تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

[٨] (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ) أي المؤمنين (جَنَّاتِ عَدْنٍ) جنات إقامة (الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) بأن لا تؤاخذهم ببعض السيئات فلا تدخلهم الجنة ، وإلا فلا يخلف الله الوعد حتى يحتاج إلى الدعاء ، (وَ) أدخل الجنة (مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) ليكمل بذلك سرورهم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القادر على ما تريد (الْحَكِيمُ) الذي يفعل الأشياء حسب الصلاح.

[٩] (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) احفظهم من المعاصي (وَمَنْ تَقِ) تحفظه من (السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) في الدنيا والآخرة (وَذلِكَ) الحفظ عن السيئات (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأن فيه سعادة الدنيا والآخرة.

[١٠] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) يناديهم الملائكة وقد غضبوا على أنفسهم أشد الغضب حين رأوا وبال أعمالهم (لَمَقْتُ اللهِ) غضبه عليكم (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) من غضبكم أنتم على أنفسكم (إِذْ) أتذكرون زمان كنتم (تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) في الدنيا فلا تقبلون بل تكفرون.

[١١] (قالُوا) أي الكفار : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) مرتين مرة وقت كنا ترابا ، والإماتة بمعنى الخلق ميتا وقد كان ذلك لأجل تغلب الموت الثاني عليه ، مثل أبوين ومرة بعد حياتنا في الدنيا (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) حياة في الدنيا وحياة يوم القيامة (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) الآن ، بعد أن نضجت أفكارنا بالموتين والحياتين ورأينا جزاء أعمالنا (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) من النار (مِنْ سَبِيلٍ) نسلكه حتى نخرج منها ، والجواب لا سبيل إلى ذلك ، إذ (لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (١).

[١٢] (ذلِكُمْ) الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه كنتم في دار الدنيا (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) بتوحيده (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) بالإشراك (فَالْحُكْمُ) في تعذيبكم (لِلَّهِ الْعَلِيِ) المرتفع عن الشريك (الْكَبِيرِ) الذي لا شيء يوازيه.

[١٣] (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) الدالة على وجوده وصفاته (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) المطر الذي هو أسباب الرزق (وَما يَتَذَكَّرُ) بالآيات (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) يرجع إلى الله تعالى.

[١٤] (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي أخلصوا الدين له ، بدون إشراك (وَلَوْ كَرِهَ) لم يرد ذلك (الْكافِرُونَ) لأنهم يريدون الشرك.

[١٥] (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) ارتفعت درجات جلاله من أن يكون له شريك (ذُو الْعَرْشِ) صاحب السلطة المطلقة (يُلْقِي الرُّوحَ) الوحي وسمي روحا لأن به قوام الاجتماع الصالح (مِنْ أَمْرِهِ) عالم الأمر (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) من الأنبياء عليهم‌السلام (لِيُنْذِرَ) يخوف الرسول الملقى إليه الوحي (يَوْمَ التَّلاقِ) أي يوم القيامة الذي يتلاقى فيه الأجساد والأرواح ، والناس بعضهم ببعض.

[١٦] (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) ظاهرون في سطح القيامة (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) من أعمالهم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فقد بطلت الملكيات المجازية ، والجواب : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) الذي يقهر كل شيء.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢٨.

٤٨١

[١٧] (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) بجزاء عملها في الدنيا (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) لا يظلم أحد (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إذ لا يشغله حساب عن حساب.

[١٨] (وَأَنْذِرْهُمْ) خوفهم (يَوْمَ الْآزِفَةِ) القيامة ، وسميت بالآزفة لقربها ، يقال : أزف ، بمعنى قرب (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) جمع حنجرة ، فإن الإنسان إذا خاف كثيرا ، انتفخت رئته فتضغط على قلبه فيأتي القلب قرب الحنجرة (كاظِمِينَ) في حال كون الناس ممتلئين غما (ما لِلظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان (مِنْ حَمِيمٍ) صديق يساعدهم (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) تقبل شفاعته.

[١٩] (يَعْلَمُ) الله (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) الخيانة الصادرة من العين بالنظر اختلاسا إلى ما حرم الله (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) من النيات والأفكار.

[٢٠] (وَاللهُ يَقْضِي) يحكم (بِالْحَقِ) بما هو حق (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) يعبد المشركون (مِنْ دُونِهِ) دون الله من الأصنام (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) لا حق ولا باطل ، لأنها جماد (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أما الأصنام فلا ترى ولا تسمع.

[٢١] (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) يسافر هؤلاء الكفار (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) كقوم هود وصالح ولوط عليهم‌السلام ، حيث إنهم إذا سافروا رأوا بلادهم الخربة وسمعوا أخبار عذابهم ممن حوالي تلك الخرابات (كانُوا هُمْ) الذين هلكوا (أَشَدَّ مِنْهُمْ) من هؤلاء (قُوَّةً) بدنية ومالية وعددية (وَ) أكثر (آثاراً فِي الْأَرْضِ) كالقلاع والأنهار والقصور (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أهلكهم بسبب ما أتوا به من الآثام (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) يقيهم ويحفظهم من بأس الله.

[٢٢] (ذلِكَ) الأخذ لهم بسبب كفرهم بعد إتمام الحجة أنهم (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات (فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌ) قادر على ما يريد (شَدِيدُ الْعِقابِ) فإذا عاقب عاقب بشدة.

[٢٣] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) المعجزات (وَسُلْطانٍ) حجة (مُبِينٍ) ظاهرة.

[٢٤] (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا) إن موسى (ساحِرٌ كَذَّابٌ).

[٢٥] (فَلَمَّا جاءَهُمْ) موسى عليه‌السلام (بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) من بني إسرائيل لئلا يكثروا (وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) ابقوهن أحياء للاستخدام والإذلال (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ) مكرهم في قبال الله تعالى (إِلَّا فِي ضَلالٍ) ضياع لأن الله ينفّذ أمره.

٤٨٢

[٢٦] (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي) دعوني أيها الملأ ، وقال هذا استعلاء وإلا فإنه كان يعلم أنه لا يقدر على موسى عليه‌السلام (أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) لينقذه إن قدر على إنقاذه ، قاله استهزاء (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) يغير موسى عليه‌السلام ما أنتم عليه (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) بالهرج والمرج.

[٢٧] (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ) استجرت (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) يعني فرعون وملأه.

[٢٨] (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) يخفي أنه مؤمن ، وكان في حاشية فرعون (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) أي كيف تريدون قتل موسى عليه‌السلام لأجل (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) فإن هذا الكلام لا يوجب القتل (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات (مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) وبال كذبه (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) في دعواه الرسالة (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي لا أقل من أن يصيبكم بعض وعيده وفي ذلك كفاية في هلاككم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) وهذا احتجاج ثالث من ذلك المؤمن ، بأنه كيف يكون موسى عليه‌السلام كذابا والحال أنه إنسان مهدي هداه الله حيث أجرى المعجزات على يده.

[٢٩] (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) غالبين (فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ) عذابه (إِنْ جاءَنا) كما يقول موسى عليه‌السلام (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ) لا أشير عليكم (إِلَّا ما أَرى) واستصوب من قتله (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) طريق الصواب.

[٣٠] (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) من حاشية فرعون : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) الذين تحزبوا ضد الرسل ، والمراد بيومهم : يوم عذابهم.

[٣١] (مِثْلَ دَأْبِ) مثل جزاء ما دأبوا واعتادوا عليه من الكفر (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم لوط عليه‌السلام (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) فلا يعاقبهم بغير ذنب.

[٣٢] (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) ينادي بعضكم بعضا ، وهو يوم عذابكم ، أو في الآخرة ، حيث يستغيث أحدكم بالآخر ولا نجاة.

[٣٣] (يَوْمَ تُوَلُّونَ) عن الموقف (مُدْبِرِينَ) منصرفين إلى النار (ما لَكُمْ مِنَ) بأس (اللهِ مِنْ عاصِمٍ) حافظ يحفظكم من عذابه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بأن يتركه حتى يضل لأنه عاند الحق (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) إذ لا هادي إلا الله.

٤٨٣

[٣٤] (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ) قبل موسى عليه‌السلام (بِالْبَيِّناتِ) بالأدلة الواضحات (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ) جاء آباءكم القبط (بِهِ) من الدين (حَتَّى إِذا هَلَكَ) مات (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) فضممتم إلى تكذيب رسالة يوسف عليه‌السلام تكذيب رسالة من يأتي بعده (كَذلِكَ) هكذا (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) أسرف على نفسه بأن تعدى بها عن الطريق الوسط (مُرْتابٌ) شاك في دينه.

[٣٥] (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي) دفع وإبطال (آياتِ اللهِ) أدلته وأحكامه (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) بغير حجة جاءتهم في دفع الآيات ، بل عنادا (كَبُرَ) عملهم (مَقْتاً) وغضبا (عِنْدَ اللهِ) فإن الله يمقتهم مقتا كبيرا (وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ) هكذا (يَطْبَعُ اللهُ) ومعنى الطبع كونه مطبوعا ومختوما بسوء تصرفه وعناده ، على الكفر (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) عن قبول الحق (جَبَّارٍ) يجبر الناس ويظلمهم.

[٣٦] (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ) من البناء بمعنى اصنع (لِي صَرْحاً) قصرا عاليا (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) أي الطرق بأن أصعد فوقه فأصل إلى :

[٣٧] (أَسْبابَ السَّماواتِ) طرقها (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) حيث ظن أن الله ساكن في السماء (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أظن موسى عليه‌السلام (كاذِباً) في أن له إلها (وَكَذلِكَ) هكذا (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) فعمله السيئ زين له الكفر ، لأن الأعمال مقدمة العقائد (وَصُدَّ) منع فرعون ، منعه هواه (عَنِ السَّبِيلِ) طريق الهدى (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ) لأجل إبادة موسى عليه‌السلام وقومه (إِلَّا فِي تَبابٍ) خسار.

[٣٨] (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) مؤمن آل فرعون (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) اتبعوني في قولي لكم آمنوا بموسى عليه‌السلام (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) الذي فيه الرشد.

[٣٩] (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) تمتع يسير (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) الذي يستقر فيه الإنسان ويخلد.

[٤٠] (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) بقدر جزائها لا أكثر (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) لا عدّ ولا حصر لجزائهم تفضلا من الله.

٤٨٤

[٤١] (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) مالكم تقابلون الإرشاد بالضلال والإضلال.

[٤٢] (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ) أجعل له شريكا (ما) شريك (لَيْسَ لِي بِهِ) بكونه شريكا (عِلْمٌ) إذ المؤمن يعلم أنه لا شريك لله ، إذا : فلا يعلم له شريكا ، من باب السالبة بانتفاء الموضوع (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ) في سلطانه (الْغَفَّارِ) كثير الغفران والعفو.

[٤٣] (لا جَرَمَ) حقا (أَنَّما) أي الأصنام (تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لأن أعبده (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) حق (فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) لأنها جمادات والجماد لا يصلح دنيا الإنسان ولا آخرته (وَأَنَّ مَرَدَّنا) رجوعنا في الآخرة (إِلَى اللهِ) إلى حسابه وجزائه (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) الكفار الذين يتعدون الحد (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها.

[٤٤] (فَسَتَذْكُرُونَ) عند معاينة العذاب (ما أَقُولُ لَكُمْ) من النصح (وَأُفَوِّضُ) أكل (أَمْرِي إِلَى اللهِ) ليحفظني من كل مكروه (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يراهم ويعلم حالهم.

[٤٥] (فَوَقاهُ اللهُ) حفظه تعالى عن (سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) مكرهم السيّئ لأجل أذية مؤمن آل فرعون (وَحاقَ) أحاط (بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أشد العذاب.

[٤٦] (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي يعرض فرعون وملأه على النار في الدنيا (١) (غُدُوًّا) صباحا (وَعَشِيًّا) عصرا ، إما كناية عن دوام النار عليهم ، أو أن هذين الوقتين يعذبون بعرض النار وفي ما بينهما مبتلون بتوابع الحرق (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) القيامة ، يقال للملائكة (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

[٤٧] (وَإِذْ) اذكر يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زمان (يَتَحاجُّونَ) يخاصم الأتباع القادة (فِي النَّارِ) نار جهنم (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تكبروا عن قبول الحق وهم القادة (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) تابعين في الدنيا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً) تدفعون عنا قسما (مِنَ النَّارِ).

[٤٨] (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌ) نحن وأنتم (فِيها) في النار فكيف نتمكن من دفع العذاب عنكم (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بدخول الكفار في النار والمؤمنين في الجنة.

[٤٩] (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) الملائكة الموكلون بها : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا منه (يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً) قدر يوم (مِنَ الْعَذابِ).

__________________

(١) أي في عالم البرزخ.

٤٨٥

[٥٠] (قالُوا) أي الخزنة : لا تخفيف فقد ذهب وقت قبول الطلب (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات فلم تستجيبوا وعاندتم (قالُوا) أي أهل النار : (بَلى) جاءت الرسل فكذبنا (قالُوا) أي الخزنة : (فَادْعُوا) أنتم ، حتى يخفف الله فإنا نعلم أن لا فائدة في الدعاء ، ولذا لا ندعو (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) بتخفيف العذاب (إِلَّا فِي ضَلالٍ) ضياع فلا يجاب.

[٥١] (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإن الله ناصرهم ، كما نصر موسى وعيسى وإبراهيم ونوح ومحمد ولوط وصالح ويونس وشعيب وآدم ويوسف وغيرهم عليهم‌السلام كما نصر المؤمنين ، أما قضية اضطهاد الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام فإنهم شاءوا ذلك لرفعة درجاتهم.

ولذا ورد أن النصر رفرف على الحسين عليه‌السلام فلم يرده ، والأئمة عليهم‌السلام كان بإمكانهم رفع الاضطهاد عن أنفسهم فلم يريدوها (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي الشهود على الناس بما عملوا وذلك يوم القيامة.

[٥٢] (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) عذرهم لأنه عذر باطل (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) الطرد عن رحمة الله (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) الدار السيئة وهي جهنم.

[٥٣ ـ ٥٤] (وَلَقَدْ آتَيْنا) أعطينا (مُوسَى الْهُدى) ما يهتدي به الناس (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي أعطيناهم التوراة إرثا بعد موسى عليه‌السلام (هُدىً) في حال كون الكتاب هداية (وَذِكْرى) مذكرا (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

[٥٥] (فَاصْبِرْ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أذى المشركين (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالنصر لك (حَقٌ) مطابق للواقع (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) فإن الأنبياء يعدون أمورهم البدنية الضرورية كالنوم والأكل وما أشبه ذنبا كما يرى من مدّ رجله في محضر الملك ، اضطرارا لوجع في رجله ، إنه ذنبا (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) نزّهه حامدا له (بِالْعَشِيِ) عصرا (وَالْإِبْكارِ) الصباح.

[٥٦] (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي لأجل دفع آياته وإبطالها (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) حجة (أَتاهُمْ) أي أعطاهم الله ، وإنما جدالهم عن عناد وهو ، لا عن حجة وهدى (إِنَ) ما (فِي صُدُورِهِمْ) الباعثة للجدال (إِلَّا كِبْرٌ) تكبر عن الحق وهو باعث الجدال (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) لا يبلغون مرادهم في إبطال الآيات (فَاسْتَعِذْ) استجر يا رسول الله (بِاللهِ) من شرهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْبَصِيرُ) بأفعالكم.

[٥٧] (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ) في أذهان الناس (مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ثانيا بعد الموت ، فالقادر على الأكبر قادر على الأصغر (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لا يتأملون.

[٥٨] (وَما يَسْتَوِي) لا يتساوى (الْأَعْمى) الكافر الذي لا يرى الطريق (وَالْبَصِيرُ) المؤمن (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي لا يتساوى المؤمن والمسيء وهو الذي أساء في عقيدة أو عمل (قَلِيلاً ما) تأكيد للقلة (تَتَذَكَّرُونَ) تتعظون بالآيات.

٤٨٦

[٥٩] (إِنَّ السَّاعَةَ) يوم القيامة (لَآتِيَةٌ) تأتي يقينا (لا رَيْبَ فِيها) ليس محل الشك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدقون بإتيان الساعة.

[٦٠] (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي) في حوائجكم (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) بإعطاء الحاجة ، يعني أن طبيعة الدعاء هكذا ، فلا ينافي عدم استجابة بعض الدعوات ، كما أن طبيعة الدواء الشفاء فلا ينافي عدم شفاء بعض الأدوية (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) يتكبرون عن أن يدعوني ، فإن الدعاء قسم من العبادة (سَيَدْخُلُونَ) في الآخرة (جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أذلاء.

[٦١] (اللهُ) هو (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) بالنوم والكف عن العمل (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) يبصركم حوائجكم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ) بما لا يستحقون إزاء عملهم (عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) نعمه.

[٦٢] (ذلِكُمُ) الذي أظهر هذه الآيات (اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى) فإلى أين (تُؤْفَكُونَ) تصرفون وكيف تعبدون الأصنام.

[٦٣] (كَذلِكَ) هكذا (يُؤْفَكُ) يصرف عن الله (الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ينكرون ولا يقبلون آياته عزوجل.

[٦٤] (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) مستقرا (وَالسَّماءَ بِناءً) مبنيا سقفا (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) حيث خلقكم شكلا جميلا (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) مما فيها فائدة وتلتذ النفس منها (ذلِكُمُ) الذي وصف هو (اللهُ) دام وكثر خيره (رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

[٦٥] (هُوَ الْحَيُ) الذي حياته أبدية (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أخلصوا الدين له بلا شريك ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وحده لأنه مصدر كل خير (رَبِّ الْعالَمِينَ).

[٦٦] (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ) أي أعبد الأصنام التي (تَدْعُونَ) يعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله (لَمَّا) ظرف (نهيت) (جاءَنِي الْبَيِّناتُ) الحجج (مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) أنقاد (لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

٤٨٧

[٦٧] (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) فإن التراب ينقلب إلى النبات ، والنبات إلى الدم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) المني (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) حيث تنقلب النطفة إلى قطعة دم (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ) من بطون أمهاتكم (طِفْلاً ثُمَ) يبقيكم (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) قوتكم في حالة الشباب (ثُمَ) يبقيكم (لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) يموت (مِنْ قَبْلُ) الأشد وقبل الشيخوخة (وَ) يبقيكم بعد الشيخوخة (لِتَبْلُغُوا أَجَلاً) وقتا (مُسَمًّى) قد سمّي لموتكم ، في علم الله تعالى (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تستعملون عقولكم فتعلمون ماذا أريد منكم.

[٦٨] (هُوَ) الله (الَّذِي يُحْيِي) التراب إنسانا ، ويحيي في الآخرة الأموات (وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى) أراد (أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) وهذا كناية عن إرادته تعالى (فَيَكُونُ) أي يوجد ذلك الشيء.

[٦٩] (أَلَمْ تَرَ) استفهام لأجل التعجيب (إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) لأجل إبطال الآيات (أَنَّى يُصْرَفُونَ) إلى أين يصرفهم الفساد عن طريق الحق.

[٧٠] (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) القرآن (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من الشرائع والكتب (فَسَوْفَ) في الآخرة (يَعْلَمُونَ) جزاء تكذيبهم.

[٧١] (إِذِ الْأَغْلالُ) جمع غل ، وهو طوق من حديد يجعل على العنق للإذلال والأذية (فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) في أعناقهم أيضا (يُسْحَبُونَ) يجرون.

[٧٢] (فِي الْحَمِيمِ) في الماء المنتهى في الحرارة (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) يحرقون.

[٧٣] (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما) أي أين الأصنام التي (كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) تجعلونها شريكا لله.

[٧٤] (مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) تلك الأصنام وغابوا ، ثم يكذبون على الله قائلين (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي لم نكن نعبد صنما (كَذلِكَ) هكذا (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) في الآخرة ، يضلهم عما ينفعهم ، فإن ضلالهم في الدنيا سبب إضلالهم عن طريق الجنة في الآخرة ويقال لهم :

[٧٥] (ذلِكُمْ) العذاب الذي نزل بكم بسبب ما (كُنْتُمْ) كونكم (تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) لأنهم كانوا يفرحون بالشرك والضلال (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) تبطرون.

[٧٦] (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) كل صنف منكم من باب في حال كونكم (خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ) جهنم (مَثْوَى) محل (الْمُتَكَبِّرِينَ) الذين تكبروا عن قبول الحق.

[٧٧] (فَاصْبِرْ) يا رسول الله (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بهلاك الكفار ونصرتك (حَقٌّ فَإِمَّا) أصله (إن) الشرطية و(ما) الزائدة للتأكيد (نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) نعد هؤلاء الكفار من الإذلال والعذاب في الدنيا (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) نميتك قبل أن ترى عذابهم (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم.

٤٨٨

[٧٨] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) أخبارهم كموسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام وغيرهما (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أخبارهم كسائر الأنبياء الكثيرين (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) بمعجزة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بأمره ، فاقتراح هؤلاء عليك بأن تأتي بآية اقتراح باطل (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بعذابهم في الدنيا أو الآخرة (قُضِيَ) حكم بين المحق والمبطل (بِالْحَقِ) بإنجاء المؤمن وإهلاك الكافر (وَخَسِرَ هُنالِكَ) وقت مجيء أمر الله (الْمُبْطِلُونَ) أهل الباطل لأن العذاب يأخذهم حينذاك.

[٧٩] (اللهُ) هو (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها) كالإبل (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) كالبقر والغنم.

[٨٠] (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) كاللبن والجلد والشعر (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها) بركوبها وحملها إلى (حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بالسفر وحملها الأثقال لإيصالها إلى أماكنها (وَعَلَيْها) في البر (وَعَلَى الْفُلْكِ) السفينة في البحر (تُحْمَلُونَ) يحملكم الله حتى تبلغوا مقاصدكم.

[٨١] (وَيُرِيكُمْ) الله (آياتِهِ) دلائل توحيده وسائر صفاته (فَأَيَ) آية من (آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) وكلها جلية واضحة.

[٨٢] (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) يسافر هؤلاء الكفار (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة فإن سفرهم يوجب أن يروا آثار المنازل الخربة التي عذّب أهلها ، ويسمعوا أخبارهم من الذين في أطراف تلك الخرائب (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) من هؤلاء الكفار أفرادا (وَأَشَدَّ قُوَّةً) في البدن والمال والعلم وما أشبه (وَ) أكثر (آثاراً) كالقلاع والمدن والصنائع (فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ما أفادهم في دفع العذاب عنهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) كسبهم.

[٨٣] (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالأدلة الظاهرة (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) وقالوا يكفينا علمنا عن هدايتكم ، والمراد بالعلم ما حسبوه علما من عقائدهم الباطلة (وَحاقَ) أحاط (بِهِمْ ما) العذاب الذي (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فإنه إذا قيل لهم : يأخذكم العذاب ، استهزءوا.

[٨٤] (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) عذابنا الشديد (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما) الأصنام التي (كُنَّا بِهِ) بسبب تلك الأصنام (مُشْرِكِينَ) بالله.

[٨٥] (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) إذ لا يقبل إيمان المضطر فإن الإيمان إنما هو للامتحان ولا امتحان للمجبور في فعله (سُنَّتَ اللهِ) أي سنّ الله سنته بإهلاك المكذبين وعدم قبول إيمانهم في حال نزول العذاب (الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ) وقت رؤيتهم بأسنا (الْكافِرُونَ) لأنه قد فاتهم الثواب ولا مناص.

٤٨٩

٤١ : سورة فصلت

مكية آياتها أربع وخمسون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (حم) رمز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢] (تَنْزِيلٌ) أي هذا القرآن تنزيل (مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

[٣] (كِتابٌ فُصِّلَتْ) شرحت شرحا كافيا (آياتُهُ) من حكم وقصص وشرائع ، في حال كونه (قُرْآناً) مقروء (عَرَبِيًّا) بلغة العرب (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لأهل العلم فإنهم المستفيدون بالآيات وبالقرآن.

[٤] (بَشِيراً) لمن آمن وعمل صالحا (وَنَذِيراً) مخوفا لمن كفر أو عصى (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن تدبره (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع تأمل وتقبل.

[٥] (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أغطية ، جمع كنان بمعنى الغطاء (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) فلا يدخل قولك في قلوبنا (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) حمل ثقيل فلا نسمع قولك (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) يمنع وصول أحدنا بالآخر (فَاعْمَلْ) على دينك (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا.

[٦] (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لست ملكا ولا جنيا حتى لا تتمكنوا من فهم كلامي (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (فَاسْتَقِيمُوا) في عقيدتكم وأعمالكم متوجهين (إِلَيْهِ) تعالى (وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ) هلاك وسوء (لِلْمُشْرِكِينَ).

[٧] (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ) لا يعطون (الزَّكاةَ) لعدم إشفاقهم على الخلق (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) لعدم اعتقادهم بالخالق.

[٨] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع.

[٩] (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) مقدار يومين (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) أمثالا من الأصنام (ذلِكَ) الذي خلق الأرض في يومين (رَبُّ الْعالَمِينَ).

[١٠] (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جبالا (مِنْ فَوْقِها) مرتفعة عليها (وَبارَكَ فِيها) كثّر خيرها بالماء والنبات والمعدن والحيوان (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) القوت للإنسان والحيوان (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) أي استوت تلك الأيام سواء (لِلسَّائِلِينَ) عنها ، والتقدير إنما ذكرنا عدد الأيام لإفادة السائلين.

[١١] (ثُمَّ اسْتَوى) توجه الله بقدرته (إِلَى) خلق (السَّماءِ) بعد الأرض (وَهِيَ) أي السماء قبل بنائها (دُخانٌ) كالدخان أجزاء متناثرة (فَقالَ لَها) للسماء (وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) أي كونا (طَوْعاً) طائعين (أَوْ كَرْهاً) كارهين ، وهذا كناية عن أن ما أراده الله يكون (قالَتا أَتَيْنا) جئناك وصرنا (طائِعِينَ) فإن كل شيء في الكون خاضع لله تعالى.

٤٩٠

[١٢] (فَقَضاهُنَ) خلقهن (سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) فالمجموع ستة ، يومان للأرض ويومان للسماء ، ويومان لتقدير الأقوات (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي الأمر المربوط بأهل تلك السماء (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) القريبة (بِمَصابِيحَ) فإن الكواكب زينة (وَحِفْظاً) لأن الكواكب محل إرصاد الشياطين فإذا اقتربوا من السماء لتلقي كلام الملائكة رجموا من قبل الكواكب بالشهب (ذلِكَ) الخلق (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الذي لا يغالب في سلطانه (الْعَلِيمِ) العالم بكل شيء.

[١٣] (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإيمان بعد إتمام الحجة (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) أخوفكم (صاعِقَةً) بنزول صاعقة وعذاب عليكم ليصعقكم أي يهلككم (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ).

[١٤] (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من كل جهاتهم فكانت قبلهم رسل ومعهم رسل وبعدهم رسل قائلين لهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ قالُوا) أي الكفار في جواب الرسل (لَوْ شاءَ رَبُّنا) هدايتنا (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) مرسلين ، لا أنتم البشر (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) لأنكم بشر فلستم رسلا.

[١٥] (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) على الحق ، تكبروا من قبوله (بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) اغتروا بقوتهم وإن أحدا لا يقدر عليهم بزعمهم (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فإذا شاء إهلاكهم تمكن من ذلك (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) ينكرون الآيات.

[١٦] (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردة مهلكة (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) مشؤومات عليهم (لِنُذِيقَهُمْ) بتلك الريح (عَذابَ الْخِزْيِ) الذل (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) أكثر إذلالا لهم (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) لا ينصرهم أحد عن بأس الله.

[١٧] (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) أريناهم الطريق (فَاسْتَحَبُّوا) أحبوا (الْعَمى) عن الحق (عَلَى الْهُدى) فلم يسلكوا سبيل الهداية (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ) أي العذاب الصاعق المهلك (الْهُونِ) المهين لهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) جزاء كسبهم الكفر والضلال.

[١٨] (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الشرك والمعاصي.

[١٩] (وَيَوْمَ يُحْشَرُ) يجمع (أَعْداءُ اللهِ) هم الكفار والعصاة (إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا ، فإن ذلك أخزى لهم.

[٢٠] (حَتَّى إِذا ما) زائدة للتأكيد (جاؤُها) حضروا على شفير النار (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) كاليد والرجل والفرج (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإن الله ينطقها فتقول بأعمالهم السيئة.

٤٩١

[٢١] (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ) لأعضائهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) بما يضرنا (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بدون قدرة على النطق ثم أنطقكم وهكذا أنطقنا (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرة إلى حسابه وجزائه.

[٢٢] (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) قبائحكم عن أعضائكم لأن بهذه الأعضاء عصيتم الله ، ولم تظنوا (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) في السرّ فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.

[٢٣] (وَذلِكُمْ) أي ذلك الظن الخاطئ ، و(كم) للخطاب (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) أهلككم ، فإن ظنكم بجهل الله سبب جرأتكم التي أوجبت هلاككم (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) حيث دخلتم النار.

[٢٤] (فَإِنْ يَصْبِرُوا) لا ينفعهم الصبر (فَالنَّارُ مَثْوىً) محلا (لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) يطلبوا العتبى أي الرضا (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي المرضيين ، والمعنى سواء سكتوا أو تكلموا فالنار مثوى لهم.

[٢٥] (وَقَيَّضْنا) هيّأنا (لَهُمْ) لهؤلاء الكفار (قُرَناءَ) إخوانا من الشياطين ، حيث إنهم لم يطيعونا في الاقتران بالمؤمنين قرناهم بالشياطين (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الدنيا وشهواتها حتى ارتكبوها (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الآخرة حتى نفوها (وَحَقَ) ثبت (عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي قوله تعالى : (لأملأن جهنم) (١) (فِي) جملة (أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) هلكت (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وهؤلاء مثل أولئك في الكفر والعصيان (إِنَّهُمْ) إن هؤلاء (كانُوا خاسِرِينَ) خسروا سعادة الدارين.

[٢٦] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعضهم لبعض (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) إذا قرأه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالْغَوْا فِيهِ) ارفعوا أصواتكم باللغو والكلام الباطل عند قراءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قراءته فيترك القراءة.

[٢٧] (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أقبح الجزاء ، فإن الجزاء فيه سيئ وأسوأ.

[٢٨] (ذلِكَ) الجزاء السيّئ (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ) عطف بيان ل (ذلك) (لَهُمْ فِيها) في النار (دارُ الْخُلْدِ) محل إقامة أبدية (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) ينكرون آياتنا.

[٢٩] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) سببا إضلالنا (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي الشيطان والإنس اللذين هما أضلانا (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) نطأهما انتقاما (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) في المكان والحال.

__________________

(١) سورة هود : ١١٩ ، قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

٤٩٢

[٣٠] (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) اعترفوا بوحدانيته (ثُمَّ اسْتَقامُوا) على التوحيد والعمل (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت قائلين لهم (أَلَّا تَخافُوا) عقابا (وَلا تَحْزَنُوا) لفوت ثواب (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) وعدكم الأنبياء عليهم‌السلام في الدنيا.

[٣١] (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) نتولى شؤونكم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالحفظ والدفاع عنكم (وَفِي الْآخِرَةِ) بالثواب والشفاعة بأمر الله (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من اللذائذ (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) تتمنون وتريدون.

[٣٢] (نُزُلاً) ما يهيّأ للضيف (مِنْ غَفُورٍ) يغفر ذنوبكم (رَحِيمٍ) يرحمكم.

[٣٣] (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) إلى توحيده ، أي لا أحد أحسن منه (وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) بأن كان هو مسلما ودعا إلى الإسلام.

[٣٤] (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) في العمل ولا في الجزاء (ادْفَعْ) السيئة (بِالَّتِي) بالخصلة (هِيَ أَحْسَنُ) الخصال ، كالجهل بالحلم والقطيعة بالصلة (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) إذا دفعت عداوته بالأحسن (كَأَنَّهُ وَلِيٌ) صديق (حَمِيمٌ) حار في الصداقة.

[٣٥] (وَما يُلَقَّاها) أي هذه الخصلة ، لا يعطاها (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على تجرّع المكاره (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) نصيب كبير من العقل.

[٣٦] (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) أي يدعونك إلى خلاف الصواب (مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) بما وسوس لك الشيطان على أن لا تدفع السيئة بالتي هي أحسن (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) اطلب من الله الاعتصام من وسوسته (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذك (الْعَلِيمُ) بقصدك.

[٣٧] (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) لأنها كلها تدل على وجوده وقدرته (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) أي خلق كل تلك الآيات (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) تخصونه بالعبادة.

[٣٨] (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) تكبروا عن عبادته وحده فلا يضره ذلك ، ولا يخلو عن عابد له مطيع إذ الملائكة الذين (عِنْدَ رَبِّكَ) في الملأ الأعلى (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لا يملّون.

٤٩٣

[٣٩] (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) ذليلة لعدم النبات والحركة فيها (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) المطر (اهْتَزَّتْ) تحركت (وَرَبَتْ) انتفخت بالنبات (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) أي الأرض (لَمُحْيِ) لهو الذي يحيي (الْمَوْتى) للبعث (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من إحياء الأرض والميت وغير ذلك.

[٤٠] (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) يميلون عن الاستقامة (فِي آياتِنا) بالطعن والتكذيب (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) فسنجزيهم بعملهم (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) وهم الملحدون (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً) من العذاب (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهم المؤمنون (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) أيها الملحدون ، والأمر للتهديد (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يراه وسيجازيكم عليه.

[٤١] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) بالقرآن ، وهذا بدل عن قوله : (إن الذين يلحدون) (لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) كثير النفع عديم النظير ، والعزة تنشأ من هذين الوصفين.

[٤٢] (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) من جهة من الجهات لا في زمان نزوله ولا بعده إلى الأبد ، فلا بطلان ونقص فيه (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ) في أفعاله (حَمِيدٍ) محمود في كل عمله.

[٤٣] (ما يُقالُ لَكَ) يقوله كفار قومك من التكذيب والاستهزاء (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) فاصبر كما صبروا ، فإن قول هؤلاء مثل أقوال أولئك (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) غفران لمن آمن بك (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) مؤلم لمن كذبك ولم يؤمن.

[٤٤] (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) بأن أنزلناه بغير لغة العرب (لَقالُوا لَوْ لا) هلا (فُصِّلَتْ آياتُهُ) تبينت آياته بلغة نفهمها (ءَ) قرآن (أَعْجَمِيٌّ وَ) مخاطب (عَرَبِيٌ) وكان لهم شبه عذر في عدم قبوله ، ولكنا أنزلناه عربيا ومع ذلك لم يؤمنوا (قُلْ هُوَ) القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) هداية فائدتها لهم (وَشِفاءٌ) لما في صدورهم من الشك والباطل (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) حمل ثقيل حيث إنهم والأصم سواء في عدم الانتفاع (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) لتعامي قلوبهم عن تدبّره (أُولئِكَ) أي الكفار (يُنادَوْنَ) بالقرآن (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) حيث إنهم كالشخص البعيد الذي لا يسمع النداء.

[٤٥] (وَلَقَدْ آتَيْنا) أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) كما اختلف في القرآن وهذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأخير عذاب المنكر (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإهلاك الكافر ونجاة المؤمن (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من القرآن (مُرِيبٍ) موجب للريب والتردد العملي.

[٤٦] (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) جزاؤه عائد إلى ذاته (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) فضره عائد إلى نفسه (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ) بذي ظلم (لِلْعَبِيدِ) وإنما عقابهم جزاء عمل أنفسهم.

٤٩٤

[٤٧] (إِلَيْهِ) تعالى (يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي إذا سئل عن الساعة أرجعوا السائلين عنها إلى الله إذ لا يعلمها إلّا هو وحده (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) أوعيتها جمع كم : وعاء الثمرة (١) (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) طفلا (وَلا تَضَعُ) المولود (إِلَّا بِعِلْمِهِ) فإن علمه تعالى شامل لكل ذلك (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) ينادي الله المشركين (أَيْنَ شُرَكائِي) الذين جعلتموهم لي شريكا (قالُوا آذَنَّاكَ) أعلمناك (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) يشهد اليوم بأن لك شريكا.

[٤٨] (وَضَلَ) غاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) يعبدونه شريكا (مِنْ قَبْلُ) في دار الدنيا (وَظَنُّوا) أيقنوا بأنه (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مهرب عن العقاب.

[٤٩] (لا يَسْأَمُ) لا يمل (الْإِنْسانُ) الكافر (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) من طلب السعة والنعمة (وَإِنْ مَسَّهُ) أصابه (الشَّرُّ) الضيق أو البؤس (فَيَؤُسٌ) شديد اليأس (قَنُوطٌ) من رحمة الله ، كما قال تعالى : (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (٢).

[٥٠] (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أصابته تلك الضراء (لَيَقُولَنَّ هذا) الخير (لِي) أستحقه بعملي (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ) القيامة (قائِمَةً) تقوم ، ولذا أعمل في هذا الخير ما أشاء بلا تقيد بشرع أو عقل (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) في الآخرة فرضا (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي الخلة الجميلة ، كما أكرمني في الدنيا (فَلَنُنَبِّئَنَ) نخبرن (الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) لنجازيهم عليه (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) شديد هو عذاب النار.

[٥١] (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عن الشكر (وَنَأى) بعد (بِجانِبِهِ) جنبه عن الناس تبخترا (وَإِذا مَسَّهُ) أصابه (الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) كثير.

[٥٢] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُ) منكم ، وضع مكانه الظاهر لشرح حالهم (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ) خلاف الحق (بَعِيدٍ) عنه الحق ، أي لا أحد أضل منكم.

[٥٣] (سَنُرِيهِمْ) فإن الإراءة تدريجية (آياتِنا) حججنا وأدلتنا (فِي الْآفاقِ) أقطار السماوات والأرض (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من ضروب الأعضاء والأجهزة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) ليظهر (لَهُمْ أَنَّهُ) أي الذي تدعونهم إليه من التوحيد (الْحَقُ) المطابق للواقع (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) شاهد حاضر فيشهد على ما عملوا ويجازيهم عليه.

[٥٤] (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ) شك (مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) لقاء الله في الآخرة (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) علما وقدرة فلا يفوته شيء.

__________________

(١) وفي لسان العرب : أكمام جمع كم بكسر الكاف ، وهو غلاف الثمر والحب قبل أن يظهر.

(٢) سورة يوسف : ٨٧.

٤٩٥

٤٢ : سورة الشورى

مكية آياتها ثلاث وخمسون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (حم عسق) رمز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٣] (كَذلِكَ) هكذا (يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ) فاعل (يوحي) (الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في تدبيره.

[٤] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُ) بقول مطلق (الْعَظِيمُ) فهو أعلى وأعظم من كل شيء.

[٥] (تَكادُ) تقرب (السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) يتشققن من هول أن دعوا لله ولدا وشريكا (مِنْ فَوْقِهِنَ) فإن انفطار الأعلى أشد في الهول (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ينزهون الله حامدين (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من المؤمنين (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ) لمن استغفر (الرَّحِيمُ) بعباده.

[٦] (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) غير الله (أَوْلِياءَ) أي الأصنام (اللهُ حَفِيظٌ) حافظ (عَلَيْهِمْ) أعمالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) بحافظ وإنما أنت منذر.

[٧] (وَكَذلِكَ) هكذا (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) بلغة العرب (لِتُنْذِرَ) تخوف (أُمَّ الْقُرى) مكة (وَمَنْ حَوْلَها) من البلاد (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) يوم القيامة الذي يجتمع فيه الخلق (لا رَيْبَ فِيهِ) ليس محل شك (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) النار الملتهبة.

[٨] (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) بأن أجبرهم على الهداية (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) ممن قبل الهداية (فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ) الكافرون (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) يلي أمورهم بالصلاح لهم (وَلا نَصِيرٍ) ينصرهم بدفع العذاب عنهم.

[٩] (أَمِ) بل (اتَّخَذُوا) أي الكفار (مِنْ دُونِهِ) دون الله (أَوْلِياءَ) كالأصنام (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) الحقيقي (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والصنم لا يقدر على شيء.

[١٠] (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ) أيها المؤمنون والكفار (فِيهِ) عائد إلى (ما) (مِنْ شَيْءٍ) بيان (ما) (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) الذي يفصل بين المختلفين (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في أموري (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أرجع.

٤٩٦

[١١] (فاطِرُ) خالق (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم (أَزْواجاً) نساءكم (وَ) جعل (مِنَ الْأَنْعامِ) البقر والغنم والإبل (أَزْواجاً) ذكرا وأنثى (يَذْرَؤُكُمْ) يكثركم (فِيهِ) في هذا الجعل ، أي بسبب جعل الزوجين (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) كذاته (شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

[١٢] (لَهُ مَقالِيدُ) مفاتيح خزائن (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ) يوسع (الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يضيق لمن يشاء (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم بأفعالكم ويجازيكم عليها.

[١٣] (شَرَعَ) جعل (لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) فإن دين الجميع واحد ، فقد أوصاهم جميعا (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أصوله وفروعه (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) بأن يخالف أحدكم الآخر (كَبُرَ) عظم (عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من التوحيد (اللهُ يَجْتَبِي) يختار (إِلَيْهِ) إلى دينه (مَنْ يَشاءُ) أن يوفقه له (وَيَهْدِي) بالتوفيق (إِلَيْهِ) إلى الدين (مَنْ يُنِيبُ) يرجع عن معاصيه ، فمنهم مجتبى ومنهم مهتد.

[١٤] (وَما تَفَرَّقُوا) أي أهل الكتاب بأن بقي بعضهم على الهدى وبعضهم ضلّ (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) وعلموا الحقائق (بَغْياً) حسدا (بَيْنَهُمْ) حسد بعضهم أن يتقدم البعض الآخر (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير عذاب الكافر (إِلى أَجَلٍ) وقت (مُسَمًّى) قد سمي ، وذلك لمصلحة في التأخير (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإهلاك المبطلين (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ) أهل الكتاب الذين ورثوه من أسلافهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد نوح وإبراهيم وغيرهما عليهم‌السلام (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من القرآن (مُرِيبٍ) موجب للريب والتردد عملا.

[١٥] (فَلِذلِكَ) الدين ، أي إليه (فَادْعُ) الناس (وَاسْتَقِمْ) عليه (كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أهواء المشركين الباطلة الموجبة للانحراف (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) بكل الكتب (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أسير بالعدل (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) لا شريك له (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فكل مجزي بما عمل (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) لا خصومة ولا حجاج لأنه ظهر الحق (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة لأجل تميز المحق من المبطل (وَإِلَيْهِ) إلى جزائه (الْمَصِيرُ) مصير الكل.

٤٩٧

[١٦] (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) في دينه وتوحيده (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) ما استجاب له الناس ودخلوا فيه (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) باطلة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وإن كانت وجيهة عند بعض الناس ، فماذا يريدون بعد ذلك ، فهل الإسلام باطل وقد ظهر لديهم كونه حقا ، أو هل الإسلام لا ناصر له والإنسان يتجنب الالتفاف حول الذي لا ناصر له لأنه يكون موجبا للتشهير بين الناس ، وقد استجيب للدين ودخل فيه الناس (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) من الله (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة.

[١٧] (اللهُ) هو (الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) القرآن (بِالْحَقِ) فلم يكن الإنزال بالباطل (وَالْمِيزانَ) بأن قرر آلة الوزن ، فالكتاب للنظام والسعادة ، والميزان للتطبيق والعدالة (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ) القيامة (قَرِيبٌ) مجيئها فيخسر المبطلون.

[١٨] (يَسْتَعْجِلُ بِهَا) يطلب أن تعجل الساعة (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استهزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ) خائفون (مِنْها) لما يعلمون من أهوالها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) فتجيء قطعا (أَلا) للتنبيه (إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ) يشككون ويجادلون (فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ) انحراف عن الحق (بَعِيدٍ) عن الواقع.

[١٩] (اللهُ لَطِيفٌ) بار (بِعِبادِهِ) كلهم (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) بما يشاء حيث تقتضي المصالح (وَهُوَ الْقَوِيُ) فيما يريد (الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب.

[٢٠] (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) ثوابها (١) الذي هو نتيجة زرعه الأعمال الصالحة في الدنيا (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) لأنا نعطيه بدل الواحد عشرة (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) بعض الدنيا (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) إذ لم يحرث للآخرة.

[٢١] (أَمْ) بل (لَهُمْ) للمشركين (شُرَكاءُ) الأصنام التي جعلوها شريكة لله (شَرَعُوا) وضعوا وقننوا (لَهُمْ مِنَ الدِّينِ) الطريقة في العمل والعقيدة (ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) إذ لم يأذن الله إلا بطريقة الإسلام (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) الوعد بتأخير الفصل والقضاء إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ) حكم (بَيْنَهُمْ) بين المشركين والمؤمنين بإهلاك المشركين (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أنفسهم بالشرك والعصيان (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم في الآخرة.

[٢٢] (تَرَى الظَّالِمِينَ) في الآخرة (مُشْفِقِينَ) خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) من الكفر والمعاصي في الدنيا (وَهُوَ) وبال ما عملوا (واقِعٌ بِهِمْ) لا محالة أشفقوا أم لا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) متنزهاتها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) يريدون (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الآخرة (ذلِكَ) الثواب (هُوَ الْفَضْلُ) الزيادة من الله لهم (الْكَبِيرُ).

__________________

(١) أي ثواب الآخرة ، والحرث : الزرع ، انظر لسان العرب : ج ٢ ص ١٣٤.

٤٩٨

[٢٣] (ذلِكَ) الثواب هو (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) به (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على أداء الرسالة (أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ) الحب وإظهاره (فِي الْقُرْبى) في أقربائي ، فإن ذلك أيضا عائد إليهم ، لأنهم عليهم‌السلام الشارحون للكتاب الهادون إلى الصواب (وَمَنْ يَقْتَرِفْ) يكتسب (حَسَنَةً) عملا حسنا (نَزِدْ لَهُ فِيها) لمضاعفة ثوابها إلى عشرة أضعاف (حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للسيئات (شَكُورٌ) للحسنات.

[٢٤] (أَمْ) بل (يَقُولُونَ افْتَرى) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَلَى اللهِ كَذِباً) في ادعائه الرسالة (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ) إذا كنت كاذبا (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) بأن تنسى القرآن فكيف تكون مفتريا والحال أن الله أنزل القرآن على قلبك مما يدل على أنك من قبله تعالى (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) الذي يقولونه (وَيُحِقُّ الْحَقَ) يظهر كونه حقا (بِكَلِماتِهِ) بوحيه إليك (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بمضمراتها ، والمراد بالصدور القلوب التي في الصدور.

[٢٥] (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فكيف تتركون هذا الإله وتتخذون الأصنام.

[٢٦] (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي يجيبهم إلى ما يسألونه (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) بأن يعطيهم ما لا يسألون (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة.

[٢٧] (وَلَوْ بَسَطَ) وسع (اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا) ظلموا وتعدوا الحدود (فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) بقدر ما تقتضيه المصلحة (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ) يعلم كل شيء منهم (بَصِيرٌ) يراهم.

[٢٨] (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) المطر (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي يئسوا عن نزوله (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) يبسطها على الناس (وَهُوَ الْوَلِيُ) الذي يتولى أمور الناس (الْحَمِيدُ) المحمود في أفعاله.

[٢٩] (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده وصفاته (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَ) نشر (فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) حيوانات تدب وتتحرك (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) بإماتتهم أو حشرهم (إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) في أي وقت شاء.

[٣٠] (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بسبب ذنوبكم ـ وهذا غالبي ـ (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من الذنوب فلا يعاقبكم عليه.

[٣١] (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) قادرين على أن تعجزوا الله حتى لا يتمكن من أخذكم (فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولى شؤونكم (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم من بأس الله.

٤٩٩

[٣٢] (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) السفن الجارية (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) كالجبال.

[٣٣] (إِنْ يَشَأْ) الله (يُسْكِنِ الرِّيحَ) بأن لا تهب (فَيَظْلَلْنَ) فيبقين تلك السفن (رَواكِدَ) واقفات (عَلى ظَهْرِهِ) ظهر البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ) التسيير للسفن (لَآياتٍ) على الله وصفاته (لِكُلِّ صَبَّارٍ) كثير الصبر والتأمل في الآيات (شَكُورٍ) فإن الشاكر أعرف بالآية لأنه يتحرّاها ليشكرها.

[٣٤] (أَوْ يُوبِقْهُنَ) أي إن شاء أهلك أهل السفن بإرسال ريح شديدة لتغرقها (بِما كَسَبُوا) بسبب أعمالهم السيئة (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من الناس أو من الذنوب.

[٣٥] (وَيَعْلَمَ) عطف على علة مقدرة أي إن شاء أهلكهم لينتقم وليعلم (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) لأجل إبطالها (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مهرب من العذاب.

[٣٦] (فَما أُوتِيتُمْ) أعطيتم (مِنْ شَيْءٍ) من الأموال وما أشبه (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) تتمتعون بها مدة حياتكم (وَما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الآخرة (خَيْرٌ وَأَبْقى) أكثر بقاء (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في أمورهم.

[٣٧] (وَالَّذِينَ) عطف على (للذين) (يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) الآثام الكبيرة ، أما الصغائر فكثيرا ما يبتلى الإنسان بها (وَالْفَواحِشَ) المعاصي المتعدية للحد (وَإِذا ما) زائدة للتأكيد (غَضِبُوا) بما يفعل بهم من الظلم (هُمْ يَغْفِرُونَ) ويتجاوزون عن الظالم.

[٣٨] (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أجابوه فيما دعاهم إليه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى) ذو تشاور (بَيْنَهُمْ) لا يقدمون عليه إلا بعد المشورة (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في طاعة الله.

[٣٩] (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) الظلم من غيرهم (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ينصر بعضهم بعضا لدفع ذلك البغي ، ولا تنافي بين هذه الآية والآية السابقة إذ للعفو محل وللانتقام محل.

[٤٠] (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) بدون زيادة (فَمَنْ عَفا) عن المؤاخذة (وَأَصْلَحَ) بينه وبين خصمه (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون الناس.

[٤١] (وَلَمَنِ) أي الذي (انْتَصَرَ) على خصمه (بَعْدَ ظُلْمِهِ) بعد أن ظلمه شخص (فَأُولئِكَ) المنتصرون (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) بالمعاتبة والمعاقبة.

[٤٢] (إِنَّمَا السَّبِيلُ) بالعقاب (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) بغير حق (وَيَبْغُونَ) يتعدون (فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم لأجل ظلمهم.

[٤٣] (وَلَمَنْ صَبَرَ) على الأذى (وَغَفَرَ) لمن تعدى عليه إذا كان موقع الغفران (إِنَّ ذلِكَ) الصبر والغفران (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) معزوماتها المحتاجة إلى عزم في النفس ، لأن ذلك صعب جدا ، وخبر (لمن) مقدر ، أي فهو ذو عزم قوي ، وهذا حث على الصبر.

[٤٤] (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يتركه حتى يضل لأنه ترك قبول الحق (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ) ناصر يتولى شأنه بالصلاح (مِنْ بَعْدِهِ) بعد الله أي سواه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ) رجوع إلى الدنيا (مِنْ سَبِيلٍ) طريق حتى نسلكه فنرجع إلى الدنيا ونعمل صالحا.

٥٠٠