تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

[٧] (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي القيامة (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) دون أن يعملوا للآخرة (وَاطْمَأَنُّوا بِها) سكنوا إليها (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) لا يتدبرونها.

[٨] (أُولئِكَ مَأْواهُمُ) محلهم (النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب كسبهم الكفر والمعاصي.

[٩] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) إلى الجنة (بِإِيمانِهِمْ) بسبب إيمانهم (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) تحت قصورهم وأشجارهم (الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ذات النعمة.

[١٠] (دَعْواهُمْ فِيها) دعاؤهم وذكرهم في الجنة (سُبْحانَكَ اللهُمَ) إنا نسبحك تسبيحا يا الله ، والتسبيح التنزيه (وَتَحِيَّتُهُمْ) ما يحيي بعضهم بعضا (فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ) آخر كلامهم (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

[١١] (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) إذا دعوا على أنفسهم وعلى أقربائهم كما هو عادة الجهّال (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) أي كتعجيله لهم بالخير إذا طلبوه من الله (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لهلكوا ، ولكن يمهلهم (فَنَذَرُ) نترك (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي البعث (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يتحيرون.

[١٢] (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) البلاء والمشقة (دَعانا لِجَنْبِهِ) في حال الاضطجاع (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) أي في كل الأحوال (فَلَمَّا كَشَفْنا) أزلنا (عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) استمر على طريقته الأولى (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ) هكذا (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) من تعدى الحد في العقيدة أو العمل (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإنهم يرون أعمالهم حسنة ولذا يستمرون فيها.

[١٣] (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) أهل كل عصر (مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الأدلة الواضحات (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لأنهم عاندوا الحق (كَذلِكَ) كهلاك أولئك (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

[١٤] (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) أيها المسلمون (خَلائِفَ) خلفاء (فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) من خير أو شر لنجازيكم عليه.

٢٢١

[١٥] (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) على هؤلاء الخلائف (آياتُنا بَيِّناتٍ) في حال كونها واضحات (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) لا يعتقدون بالآخرة (ائْتِ) يا محمد (بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) لا يعيب آلهتنا (أَوْ بَدِّلْهُ) بأن تجعل مكانه ما لا يكون فيه عيب الآلهة ، فيكون بنفس الأسلوب والمطالب لكن بدون عيب الآلهة (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ) من جهة (نَفْسِي إِنْ) ما (أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بالتبديل (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) في الآخرة.

[١٦] (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) بأن أمرني الله أن لا أتلوا القرآن أصلا أو لا أتلو عليكم أنتم بالذات (وَلا أَدْراكُمْ) أي لا أعلمكم الله (بِهِ) بهذا القرآن (فَقَدْ لَبِثْتُ) مكثت (فِيكُمْ عُمُراً) أربعين سنة (مِنْ قَبْلِهِ) قبل نزول القرآن (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنه ليس من تلقاء نفسي وإلّا لكنت أقرأه عليكم قبل الأربعين أيضا.

[١٧] (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أكثر ظلما من المفتري على الله كقوله : له تعالى ولد أو شريك (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كالقرآن ، بأن أذكر الآيات (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) لا يفوز (الْمُجْرِمُونَ).

[١٨] (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي الأصنام فإنها لا تضرّ بنفسها وإنما يعذب الله عبدتها (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ) الأصنام (شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) تشفع في أمور دنيانا وأخرانا (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ) تخبرون ، والاستفهام للإنكار (اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) من باب السالبة بانتفاء الموضوع إذ لو كانت الأصنام شفعاء وشركاء لعلمه الله (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فإنه سبحانه يعلم أن لا شريك له في السماء ولا في الأرض (سُبْحانَهُ) أنزّهه عن الشرك (وَتَعالى) ارتفع عن ذلك (عَمَّا) عن الأصنام (يُشْرِكُونَ) يشركونها معه عزوجل.

[١٩] (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) فإن الناس على لون واحد قبل بعثة كل نبي (فَاخْتَلَفُوا) بمجيء الأنبياء عليهم‌السلام فبعضهم ناصر الحق وبعضهم عارض الحق (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بأن قال الله : أؤخر الجزاء إلى يوم الفصل ، وذلك لمصلحة الامتحان الكامل (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لفصل بين المحق والمبطل في الدنيا (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بنجاة المحق وهلاك المبطل.

[٢٠] (وَيَقُولُونَ لَوْ لا) هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آيَةٌ) من الآيات التي نقترحها (مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) فإن الله يعلم لما ذا لا ينزل آية مقترحة ، إذ يعلم أن الصلاح في عدم إنزالها (فَانْتَظِرُوا) نزولها والعذاب (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).

٢٢٢

[٢١] (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) كالخصب والرخاء (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) كالجدب والمرض (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أي عوض أن يشكروا يمكرون ، يريدون بذلك إطفاء الآيات وإبطالها (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) مجازاة على المكر (إِنَّ رُسُلَنا) الملائكة (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) ما تدبرون لأجل إبطال الحق ، فنجازيكم عليه.

[٢٢] (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) يقدركم على السير (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) السفينة في البحر (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) أي أجرينا سفنهم (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) بسبب ريح حسنة لينة (وَفَرِحُوا بِها) بتلك الريح (جاءَتْها) أي الفلك (رِيحٌ عاصِفٌ) شديدة (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من أطراف السفينة (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي سدّت مسالك الخلاص من أطرافهم (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من غير إشراك ، إذ الفطرة ترجع إلى حالتها الواقعية عند الهول (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) الشدة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) فلا نظلم.

[٢٣] (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) الله إجابة لدعائهم (إِذا هُمْ يَبْغُونَ) يظلمون (فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) فإن وبال الظلم يرجع إلى الظالم نفسه (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) إنما تتمتعون متاع الحياة الدنيا بسبب البغي (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم في القيامة (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لنجازيكم عليه.

[٢٤] (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) صفتها في سرعة زوالها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي امتزج بسبب المطر (نَباتُ الْأَرْضِ) بعضه ببعض (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) من الحبوب والعشب (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) جمالها بالنبات (وَازَّيَّنَتْ) وتزينت بالخضرة (وَظَنَّ أَهْلُها) مالكيها (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) بالحصاد والانتفاع بالغلات (أَتاها أَمْرُنا) أي جاء إلى الأرض المزروعة عذابنا (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي أتلف العذاب الزرع حتى صارت الأرض كأنها محصودة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) أي تكن الأرض على تلك الصفة المخضرة (بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ) نشرح (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ليعتبروا بها.

[٢٥] (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) هي الجنة لسلامتها من كل آفة (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ممن هو قابل للهداية (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

٢٢٣

[٢٦] (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) مبتدأ ، أي المثوبة الحسنة هي للذين أحسنوا (وَزِيادَةٌ) زيادة على استحقاقهم (وَلا يَرْهَقُ) لا يغشى (وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) سواد (وَلا ذِلَّةٌ) هوان (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون.

[٢٧] (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) عملوا بالمعاصي (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) بلا زيادة (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يحفظهم من بأس الله (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) ألبست (وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) من سواد وجوههم (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

[٢٨] (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) نجمعهم للجزاء (جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) ألزموا ، ولا تذهبوا (أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) الأصنام (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي فرقنا بينهم وقطعنا الصلة التي كانت بين الأصنام وعبّادها (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) فإن الله ينطق الأصنام ليتبرءوا من العبّاد : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) بل كنتم تعبدون الأهواء.

[٢٩] (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا) نحن الأصنام (وَبَيْنَكُمْ) أيها المشركون (إِنْ) مخففة من الثقيلة (كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) أي لم نكن نشعر بعبادتكم لنا.

[٣٠] (هُنالِكَ) في ذلك المقام (تَبْلُوا) تختبر (كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) من عمل ، ليجزي عليه (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ) أرجعوا في جزائهم إليه تعالى (مَوْلاهُمُ) مالكهم (الْحَقِ) حينما بطلت أصنامهم الباطلة (وَضَلَ) بطل (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الأصنام.

[٣١] (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات (أَمَّنْ يَمْلِكُ) يخلق وفي قبضته (السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كإخراج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أمر العالم ينظمه (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) يفعل كل ذلك (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) عقابه ، بأن لا تجعلوا له شريكا.

[٣٢] (فَذلِكُمُ) الذي يفعل كل ذلك ، و(كم) للخطاب (اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) فعبادة غيره ضلال (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) إلى أين تصرفون عن عبادته.

[٣٣] (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي كما حقت الربوبية لله حقت كلمة الله وحكمه (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) عاندوا في الفسق والخروج على الطاعة (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فقد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون باختيار أنفسهم.

٢٢٤

[٣٤] (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) الذين جعلتموهم شركاء لله (مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

[٣٥] (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) بإرسال الرسل ونصب الدلائل (قُلِ اللهُ) وحده (يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي) أي هو بنفسه لا يتمكن من هداية نفسه (إِلَّا أَنْ يُهْدى) بأن يهديه غيره ، وهذا وصف أشرف الشركاء كالمسيح عليه‌السلام والملائكة ، فكيف بالأصنام (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) حكما جائرا.

[٣٦] (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) أكثر الكفار والمشركين (إِلَّا ظَنًّا) إذ قليل منهم يقطعون بصحة الأصنام جهلا مركبا (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فإن الظن ليس بعذر ولا مرآة للواقع (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) من اتباع الظن وترك الحجة ، وهذا تهديد لهم.

[٣٧] (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) بأن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افتراه (مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله (وَلكِنْ) أنزل (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب السابقة (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي شرح ما كتب وأثبت من أمور الدين (لا رَيْبَ فِيهِ) ليس محل شك وريب (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

[٣٨] (أَمْ يَقُولُونَ) بل يقول الكفار : (افْتَراهُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) إن كان القرآن كلام البشر فأتوا بسورة مثل سور القرآن (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) لمعاضدتكم (مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله كائنا من كان (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنه افتراء.

[٣٩] (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) بالقرآن قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي بعد لم يفهموا معانيه وحقائقه (كَذلِكَ) بدون تدبر (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أنبياءهم وكتبهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) حيث نزل بهم العذاب ، وهذا تهديد لقريش وسائر الكفار.

[٤٠] (وَمِنْهُمْ) من الناس (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) المعاندين الذين يفسدون في الأرض.

[٤١] (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) كل يجزى بما عمل (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) وهذا كناية عن تركهم وشأنهم.

[٤٢] (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن ، لا بقصد الاستفادة (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) فإنهم كالأصم الذي لا يسمع ، والاستفهام لبيان عدم فائدة وعظهم (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) بأن انضمّ إلى صممهم عدم تعقلهم.

٢٢٥

[٤٣] (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) بدون قصد العبرة بالنظر (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) تقدر على هدايته (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) بأن انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة.

[٤٤] (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بترك اتباع الحق.

[٤٥] (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) يجمعهم (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) لم يبقوا في الدنيا (إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) وذلك لأن الزمان المنقضي كأنه لم يكن شيئا (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي بالبعث الذي فيه لقاء جزاء الله (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) هناك يظهر خسرانهم.

[٤٦] (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) نعد هؤلاء الكفار من العقاب في الدنيا (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل تعذيبهم (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) في الآخرة وهناك ترى عقابهم (ثُمَ) للترتيب في الكلام (اللهُ شَهِيدٌ) شاهد (عَلى ما يَفْعَلُونَ) فيجازيهم عليه.

[٤٧] (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) وكذّبوه (قُضِيَ) حكم ، والحاكم هو الله (بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) بالعدل ، بأن يهلكهم الله (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بل يعاقبون جزاء عملهم.

[٤٨] (وَيَقُولُونَ) الكفار استهزاء : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) بالعذاب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنّ من لم يؤمن يعاقب.

[٤٩] (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فالضر والنفع يوجههما الله إلى الإنسان ، فكيف أملك لكم واستعجل في طلب عذابكم (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يوجهه إليّ من ضرّ أو نفع (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) وقت معلوم فيه فناء تلك الأمة (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي إذا جاء وقتهم وهو في طريق الوصول إليهم لا يتقدم ولا يتأخر عن الوقت المحدود.

[٥٠] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) الذي تستعجلونه (بَياتاً) ليلا (أَوْ نَهاراً ما ذا) أي شيء (يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ) من العذاب (الْمُجْرِمُونَ) أي تندموا على استعجاله.

[٥١] (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) أي هل بعد وقوع العذاب (آمَنْتُمْ بِهِ) بالله ، حين لا ينفعكم الإيمان ، فيقال لهم (آلْآنَ) آمنتم (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) والاستفهام للإنكار ، أي في وقت الاستعجال لم تؤمنوا ، والآن تؤمنون حيث لا ينفع الإيمان.

[٥٢] (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي الباقي الدائم (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) الاستفهام بمعنى النفي أي لا تجزون إلا بمقابل كسبكم.

[٥٣] (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) أي يستخبرونك يا رسول الله (أَحَقٌّ هُوَ) ما تقول من الوعد والوعيد (قُلْ إِي وَرَبِّي) بحق ربي (إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) لا تتمكنون من أن تعجزوا الله حتى لا يعذبكم.

٢٢٦

[٥٤] (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) بالشرك والعصيان (ما فِي الْأَرْضِ) من الثروة (لَافْتَدَتْ بِهِ) أي جعلها فدية لنفسه ليخلصها من العقاب (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي أخفوها كراهة شماتة المؤمنين (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي حكم الله بينهم بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا يزاد في عقابهم الذي يستحقونه.

[٥٥] (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فيأتي ثوابه وعقابه (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

[٥٦ ـ ٥٧] (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) من الاعتقادات السقيمة والأخلاق الرذيلة (وَهُدىً) هداية إلى الطريق (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فإنهم المنتفعون بها.

[٥٨] (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ) الفضل والرحمة (فَلْيَفْرَحُوا) لا بسواهما من الأموال والمناصب وما أشبه (هُوَ) الفضل والرحمة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من أموال الدنيا ، لأنها زائلة وفضله دائم.

[٥٩] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً) كالبحيرة والسائبة (وَحَلالاً) كالمحرمات التي كانوا يتناولونها (قُلْ آللهُ) أصله (أالله) (أَذِنَ لَكُمْ) في التحريم والتحليل (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) في نسبة ذلك إلى الله.

[٦٠] (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي شيء ظنهم به في (يَوْمَ الْقِيامَةِ) هل يظنون أنه لا يعاقبهم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث خلقهم وأمهلهم وأرسل إليهم الهدى (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعم بل يكفرون بها.

[٦١] (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) من شؤونك وحال من أحوالك (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) أي من شأنك (مِنْ قُرْآنٍ) بعض القرآن (وَلا تَعْمَلُونَ) أيها الناس (مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) نشهد حالكم وقراءتكم وعملكم (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي تدخلون في ذلك الشأن والقرآن والعمل (وَما يَعْزُبُ) يغيب (عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ) ثقل (ذَرَّةٍ) هباءة (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ) المثقال (وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كتاب واضح ، أي قد كتب عند الله.

٢٢٧

[٦٢ ـ ٦٤] (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) الذين يتولونه (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فإن خوفهم وحزنهم بالنسبة إلى غيرهم ليس بشيء يذكر (الَّذِينَ) بدل من (أولياء الله) (آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) المعاصي (لَهُمُ الْبُشْرى) البشارة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يبشرهم الله بالمستقبل الزاهر في الدنيا (وَفِي الْآخِرَةِ) بالجنة (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) فإن البشارة لهم قطعية (ذلِكَ) المذكور من البشرى (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

[٦٥] (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) بتكذيبك (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فإن الغلبة والسيادة لله ولك فلا يضرك قولهم حتى تحزن (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

[٦٦] (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فكلّهم خلقه ، وليسوا شركاء له (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي له أيضا ما يسمونه شركاء لله (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي إن اتّباعهم للأصنام ناشئ عن الظن (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون في جعلهم الأصنام شركاء لله.

[٦٧] (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا) تستريحوا (فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي لتبصروا فيه (إِنَّ فِي ذلِكَ) الجعل (لَآياتٍ) حجج وأدلة على وجود الله (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تدبّر.

[٦٨] (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) كالمسيح وعزيز والملائكة (سُبْحانَهُ) أنزهه تنزيها (هُوَ الْغَنِيُ) عن اتخاذ الولد (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) والمملوك لا يكون ولدا (إِنْ) ما (عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) حجة (بِهذا) الذي تقولون به من اتخاذ الولد (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) استفهام إنكار.

[٦٩] (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) باتخاذه الولد أو ما أشبه (لا يُفْلِحُونَ) لا يفوزون بالثواب.

[٧٠] (مَتاعٌ) أي افتراؤهم لأجل تمتع (فِي الدُّنْيا) بالرئاسة والمال (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) رجوعهم (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ) في جهنم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم.

٢٢٨

[٧١] (وَاتْلُ) اقرأ (عَلَيْهِمْ نَبَأَ) خبر (نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ) عظم وشقّ (عَلَيْكُمْ مَقامِي) إقامتي بينكم (وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ) أي وعظي وما أذكركم (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) وبه وثقت (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) اعزموا على أمر تكيدونني به (وَشُرَكاءَكُمْ) أي مع شركائكم (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) في الإساءة إليّ (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) كربة (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أدّوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون بي (وَلا تُنْظِرُونِ) لا تمهلوني ، وهذا تحدّ لهم بأن الله يحفظه عليه‌السلام من بأسهم كائنا ما كان.

[٧٢] (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن تذكيري (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) لم أسألكم أجرا على الرسالة حتى يكون ذلك سببا لإعراضكم ، بل إعراضكم إنما هو للعناد (إِنْ أَجْرِيَ) ما ثوابي (إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سواء أسلمتم لله أم لا.

[٧٣] (فَكَذَّبُوهُ) فيما قال (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) السفينة (وَجَعَلْناهُمْ) أي الذين نجوا (خَلائِفَ) خلفاء لمن هلك (وَأَغْرَقْنَا) بالطوفان (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الذين أنذروا فلم يقبلوا الإنذار.

[٧٤] (ثُمَّ بَعَثْنا) أرسلنا (مِنْ بَعْدِهِ) بعد نوح عليه‌السلام (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الظاهرات (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) قبل إرسال الرسل لأنهم اعتادوا التكذيب ومعاندة الحق (كَذلِكَ) هكذا (نَطْبَعُ) فإن الطبع عبارة عن القسوة التي هي طبيعة لمن ركب رأسه وعاند الحق (عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) الذين يجاوزون الحد.

[٧٥] (ثُمَّ بَعَثْنا) أي أرسلنا (مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد أولئك الأنبياء كإبراهيم ويوسف ويعقوب عليهم‌السلام (مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أشراف قومه (بِآياتِنا) بأدلتنا (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الانقياد للرسل والآيات (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) يكسبون الإثم.

[٧٦] (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) ما أتى به موسى عليه‌السلام من المعجزات (مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا) الذي أتيته من المعجزات (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر.

[٧٧] (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) إنه سحر ، وهذا استفهام إنكار (أَسِحْرٌ هذا) أي هل هذا سحر ، استفهام إنكار أيضا (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) إذ يظهر السحر ، فحيث أفلحت دل ذلك على أني لست بساحر.

[٧٨] (قالُوا أَجِئْتَنا) يا موسى (لِتَلْفِتَنا) لتصرفنا (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام (وَ) ل (تَكُونَ لَكُمَا) أي موسى وهارون عليه‌السلام (الْكِبْرِياءُ) الملوكية (فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) مصدقين لا نصدقكم فيما جئتما به.

٢٢٩

[٧٩] (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي) جيئوا إليّ (بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) حاذق في السحر.

[٨٠] (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) من الحبال والعصي التي تقلبونها حية وهمية.

[٨١] (فَلَمَّا أَلْقَوْا) السحرة (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ) هو (السِّحْرُ) لا حقيقة له (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) يظهر بطلانه (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يظهره بمظهر الصلاح.

[٨٢] (وَيُحِقُ) يظهر (اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) بسبب مواعيده (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك.

[٨٣] (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ) أولاد (مِنْ قَوْمِهِ) قوم موسى عليه‌السلام ، فإنهم من ذرية إسرائيل (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) أشرافهم (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يصرفهم فرعون عن الإيمان (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ) غالب (فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا في الطغيان.

[٨٤] (وَقالَ مُوسى) لما رأى خوف المؤمنين : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) اعتمدوا (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أسلمتم لله فيما يقول.

[٨٥] (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا) يا ربنا (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) أي موضع فتنة (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تسلطهم علينا ليفتنونا ويصرفونا عن الدين.

[٨٦] (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فرعون وملأه.

[٨٧] (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا) اتخذا (لِقَوْمِكُما) المؤمنين بمدينة مصر (بُيُوتاً) ولعلهم كانوا قبل ذلك بلا بيوت مملوكة ، كالقبيلة المتفرقة التي تجتمع في مكان واحد بعد ذلك (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) يتقابل بعضكم مع بعض ، ولعل المراد اجتماع بيوتهم في محل واحد حتى يكونوا مجتمعين في مكان واحد (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنجاة والجنة.

[٨٨] (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ) جماعته (زِينَةً) يتزينون بها من الحلي والثياب (وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا) اللام للعاقبة أي عاقبة إعطائهم الإضلال (عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ) امسخها (عَلى أَمْوالِهِمْ) وقد قالوا : صارت أموالهم حجارة (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أخذلهم (فَلا يُؤْمِنُوا) وهذا دعاء عليهم بعد اليأس عن هدايتهم (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) المؤلم في الدنيا.

٢٣٠

[٨٩] (قالَ) الله (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) يا موسى وهارون (فَاسْتَقِيما) أثبتا على دعوتكما (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) طريق الجهلة.

[٩٠] (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) أي عبرنا بهم البحر (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) لأجل إلقاء القبض عليهم (بَغْياً) ظلما (وَعَدْواً) تعديا ، فغرق في الماء (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) بأن أشرف على الهلاك (قالَ) فرعون (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

[٩١] (آلْآنَ) أي هل تؤمن في هذا الحال ، فإن الإيمان لا يقبل إذا جاء الموت (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) بالكفر (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أفسدت الناس.

[٩٢] (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) أي نلقي جسدك بلا روح خارج الماء (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) وراءك (آيَةً) علامة تدل على بأس الله (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) لا يعتبرون بها.

[٩٣] (وَلَقَدْ بَوَّأْنا) مكنّا (بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي منزلا لا ينزعجون فيه كأنه مكان صادق لا كذب فيه (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا) أي بنو إسرائيل بل بقوا على يهوديتهم (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بعيسى عليه‌السلام وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فآمن بعض وبقي بعضهم على دينه المنسوخ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيجازي من آمن منهم بالثواب ومن كفر بالعقاب.

[٩٤] (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) من القرآن ، والجملة لبيان علم أهل الكتاب بحقية القرآن (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإنهم يعرفون حقية دينك (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) الشاكين.

[٩٥] (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم دنيا وآخرة.

[٩٦] (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ) ثبتت (عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) بأن علم أنهم لا يؤمنون (لا يُؤْمِنُونَ) باختيارهم ، فإن العلم ليس سببا.

[٩٧] (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) كل معجزة ، وهذا وصل بما قبله (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) المؤلم ، وإيمان ذلك الوقت ليس بنافع.

٢٣١

[٩٨] (فَلَوْ لا) أي فهلا (كانَتْ قَرْيَةٌ) من القرى التي أهلكناها (آمَنَتْ) قبل حلول العذاب بها (فَنَفَعَها إِيمانُها) أي لما ذا لم يؤمنوا قبل العذاب حتى لا يعذّبوا (إِلَّا) لكن (قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) حين رأوا آثار العذاب (كَشَفْنا) رفعنا (عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) الذي يذلهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أجلهم.

[٩٩] (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) بأن يجبرهم على الإيمان (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي لا تقدر على إكراههم ولو قدرت لم تكن مصلحة إذ لو كان في الإكراه مصلحة لفعله الله تعالى.

[١٠٠] (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) إذ الإيمان لا يكون إلا بعد إرسال الرسول الذي هو بيد الله وبإذنه (وَيَجْعَلُ) الله (الرِّجْسَ) لوث العصيان (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) بأن لا يتدبروا آياته تعالى عنادا.

[١٠١] (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الدلائل على وجود الصانع (وَما تُغْنِي) ما تفيد (الْآياتُ) الكونية (وَالنُّذُرُ) الرسل المنذرون (عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا تفيد في دفع العذاب عنهم ، لأنهم عاندوا الحق.

[١٠٢] (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) هؤلاء الذين لا يؤمنون بك (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) مضوا ، أي هل ينتظرون أن يعاقبوا كما عوقب الأمم المكذبة (مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا) عذاب الله (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).

[١٠٣] (ثُمَ) إذا جاء العذاب (نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ) الإنجاء (حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ننجي المؤمنين في حال كون نجاتهم حقا علينا.

[١٠٤] (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) من صحة دين الإسلام (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي فلا تطمعوا أن اتخذ طريقتكم لأني على يقين (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) يميتكم ، إذ بيده الحياة والموت (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

[١٠٥] (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي أمرت بإقامة الوجه للدين ، بأن لا أصرف وجهي عن الإسلام (حَنِيفاً) مائلا عن الباطل (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في العقيدة والعبادة.

[١٠٦] (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) فإن الأصنام لا تأتي منها مضرة ولا منفعة (فَإِنْ فَعَلْتَ) دعوت الأصنام (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم.

٢٣٢

[١٠٧] (وَإِنْ يَمْسَسْكَ) يصيبك (اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ) لا يرفعه (إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) بأن أراد بك خيرا (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) إذ لا أحد يقدر على ردّ فضل الله (يُصِيبُ بِهِ) بفضله (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ) لذنوبهم (الرَّحِيمُ) بهم.

[١٠٨] (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ) القرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لأن فائدة الإيمان ترجع إلى نفس المؤمن (وَمَنْ ضَلَ) بالكفر (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) فإن وبال الضلال على نفس الضال (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بحفيظ وإنما أنا بشير ونذير.

[١٠٩] (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) بأن اعمل به وبلغه الناس (وَاصْبِرْ) على إيذاء الناس (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بالنصر لك (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فإنه لا جور في حكمه لا عمدا ولا سهوا.

١١ : سورة هود

مكية وآياتها مائة وثلاث وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الر) رمز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كِتابٌ) هذا كتاب (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أتقنت فلا خلل فيها (ثُمَّ فُصِّلَتْ) شرحت شرحا وافيا (مِنْ لَدُنْ) عند (حَكِيمٍ) يضع الأشياء مواضعها (خَبِيرٍ) عالم بكل شيء.

[٢] (أَلَّا تَعْبُدُوا) أي أحكمت لئلا تعبدوا (إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) من طرفه تعالى (نَذِيرٌ) لمن كفر وعصى (وَبَشِيرٌ) لمن آمن وأطاع.

[٣] (وَأَنِ) عطف على (ألا تعبدوا) (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من الكفر والمعاصي (ثُمَّ تُوبُوا) ارجعوا (إِلَيْهِ) بالطاعة (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) يسعدكم في الدنيا (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقت مسمى عنده ، وهو منتهى عمركم (وَيُؤْتِ) يعطي (كُلَّ ذِي فَضْلٍ) بالطاعة (فَضْلَهُ) جزاء عمله (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا فقل لهم إني (أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) يوم القيامة.

[٤] (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على إعادتكم بعد الموت.

[٥] (أَلا إِنَّهُمْ) الكفار (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أي يطوون في صدورهم بغض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإسلام (لِيَسْتَخْفُوا) أي ليستروا عداوتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنْهُ) من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنهم يريدون النفاق (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي يغطون أنفسهم بثيابهم (يَعْلَمُ) الله (ما يُسِرُّونَ) في قلوبهم وتحت أغطيتهم (وَما يُعْلِنُونَ) يظهرون. والآية في مقام بيان أن الله عالم بما في قلوبهم ولو كانوا تحت الغطاء فلا ينفعهم قصدهم تستر نفاقهم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بمكنونات القلوب.

٢٣٣

[٦] (وَما مِنْ دَابَّةٍ) كل حيوان يدب ويتحرك (فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) معاشها (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) موضع قرارها (وَمُسْتَوْدَعَها) المحل الذي أودع فيه من الرحم والقبر (كُلٌ) مما ذكر (فِي كِتابٍ) مكتوب عند الله (مُبِينٍ) ظاهر.

[٧] (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من مقادير أيام الدنيا (وَكانَ عَرْشُهُ) المحل الذي خلقه لنفسه تشريفا (عَلَى الْماءِ) فإنه مصدر الحياة للمخلوقات (لِيَبْلُوَكُمْ) يختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ليجازيكم عليه (وَلَئِنْ قُلْتَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) تحيون للحساب (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا) ما هذا القول (إِلَّا سِحْرٌ) تمويه لا حقيقة له (مُبِينٌ) واضح.

[٨] (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ) عن الكفار (الْعَذابَ) الموعود (إِلى أُمَّةٍ) أمد حسبنا ذلك الأمد (مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَ) الكفار استهزاء (ما يَحْبِسُهُ) ما يمنع العذاب من الحلول (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) العذاب (لَيْسَ مَصْرُوفاً) مدفوعا (عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ) حل بهم في ذلك اليوم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب.

[٩] (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) سلبنا تلك النعمة منه (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) كثير اليأس من رحمة الله (كَفُورٌ) شديد الكفران فلا يرجو إعادة الرحمة إليه.

[١٠] (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ) نعمة (بَعْدَ ضَرَّاءَ) شدة وبلاء (مَسَّتْهُ) أي مست تلك الضراء الإنسان (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ) المحن والمصائب (عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ) يفرح بذلك (فَخُورٌ) كثير الفخر.

[١١] (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) فإنهم لا ييأسون عند البلاء ولا يبطرون عند النعماء (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) غفران لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) بالجنة والثواب.

[١٢] (فَلَعَلَّكَ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) فلا تبلّغهم إياه لأجل استهزائهم بك (وَضائِقٌ بِهِ) بالوحي (صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا) أي ضائق لأجل أنهم يقولون (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) من الثروة لينفقها كالملوك (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدقه (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) فليس تملك إلّا الإنذار (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) حفيظ فيجازيهم ، أما إنزال الملك والكنز فليس من شأن رسالتك.

٢٣٤

[١٣] (أَمْ) بل (يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي القرآن فليس من عند الله (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) فإنه لو كان كلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتمكنتم من الإتيان بمثله (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) لمعاونتكم في إتيان السور (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنه مفترى.

[١٤] (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) بأن لم يقدروا على إتيان مثل القرآن (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) الله أنزله عالما به (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لعجز غيره ولو كان هناك إله آخر لتمكن من مثله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ثابتون على الإسلام.

[١٥] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) بأعماله الخيرة (نُوَفِ) نردّ (إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) جزاء أعمالهم (فِيها) في الدنيا (وَهُمْ فِيها) في الدنيا (لا يُبْخَسُونَ) لا ينقصون ، إذ الدنيا دار جزاء لأعمال البر لمن لا نصيب له في الآخرة.

[١٦] (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) جزاء كفرهم وعصيانهم (وَحَبِطَ) بطل (ما صَنَعُوا فِيها) من الأعمال الخيرة فلا ثواب لهم في الآخرة (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لأنه كان لغير الله.

[١٧] (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) برهان كالعقل (مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ) وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنْهُ) من قبل الله (وَمِنْ قَبْلِهِ) قبل الشاهد (كِتابُ مُوسى) التوراة في حال كونه (إِماماً) يؤتم به (وَرَحْمَةً) فقبله نور ومعه شاهد وبرهان كمن ليس كذلك ، وفيه تعريض بالكفّار (أُولئِكَ) الذين هم على بينة ويعتقدون بالشاهد (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن ، وفي بعض الروايات تأويل (من) بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و(الشاهد) بعلي عليه‌السلام (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) كأهل مكة وسائر الكفار المتحزبين (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) مستقره ومصيره (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) شك (مِنْهُ) أي من القرآن (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لقلة نظرهم وفكرهم.

[١٨] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن نسب إليه ما ليس منه أو نفى عنه ما هو منه (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) يوم القيامة كما يعرض المجرم على الحاكم (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) جمع شاهد ، وهم الملائكة وغيرهم (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) بأن نسبوا إليه ما ليس منه ، أو نفوا عنه ما كان منه (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكذب على الله.

[١٩] (الَّذِينَ يَصُدُّونَ) يصرفون الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يطلبون أن تكون السبل معوجة إذ لا يريدون السبيل المستقيم (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ).

٢٣٥

[٢٠] (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ) أي لا يقدرون أن يعجزوا الله حتى لا يعذبهم ولا يأخذهم حال كونهم (فِي الْأَرْضِ) بل في الآخرة (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) يمنعونهم من عقاب الله (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) لكفرهم وصدهم عن سبيل الله (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) سماع الحق لعدائهم له (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) بصر اعتبار واتعاظ.

[٢١] (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث عرضوها للعقاب الدائم (وَضَلَ) ذهب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة الباطلة فإنها لا تنفعهم.

[٢٢] (لا جَرَمَ) لا محالة (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) الأكثر خسرانا من غيرهم من العصاة.

[٢٣] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا) خشعوا (إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون.

[٢٤] (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) المؤمنين والكافرين (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) هذا مثل الكافر إذ لا يستفيد بسمعه وبصره (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) استفهام إنكار ، أي لا يستويان (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) بالتأمل في الأمثال.

[٢٥] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) فقال لهم (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) أخوفكم عذاب الله (مُبِينٌ) ظاهر.

[٢٦] وقال لهم : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) مؤلم يصيبكم العذاب إن لم تؤمنوا.

[٢٧] (فَقالَ الْمَلَأُ) جماعة الأشراف (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) فلا مزية لك حتى تكون نبيا (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) أخساؤنا الذين لا مال لهم ولا جاه فكيف نتبعك حتى نحشر في جملتهم ، وهم (بادِيَ الرَّأْيِ) ظاهره بدون تعمق ولذا اتبعوك (وَما نَرى لَكُمْ) لك ولمن اتبعك (عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) فلا أفضلية لكم علينا بل نحن مثلكم فلما ذا الاتباع (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) فأنت تكذب في دعواك وهم يكذبون في دعوتهم العلم بصدقك.

[٢٨] (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة (مِنْ رَبِّي) على صدق نبوتي (وَآتانِي رَحْمَةً) بالنبوة (مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) خفيت تلك البينة عليكم لقلة تأملكم وعنادكم (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي هل نلزمكم الاهتداء بتلك البينة (وَ) الحال (أَنْتُمْ لَها) للبينة (كارِهُونَ) لا تريدون معرفتها والجملة في مقام إفادة أنه لا يلزم الناس الهداية وإنما يبين لهم الحجة.

٢٣٦

[٢٩] (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على التبليغ (مالاً) وأجرا (إِنْ) ما (أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) من جهة كلامكم إنهم أراذل ، فلا وجه لإبعاد المؤمن مهما كان حقيرا بحسب الظاهر (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فإذا طردتهم شكوني عنده تعالى (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) الحق وأهله.

[٣٠] (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) فإن طرد المؤمن لا يجوز (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن الأمر على ما قلته.

[٣١] (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) حتى تستعظموا ذلك ، والمراد بخزائن الله أرزاقه وخزائن رحمته (وَلا) أقول إني (أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) من أملاك السماء (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) تحتقرهم أعينكم من المؤمنين الذين اتبعوني (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي لا أقول ذلك مجاراة لكم (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) فإنه إذا عرف منهم الإخلاص أثابهم في الدنيا والآخرة (إِنِّي إِذاً) إذا قلت شيئا من ذلك (لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

[٣٢] (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) خاصمتنا بالأدلة والحجج (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعوتك النبوة.

[٣٣] (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ) بالعذاب (اللهُ إِنْ شاءَ) إذا تعلقت مشيئته (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) لا تقدرون على أن تعجزوا الله في دفع العذاب عن أنفسكم.

[٣٤] (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) يضلكم بترككم وشأنكم حتى تضلوا (هُوَ رَبُّكُمْ) المتصرف في شؤونكم (وَإِلَيْهِ) إلى جزائه في الآخرة (تُرْجَعُونَ).

[٣٥] (أَمْ) بل (يَقُولُونَ) كفار مكة (افْتَراهُ) افترى في قصة نوح عليه‌السلام (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) عقوبة كذبي (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) من أنواع جرمكم بالكفر والعصيان.

[٣٦] (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ) لا تحزن (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) فقد حان وقت الانتقام.

[٣٧] (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) السفينة (١) (بِأَعْيُنِنا) برعايتنا وحفظنا (وَوَحْيِنا) وتعليمنا (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) بأن تطلب مني إمهالهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) لا محالة.

__________________

(١) سميت السفينة فلكا لدورانها في الماء ، وأصله : الدور ، ومنه الفلك وفلكة المغزل.

٢٣٧

[٣٨] (وَيَصْنَعُ) نوح عليه‌السلام (الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ) جماعة (مِنْ) أشراف (قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) لأنه كان يصنع السفينة في محل بعيد من الماء (قالَ) نوح عليه‌السلام (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) إذا أخذكم الغرق (كَما تَسْخَرُونَ).

[٣٩] (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ) الذي (يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يذله (وَيَحِلُ) ينزل (عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم في الآخرة.

[٤٠] (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) بتعذيبهم (وَفارَ) غلى بالماء (التَّنُّورُ) فإن فوران الماء من التنوّر كان علامة من الله لهلاك القوم (قُلْنَا احْمِلْ فِيها) في السفينة (مِنْ كُلٍ) أي كل نوع من أنواع الحيوانات (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى ، وذلك لبقاء نسل الحيوانات (وَ) احمل في السفينة (أَهْلَكَ) عائلتك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ) من الله (عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بهلاكه فلا تحمله وهو ابنه كنعان الذي كان كافرا (وَ) احمل معك (مَنْ آمَنَ) من قومك (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا) جماعة (قَلِيلٌ).

[٤١] (وَقالَ) نوح عليه‌السلام : (ارْكَبُوا فِيها) في السفينة قائلين (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) حال جريها في الماء (وَمُرْساها) حال إرسائها أي وقوفها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

[٤٢] (وَهِيَ) السفينة (تَجْرِي بِهِمْ) أي في حال كونهم فيها (فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) في عظمها وارتفاعها (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) كنعان (وَكانَ) الابن (فِي مَعْزِلٍ) عزل وبعد عن دين نوح عليه‌السلام (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) بأن تؤمن وتركب حتى لا تغرق (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) في دينك فتغرق.

[٤٣] (قالَ) كنعان : (سَآوِي) آخذ المأوى والمحل (إِلى جَبَلٍ) مرتفع (يَعْصِمُنِي) يحفظني لارتفاعه (مِنَ الْماءِ قالَ) نوح عليه‌السلام (لا عاصِمَ) لا حافظ (الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) الذي حتمه من غرق الناس (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) الله بسبب إيمانه فانه لا يغرق (وَحالَ بَيْنَهُمَا) بين نوح عليه‌السلام وولده (الْمَوْجُ فَكانَ) صار الولد (مِنَ الْمُغْرَقِينَ).

[٤٤] (وَ) بعد انتهاء غرق المجرمين (قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي) اشربي (ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) امسكي عن المطر (وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) انتهى أمر هلاك الكفار ونجاة المؤمنين (وَاسْتَوَتْ) استقرت السفينة (عَلَى) الجبل المسمى ب (الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً) هلاكا وابتعادا عن رحمة الله (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

[٤٥] (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) عائلتي (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) فإنك وعدت بنجاة عائلتي ، والابن من العائلة فنجه (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أعدلهم.

٢٣٨

[٤٦] (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لأنه لا ولاية بين المؤمن والكافر (إِنَّهُ عَمَلٌ) أي ذو عمل (غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ) يا نوح (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) بأن لم تعلم أنه مصلحة ، إذ لا مصلحة في نجاة الولد (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ) لئلا (تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فإن ترك الأولى عمل الجاهل.

[٤٧] (قالَ) نوح عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ) من أن (أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) فإن كل من لم يغفر الله له يكون خاسرا ، ولو كانت الخسارة ناشئة من ترك الأولى.

[٤٨] (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) من السفينة (بِسَلامٍ) سلامة (مِنَّا وَبَرَكاتٍ) خيرات ثابتة (عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) في السفينة (وَأُمَمٌ) أخرى في الدنيا (سَنُمَتِّعُهُمْ) نعطيهم المتعة في الدنيا (ثُمَ) يكفرون ف (يَمَسُّهُمْ) يصيبهم (مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم ، كما متعنا أمتك فكفروا فأغرقناهم.

[٤٩] (تِلْكَ) قصة نوح عليه‌السلام (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) الأخبار الغائبة عن حواسك يا رسول الله (نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن (فَاصْبِرْ) كما صبر نوح عليه‌السلام (إِنَّ الْعاقِبَةَ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) كما كانت العاقبة لنوح عليه‌السلام.

[٥٠] (وَ) أرسلنا (إِلى عادٍ) قبيلة عاد (أَخاهُمْ) في القبيلة (هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ) ما (أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) تكذبون على الله بجعلكم شركاء له.

[٥١] (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على التبليغ (أَجْراً) أجرة (إِنْ) ما (أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) خلقني (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قولي فتعلمون أنه الحق.

[٥٢] (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا غفرانه عن كفركم وعصيانكم (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ارجعوا إليه بالأعمال الصالحة (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) كثير الدر بالمطر ، وقد كانوا أجدبوا (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً) بالمال والأولاد والقوة البدنية (إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) لا تعرضوا عن قول في حال كونكم مجرمين.

[٥٣] (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) لا حجة لك على رسالتك (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) لا نترك عبادة الأصنام ، ناشئا تركنا (عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ).

٢٣٩

[٥٤] (إِنْ) ما (نَقُولُ) فيك وفي ادعائك الرسالة (إِلَّا اعْتَراكَ) أصابك (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) بأن خبّلك آلهتنا ولذا تنكرهم (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا) أنتم أيضا (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) تجعلونه شريكا لله.

[٥٥] (مِنْ دُونِهِ) دون الله (فَكِيدُونِي) احتالوا (جَمِيعاً) أنتم وآلهتكم في إنزال مكروه بي (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) لا تمهلوني ، وهذا تحدّ لهم بأنهم لا يقدرون على أذاه لأن الله ناصره.

[٥٦] (إِنِّي تَوَكَّلْتُ) اتكلت (عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ) تدب وتمشي (إِلَّا هُوَ) الله (آخِذٌ بِناصِيَتِها) الناصية مقدم الرأس ، وهذا كناية عن كون أمرها بيد الله (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إن طريقته مستقيمة بخلاف طريقتكم.

[٥٧] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإيمان فقل لهم :

قد (أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فقد أديت تكليفي فلا شيء عليّ ، أما أنتم فيهلككم الله (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) يجعلهم مكانكم (وَلا تَضُرُّونَهُ) الله (شَيْئاً) بتوليكم لأنه تعالى غني عن الناس (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يحفظه ويراقبه فلا تخفى عليه أعمالكم.

[٥٨] (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بعذاب قوم عاد (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) إذ لو لا رحمتنا بهدايتهم لهلكوا أيضا (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) إما تأكيد أو المراد عذاب الآخرة أيضا.

[٥٩] (وَتِلْكَ) قبيلة (عادٌ جَحَدُوا) أنكروا (بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ) يجبر الناس ويكرههم (عَنِيدٍ) معاند ، أي اتبعوا كبراءهم الطاغين.

[٦٠] (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) جحدوه (أَلا بُعْداً) أبعدهم الله عن رحمته (لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ).

[٦١] (وَ) أرسلنا (إِلى) قبيلة (ثَمُودَ أَخاهُمْ) في القبيلة (صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ) لا غيره من الأصنام (أَنْشَأَكُمْ) خلقكم (مِنَ الْأَرْضِ) باعتبار آدم عليه‌السلام ، ولأن أصل كل إنسان الأرض تنقلب نباتا ثم دما ثم منيا (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) جعلكم عمّارها وسكانها (فَاسْتَغْفِرُوهُ) عن ذنوبكم (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ارجعوا إليه بالطاعة (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) من الناس قرب علم وقدرة (مُجِيبٌ) لداعيه.

[٦٢] (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) كنا نرجو خيرك (قَبْلَ هذا) القول وادعائك الرسالة (أَتَنْهانا) استفهام استهزاء ، أي هل أنت تنهى عن عبادة الأصنام (أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد (مُرِيبٍ) موجب للريبة والتهمة.

٢٤٠