (الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

[٤١] (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو من رأى أنه يعصر خمرا فيخرج من السجن ويسقي (رَبَّهُ) الملك (خَمْراً) كما كان سابقا (وَأَمَّا الْآخَرُ) الذي قال رأيت إنني أحمل فوق رأسي خبزا (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) من مخه ، فقال الثاني : كذبت في رؤياي :! فقال يوسف عليه‌السلام : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي سألتما عن تأويله.

[٤٢] (وَقالَ) يوسف عليه‌السلام : (لِلَّذِي ظَنَ) علم من طريق الإلهام (أَنَّهُ ناجٍ) ينجو من السجن (مِنْهُمَا) من صاحبيه ، وهو الساقي (اذْكُرْنِي) اذكر حالي وأني مسجون ظلما (عِنْدَ رَبِّكَ) الملك (فَأَنْساهُ) أي أنسى الساقي (الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) ذكر يوسف عليه‌السلام عند الملك (فَلَبِثَ) مكث يوسف عليه‌السلام (فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) قيل كانت سبع سنوات.

[٤٣] (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى) في المنام (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) جمع سمين مقابل الهزيل (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) بقرات (عِجافٌ) جمع عجيف أي الهزيل ، فالهزيل كان أكل السمين (وَ) رأيت (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) جمع سنبلة : العود الذي فيه حبات الحنطة (خُضْرٍ) خضراء (وَ) سبع سنبلات (أُخَرَ يابِساتٍ) قد التوت على الخضر وغلبت عليها (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) الأشراف (أَفْتُونِي) أخبروني عن تأويل (فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ).

٢٥٢

[٤٤] (قالُوا) أي الملأ : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) جمع حلم بمعنى الرؤيا ، وأضغاث بمعنى أخلاط ، والمراد أحلام باطلة (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) التي هذه صفتها (بِعالِمِينَ).

[٤٥] (وَقالَ) الساقي (الَّذِي نَجا مِنْهُما) من صاحبي السجن (وَادَّكَرَ) تذكر أمر يوسف عليه‌السلام (بَعْدَ أُمَّةٍ) مدة طويلة من الزمان : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أرسلوني إلى من يعلم التأويل ، فأجازه الملك أن يذهب فجاء إلى السجن وقال :

[٤٦] (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) كثير الصدق (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ) أعود (إِلَى النَّاسِ) الملك وحاشيته فأخبرهم (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) تأويل الرؤيا.

[٤٧] (قالَ) يوسف عليه‌السلام : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) أي دائبين مستمرين ، وهذا تأويل السمان والخضر (فَما حَصَدْتُمْ) من الحاصل (فَذَرُوهُ) دعوه (فِي سُنْبُلِهِ) بدون الدياس (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) في تلك السنة.

[٤٨] (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ) مجدبات (يَأْكُلْنَ) أي تلك السنوات المجدبات ، والمراد أهلها (ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) لأجلهن (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) تحفظونه لبذور الزراعة في العام المقبل وهذا تفسير عجاف ويابسات.

[٤٩] (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) السبع الشداد (عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) يمطرون من السماء (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) الثمار التي تعصر في الخصب كالزيتون والعنب وغيرهما وذلك لكثرة الفاكهة.

[٥٠] (وَقالَ الْمَلِكُ) بعد ما جاءه الرسول بالتعبير من عند يوسف عليه‌السلام (ائْتُونِي بِهِ) بيوسف عليه‌السلام (فَلَمَّا جاءَهُ) أي جاء إلى يوسف عليه‌السلام (الرَّسُولُ) رسول الملك ليخرجه من السجن (قالَ) يوسف عليه‌السلام : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) سيدك الملك (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ) أي ما كان من شأنهن معي (اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي) الملك (بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) لأنه علم أن الذنب لم يكن ذنب يوسف عليه‌السلام وإنما ذنب زليخا ، وأراد يوسف عليه‌السلام بهذا السؤال أن يظهر أمام الملأ براءة نفسه حتى يخرج من السجن استحقاقا لا تفضلا.

[٥١] (قالَ) الملك : (ما خَطْبُكُنَ) شأنكنّ (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) هل بدا منه خيانة أم لا (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) الله منزه وهذا كناية عن قدرته على خلق عفيف مثله عليه‌السلام (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ) على يوسف عليه‌السلام (مِنْ سُوءٍ) خيانة (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ) ظهر (الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله إنه لم يقصد سوء.

[٥٢] فقال يوسف عليه‌السلام لما أخبره الرسول بمقالة النساء : (ذلِكَ) الذي أردت استظهاره من براءتي (لِيَعْلَمَ) الملك (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي ما خنته في زوجته في حال كان الملك غائبا (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) فإنه تعالى لا يوصل كيد الخائن ومكره لأجل الخيانة إلى عاقبة محمودة.

٢٥٣

[٥٣] (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) فإني لا أريد إظهار نفسي بمظهر البريء ، بل أريد بيان الحقيقة (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ) كثيرة الأمر (بِالسُّوءِ) بالأعمال السيئة (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) فعصمها عن السوء (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[٥٤] (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف عليه‌السلام (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أجعله خالصا نفسي (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) كلم الملك يوسف عليه‌السلام وعرف فضله وعقله (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) ذو قدرة وجاه (أَمِينٌ) مأمون على أمرنا.

[٥٥] (قالَ) يوسف عليه‌السلام للملك : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ) المال في (الْأَرْضِ) أرض مصر (إِنِّي حَفِيظٌ) أحفظها (عَلِيمٌ) عالم بأمرها وكيفية الإدارة.

[٥٦] (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أرض مصر (يَتَبَوَّأُ) ينزل (مِنْها) من مصر (حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) ممن توفرت فيهم الأهلية (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بل نوفيهم أجورهم.

[٥٧] (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من أجر الدنيا (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الشرك والمعاصي.

[٥٨] (وَ) لما صار القحط أخذ يوسف عليه‌السلام يوزع الطعام على أهل البلاد ف (جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) من بلدهم لأجل شراء الطعام (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ) يوسف عليه‌السلام (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي لم يعرفوه.

[٥٩] (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) بأن أوقر لكل واحد منهم كيل بعير (قالَ) يوسف عليه‌السلام : (ائْتُونِي) في المرة الثانية (بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) لا من أمكم وهو بنيامين (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أتم الكيل لكم (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) للضيف ، أحسن ضيافتكم.

[٦٠] (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ) بأخيكم (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) لا أعطيكم الطعام (وَلا تَقْرَبُونِ) أي لا تقربوا مني ولا تدخلوا عليّ.

[٦١] (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) سنطلبه من الأب بكل جهدنا بتكرار طلبنا منه (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك.

[٦٢] (وَقالَ) يوسف عليه‌السلام : (لِفِتْيانِهِ) غلمانه الذين يكيلون (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ) التي اشتروا بها الطعام (فِي رِحالِهِمْ) أوعيتهم تفضلا وخوفا من أن لا يكون عند يعقوب عليه‌السلام ثمنا آخر لطعام يريدون شراءه جديدا (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) يعرفون الفضيلة ليوسف عليه‌السلام في ردها عليهم (إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) رجعوا إليهم وفتحوا المتاع (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع.

[٦٣] (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) يمنع منا العطاء إن لم نذهب ببنيامين (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) نأخذ الكيل (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يناله مكروه.

٢٥٤

[٦٤] (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) يوسف عليه‌السلام (مِنْ قَبْلُ) وقد قلتم إنا له لحافظون فلم تفوا ، فلا آمنكم عليه (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) من حفظكم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

[٦٥] (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) أوعية طعامهم (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ) ثمن الطعام (رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) أي شيء نطلب من إحسان الملك زيادة على هذا حيث رد الثمن إلينا (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَ) إذا أرسلت بنيامين معنا (نَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب إليهم الميرة وهي الطعام (وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) لأنه كان يعطي لكل إنسان مقدار حمل بعير (ذلِكَ) الذي جئنا به (كَيْلٌ يَسِيرٌ) قليل لا يكفينا فإذا جاء الأخ زادنا كيلا.

[٦٦] (قالَ) يعقوب عليه‌السلام : (لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ) تعطوني (مَوْثِقاً) عهدا (مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) بأن ترجعوا بنيامين إليّ (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) تغلبوا حتى لا تقدروا على إرجاعه بدون اختياركم (فَلَمَّا آتَوْهُ) أعطى الأخوة أباهم (مَوْثِقَهُمْ) عهدهم (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) شاهد مطلع.

[٦٧] (وَقالَ) يعقوب عليه‌السلام : (يا بَنِيَ) يا أولادي (لا تَدْخُلُوا) مصر (مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) حتى لا يصيبكم الناس بالعين (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فإني لا أتمكن من رد قضاء الله إذا شاء شيئا ، وإنما على المرء التدبير في أمره (إِنِ) ما (الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فهو قادر على أن يحفظكم (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) يفوضوا أمرهم إليه.

[٦٨] (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) من أبواب مختلفة (ما كانَ يُغْنِي) ما كان يفيد رأي يعقوب عليه‌السلام (عَنْهُمْ) عن الأولاد (مِنْ) قضاء (اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فإن حكم الله كان جاريا فيهم ، كما قال يعقوب ، ولذا بقي بنيامين في مصر حيث أراد الله ذلك (إِلَّا) لكن (حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) شفقة في نفس يعقوب عليه‌السلام عليهم أظهرها لهم (وَإِنَّهُ) يعقوب عليه‌السلام (لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) لتعليمنا إياه ، ولذا قال (وما أغني ...) (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن القدر يجري ولا ينفع عنه الحذر.

[٦٩] (وَلَمَّا دَخَلُوا) الأخوة (عَلى يُوسُفَ آوى) ضم يوسف عليه‌السلام (إِلَيْهِ) إلى نفسه (أَخاهُ) بنيامين (قالَ) يوسف عليه‌السلام له : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) من الأبوين (فَلا تَبْتَئِسْ) لا تحزن (بِما كانُوا) الأخوة (يَعْمَلُونَ) في حقنا حيث اتهموا بنيامين بالسرقة وألقوا يوسف عليه‌السلام في الجب.

٢٥٥

[٧٠] (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ) يوسف عليه‌السلام (بِجَهازِهِمْ) الطعام الذي جاءوا لأجله (جَعَلَ السِّقايَةَ) المشربة التي كانت صاعا للكيل (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) بنيامين (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أعلم المتولي لأمر السقاية (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) القافلة (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) ولم يكن ذلك بأمر يوسف عليه‌السلام وإنما قال الرجل ذلك لمّا فقد السقاية.

[٧١] (قالُوا) أصحاب العير : (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) على أصحاب يوسف عليه‌السلام وقولوا لهم : (ما ذا تَفْقِدُونَ) ماذا فقدتموه حتى تتهمونا بالسرقة.

[٧٢] (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) صاعه (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ) بالصواع جائزة (حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام (وَأَنَا بِهِ) بإعطاء الحمل (زَعِيمٌ) كفيل.

[٧٣] (قالُوا تَاللهِ) أي والله (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) لما رأيتم من حسن معاشرتنا وأمانتنا في مدة ضيافتكم لنا (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) بالسرقة (وَما كُنَّا سارِقِينَ) مدة عمرنا.

[٧٤] (قالُوا) أصحاب الملك للأخوة : (فَما جَزاؤُهُ) جزاء السرق (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) بأن ظهر الصواع لديكم.

[٧٥] (قالُوا) الأخوة : (جَزاؤُهُ) جزاء السرق ، استرقاق (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) فإن شريعة يعقوب عليه‌السلام كانت على استرقاق المسروق منه للسارق ، ف (جزاؤه) مبتدأ و(من) خبره (فَهُوَ) السارق (جَزاؤُهُ) جزاء السرق ، أي السرقة (كَذلِكَ) هكذا (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) في السرقة.

[٧٦] (فَبَدَأَ) المؤذن بفتش أوعيتهم ورحالهم (قَبْلَ) فتش (وِعاءِ أَخِيهِ) بنيامين (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أخرج الصواع (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ) هكذا (كِدْنا) هيأنا (لِيُوسُفَ) أخذ أخيه بنيامين ، والكيد عبارة عن جعل الصواع في رحل الأخ أولا ، ثم أنه طلب من الأخوة تقرير جزاء السارق لأنه (ما كانَ لِيَأْخُذَ) يوسف عليه‌السلام (أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) إذ كان قانون مصر في أمر السارق أن يضرب ويغرم ضعف السرقة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي لكن بمشيئة الله أخذ الأخ بما ظهر حسب شريعة يعقوب عليه‌السلام (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) كما رفعنا درجة يوسف عليه‌السلام (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) حتى ينتهي إلى الله فهو أعلم من الجميع ، ولعل هذا الكيد كان لأجل امتحان يعقوب عليه‌السلام ، وليس فيه كذب من يوسف عليه‌السلام.

[٧٧] (قالُوا) الأخوة : (إِنْ يَسْرِقْ) بنيامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) أي يوسف عليه‌السلام (مِنْ قَبْلُ) فإن عمة يوسف عليه‌السلام كانت تحب يوسف عليه‌السلام وأراد أبوه انتزاعه منها فشدت منطقة أبيها على وسطه تحت ثيابه وبعثت به إلى أبيه وقالت سرقت المنطقة فوجدت عليه وكان الحكم أن يدفع السارق إلى المسروق منه فدفع يوسف عليه‌السلام إليها (فَأَسَرَّها) أخفى هذه النسبة بالسرقة (يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها) لم يظهرها ولم يحك (لَهُمْ) حقيقة قصة العمة (قالَ) يوسف عليه‌السلام في نفسه : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) منزلة فيما فعلتم من أمر يوسف عليه‌السلام (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) من سرقة يوسف عليه‌السلام ، فإنه يعلم أنه لم يسرق.

[٧٨] (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) وكانوا يعبرون عن الملك بالعزيز (إِنَّ لَهُ) لبنيامين (أَباً شَيْخاً) في السن (كَبِيراً) في القدر (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) عوض بنيامين (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلينا.

٢٥٦

[٧٩] (قالَ) يوسف عليه‌السلام : (مَعاذَ اللهِ) نعوذ بالله معاذا (١) من (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) في مذهبكم لأن دينهم أخذ السارق لا أخذ غيره مكانه.

[٨٠] (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) يئسوا من إجابة يوسف عليه‌السلام إلى طلبهم (خَلَصُوا) اعتزلوا ناحية (نَجِيًّا) يناجي بعضهم بعضا فيما يفعلون (قالَ كَبِيرُهُمْ) كبير الأخوة (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أن ترجعوا بنيامين إليه (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) وألم تعلموا تفريطكم قبل هذا في يوسف عليه‌السلام (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) لن أفارق أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الرجوع إليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) بالخروج من مصر مع أخي.

[٨١] فتخلف الأخ الكبير وقال لسائر الأخوة (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) حسب الظاهر (وَما شَهِدْنا) عليه (إِلَّا بِما عَلِمْنا) من إخراج الصاع من رحله (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) لم نعلم الغيب حين أعطيناك الموثوق بأن نرجعه إليك.

[٨٢] (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي مصر بأن تبعث إلى أهلها فتسألهم عن القصة (وَالْعِيرَ) أصحاب القافلة (الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) جئنا من مصر معها (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في كلامنا.

[٨٣] (قالَ) يعقوب عليه‌السلام : (بَلْ سَوَّلَتْ) زيّنت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) فصنعتموه وذلك بأن جعلتم الحكم حسب حكم شريعتي لا حكم دين الملك فأمري صبر (جَمِيلٌ) لا جزع فيه (عَسَى اللهُ) لعل الله (أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ) بيوسف عليه‌السلام وبنيامين وأكبر الأخوة الذي بقي في مصر (جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحالنا (الْحَكِيمُ) يصنع حسب الحكمة.

[٨٤] (وَتَوَلَّى) أعرض يعقوب عليه‌السلام (عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى) أيها الأسف بمعنى طول الحزن احضر فهذا وقتك (عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) فإن طول البكاء يوجب غشاوة بيضاء على العين (فَهُوَ كَظِيمٌ) ممتلئ حزنا.

[٨٥] (قالُوا) أي الأولاد : (تَاللهِ) قسما بالله (تَفْتَؤُا) لا تزال (تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مشرفا على الموت (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) بأن تموت.

[٨٦] (قالَ) يعقوب عليه‌السلام : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) أي الهم الذي لا يصبر عليه حتى يبث (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) لا إليكم ، حتى تلوموني (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) من رحمته (ما لا تَعْلَمُونَ) أنتم.

__________________

(١) عاذ به يعوذ عوذا وعياذا ومعاذا : لاذ به ولجأ إليه واعتصم.

٢٥٧

[٨٧] (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا) تفحصوا في مصر (مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) بنيامين (وَلا تَيْأَسُوا) لا تقنطوا (مِنْ رَوْحِ اللهِ) رحمته وفرجه (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) فإن الكافر لا يعتقد بالله فيقنط.

[٨٨] (فَلَمَّا دَخَلُوا) بعد أن ذهبوا مرة ثالثة إلى مصر لأجل الطعام (عَلَيْهِ) على يوسف عليه‌السلام (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا) شملنا (وَأَهْلَنَا) وشمل أهلنا (الضُّرُّ) الجوع (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) رديئة قليلة (فَأَوْفِ) أتم (لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) تفضل علينا بالزيادة (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ).

[٨٩] (قالَ) يوسف عليه‌السلام : (هَلْ عَلِمْتُمْ) تذكرون (ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) حيث كانوا يحتقرون بنيامين ويذلونه (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) فإن عمل القبيح لا يصدر إلا عن جاهل.

[٩٠] (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) استفهام تقرير لأنهم عرفوه حين ذاك (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) قاله عليه‌السلام على سبيل التأكيد لكونه يوسف ، إذ أنهم كانوا يعرفون الأخ (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالسلامة والكرامة (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) الله (وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

[٩١] (قالُوا تَاللهِ) والله (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ) اختارك (عَلَيْنا وَإِنْ) مخففة من الثقيلة (كُنَّا لَخاطِئِينَ) فيما فعلنا بك.

[٩٢] (قالَ) يوسف عليه‌السلام : (لا تَثْرِيبَ) توبيخ (عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) فإني لا أوبخكم مع قدرتي (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) طلب يوسف عليه‌السلام من الله المغفرة لهم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

[٩٣] (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) وقد كان جيء به من الجنة ولذا كانت له رائحة طيبة تعرف من مسافات بعيدة (فَأَلْقُوهُ)

(عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ) يرجع أبي ببركة هذا القميص (بَصِيراً) بعد أن ابيضت عيناه (وَأْتُونِي) إلى مصر (بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ).

[٩٤] (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) انفصلت القافلة بأن خرجت من مصر (قالَ أَبُوهُمْ) لمن حضره : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) تنسبوني إلى الفند أي نقصان العقل ، أي لو لا التفنيد لصدقتموني.

[٩٥] (قالُوا) الحاضرون : (تَاللهِ) والله (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ) ذهابك عن الصواب (الْقَدِيمِ) من إكثار ذكر يوسف عليه‌السلام عبثا.

٢٥٨

[٩٦] (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) المبشر بوجود يوسف عليه‌السلام (أَلْقاهُ) القميص (عَلى وَجْهِهِ) وجه يعقوب عليه‌السلام (فَارْتَدَّ) رجع (بَصِيراً) بعد ابيضاض العين (قالَ) يعقوب عليه‌السلام : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من رحمته ومن حياة يوسف عليه‌السلام.

[٩٧] (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) اطلب من الله غفرانها ، وفيه دلالة التزامية على طلب غفرانه لهم أيضا (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) فيما فعلناه بيوسف عليه‌السلام.

[٩٨] (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) يقال إنه عليه‌السلام أراد تأخير الاستغفار إلى سحر الجمعة لأنه وقت استجابة الدعاء (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

[٩٩] (فَلَمَّا دَخَلُوا) العائلة بأجمعهم (عَلى يُوسُفَ آوى) ضم (إِلَيْهِ) إلى نفسه ، وقد استقبلهم خارج مصر (أَبَوَيْهِ وَقالَ) لهم : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) من كل مكروه.

[١٠٠] (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ) معه (عَلَى الْعَرْشِ) سرير الملك (وَخَرُّوا) أي سقط أهله (لَهُ) ليوسف عليه‌السلام (سُجَّداً) ساجدين ، إما لله تعالى احتراما ليوسف عليه‌السلام ، أو ليوسف عليه‌السلام لأنه كان جائزا في ذلك الدين كما قيل ، وهكذا قيل في سجدة الملائكة لآدم عليه‌السلام ، وإنما لا تجوز سجدة العبادة إلا لله تعالى (وَقالَ) يوسف عليه‌السلام : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) في أيام الصبا (قَدْ جَعَلَها) جعل الرؤيا (رَبِّي حَقًّا) صدقا مطابقا للواقع حيث نلت الملك (وَقَدْ أَحْسَنَ) ربي (بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) لعله لم يذكر خروجه من الجب لئلا يستفز الأخوة (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) البادية ، فإنهم سكنوا البادية لأجل مواشيهم وزرعهم (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ) أفسد (الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ) في تدبيره (لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بوجوه الصلاح (الْحَكِيمُ) يفعل كل شيء حسب الصلاح.

[١٠١] ثم توجه يوسف عليه‌السلام إلى الله شاكرا قائلا : يا (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) بعض السلطة ، وهي السلطة على مصر ونواحيها (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) تعبير الرؤيا (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما (أَنْتَ وَلِيِّي) ناصري (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي) اقبض روحي حين الموت في حال كوني (مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام.

[١٠٢] (ذلِكَ) الذي ذكر من قصة يوسف عليه‌السلام (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) الأخبار التي هي غائبة عنك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا) الأخوة (أَمْرَهُمْ) في إلقاء يوسف عليه‌السلام في الجب (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) يحتالون للخلاص منه.

[١٠٣] (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ) على إيمانهم (بِمُؤْمِنِينَ) لك وإن أتيت إليهم بأخبار غيبية.

٢٥٩

[١٠٤] (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) على التبليغ (مِنْ أَجْرٍ إِنْ) ما (هُوَ) القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) فمن شاء تذكر ومن شاء عاند.

[١٠٥] (وَكَأَيِّنْ) وكم (مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دالة على الله سبحانه (يَمُرُّونَ) الكفار (عَلَيْها) على تلك الآيات (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) لا يفكرون فيها ليؤمنوا بالله.

[١٠٦] (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) إذ يشركون بالله الأصنام.

[١٠٧] (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ) عقوبة تغشاهم (مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) القيامة (بَغْتَةً) فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانها إذ لا علامة لها قبل ذلك مباشرة ، والاستفهام للتحذير ، أي لا يأمن الكفار من ذلك.

[١٠٨] (قُلْ هذِهِ) الدعوة إلى الإيمان (سَبِيلِي) طريقتي (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى) في حال كوني على (بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) من المسلمين فليس إيماننا إيمان الجهال والمقلدين (وَسُبْحانَ اللهِ) أنزهه عن الشركاء (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

[١٠٩] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) كما أوحي إليك (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) البلاد ، ولم يكونوا ملائكة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من مكذبي الرسل حتى يخافوا أن يصيبهم كما أصاب المكذبين (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) الحياة الآخرة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصي (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تستعملون عقولكم لتدركوا هذه الحقائق.

[١١٠] (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) يئسوا من إيمان الناس (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) إن قومهم كذبوهم تكذيبا لا إيمان منهم بعد ذلك (جاءَهُمْ نَصْرُنا) بالتفاف الناس حولهم ونصرتهم على أعدائهم (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) من المؤمنين (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) عذابنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) إذا عاندوا في الكفر.

[١١١] (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) قصة الأنبياء عليهم‌السلام والأمم (عِبْرَةٌ) اعتبار وتذكرة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أصحاب العقول (ما كانَ) ما ذكرناه من القرآن (حَدِيثاً يُفْتَرى) مكذوبا (وَلكِنْ) القرآن (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) فإن القرآن مصدق للكتب السابقة (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إلى الشرح والتفصيل من أمور الدين والدنيا (وَهُدىً) دلالة إلى الرشاد (وَرَحْمَةً) نعمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله واليوم الآخر ، وخصهم لأنهم المنتفعون بالقرآن.

٢٦٠